"قهوة سادة" .. فسيفساء روائية للسيد حافظ
بقلم: أحمد فضل شبلول
هذه رواية كتبها صاحبها "بحثا في روح مصر المتخاذلة سبعة آلاف عام، وبحثا عن روح مصر أخرى، للإنسان فيها معنى وقيمة وحضارة حقيقية فعلا وقولا"، كما يقول في إحدى عتبات الرواية.
وهي في حقيقة الأمر ليست رواية واحدة، أو روايتين كما يدعي الكاتب، وإنما هي ثلاث روايات جمعن في كتاب واحد تحت عنوان "قهوة سادة"، استطاع مبدعها الكبير السيد حافظ أن ينسج بينها خيطا حريريا لا يراه إلا من تذوق سحر الكتابة الإبداعية، وسحر تداخل الأنواع والأجناس الأدبية، أو الكتابة عبر النوعية.
إنها فسيفساء روائية يرصّع صاحبها كلماتها وجملها وعباراتها بحروف من نور الإبداع.
ثلاثية روائية يجمعها طعم القهوة المر، التي لا يخلو فصل من فصولها دون ذكر لها، وكأن مرارة الأيام تصاحب أبطال هذا العمل الضخم وكذا قارئه.
الرواية الأولى هي رواية سهر التي استيقظت على رؤية بقعة دم على قميص نومها في 5 يونيو 1967 وكأن الكاتب يرمز إلى روح الأمة العربية من خلال بطلة الرواية "سهر" التي "رأت أباها يبكي يومي 8 و9 يونيو وهو يرى عبدالناصر يتنحى .. ذهبت أمها بها إلى شهرزاد وقالت لها: البنت صارت أنثى".
هكذا يفتتح السيد حافظ "قهوة سادة" بهذا المشهد المؤلم، ومن هنا تتصاعد الأحداث ويمر الزمان ونشم عطر سهر الفواح الذي يُسكر كل من يشمه من على البعاد، والذي يكون سببا في تطور الرواية والأحداث، وفي ظهور شخصية كاظم معلم اللغة العربية في مدرسة سهر، لنكتشف أن أحداث الرواية الأولى (ضمن الثلاثية) تدور في الشام، وليست في مصر، وأن سهر ولدت يوم الاتفاق على الوحدة بين مصر وسوريا في فبراير 1958.
ثم يدخلنا الكاتب بيتَ "سهر" لنتعرف على أسرتها والبيئة المحيطة بها وعلى مدرستها وصديقاتها وعصفورها الذي ينام على كفها وفي صدرها. كما يجعلنا نحلق في عالم كاظم وثقافته وأحلامه وعاطفته نحو "سهر".
وفي نقلة أخرى للرواية الثانية نعيش مع فتحي رضوان الشاب المصري الثوري (الذي سيكون حبيب سهر بعد 15 عاما) وهي العبارة التي يفتتح بها الكاتب سيرة فتحي رضوان، ومع انتهاء الرواية لم نر ذكرا لهذه الرؤية التنبؤية (ربما تأتي هذه الرؤية في جزء تال).
ولكن على أية حال فإن الجزء الخاص بـ فتحي رضوان ما هو إلا تأريخ فني وسياسي واجتماعي لمصر، وأكاد أقول إن هذه الجزء ما هو إلا سيرة ذاتية لمؤلف الرواية السيد حافظ، خلال فترة الستينيات وما بعدها، وفيه يقدم الكاتب صفحات أقرب إلى التوثيق الصحفي أو المعلوماتية، منها إلى الفن الروائي، وفيه مقارنة بين عبدالناصر ومحمد علي، وفيه نقد عنيف للشعب المصري يصل على حد جلد الذات، ومنه قوله: "ضيعت قلبي في وطن حقير اسمه مصر والوطن العربي"، و"عبدالناصر دكتاتور عادل ومحمد علي دكتاتور عادل والحاكم بأمر الله دكتاتور عادل .. مصر لا تنهض في تاريخها إلا بدكتاتور عادل .. الشعب متمرد كسول لا يحب العمل ويحب الشر والكذب والفهلوة والنصب والتحايل على القانون".
هل هذا توصيف للشعب المصري، أم هي لحظة غضب يصبها الكاتب على الورق لينفث من خلالها همومه وأحزانه؟
وهكذا تمضي "قهوة سادة" متراوحة بين حكاية سهر وحكاية فتحي رضوان، وكلاهما متباعدان عن بعضهما البعض ولا يلتقيان طوال الرواية رغم العبارة التي يصدرها لنا الكاتب في معظم الفصول بقوله: "سيكون حبيب سهر بعد 15 عاما".
غير أنني لاحظت أن الجانب التوثيقي هو الأوفر حظا في الجزء الخاص بفتحي رضوان، فأحيانا نجد الكاتب يثبت صفحات من مذكرات محمد فريد، أو يثبت بيان 30 مارس الذي ألقاه جمال عبدالناصر عام 1968 للإصلاح السياسي، أو يلجأ إلى التفسيرات اللغوية في بعض الأحيان كتفسير كلمة "طاغية".
وعلى هذا نجد اختلافا بينا بين شخصية فتحي رضوان الثوري الذي تعددت علاقاته الجنسية منذ أن كان طالبا بالجامعة، وشخصية كاظم العاطفي الذي أحب سهر بجنون ولم يحب غيرها والذي يرى أن سهر لا تضع عطرا، بل هي رائحة السماء في جسدها، وأنها قمة الشهوة والاشتهاء.
غير أن عبدالناصر لا يفارق الجزء الخاص بكاظم الذي سأله أحد الضابط: أنت شيوعي يا ولد؟ فيرد كاظم: لا. فيقول له: تحب من؟ قال كاظم: جمال عبدالناصر. قال الضابط: من سيء لأسوأ خليك أحسن شيوعي يا ولد.
وكأن "قهوة سادة" تحاكم في بعض مفاصلها أو صفحاتها الزعيم جمال عبدالناصر والفترة الزمنية التي حكم فيها مصر وسعى للوحدة العربية الشاملة، وبدأها بوحدة مصر وسوريا، والتي فشلت فيما بعد، فتقوّض الحلم الناصري، ومن ذلك قول فتحي رضوان عن اختيار عبدالناصر للسادات ليكون نائبا له: عبدالناصر اختار أضعف واحد من رجال الثورة كان خادمه هو أنور السادات.
وفي موضع آخر نجد: "الله يسامحنا إن نسينا أو أخطأنا إلا عبدالناصر لا يسامح من أخطأ". وفي موضع ثالث نجد: "طلب عبدالناصر حكيم للعشاء معه .. ثم أرسل عبدالمنعم رياض ومحمد فوزي .. ليقتلاه بعيدا عن مرأى عبدالناصر (كما قال جمال ابن عبدالحكيم عامر في حديث له مع التلفزيون المصري). و"قدم عبدالناصر جثة عبدالحكيم للشعب .. كي يدفن غضبهم من النكسة في قبر المشير عبدالحكيم عامر".
أيضا يحدثنا فتحي رضوان عن كره أبيه لعبدالناصر بشدة بسبب طرده للأجانب وخاصة أصحابه، ويكشف لنا في أكثر من موقف عن كراهية أبيه لثورة يوليو ورجالها لأنها خلعت محمد نجيب. كما يتساءل: كيف حدثت النكسة وهزيمة يونيو؟ من سيكتب عنها؟ وما هي الحقيقة؟ هل من جرئ يخبرنا؟ أين الجبرتي؟
وفي موضع آخر، يمثل إحدى عتبات الرواية الكثيرة يورد الكاتب قصيدة "الله يجازيك يا عم عبدالناصر" لعبدالرحمن الأبنودي، وبها نقد لاذع للزعيم يقول فيها الأبنودي:
الله يجازيك يا عم عبدالناصر
أما أنت خميت مصر دي خمة
يوم ما ناديت بالعشق للأمة
ورطتنا نعشق خريطة عبيطة
وبشر ما نعرفهاش.
وهذه العتبة تتواءم مع موقف الأب الذي ورثه الابن من شخصية جمال عبدالناصر.
وما أكثر عتبات الرواية التي يتوقف عندها الكاتب ابتداء من الإهداء لحفيدته كادي وابنه محمد ثائر "الثائر على أبيه فقط".
أما العتبة الثانية "أنسى أن النساء جسد من لحم ودم وأتذكر أنهن عطر له روح" فهي تتواءم مع "سهر" وعطرها الذي هو سر تميز شخصيتها.
مرورا بعتبات أخرى سنشير إليها فيما بعد.
وبذكاء سردي شديد ينتقل الكاتب إلى الرواية الثالثة بتمهيد من الخالة "شهرزاد" التي أخبرت "سهر" بأنها تتقمص روح فتاة فرعونية اسمها "نفر"، لتبدأ "حكاية إخناتون مع نفر" في الصعود ولتحكي شهرزاد "قهوة سادة" متقمصة روح شهرزاد الأصلية فتقول: "كان يا ما كان في سالف العصر والأوان في العصر الفرعوني بنت اسمها نفر".
هنا يتصاعد سرد تاريخي جديد، وأجواء روائية جديدة، يهديها الكاتب – في عتبة جديدة - لأخيه الراحل "رمضان حافظ .. نفحة الروح إذا أظلم الكون". بل يذكر في المتن على لسان فتحي رضوان لحبيبته ناهد: "اقرئي كتاب الفراعنة العرب للدكتور رمضان حافظ".
ويشعرنا الكاتب بوجود حبل سري بين سهر ونفر عن طريق تناسخ الأرواح، وانتقال العطر من نفر إلى سهر عبر نفق تاريخي وزمني طويل يصل بين مصر والشام. وهو ما تؤكده عبارة شهرزاد لـ "سهر": "تلك أول روح خلقها الله لك يا سهر".
وتتكرر عبارة العطر عند "نفر" كما رأيناها عند "سهر": "رائحة جسدها عطر من السماء لا يشبه أي عطر". هذا العطر الذي سيرفع نفر من عالم أسرتها الفقيرة إلى عالم القصور والمعابد والكهنة وصولا إلى إخناتون الذي يدعو إلى عبادة التوحيد فتتبعه نفر.
ويظهر الثائر فتحي رضوان مرات ومرات في الرواية الثالثة منتقدا أوضاع مصر وتاريخها مثل قوله: "معظم شوارع مصر بأسماء الخدم والخونة من تاريخها" أو "مصر تسمي أسماء الشوارع بأسماء القاتل والمقتول" مفسر ذلك بقوله:
"في القاهرة في حي الزيتون .. شارع باسم طومان باي البطل الذي قاوم الاحتلال العثماني، والشارع المقابل له باسم سليم الأول العثماني الذي قتل طومان باي .. في عقل مصر عقلين .. عقل عظيم وعقل عبيط".
في الجزء الثالث أو الرواية الثالثة نكاد ننسى كاظم إلا قليلا، بسبب الحضور الطاغي لقصة إخناتون والدراما المصاحبة لها، والحضور القوي لفتحي رضوان الذي ذهبنا من قبل إلى أنه الشخصية التي تعكس الكاتب نفسه، أو الجزء السيرذاتي في "قهوة سادة"، خاصة بعد أن نكتشف أنه يذكر أسماء شخصيات وأماكن بعينها كان لها حضورها في الواقع الثقافي، مثل قوله في شكواه لوزير الثقافة الدكتور ثروت عكاشة عام 1969، وينعته بالوزير المثقف الصامت: "بالإسكندرية قصران للثقافة الأول في شارع طريق الحرية يسمى قصر ثقافة الحرية القائم عليه اسمه محمد غنيم.. يمتاز بالثورة الكلامية ويرفض فكرة تكوين اتحاد كتاب الأقاليم التي يطالب بها بعض الكتاب وطردهم من القصر، وبها فرقة مسرحية مع مخرج هارب من القاهرة يدعى أنه يقدم مسرح الجيب ..".
أيضا هناك أشخاص آخرون كانوا موجودين في الحياة العامة في الإسكندرية يذكرهم الكاتب بأسمائهم الحقيقية مثل الأستاذ باسطة مدرس الأحياء في مدرسة الإسكندرية الثانوية التي تخرج فيها الكاتب، ويصفه بأنه شديد القسوة.
وعلى الرغم من معايشتنا للأحداث الفرعونية وأجواء التآمر على اخناتون الذي دعا إلى التوحيد، سواء من الكهنة أو زوجته نفرتيتي، فإننا نجد إسقاطات سياسية على العصر الراهن من خلال بعض البرديات التي يلجأ الكاتب لإثباتها. أو من خلال بعض العبارات التي وردت على لسان اخناتون مثل: أخاف على مصر من المؤامرات التي تحاك ضدها من كل صوب.
توسلت الرواية بالكثير من التقينات الفنية إلى جانب الإسقاطات السياسية، وهو ما جعلني أقول منذ البداية إننا إزاء فسيفساء روائية، استطاعت أن تستفيد من تقنيات المسرح (والكاتب في الأصل كاتب مسرحي متمكن له العديد من الأعمال المسرحية المهمة) ومن تقنيات السينما وخاصة تقنية المشاهد والتقطيع والمونتاج، ومن تقنيات الشعر، حيث يتوسل الكاتب بعبارات شعرية تجئ من خلال بطله كاظم (حبيب سهر)، أو من خلال المعلم باكا (الذي أحب نفر) في الجزء الخاص بأخناتون، وغيرهما.
كما توسلت الثلاثية بالكثير من العتبات الروائية، بل سنجد أكثر من عتبة في مطلع الفصل الواحد، وعلى سبيل المثال في مطلع العمل نرى عتبة الإهداء، ثم مقولة للكاتب نفسه ومنها: "يا أيها العابرون على ذكرى طفولتي ألقوا عليها الورد والابتسام"، ثم الآية 85 من سورة الإسراء "ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا"، ثم مقولات متعددة للكاتب نفسه.
وعلى مدى العمل نرى عتبات لجبران خليل جبران، ونزار قباني، وميخائيل نعيمة، وأدونيس، ويوسف الخال، ومحمود درويش، وصلاح جاهين، وعبدالرحمن الأبنودي، وحافظ إبراهيم، وغيرهم، ومقولات للكاتب نفسه، إلى جانب عتبات قرآنية، وإنجيلية، ومقولات لأخناتون، بل أننا نجد عتبة لأحد أبطال الرواية وهو فتحي رضوان خليل.
ولاشك أن هذه العتبات تحتاج إلى دراسة فنية منفصلة نظرا لكثرتها، وتنوعها من ناحية، والأجواء التي تشيعها من ناحية أخرى، سواء الأجواء الروحانية أو السياسية.
ويبدو أننا على عتبات عمل روائي ضخم آخر يستكمل فيه الروائي السيد حافظ تلك الثلاثية الروائية التي اسمتعتنا بها في "قهوة سادة"، ولعل عمله القادم هو "نسكافيه" أو "كابيتشينو"!
0 التعليقات:
إرسال تعليق