اللغة التجديدية المستحدثة فى كتابات الكاتب السيد حافظ
حكاية الفلاح عبد المطيع نموذجًا
بقلم د. نادية سعدوني
وإذا أردنا أن نموقع أعمال (السيّد حافظ) المسرحية، وبخاصة مسرحية (حكاية الفلاح عبد المطيع) فإننا نجدها تتماشى مع اللغة التجديدية المستحدثة في زمن الظلم والاستعباد من حيث، قدرتها على ملامسة الواقع المعيش للبيئة البسيطة وللمجتمعات المقهورة في أزمنة متباينة
"هذا عصر المماليك... كل مملوك صاحب قطعة أرض يملك الأرض ومن عليها"
فالعصر مدون تاريخيًا، حيث السلاطين لهم الأرض ومن عليها، وليس للآخرين إلاّ التعبد وخدمة سيّده.
الملمح الثاني الذي استنبطناه من كتابات هذا المبدع المسرحية، تخليه عن الأساليب القديمة المساقة وفق رتابة كلاسيكية، مثبطة بزمان ومكان وشخصيات محدّدة ومتباينة، وهنا استخدم المزاوجة بين أساليب الجدية في طرح المواضيع والهزل في مناقشة أزمات الإنسان الضعيف في ذلك العصر.
بالرجوع إلى العنوان، نقرأ عنوان (حكاية الفلاح عبد المطيع) فنلاحظ أنّها مكونة من أربعة ألفاظ، انطلاقًا من كلمة (حكاية) وهي مصدر لفعل (حكى، يحكي، حكاية) أي أنها مجموعة من الأحداث المترابطة والمتسلسلة والتي تلخص مسارًا معينًا يقضي إلى وجود شخصية معينة يصب عليها هذا المسار، اذ يعلن الكاتب أن العمود الفقري لنصه المسرحي ينصب على الشخصية الرئيسية فهي بمثابة المحرك الأساسي في نجاح العمل، فهي المكون العمودي الممسك بخيوط الدال والمدلول والذي يسير وراءه الكاتب ليحدد أبعاد الخط الأصلي لصلب الحدث.
فالانطلاقة توحي إلى وجود شخصية محورية تستأثر مجريات الحدث وتتولى عملية الصياغة المسرحية من خلال همومها وصراعاتها مع مشاكلها ومع الشخصيات الأخرى المحيطة بها.
وقد استخدم (السيّد حافظ) في هذا النص مستويات لغوية في السرد والحوار، فأبرز سمات شخصياته وركز على شخصية (عبد المطيع) المرتبطة بالبيئة الفنية المترجمة للجو العام لأحداث النص ومن خلالها نستطيع أن نتعرف على الحالة العامة للجو الذي تدور في فلكه مجريات المسرحية.
نعرج إلى لفظة (الفلاح) كملمح اجرائي يدل على البساطة والفقر والعجز، وربما الغباوة، "فلاح فقير، أجير"
فالفلاحة مهنة سامية تدر الخير الكثير على صاحبها، إذا كان مالك للأرض وما فيها، أمّا إذا كان أجير حال (عبد المطيع) فليس له إلاّ القليل القليل فلا يكاد يسدّ جوعه، ولا جوع عياله العشرة، وهنا يقف (السيّد حافظ) على الصراع الطبقي الذي عاشته مصر منذ عصر المماليك ولا يزال كذلك، فالغني يطغى على الفقير، فليس له إلاّ الانصياع، وهنا نجد أن التجربة الإنسانية هي من أهم مرتكزات (السيّد حافظ) اذ تتواءم هذه الأخيرة مع ما تمرّ به الشخصية المسرحية من مواقف هزلية توحي إلى مأساة البشرية.
إنّ وقائع مسرحية (حكاية الفلاح عبد المطيع) وقائع تثير الدهشة، كما أن ممارسة شخصية بطلها تثير السخرية والجد في الآن ذاته، ولعل المعادل الموضوعي الذي تثيره هذه المسرحية هي الإدانة المرة لمجتمع الفن، والادانة المطلقة للمجتمع كله، فصوت الفلاح هو الصوت الأكثر دقة في المسرحية والذي قام على عاتقها النص المسرحي.
إن المسرحية تعتبر بمثابة عمل تحكيمي، فالفن ما هو إلاّ استخدام أقل من الحجم الممكن للحياة الخارجية من أجل بعث أعنف حركة ممكنة في الحياة الداخلية، إذ ليست من مهمة المسرحية أن تروي علينا أحداثًا عظيمة، بقدر ما تجعل الأحداث الصغيرة ذات مغزى وحيوية مثيرة للاهتمام، وهذا بالضبط ما فعله (السيّد حافظ)، إذ لم يركز على الحروب العظمى التي حدثت في عصر المماليك، بل ركز على شخصية قد يعتبرها العالم هامشية في ذلك الزمان.
الوعي بالذات المهمشة:
يعيش الإنسان مفارقات الحضور والغياب إذ يمارس عليه كل أنواع الطغيان الغير المعلن، من خلال حالة الاجتثاث والمحو للأنا، سواء من داخل الانتماء الأول (العائلة الصغيرة) أو الانتماء الأكبر (العائلة الكبيرة) أي المجتمع والسلطة المنتمي لها.
تغيب الأنا البطلة:
يسيطر على (الأنا البطلة) حالة من الشعور المعمّق بالموت المعنوي للأنا الحضورية، والأصل أن الموت المقصود به هنا لا يعني أبدًا النهاية التي لا حياة بعدها، بل هو كل " ما يقابل العقل والايمان، أو ما يضعف الطبيعة وما يلائمها، كالخوف والحزن أو الأحوال الشاقة كالفقر، الذل والهرم، المعصيّة"
فالموت هنا لا يقصد به فقط الفناء والحياة، بل هو أكثر تفرعًا من هذا، لذلك قيل أن "الموت" موتان، موت إرادي وموت طبيعي، وكذلك الحياة حياتان، حياة إرادية، وحياة طبيعية، عنو بالموت الإرادي إماتة الشهوات وترك التعرض لها، وعنو بالموت الطبيعي مفارقة النفس للبدن، وعنو بالحياة الإرادية ما يسعى له الإنسان في الحياة الدنيا من الأكل والشرب، والشهوات وبالحياة الطبيعية ببقاء النفس السرمدية في الغبطة الأبدية بما تستفيده من العلوم الحقيقية، وتبرأ به من الجهل، لذلك وصى أفلاطون طالب الحكمة بأن قال له: "مت بالإرادة تحيا بالطبيعة" ومن هذا المنطلق تطرقنا إلى مسرحية (السيّد حافظ).
الموت الروحي لعبد المطيع:
انشقت مرجعيات الموت الروحي عند بطل السيّد حافظ وذلك بحسب الرؤية التي قدمها الكاتب، وكان أولها.
الموت الروحي بسبب فقد المحبوبة:
فبطل المسرحية إنسان يتراء لك عند قراءة النص أنّه بلا إحساس ولا شعور بسبب كم الغباء الذي يبديه ، ولكنك عندما تتعمق في النص تجد البعد المأساوي والذي أوقعه في اللاوجود، واللامشاعر، هذه الأخيرة التي لا تظهر إلاّ عند لقائه بفاطمة المرأة ذات الخامسة والثلاثين سنة، والتي أحبها (عبد المطيع) حتى النخاع، ليجد نفسه متزوج بنفيسة والتي لا تربطه بها إلاّ العشر أولاد والذين أنجبتهم لتربطه إلى جانبها وحتى لا تجعل له بدًا إلاّ البقاء معها، وتحت ظلها.
"عبد المطيع: تسمعي لا يهمني أي شيء... كل ما يهمني في العالم هو أنت يا فاطمة أنت تعلمين كم أحبك"
هذا الحب الذي تغلغل وتعمق في أوصال ومشاعر، (عبد المطيع) لامرأة منعت عنه، بسبب والدها الذي لم يجد فيه الرجل المناسب، فسقط في امرأة لم يربطه بها إلاّ تأسيس عائلة تقليدية
"لماذا رفض أبوك أن يزوجنا منذ عشرة سنوات أكرهه... ألعنه، أسبه، أدعو عليه، أتمنى موته قبل الظهر، والظهر قبل العصر، والعصر قبل العشاء، والعشاء قبل الفجر، اللهم خد عمره آمين"
فهنا عاش البطل قصورًا حضوريًّا في فضائه الاجتماعي، الرافض للفقير، والضعيف، وهذه الوضعية التي آل إليها بطل المسرحية. جاءت نتيجة الرؤية السلطوية الممارسة من قبل الأب على ابنته وكذا النتيجة الحتمية للبعد الطبقي الاجتماعي الذي كان آنذاك في مجتمع المماليك.
إنّ اللافت للانتباه حالة الاكتئاب التي يعاني منها (عبد المطيع) والذي ذكرنا سابقًا أسقطته في حالة الموت المعنوي، حيث عالم الملوك والسلاطين والحكام يهيمن على الفضاء الاجتماعي والسياسي كلّه فالرجل الفقير أو البسيط مقصى من صناعة المجتمع، في محيط تحكمه القوة المتمركزة على فئة دون أخرى، لا يسمح فيها مشاركة الطبقة الفقيرة أو المتوسطة في انتاج طقوس المجتمع، إنها طبقة مرصودة لكسب لقمة العيش من خلال وظائفها البسيطة والمحدّدة، غايتها تلبية رغبات الملوك والسلاطين، ومسعاها ينحصر في الخضوع والتبعية لرغبات رجال السلطة فيلبسونهم ما شاء السلطان وينزعون عنهم ما يريدون.
ولكن بالرغم من هذا الانقياد التلقائي للسلطات المتباينة (سلطة الدولة، سلطة الأب، سلطة الزوجة)، فقد شعر (عبد المطيع) برهاب الأنا المتمرّدة والتي تعيش حبيسة الإذلال والتصنيفات الدونية للمجتمع السلطوي، فقد تذمر البطل على زواجه المشؤوم والذي لم يتحصل من وراءه إلاّ على كومة أطفال يراهم عبئًا يورق كاهله
"أعلم هذا، أعلم أنني تزوجت رغمًا عني امرأة لا أحبها وأصبح عندي تسعة أولاد"
ولعلّ كاتب المسرحية، أراد أن يوحي منذ الوهلة الأولى، على أن المرأة في ذلك الزمان لم تكن غاية بقدر ما هي وسيلة، فإمّا هي وسيلة لراحة النفس والروح، وهي عند (عبد المطيع )تجسدت في (فاطمة) الحب الرومنسي، وإمّا هي وسيلة الجسد والرغبات الجنسية وتجسدت في (نفيسة )التي أنجبت وأنجبت كنتيجة حتمية لعلاقات حميمية مكثفة، وأمام هذا الواقع الممسوخ في الثقافة الفكرية لذلك الزمان، وكذا الحضور المتصارع للأناة المتباينة، والداخلة في حروب وجودية كبرى والتي كانت تدور رحاها في الساحة الفكرية والثقافية والاجتماعية أنداك ، نجد أن النص لم ينطلق من فكرة أو تصور خاص للمرأة، إنما قام بتصور تفاعلي كبير بين مقصديات تعلقت بالأنا البطلة والمرأة المترجم بها عنها أي عن هذه الأنا.
السيرة الذاتية
الاسم : نادیة
اللقب :سعدوني
من موالید الجزائر العاصمة بباب الوادي، خریجة جامعة الجزائر، متحصلة على شھادة دكتوراه تخصص دراسات نقدیة.
أهم الأعمال :
المشاركة في العدید من الملتقیات الدولیة والوطنیة، وكذا الندوات الوطنیة، من بینھا:
ندوة بعنوان : قراءة في التجربة الروائیة، لعبد الوھاب عیساوي.
تجاذبات الفكر الثوري في النثر الجزائري.
التجریب في روایة "الرماد الذي غسل الماء" لعز الدین جلاوجي، قراءة موضوعاتیة.
ملتقیات وطنیة بعنوان :
مكانة وسائل التعلیم الحدیثة ضمن الإصلاح التربوي بالجزائر.
قراءة أدبیة في بیان أول نوفمبر ١٩٥٤.
النص الأدبي ووسائل التواصل.
مقالات متعددة من بینھا :
المرأة والاغتراب في أعمال (عمار بالحسن) القصصیة.
أبو القاسم سعد الله أدیبًا ومفكرًا.
مقاربة موضوعاتیة لأعمال (السید حافظ)
الأدب القومي، إعلان للتجدید أعمال (السید حافظ)
الإشراف على العدید من رسائل اللیسانس والماستر في مختلف المواضیع.