مدخل إلى رواية (كابيتشيو) للسيد حافظ
الاسكندرية – كمال العيادى القيروانى
المرجعية واثبات النسب لهذا العمل الابداعى
العودة المنابع الأولى للحكاية :
على خلاف بقية الحضارات الشرقية القريبة الحدود والذائقة، لم يهتم العرب بتدوين الحكايات، خارج أطر صناديق الشعر الموقع، وضوابطه، المحفوظ فى الذاكرة أولاً ثم فى الرقع والصحف المرافقة للقوافل التجارية والسائرة للأمصار والبلدان.
وكأنما قسم الأدب، عمداً، إلى شطرين، شطر يذاع للعامة، وشطر يحفظ فى الصدور، وخلف بوابات وجدران القصور. فكان فضاؤها المجالس والندوات الخاصة ومخادع السلطان والديوان.
ولما كانت أول المقصد بالمنادمة، وغاية الراوى والحكاء، فقد استوجب أن تنحت الحكايات وفق ما ينتظره الملوك، بأخلاقهم وأمزجتهم وذائقتهم وثقافاتهم، فانحصرت أغلب متون الحكايات، تبعاً لذلك فى أخبار السابقين من العظماء، وطرائف الأمراء وأصحاب الصولجان والتيجان، وأخبار الصيد والشرب، والمنادمة، والجوارى والغناء والقدود الممشوقة والقصور والعبر والوصايا وقصصهم ونوادرهم وآدابهم، ومن هنا وصلتنا الحكايات الفارسية والهندية وغيرها.
وفى بداية وأواسط القرن الثانى للهجرة، ومع إزدهار عصر الترجمات وتراكم المؤلفات المترجمة للغة العربية، والتى أعقبها عصر الردود فى القرن الثالث وميلاد أول المؤلفات الفلسفية المدونة، بدأ العرب يشهد ميلاد وتطور شكل جديد من أشكال التعابير الثقافية، وهو السرد أو الرواية المدونة، المستقلة مبنى ومعنى وغاية عن كتب التاريخ والتأريخ والأحاديث الموثقة بالعنعنات المدلة وغيرها.
وكان ميلاد أولل رواية فنتازية بكل ما تعنى الكلمة من معنى فى القرن الرابع للهجرة، وأعنى طبعاً ، رواية (رسالة الغفران) لأبى العلاء المعرى، الرائد الفذ الذى وصل باللغة إلى حدودها القصوى، بلاغة ، وإبلاغاً.
وفى اعتقادى أن هذه الرواية المذهلة، لم تنل حظها بعد من الدراسة والبحث.
والواقع، أن الأدب العربى كله مدين لهذه الرواية بالذات، وليس فقط، لأنها تاريخياً أول رواية مدونة كتبت فى كل الأزمنة كتبت فى كل الأزمنة البشرية عبر كل العصور ولكن أيضاً، وأساساً، لنها أسست لأدب طازج ومازال بعد كل هذه المئات من السنين والعقود، رائدة فى مجالها، ومؤسسة فى آن . فأبو العلاء المعرى، قدم من خلال روايته هذه نظره فالرواية عنده التى تتشكل بين فضاءين وعالمين وتقابلات وتبادل وظائف مذهل، بين الواقع والفنتازيا، بين الحاشية والمتن، بين الممكن وغير الممكن ، بين الخير والشر، بين النور والظلام، الخالق والمخلوق، بين الجد والهزل، بين الثابت والحركة ، بين البلاغة والإبلاغ، بين الاسم والرسم... وبين عشرات التقابلات التى وصل بها حداً لا أتصور أنه سبقه اليه كاتب، بل أزعم أنه كل من كتب بعده انتحل من منابعه وسخريته، من دانتى وحتى بولغاكوف وبورخس وغابريال غارسيا ماركيز وكاوباتا وكازانزاكيس وهرمان هسه واسماعيل كادريه وأورهان باموق.
وفى مدينة ميونخ، حيث عشت، ومازلت أمارس مواطنتى ككاتب عربى مرحبب به، درس ودرس فى ميونخ، مملكة الشاب العظيم القلق لودفيك الثانى أو أخناتون الغرب كما يحلو لى أن أسميه، وعاصمة بافاريا ، المعقل الأكثر إغراء للانطلاق والشهرة والمرغوب من الكبار من المشاهير عبر التاريخ، من أدولف هتلر إلى باتريك زيوسكيند. مروراً بهيجل وكانط ونيتشه وباشلار وانجلس وكارل ماركس وبتهوفن وموازارت وانشتاين وفرانسواز كافكا ولودفيك الثانى وغيرهم ممن مروا وتركوا بصماتهم فى هذه المدينة الملاذ. توجحد مكتبة بشارع أوديون بلاتس، بمحطة اعرف الجامعة (أونيفارسيتيت) حيث أعرق جامعات الفيزياء والفلسفة والعلوم، ثمة مكتبة تحتل مساحة تقل قليلاً عن مدينة صغيرة، فى عدة طوابق، لا تجد بها غير اندر المخطوطات التى ابدعها الكائن البشرى وتركها، وقد جمعها جنود هتلر من مكتبات الاسكندرية ومن تركيا ومن كل مكتبات البلدان التى احتلها أو مر بها مروراً خاطفاً... فى هذه المكتبة، تقدمت مرة سنة 1993 ، من أمين المكتبة العجوز، وكان أحد الذين يتمتعون بأحقية الجلوس إلى مكتب يفصله عازل بلور مصقول، بين مئات الموظفين الذى يسيريون بخطوات سريعة كما النمل دون أن يحدثوا صوتاً.. تقدمت منه وسألته يومها:
- سيدى الفاضل، هل عندكم مخطوط قديم لرسالة الغفارن لأبى العلاء المعرى؟
لن أنسى ذلك اليوم ما حييت... ذلك أنه رفه بعينه الناعسة فى بركة زرقتها، ولمع فى بؤبؤ عينه اليمنى وميض غ ريب، اربكنى وأجابنى مستغرباً:
- وهل تتصور مثلاً يا بنى، أن مكتبة ميونخ العظيمة، تخلو من أم أمهات الكتب؟؟
ومن يومها ولأكثر من عشرين سنة، كنت أزور هذه المكتبة بما لا يقل عن ثلاث مرات فى الأسبوع ، لساعتين حيناً، وأحياناً لساعات طويلة.. وكبر من الموظفين الشباب هناك أمام عينى ومات من مات، وتقاعد من تقاعد، وارتقى فى السلم الوظيفى من ارتقى، لكن أغلبهم كان صديقاً... وكانوا يسموننى كيمو تونيزيا الذى لا يعرف أبا العلاء المعرى .. كما أطلق على ذلك العجوز هانس كروننبارغ.
كان لابد وأن أجد مدخلاً مناسباً، حميمياً لهذه الرواية التى بين يدى الأن.. وأعنى رواية (كابيتشينو) للكاتب المسرحى الأسكندرانى الصديق السيد حافظ.
والصادرة منذ مدة قصيرة عن :
وهى الرواية الرابعة، من ضمن رباعية بدأها الكاتب، برواية قهوة سادة ثم رواية نسكافيه، ثم هذه الرواية كابتشينو، وهو بصدد إنهاء مخطوط لرواية أخرى بعنوان شاى أخضر.
وكما نلاحظ فالكاتب يتعمد أن تكتمل هذه الحبات فى خيط موحد ومتماسك، من خلال العناوين الت تحيل إلى دلالات ملحة ومعان لا تخفى على الغافل، فما بالك بالقارئ الفطن النافذ لخبايا وبؤر الدلالات فى النصوص.
وأين لك أن تطلب القهوة السادة، أو النسكافيه أو الكابتشينو، أو الشاى بالنعناع، فى غير مملكة البن المحنك وطاولات الحكايا والنميمة و(القفشات) والضحك والسمر والمنادمة واستدراج الحكاية وتوضيب الخبر، يقيناً أو مشكوكاً فيه، أين يمكنك أن تجد كل ذلك فى غير المقاهى.. تلك التى عليك أن تعرفها للغرب على أنها أماكن للحديث والجدال والنقاش الحاد والنميمة الملهمة، وليست محلات للشرب والتأمل ومصاحبة الزوجة لشرب فنجان فى صمت كما يعتقدون وكما تعودوا عليها...
فالمقاهى فى مصر عوالم لا تشبه أى مكان أخر، فف حين أنها ف شمال إفريقيا مكان للعب الورق والشطرنج وترشف المشروبات الغازية الباردة على عجل... فهى ف مصر ، عبارة عن مجالس وملاذ الفقراء والموظفين ومن ضاق بهم البيت وحاصرتهم الجدران الأسمنتية والضيق، ضيق النفس أو ذات اليد، فه ملتقى السمار من الموظفين الصغار والمدرسين والطبقة الوسطى فى رمضان، والأعياد والعطل الأسبوعية، وه كوة الرحمة للفقراء الذين يكتفون من الدنيا بحكاية وخبر ونكته يترشفون عليها كأس الشا المسكر أو فنجان البن المحنك المضبوط أو المر أو المحلى بالسكر الزيادة...
من هنا، ومن هذا المدخل الغريب بالذات، يمكن أن نلج عوالم هذه الرواية الطريفة، فهى خليط عجيب غريب من غير مخلص لجنس أدبى بعينه، ومارق عن كل شكيمة أو تصنيف، فلا هى بالرواية، كما نعرف الرواية فى شكلها الحداثى أو الكلاسيكى، بتعدد شخوصها وفضاءاتها الزمانية والمكانية، ولا هى بالقصة الطويلة، ذات الخيط السردى الواحد والفضاء المحاصر، ولا هى كتاب رحلات، ولا هى كتاب نقدى، ولا هى سيرة ذاتية، ولا هى كتاب فى التاريخ، ولا هى تقاطعات جغرافية، ولا هى كتاب أسئلة، ولا هى كتاب يلهث وراء أجوبة ، ولا هى مؤاطرة بزمن الحاضر ولا هى تهوم فى زمن غابر، ولا هى شعر فقط، ولا هى سرد غير متقطع.
بل والله هى كل ذلك معاً، فهى كتاب يوثق للشعراء القدامى والمعاصرين وشهود ووقائع مؤكدة وهى فنتازيا وهى ضاربة بعروق متينة فى رحم الأرض والواقع.
وهى تلمظ المر، وهى تجليات بطعم السكر ، وهى ضاربة فى الروح الصوفية وهى توثيق ومتابعة دقيقة لا تكاد تترك شاردة ولا واردة.. وهى كل ذلك معاً.
ويكفى أن تعرف أن لكاتب، استشهد خلال أربعمائة صفحة بواحد وستين شاعر مصرى، وعربى من المعاصرين الأحياء، وخمسة شعراء عالميين هم رامبو ولويس آراغون وبول ايلوار والكسندر بوشكين وبودلير... وثلاثة شعراء من كبار الشعراء العرب الأموات فى الحياة والأحياء فى النص.. وهم أبو الطيب المتنبى وأحمد مطر ومحمود درويش.
وحين أذكر أنه استشهد بهم، فلا أعنى كما قد يتبادر للبعض أنه ذكر اسمهم . لا والله، لقد استشهد بمقطع طويل أو قصير أو بقصائد كاملة لكل واحد منهم. وبأمانة حيث لم يذكرهم فقط فى الحاشية، ولكن فى المتن أيضاً.
والكتاب منجم ومقسم إلى قسمين: دائماً وفى كل صفحة المتن والحاشية، وحين تقرأ المتن، لن تجد أية علاقة له بالحاشية، فكأنما هى رواية وكتاب مستقل وقائم بذاته وهذا نادر جداً، فى السرد العربى وما ألفناه من المؤلفات والكتب الإبداعية العربية.
أعود الأن إلى ما كنت صدرت به هذه الورقة، والى الأب الأول والشرعى للرواية العربية، صاحب ثلاثة أرباع إعجازات اللغة العربية فى ضفتى البلاغة والإبلاغ ، فى الشعر والسرد: معلنا الروحى وشيخنا جميعاً، أبو العلاء المعرى.
ولماذا استنجدت به فى مدخل حديثى وتقديمى الإنطباعى هذا لهذه الرواية الطريفة للصديق المبدع السيد حافظ.
السبب بسيط. ذلك أن مشروعية تصنيف هذا العمل الإدباعى للسيد حافظ كرواية، يبرره ما سبقه به المبدع الفذ والأب الروحى لكل سارد عربى السالف الذكر.
فالمعرى زج بالعشرات من الشعراء فى جنة الغفران ، واستنبط حيلة فذة ، للسخرية من شخصيته الرئيسية (ابن القارح) الذى غفر له الله، فراح يجس أديم الجنة الضارب فى مناخ وأجواء الأرض مع تمطيط كاريكاتورى فتن، وراح يجوبها يميناً وشمالاً، سائلاً بطبيعة الموسوس الحقود الصغير النفس المتشكك فى كل شئ عن المبرر الذى جعل هذا أو ذاك من أصدقائه يدخل جنة الغفران.
وقد وضعه فى مواضع ومواقف فى منتهى الروعة وتمثل بعض أجمل ما كتب عبر كل العصور بلغة عربية... حتى أنه وصل إلى درجة أنه يلتقى بأحد الشعراء الذين يبغضهم. فيقول له علنا وبكل مرارة وتجهم:
- والله لولا أنه لا يجوز الخطأ برب العزة، لقلت أنه أخطأ بك!!!
فجنة المعرى لم يدخلها غير الشعراء الأخيار منهم والأشرار... الحقيقيين منهم والمغشوشين .
وجنة السيد حافظ أو لنقل مقهاه، لا يدخلها غير من يراهم هو جديرين بجنته ويستحقون أن يكونوا الندماء والأحبة والأصحاب... وما استحضارهم ومناداتهم من دواوينهم التى ترقد فى مكتبته إلى هذه الرحلة السردية بصحبته، إلا دليل على أنه يرتضيهم وأنه اختارهم.
كمال العيادى القيروانى
27/2/2014
0 التعليقات:
إرسال تعليق