Add a dynamically-resized background image to the page.txt Sayed Hafez (sayedhafez948@gmail.com) جارٍ عرض Add a dynamically-resized background image to the page.txt.

أدخل كلمة للبحث

الخميس، 1 يونيو 2017

بقعة دم على جدار التاريخ. قراءة في قهوة سادة


بقعة دم على جدار التاريخ
قراءة فى رواية "قهوة سادة" للكاتب "السيد حافظ"



                                                       د. أمجد ريان


ليس مطلوباً من الكاتب أن يقوم بالتنبؤ ، ولكن الكثير من أعمال الأدباء لفرط اندماجها بروح الواقع ، ولفرط صدقها ، تصبح قادرة على التنبؤ بمراحل من مستقبل الوطن ، فالكاتب ليس مطالباً بأن يتنبأ بما يمكن أن يحدث للوطن ، ولكن المسألة قد تتوقف على اختيارالكاتب لموضوع عمله وشخصياته ، وعلى منطق العلاقات التى تطرحها الدراما الروائية فى النص ، مما قد يصل دون قصد متعمد إلى شىء من أحداث الغد ، وكاتبنا "السيد حافظ" يطرح نصاً يعالج فيه الحس الشعبى الشامى فى المجتمع السورى ، وكأنه كان يستشعر ما سيحدث لإخواننا فى سوريا ، وبخاصة أن سوريا بلغت اليوم حداً لا يطاق من العنف والقتل والدمار والمأساة الإنسانية بكافة أشكالها.
الجزء الأول من الرواية عنوانه : "سهر" الروح السابعة ، ثم يضع الكاتب عنواناً أصغر هو "5 يونيو 1967" ، ليذكرنا بهذه النكبة التى جسدها حدث الهزيمة الذى أثر على دول المواجهة ،  تأثيراً عظيماً ،  وغير مجرى الحياة العربية ، بعدما أحدثت النكسة صدمة هائلة للأمة ولملايينها التى لم تصدق ماحدث ، وقد كانت هذه الحرب المعاصرة مدعاة لإثارة التساؤل والتأمل والدهشة ، فقد انهارت منظومة كاملة من الدفاعات ، والمعاهدات العسكرية المشتركة أمام دولة صغيرة الحجم كانوا يسمونها دويلة ، دولة ذات طبيعة عدوانية منذ نشـأتها ، وسر الدهشة هو كيف لم تستعد دول المواجهة للدفاع عن أرض وطنها وكرامة شعبها ، بالرغم من الخطب والأناشيد الحماسية الرنانة التى كانت تهدد بإلقاء اسرائيل فى البحر !! ، وبالرغم من علو صوت شعارات من مثل : (يا أهلا بالمعارك) ، وبعد أن أخذ الإعلام الحكومى يعلن من خلال الإذاعات والصحف عن إسقاط الطائرات الاسرائيلية ، ويدلى بالبيانات الثورية ، ولكن على الأرض كانت الكارثة التاريخية تتحقق باسوأ صورها .
       ثم ينقلنا الكاتب بعد عنوان "الخامس من يونيو" ليضعنا مباشرة فى الشطر الشامى من وطننا العربى ، لذلك نستشعر كما لو كان هذا التاريخ للنكسة قادراً على جمع الروح العربية فى كافة الأقطار ، وكأن التفاصيل المحكية ، تنتمى لكافة الأقطار العربية معاً . ولا يستطيع العرب أن ينسوا هذه النكسة التى أثرت عليهم جميعاً ، بعد أن شن العدو الصهيونى حرباً عدوانيةً غاشمةً استهدفت ثلاثة من الأقطار العربية هى مصر وسوريا والأردن أطلق عليها وصف "الحرب الثالثة" لأنها كانت ثالثة الحروب بين العرب وإسرائيل ، الأولى فى عام النكبة 1948، والثانية فى أثناء العدوان الثلاثى فى عام 1956 وقد جاءت الحرب فى اللحظة التى كانت الأمة العربية تعيش فيها أوج مجدها ومدها القومى ، ليضرب الصهاينة وبعمق مشروع تحرير فلسطين .
       وتبدأ السطور الأولى من الرواية بلحظة درامية ونفسية شديدة الوطأة ، فالصبية الجميلة "سهر" إبنة إحدى القرى العربية الشامية ، تعيش حياتها كما تعيش كل صبية فى أية قرية عربية .  وفى ذات مرة ، وعلى حين غرة ، تكتشف بقعة دم حمراء فى ثوبها فتخاف وترتعد ، فقد فوجئت الطفلة البريئة بالمسألة دون سابق إنذار ، فوجئت ببقعة الدماء النازفة من مكان حساس ، وهى ككل طفلة لا تمتلك أى سند معرفى ، أو حتى مجرد تفسير ، وهى متأكدة أنها لم تجرح ، وقد تعتقد أن هذا النزف لابد له من سبب خطير ، وأحياناً تصاب الطفلة فى المجتمع العربى بالهلع ، أو تصرخ ، وأحياناً يجبرها مكان النزف المحاط بالأسرار على أن تدفن مأساتها وتكتم فضولها وتنتظر المجهول ، والأطفال بشكل عام يخافون من منظر الدم . وهناك الكثير من الممنوعات والمحظورات والتابوهات تخلقها الأسرة العربية حول البلوغ الجنسى لبناتهم ، وهذا بالتأكيد سيدفع البنات نحو صراع نفسى شديد مابين الخوف والخجل ، ويتم انتقال المسالة من جيل إلى جيل ، فتستمر الأسرة العربية داخل المأساة نفسها دواليك ، وهذه الطفلة ستمارس السلوك نفسه مع طفلتها فى المستقبل .
ولكن عندما جرت "سهر" إلى أمها مهرولة ، قابلت الأم هذا الخوف بزغرودة عالية الرنين ، فقد بلغت "سهر" ، وأصبحت طفلتها ذات الاثنى عشر عاماً أنثى من الإناث اللائى يتفتحن مبكراً ، وحالة الدراما الغنية فى هذا المشهد ناتجة عن هذا التضاد بين الخوف والرعدة من ناحية ، والفرح والبهجة والزغاريد من ناحية أخرى .
وبلوغ الطفلة فى مجتمعاتنا العربية بشكل عام مسألة حساسة وخطيرة لأن البلوغ عملية ديناميكية مستمرة وليست وظيفة مؤقتة ، ولا زالت الدورة الشهرية فى المجتمع العربى من التابوهات المرعبة ، وقد اخترعت لها النساء أسماء غريبة ، وإشارات تنتمى للريبة ، ففى مرة تسمى الدورة برمز للمعنى المجهول وهو الحرف الأجنبى "X"، وفى مرة أخرى تسمى بلفظة إنجليزية  Period  بسبب الخجل والرغبة فى المداراة كما لوكانت شيئاً أقرب إلى العيب الذى يدعو إلى الخجل .
والمعنى السياسى ـ وكما هو واضح أمام القارئ ـ مندمج بقوة بهذا العمل ، برؤاه الكلية الكبيرة ، وبتفاصيله الدرامية الصغيرة ، وقد شهد العصر الحديث هذه العلاقة القوية بين الإبداع الروائى والأيديولوجيا ، وهى العلاقة التى أثرت الكتابة ، وأكد هذا عدد من النقاد التقدميين الذين أعـادوا تقدير قيمة الشكل فى العمل الروائى ، وحريته فى تصور واقتناص طبيعة مجتمعه الخاص ، ولا ننسى فى هذه الطريق كتابات : "تيرى إيجلتون" ، و"ماشيرى" ، و"لوى التوسير" وغيرهم ، وهم الذين اعتمدوا عناصر هامة ، استمرت فى الدراسات والنقد الأدبى حتى الآن من مثل : التناص والتاريخ والمجتمع ، وتأثر هذه العناصـر فى المراحل الحديثة بالمنطق الأيديولوجى .    
          ثم عرفنا بعد ذلك اتجاهات النقد السوسيولوجى الذى يعالج كافة الأبعاد الاجتماعية والسياسية والأخلاقية فى الرواية ، وهى اتجاهات تؤكد تأثير الأدلجة على فنية الرواية وتغذيتها لها ، لأن حركة الفكر تحدث بالضرورة تأثيراً قوياً فى البناء الفنى ، أو بلغة أخرى الحراك الفكرى يوجد دائماً حراكاً فنياً موازياً يطور التجربة ، ويؤكد هويتها السياسية ، وكل هذا صار يندرج داخل علم الاجتماع الأدبى على أيدى منظريه البارزين ، ومنهم "لوسيان جولدمان" و"روبيراسكاربيت" و"بيير زيما" .  
والتوجه الأيديولوجى فى هذه الرواية ـ وكما سبقت الإشارة ـ يبدأ من دلالات العمل الروائى الكلية ، وينتهى عند أصغر التفاصيل ، وعلى سبيل المثال ، فالفتاة "سهر" تراقب أبيها وهو يبكى يومى 8 و9  يونيو ، وهو يرى الزعيم "عبد الناصر" يتنحى ، بعد أن قال كلماته التى لن ينساها التاريخ ، من خلال بيانه إلى الشعب والأمة بإعلان التنحى عن رئاسة الجمهورية ، وقد ألقاه من مبنى الإذاعة والتليفزيون بالقاهرة فى التاسع من شهر يونيو فى عام ١٩٦٧ وقد جاء فيه : [ولقد اتخذت قراراً أريدكم جميعاً أن تساعدونى عليه : لقد قررت أن أتنحى تماماً ونهائياً عن أى منصب رسمى وأى دور سياسى ، وأن أعود إلى صفوف الجماهير، أؤدى واجبى معها كأى مواطن آخر.] وكان "عبد الناصر" يعبر من خلال هذا عن تحمله المسئولية التاريخية عن الهزيمة ، ولم يكن والد "سهر" فقط هو الذى تأثر بهذا التنحى ، ولكن حدث رد فعل عنيف على بيان التنحى على المستويين المصرى والعربى ، وقامت مظاهرات عارمة فى القاهرة يومى 9 ، 10 يونيو تطالب باستمرار عبد الناصر فى الحكم ، أما مجلس الأمة ومجلس الوزراء فقد رفضا قرار التنحى ، فأصدر الرئيس عبد الناصر بياناً آخر فى يوم 10 يونيو ، جاء فيه : [ إننى سوف أبقى حتى تنتهى الفترة التى نتمكن فيها جميعاً من أن نزيل آثار العدوان ] . 
       وتضعنا هذه الرواية فى حالة من الرومانسية الثورية ، وكان المصريون جميعاً ممتلئين بهذه الحالة ، ومن المعروف تاريخياً أنه اذا فقد الثائر رومانسيته .. تموت الثورة في صدور الرجال ، فالثورة حالة عشق طوباوية جميلة ، يتّحد فيها الثائر مع فكرة الثورة بشكل عقلانى وعاطفى معاً ، وتحب الثورة دائماً أن تطلق نفوس الثوار على سجيتها ، والثائر يكون مندفعاً لتحقيق هدفه بعقله وبقلبه معاً .

وتعمل هذه الرواية على تقديم جوانب متعددة ، بل ومتضادة أحياناً ، فى الوقت نفسه ، لكى تؤكد هذه الروح الواقعية الحية ، وكأن كل مقطع يقدم شريحة فعلية من الحياة ، وأم "سهر" امرأة جميلة كما تقول الرواية ، ولكنهامنذ البداية ، ومثل القاعدة الأعم للنساء العربيات تؤمن بالجانب الغيبى ، كأحد أساسيات الحياة التى تعيشها ، ولم يكن غريباً إذن ، أن تذهب بابنتها إلى العرافة "شهرزاد" ، وتقول لها : (البنت صارت أنثى ..) ، فتزغرد "شهرزاد" وتنثر عليها بخوراً به "حبهان" و"عين الشيطان" محروقان فى النار .. وعلى الرغم من تطور الأساليب الطبية المتقدمة تكنولوجياً والأجهزة العلاجية الحديثة ، إلا انه مازال هناك وجود للطب الشعبى وطرائقه العلاجية .. ليس بسبب نجاعة الطب الشعبى ، أو بسبب فائدته العلاجية الفعلية ، ولكن الأمر متعلق بجوانب دينية وثقافية ، وبجوانب اجتماعية أو اقتصادية أوسياسية فى الوقت نفسه . والممارسات الشعبية تكشف دائماً عن تلك القوى الروحية الكامنة ، والتى يمكن أن تتجسد أيضاً فى الغيبيات السردية بين العوام ، وفى قصص البطولات والملاحم الشعبية ، ويتجسد فى ذلك السلوك الجمعى الذى يرتضيه الناس ، استجابة لظروفهم الحياتية ومتطلباتهم وحاجاتهم ، ممايمكن أن نراه فى الاحتفال بالأولياء وبالموالد ، وفى كل العادات الشعبية المرتبطة بدورة حياة الفرد ، من خلال المماراسات الحياتية المتعلقة بالوجود ، منذ الميلاد ، حتى الزواج ، ثم الموت .

وبعد أن تمر الأيام والشهور والسنوات ، تكبر "سهر" لتنتقل من مرحلة الصبا إلى مرحلة الشباب المبكر ، فقد صارت فى الخامسة عشرة من عمرها ، ولأن هذا العمر هو عمر يفيض بالرومانسية ، فهى تستيقظ فى فراشها ، وتتجه إلى النافذة مباشرة ، وتفتحها فتجد عصفوراً يرتعش ، فتمسكه وتحتضنه فينتفض نهدها ، وتدخل العصفور إلى صدرها ليتدفأ فى مشهد رومانسى خالص ، تتعمده الرواية لكى تثرى الروح الواقعية التى تريد أن تتضمن كل لحظات حياتنا الفعلية ، وحياتنا الفعلية بالضرورة لابد أن تتضمن هذه الأوقات التى تنتعش فيها الرومانسية ، لأنها أحد مطالب الإنسان الأساسية ، وبخاصة فى مرحلة البلوغ والمراهقة .
لقد كبرت "سهر" ، وفى كل صباح كانت تطالع وجهها الفاتن بشكل مبهر فى المرآة .. لقد زاد جمالها ، حتى لو أن فتنتها وزعت على كل النساء العابرات فسوف يفتتن رجال العالم العابرين .. إنها فتاة نشطة محبة للحياة ، تمارس حياتها اليومية بحماسة بالغة ، ففى أقل من نصف الساعة بعد استيقاظها ، وتركها الفراش ، تكون قد أنهت كل المهام التى تنتظرها ، تكون قد أنهت غسيل وجهها ، وإطعام الدجاج ، والبغل والحصان ، وألقت بعض الغلات للعصافير والحمام واليمام ، ثم تتجه إلى المدرسة ـ ص19 .

والرومانتيكية بالطبع جزء لا يتجزأ من صميم حياتنا الفعلية ، ليس فى مرحلة المراهقة فقط ، بل على امتداد الحياة كلها ، وكل إنسان سيجد أن حياته ليست سوى مزيج من لحظات متعددة ، أو أبعاد متعددة ، والرومانسية الخالصة ، هى واحدة منها بالتأكيد ، والحياة جماع للحظات متباينة ، وجوانب مختلفة ، بين البعد الرومانسى ، والبعد العملى ، والبعد الروحانى ، والبعد المادى ، وهكذا .. والتنوع فلسفة الحياة التى تعبر عن الانفتاح على كل شىء ، والتفاعل مع كل شىء ، لتحقيق جدلية ذات طبيعة شديدة الخصوصية ، ومسألة التنوع تطرح ثراء التفكير ، وثراء الأحداث ، وتلغى أساليب الفهم البالية التى توحد بين معطيات الوجود توحيداً تعسفياً مثالياً ، يفقد الإنسان قدرته على الفهم ، ولكن فلسفة التنوع عميقة تتأسس على دعائم إبستمولوجية جديدة ، وتنتج معقولية واقعية تتناسـب مع ما يدور حولنا فى الحياة اليوم . وترفض  الفكر الأحادى المبطن باشكال مختلفة من القهر ، وفى النهاية سيكون هناك فهم جديد للتعامل مع الواقع ومع المعطيات العلمية المعاصرة .

ثم تمعن الرواية فى الحس الرومانتيكى عندما تقدم "سهر" بعدِّها نموذجاً للجمال الساحر الذى يسيطر على كل شىء من حوله ، ("سهر" ... اسم يعرفه الليل والبحر والشجر وأحلام الشباب المراهقين والرجال العجائز على أبواب الدكاكين والمحلات فى الجبل فى بلاد الشام ـ ص15) ونلاحظ هنا بقوة ملمحاً رومانتيكياً أصيلاً ناتجاً عن مزج معطيات الطبيعة : (الليل ـ البحر ـ الشجر) ، بالمعطيات الآدمية : (أحلام الشباب المراهقين والرجال العجائز على أبواب الدكاكين) ، والمزج بين الطبيعة والإنسان كان الملمح الأساسى لكل رومانسية عرفها الفكر الجمالى فى كل مكان .

وتستطيع "سهر" أن تسيطر على قلوب الرجال ببساطة ويسر ، بسبب حسنها ، وجمالها الفياض ، لأن صباها وأنوثتها ورقتها ترسل بإشارات كهرومغناطيسية مفرحة لاتتوقف ، إشارات إلى كل الاتجاهات .  يقول أحد الأثرياء فى المنطقة التى تسكن بها "سهر" :
ـ (أقسم بالله أنا على استعداد أن أدفع وزنها ذهباً ـ ص 16) .
ونموذج الأنثى الجميلة ساحرة القلوب معروف فى مجتمعاتنا العربية ، فالأنثى تظل تمتلك الجاذبية والجمال والغموض والقوة بهدوئها ووداعتها أحياناً ، وبحيويتها وحركتها فى أحيان أخرى . ولكن دائماً يظل للأنثى ذلك السحر الخفى ، وذلك الحضور القوى بجاذبيتها وعاطفتها التى تحمل كل هذه القدرة على التأثير .
ولكن العرّافة "شهرزاد" كان لها رأى آخر فى مجال تقييم جمال "سهر" ، فقد قالت أنها ستسافر إلى بلاد النفط ، وسوف تتزوج من رجل ثرى ، وهناك ستفتح لها المدن ألف نافذة نور لكى تتمرغ فى الذهب ، وأبوها صار ينتظر هذا الفارس القادم لترحل معه "سهر" على سفينته ، وقالت العرافة أيضاً أن علم السفينة التى ستحمل "سهر" إلى خارج البلاد سيكون شمساً وقمراً . ليس هذا فحسب ، بل ضربت "شهرزاد" حصاراً على "سهر" ، فهى تريد أن تمتلك جمالها ، وتفرض عليه وصايتها ، وهى لا تريد لرجل أن يقترب منها ، وما أن تعلم أن رجلاً من الحى ، أو من القرى أو المدن القريبة قد تجرأ وطلب يدها ، حتى تهجم عليه ، فتقرأ كفيه ، وتقول له محذرة :
ـ لا تقترب من "سهر" ، فهى عشيقة القمر ، ومن يتزوجها يصاب بالعمى (ص19) .. وكان الكثيرون يصدقونها ويهربون  !
لقد ظل العرافون ـ ولا زالوا بنسبة كبيرة ـ جزءاً لا يتجزأ من تكوين مجتمعاتنا العربية . ولايزال البسطاء والشعبيون والفقراء يحتمون بالعرافات وقارئات الكف والطالع ، كما لو كان ذلك يمثل إنقاذاً لهم بسبب ظروفهم الاقتصادية الصعبة ، والمسألة ليست وليدة التو واللحظة بل القضية أبعد من ذلك بكثير ، وجذورها يمكن ان تعود للعصور السحيقة ، حينما كان الناس فى العصر الجاهلى يضربون السهام ويقدمون النذور للالهة كى تغير ظروفهم وتعدل مسارات حياتهم ، بل ويمكننا أن نصل إلى مراحل أبعد فى القدم منذ بداية البشرية . وقضية الرجوع للعرافين تتصف بها كل شعوب العالم وليست حكرا على منطقة أو مجتمع بعينه . ولعل العوامل الاقتصادية بالإضافة إلى عوامل أخرى من مثل عجز الطب العصـرى عن علاج كثير من الأمراض ، وبسبب ارتفاع الأسعار وعدم قدرة الفقراء على الاستفادة منه ، قد أوجد كل ذلك ، وغيره ، فرصة كبيرة لانتعاش الغيبيات بكل أنواعها ، وارتدت المجتمعات العربية إلى ما وراء الحقائق المنظورة ، وإلى عالم الجن والقوى الخرافية ، حتى صار البسطاء يستسلمون لتأثيراتها ، بحثاً عن النجاة فى عالم قاس لا يرحم .    
و"شهرزاد" العرافة الحسناء ، بيضاء وعيناها زرقاوان ، وعلى ذقنها وشم أخضر ، وهى نموذج للعرافة المتمكنة من قلوب النساء ، ولها مكان رئيسى فى حياتهن ، والثقافة العربية بشكل عام لم تغب عنها القضايا الغيبية طوال التاريخ ، وتربط "شهرزاد" بين مجالات تنبؤاتها من ناحية ، وبين الجنس وفنون العشق والغرام من ناحية أخرى ، وهى خبيرة خبرة موسوعية بالأوضاع وبالأسرار وبالخصوصيات ، يلتف حولها النساء ويشتكين ضعف أزواجهن فى الجسد والغرام ، وهى تستمع لهن ، وتطمئنهن ، وتريحهن ، وتخبرهن بالعلاج ، بل وتتوسع فى قضايا الإنجاب ، فتخبرهن كيف ينجبن الذكور دون الإناث . وهى لفرط معارفها تظل تحكى عن أسماء النكاح وأساليبه وأوقاته ، فتجذبهن وتذهلهن بثقافتها الحسية ، وهى قد ورثت عن أبيها مكتبة كبيرة تحوى كتب الشيخ الإمام "جلال الدين السيوطى" ، وكتاب "ابن حزم" طوق الحمامة فى فن النكاح ، وغيرها .. وهكذا خلبت "شهرزاد" لب النساء ، وشغلتهم كثيراً ، فظللن يتحدثن عنها بلا انقطاع ، فقلن عنها : قديسة ، وقلن : لعوباً ، وقلن : تزوجت من ألف رجل .. وقلن تزوجها جنى جميل ، ومنع كل الرجال عنها ، ، فهى عرافة الجن ، يمدها عشيقها الجنى بالسر .. وبأسرار كل البشر ـ ص18 ، وقلن ، وقلن ، وقلن ، والناس دوماً تقول . البشر يحبون إطلاق الأقاويل ، بل ويميل الإنسان إلى نقل الإشاعات والأخبار الغامضة ، كما لو كان يعبر بهذا عن حبه لاستقصاء المجهول ، وكشف الأسرار ، مستمتعاً بنقل الأخبار الغامضة ، ومن هنا سيكون تقبل الشائعات ونشرها ، وخصوصاً تلك التى تغطى المناطق التى يجهلها البشر ، أو تلك التى بمكن أن تحدث دوياً ، لتشبع رغبته فى خلق الدراما ، وبهذا احتلت الشائعة منذ القدم حيزاً مهماً من أنشطة المجتمعات البشرية . وصارت القضية الآن علماً يتتبع كيف تنشأ الشائعة وتتغذّى ، وما هى أنواعها ، وعلاقتها بتطلعات الناس الاجتماعية والإنسانية ، وخصوصاً ما يتعلق بأحلامهم واحتياجاتهم ومصيرهم .

ومن جهة أخرى ـ ومن الباب السياسى الذى تمعن فيه الرواية ـ يمكن عد "سهر" رمزاً للوحدة المصرية السورية ، فقد ولدت فى فبراير من عام 1958 يوم 12 رجب 1377 ، وهو اليوم الذى تم فيه الاتفاق على الوحدة بين مصر وسوريا ، وهى الوحدة التى وصفت بانها مايغلبها غلاب ، على حد قول أغنية شهيرة أذيعت فى هذا التوقيت بعد الوحدة مباشرة ، بعد أن أصبح لمصر وسوريا اسم جديد هو "الجمهورية العربية المتحدة" ليصبح "جمال عبد الناصر" زعيم الدولة الجديدة المكونة من البلدين ، وقد أطلق حينها على "شكرى القوتلى" لقب : "المواطن العربى الأول" . ورغم أن الرئيس "جمال عبد الناصر" كان يريد اتحادًا لا يقوم على الدمج ، ولكن ظروف سوريا ، واضطراب الأوضاع فيها بسبب السياسات التسلطية التى كان السوريون يعيشون فيها ، جعل الشعب العادى يريد التخلص من هذه السياسات عن طريق الاندماج مع مصر ، وأصبح اسم البلدين الجمهورية العربية المتحدة ، والقاهرة صارت العاصمة .
وكانت مصر قد خرجت بانتصار سياسى فى عام 1956 بعد فشل العدوان الثلاثى عليها ، وهنا بدأت مخططات جديدة بهدف تحقيق ما عجز السلاح عن فرضه ، وأصبحت منطقة الشرق الأوسط محور صراع سياسى شديد الضراوة بين الغرب وقوى التحرر العربية ، على امتداد مرحلة المد التحررى العربى الذى ساندته مصر بكل قواها فى اليمن ، وفى الخليج ، وفى جنوب شبه الجزيرة العربية .‏‏   وعلى حد قول "هدى عبد الناصر" ، فإنه بالرغم من استمرار قطع العلاقات الدبلوماسية بين مصر وبريطانيا منذ العدوان الثلاثى فى1956  فإن الوثائق البريطانية تحتوى على معلومات مهمة توضح اهتمام بريطانيا ، والغرب عموما ، بتتبع عملية الوحدة بين مصر وسوريا ، مما يبين مدى خطورتها على المصالح البريطانية والغربية فى منطقة الشرق الأوسط ، وأخطر ما فى هذه الوثائق البريطانية المتعلقة بالوحدة المصرية السورية : التفاصيل التى ذكرت عن مخططات الدول الغربية ، لمنع انضمام أى من الدول العربية الأخرى إلى دولة الوحدة .

وإذا تتبعنا وقع أحداث الوحدة بين "مصر" و"سوريا" على أسرة "سهر" ، سنجد أن أباها سيفرح فرحاً بالغاً فى لحظات قيام الوحدة ، ثم سيتأثر تأثراً شديداً أيضاً بعد ذلك ، حين يحدث الانفصال ، حتى أنه سيبكى مثل الأطفال !! وكان الانفصال قد وقع فى 28 سبتمبر 1961م ، بتدبير عسكرى قام به عدد من ضباط الجيش السورى ، بدعم بريطانى سرى ، فانفصمت عُرى الوحدة ، وقوبلت المسألة بالطبع بارتياح بالغ من قبل بريطانيا والدول الغربية ، بعد أن أجهضت واحدة من أهم التجارب السياسية العربية فى العصر الحديث.

ثم تعرفنا الرواية بشخصية "كاظم" وهو معلم "سهر" فى المدرسة ، وعاشقها الرومانتيكى المهذب الوسيم ، الولهان ، لم يتجاوز عامه الثلاثين ، يحب كل الصباحات لأنه يرى فيها حبيبته  "سهر" ، وهو يريد أن يتنفس وجودها فى الفصل ، وفى المدرسة  ، وفى الحى ، وفى القرية التى يعيشان فيها ، بل وفى الكون كله . وعقل الإنسان العربى يعج بالمعانى الأسطورية عن الحب ، حيث المحبوب مرسوم بمفردات من الطبيعة كالقمر والبحر والورد والسماء والشمس والفراشات والطيور والمطر ، وهى عبارة عن صور تركز على جمال الحبيب ، حتى أن الحبيبين يبذلان مجهوداً كبيراً فيما بعد ، لإعادة الحب من السماء إلى الأرض ، أو إعادة الحب من المثالية إلى الواقعية ، ومن المعروف فى المجتمع العربى أن الرجل ضعيف عاطفياً أمام المرأة ، يتغير كثيراً حين يجلس معها ، أو يكون محط نظرها ، فيبالغ فى مجاملتها ، أو يسعى للفت انتباهها ، وغالباً ما يعشق الرجل كل امرأة تهتم به ، أو تكون قريبة منه مكانيا ، أو علائقياً ، وتدرك المرأة دائماً أن الرجل الذى يحبها لا يتوقف عن الاهتمام ، بها والغيرة عليها ، وملاحقتها ، وتقديمه كل أشكال المودة لها ، كما يظل للجانب الجنسى سطوة خفية ، وهكذا يصبح للحب وجهان فى المجتمع العربى ، جانب مثالى معلن ، وجانب حسى خفى ، ويعيش المحبون والعشاق هذه الازدواجية القدرية التى يضطرون إليها فى ظروف واقعنا . وتقدم الرواية هذه السطور العاطفية التى تفيض بالرومانتيكية  النقية ، وهى مشاعر "كاظم" تجاه تلميذته "سهر" : [ لا تتركينى بين ظنونى القاتلة .. أنا قلبى عصفور يطرب كل الطيور ولكن اللحن من قلبك أنت وروحك أنت وعطرك أنت .. وغيابك موت بطىء ـ ص21] .
وعلى الرغم من إغراءات أبى "كاظم" المستمرة لكى يترك ابنه هذه القرية ، ويترك وظيفة التدريس ، ويرحل إلى العاصمة حيث جهز له أبوه عروساً جميلة ، هى ابنة العم ، ولكنه يرفض ، لأن قلبه قد تعلق بـ "سهر" ، ولا يستطيع أن يتركها ، فقد غرق فى حبها .  وعندما تكون كراستها فى التعبير الإنشائى أمامه ، يحس أنها توشوش له بحكايا ليلها ، ويرى الفراشات والأزهار المرسومة على الكراسة كأنها رسالة حب بلا عنوان ، إنه يحبها حباً عنيفاً يجعله يراجع قضية الحب بين الرجل والمراة ، ويقرأ الكتب التى تشرح قضايا الحب والجنس : يقرأ "كولن ولسون" ، و"فرويد" ، ويطالع الدراسات العربية والغربية .   ويبدو أن "سهر" أيضاً بدأت تميل لمعلمها ، وتبادله حباً بحب ، وبخاصة بعد وصايا العرافة "شهرزاد" التى اشعلت قلبها وجسدها بنار الحب ، وبدأت تعلمها فنون العشق وتقدم لها الوصايا : [ إن عطرك سيصيب الرجال عبر الهواء بدوار .. وهواء بحر عشقك نار فى روح الرجال .. اجعلى قلوبهم تطير وتصعد حتى سابع سماء .. عشقك سيهزم الرجال .. وهوى قلبك لن يعرف هزيمة ـ ص27] ، وهكذا ظلت توصيها ، وتحذرها من الرجال الذئاب من مثل المختار "بيسام" زير النساء ، وظلت تقدم لها نصائحها الغالية الصادقة ، لأنها أحبتها من قلبها ، ولأن جمالها الأخاذ يذكرها بشبابها ، وبسحرها الذى كان يشد قلوب الرجال .

وهكذا تعبر القصة الغرامية عن حب عاطفى كبير ، يدفع "كاظم" ليس لمراجعة العلاقة بين الرجل والمرأة فقط ، بل يراجع قضايا الوجود ، والفكر والصراع العربى الإسرائيلى !! ، ويتأمل الحكومات العربية وكيف انها نجحت فى جعل المواطن العربى يكره وطنـه ، ويبحث عن وطن آخر ، فيتذكر قول الإمام "على" رضى الله عنه :   [ الفقر فى الوطن غربة ]، ويتأمل "كاظم" فى النهاية وضعه ، بعد أن بعثر أحلامه بالوطن ، وسجن نفسه بين الفصول ، وبين عقول التلاميذ ، وأصبح مثل السجين ، وبعد أن صار ضائعاً ، ورغم أنه معارض للنظام لكنه لايستطيع أن يفتح فمه ، أو يعبر عن كونه معارضاً ، وهذا بالفعل حال المواطن العربى البسيط ، المواطن المأزوم الذى تعصف به السلطة ، وكأن الرواية تمكنت من أن تتنبأ بما سيحدث فى القطر السورى الشقيق ، الذى يتعرض فيه البسطاء اليوم لأبشع أشكال العصف والقتل والتشريد .




المصادر


ـ السيد حافظ ـ قهوة سادة ـ الهيئة المصرية العامة للكتاب ـ القاهرة 2012
ـ أمجد ريان ـ صوت صارخ فى الشوارع (قراءة فى أعمال إدوار الخراط) ـ الهيئة المصرية العامة للكتاب 1998 .
ـ بسام بركة ـ النص الروائى : المعنى وتوليد المعانى ـ  الفكر العربي المعاصر العدد 42ن تشرين الثاني /كانون الأول 1986 .
ـ تيرى إيجلتون ـ النقد والأيديولوجية ـ ترجمة وتحقيق فخرى صالح ـ المؤسسة العربية للدراسات والنشر ـ بيروت 1992
ـ حميد لحمدانى ـ القول الروائى ـ المركز الثقافي العربي للطباعة والنشر ـ بيروت ـ 2011 .
ـ بنية النص السردى ( من منظور النقد الأدبى ) المركز الثقافى العربى للطباعة والنشر، بيروت ـ ط03 ـ 2000.
ـ فاروق خورشيد ـ عالم الأدب الشعبى العجيب ـ الهيئة المصرية العامة للكتاب 1997 .
ـ محسن جاسم الموسوى ـ رواية النص ، خطاباً نقدياً فى الكتابة العربية المعاصرة ـ ضمن الابداع الروائى اليوم ـ مؤلف جماعى ـ دار الحوار للنشر والتوزيع سوريا ـ 1994 .
ـ مراد عبد الرحمن مبروك ـ آليات السرد فى الرواية العربية المعاصرة ـ الهيئة العامة لقصور الثقافة ـ سلسلة كتابات نقدية (100) .
ـ هدى جمال عبد الناصر ـ الوحدة بين مصر وسوريا ـ موقع النهى :
http://alnoha.com/mu8alat13.htm
25/ 9/ 2012








0 التعليقات:

إرسال تعليق

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More