عرض لكتاب ورسالة دكتوراة
مسرحة التراث في تجربة السيد حافظ
قراءة في كتاب
الباحثة: ريما بن عيسى
بقلم: أحمد محمد الشريف
(نشر هذا المقال في مجلة المسرح - العدد 53- الإصدار السادس- بتاريخ 1 أغسطس 2025)
مسرحة التراث في تجربة السيّد حافظ:
تجريب حديث لجذور الهوية
***
بقلم: أحمد محمد الشريف
"مسرحة التراث عند السيّد حافظ: قراءة في التجارب المسرحية العربية التراثية" هو عنوان دراسة أكاديمية رصينة أنجزتها الباحثة الجزائرية/ ريما بن عيسى، تناولت فيها تجربة الكاتب المسرحي المصري السيّد حافظ كنموذج تطبيقي لتحليل العلاقة بين المسرح العربي والتراث، من خلال توظيف الموروث الشعبي والديني والتاريخي داخل النصوص والعروض المسرحية.
وقد أُجيزت هذه الدراسة (عن العام الجامعي 2024 – 2025) ضمن متطلبات نيل درجة الدكتوراه من كلية الآداب واللغات، جامعة سطيف 2، الجزائر، تحت إشراف الأستاذة الدكتورة ليلى بن عائشة. وترأس لجنة المناقشة الأستاذ الدكتور حسين تروش، وشارك في عضويتها كل من الأساتذة: د. حياة ذيبون، د. علي بخوش، د. رابح ذياب، د. عبد الحميد ختالة.
وقد صدرت هذه الأطروحة لاحقًا في كتاب منشور عن مركز الوطن العربي للنشر والإعلام (رؤيا) بالقاهرة، لتتحوّل من جهد أكاديمي جامعي إلى مرجع نقدي متاح للقراءة العامة والبحث المتخصص.
في هذا المقال، نُقدّم عرضًا وقراءة تحليلية لهذا الكتاب، بوصفه إضافة مهمة إلى حقل دراسات المسرح العربي، ونافذة فكرية وجمالية على تجربة السيّد حافظ، التي تُعدّ من أغزر التجارب العربية اشتغالًا على التراث في المسرح.
في خضم تحولات المسرح العربي الحديث، تبرز تجارب فنية تسعى إلى تجسير الهوة بين الماضي والحاضر، بين ما هو تراثي وما هو معاصر، في محاولة لإنتاج فن مسرحي متجدد يستمد شرعيته من الهوية، وقوته من الوعي النقدي. ومن بين هذه التجارب، تتفرد تجربة الكاتب المسرحي المصري السيّد حافظ بوصفها أحد أبرز محاولات "مسرحة التراث" في العالم العربي.
و تسعى هذه الدراسة إلى استكشاف كيفيات توظيف التراث العربي والإنساني داخل الكتابة المسرحية المعاصرة، من خلال نموذج السيّد حافظ.
خلفية الدراسة وإشكاليتها:
تقوم الدراسة على إشكالية جوهرية تتمحور حول التساؤل: كيف وظّف السيّد حافظ التراث الإنساني والعربي في بناء نصوصه المسرحية المكتوبة والمعروضة؟
وينبثق عن هذا السؤال جملة من التساؤلات الفرعية:
- ما مفهوم المسرح والمسرحة؟
- ما مفهوم التراث وأنواعه؟
- كيف تتفاعل النصوص المسرحية مع التراث؟
- ما الخصوصيات الجمالية لتوظيف التراث في تجربة السيّد حافظ؟
المنهجية وتعدد المقاربات:
اتبعت الباحثة منهجًا تكامليًا متعدد الأدوات، يمزج بين النظري والتطبيقي، ويتنقل بين التحليل السيميائي والبنيوي، إلى جانب المنهج التاريخي والوصفي:
- المنهج الوصفي: لتقديم تأطير مفاهيمي لمصطلحي "التراث" و"المسرحة".
- المنهج البنيوي والموضوعي: لتحليل البناء النصي ودلالات المحتوى.
- المنهج السيميائي: لرصد الأبعاد البصرية والسمعية داخل العرض المسرحي.
- المنهج التاريخي: لتتبع تطور المسرح العربي وتداخله مع التراث.
الهيكل العام للدراسة:
• المدخل النظري :من التأصيل إلى التجريب:
حيث تعمل فيه الباحثة على تأصيل مفهومي المسرح والدراما. وتحليل أشكال التراث (مادي/لا مادي) وتعريف المسرحة:
1. التراث والمسرحة: إشكالية المفهوم
تبني الباحثة ريما بن عيسى إطارها النظري على تفكيك ثنائية محورية:
- التراث: تُصنفه إلى:
1- مادي (المباني، الأزياء، الصناعات التقليدية).
2- لامادي (الحكايات الشعبية، الأمثال، الطقوس).
- المسرحة (Théâtralisation): عملية تحويل النصوص/الأحداث إلى مادة مسرحية قابلة للتجسيد، مع تمييزها عن "الأنسنة" (إضفاء الصفات البشرية على الجمادات).
• الفصل الأول عن تجليات التراث في المسرح العربي ترصد الدراسة ثلاث مراحل للتطور، وهي:
1- مرحلة التأصيل (مارون النقاش، أبو خليل القباني): حيث تم توظيف الفنون الشعبية (المقامات، الغناء) في قوالب مسرحية.
2. مرحلة التأسيس (توفيق الحكيم): وفيها دمج التراث الأدبي والتاريخي بأطر درامية حديثة.
3. مرحلة التجريب (الطيب الصديقي، السيد حافظ): وهي مرحلة تفكيك التراث وإعادة بنائه عبر تقنيات سينوغرافية معاصرة.
ثم تحدثت الباحثة عن إشكالية تصنيف التراث الشعبي، ثم مسرحة التراث العالمي من خلال مسرحة الأسطورة في مسرحية إيفيجيني لجان راسين.
انتقلت الباحثة بعد ذلك إلى مسرحة التراث القومي بدءا بنموذج مسرحية مقامات بديع الزمان الهمزاني للطيب الصديقي.
ثم تناولت الباحثة في جانب آخر ثنائية التراث والهوية في خطاب المسرح المصري من خلال مسرحية "إشاعة" للسيد حافظ، حيث تسلط الضوء على أشكال الحضور المتعددة للتراث الشعبي، ممثلة في توظيف الأدب الشعبي، ولا سيما الأمثال الشعبية، إلى جانب استخدام اللهجة المصرية الشعبية كلغة مسرحية فاعلة، كما تبحث في أثر الشخصية التراثية التاريخية ودورها الجمالي في بناء المعنى وتعزيز البعد الهوياتي داخل النص المسرحي.
مسرحية إشاعة
ركزت الباحثة الدكتورة ريمة بن عيسى على تحليل مسرحية "إشاعة" كنموذج دال على براعة السيد حافظ في تفعيل التراث داخل بنية العرض المسرحي. وأشارت إلى أن التراث في هذا النص لا يُوظف كمادة تزيينية أو خلفية سردية، بل يُعاد تشكيله كأداة مقاومة ووسيلة جمالية لفهم الحاضر، وتفكيك البنية الاجتماعية القائمة. فالنص يعجّ بالأمثال الشعبية، واللهجة العامية، والاستدعاءات الرمزية لشخصيات تاريخية مثل صلاح الدين الأيوبي، ما يمنح المسرحية طابعًا تعدديًا على مستوى اللغة والخطاب والدلالة. وقد وقفت الباحثة عند التوتر القائم بين الأمثال المتعارضة داخل النص، مثل: "الباب اللي ييجي لك منه الريح سده واستريح" و"الريح لو جالك عالي إعلا له ما تطاطيش"، لتبيّن كيف أن السيد حافظ يُدخل التراث الشعبي في قلب الصراع الدرامي، موظفًا إياه للكشف عن التحولات القيمية في المجتمع، وعن إشكالية "الهوية المغلوطة" حين تُصنع الحقيقة من الإشاعة، لا من الواقع. ومن خلال تحليلها العميق، توصلت إلى أن "إشاعة" تقدم أنموذجًا مكثفًا لجدل الهوية والسلطة والتاريخ في مسرح السيد حافظ، حيث يصبح التراث نفسه مسرحًا لصراع القيم.
كما تتناول الدراسة بعد ذلك أشكال مسرحة التراث الوطني في مسرحيات عز الدين جلاوجي، من خلال رصد تجليات الأمثال والحكم الشعبية في عدد من نماذجه المسرحية، وتوظيف الصناعات والفنون اليدوية في مسرحية "الفجاج الشائكة"، فضلًا عن حضور الموسيقى الشعبية في المسرحية نفسها، كما تسعى الدراسة إلى الكشف عن جماليات التشكيل التراثي ودوره الفاعل في بناء الخطاب المسرحي لدى جلاوجي، بوصفه مقاربة فنية تجمع بين الأصالة والتحديث.
يتناول الفصل الثاني من الدراسة تمظهرات التراث في مسرح السيد حافظ، حيث يبدأ بتوطئة تمهد لرحلة العمل المسرحي من الفضاء النصي إلى الفضاء الركحي، عبر تحليل عناصر النص المسرحي مثل الفكرة، الشخصيات، الحدث، الصراع، الحوار، الزمان والمكان، الحبكة، اللغة، والإرشادات المسرحية. كما يتناول أساسيات العرض المسرحي، بما في ذلك الإخراج، التمثيل، السينوغرافيا، الديكور، الإكسسوار، الأزياء، الإضاءة، والماكياج، ثم يناقش جدلية العلاقة بين النص والعرض. وفي محور "أشكال مسرحة التراث"، تسلط الدراسة الضوء على ازدواجية التعالق والتشكيل بين المسرح والتراث من خلال استدعاء الشخصيات التاريخية الإسلامية واستحضار السيرة الشعبية وقراءتها في ضوء الحاضر، مع إبراز صورة المجتمع العربي وقيمه الثقافية والتربوية والاجتماعية في نصوص السيد حافظ. كما تتناول الدراسة آليات المسرحة في العروض، من خلال قراءة لمسرحية "سندريلا والأمير" بين الأصل والتمسرح، وتحليل جمالية السينوغرافيا والصورة البصرية والسمعية، والأداء الصوتي والحركي للممثل، إلى جانب عناصر الأزياء والإكسسوارات، الموسيقى الشعبية، ودور الديكور في مسرحة الحكاية الشعبية كما في "علي بابا" أنموذجًا.
نتائج الدراسة:
تخلُص الدراسة التي أعدّتها الباحثة ريما بن عيسى إلى مجموعة من النتائج الجوهرية التي تؤكد على أهمية تجربة السيّد حافظ المسرحية، ليس فقط كإسهام فني فردي، بل كمسار فكري متكامل يعيد رسم العلاقة بين المسرح والتراث والواقع المعاصر. ويمكن تفصيل هذه النتائج في النقاط التالية:
1. السيّد حافظ يعيد إنتاج التراث بتأويل جديد
ليست تجربة السيّد حافظ في استلهام التراث مجرّد توظيف لحكايات أو شخصيات تاريخية، بل هي فعل إعادة تأويل. فهو لا يكرر السيرة الشعبية أو المأثورات التراثية كما وردت، بل يُعيد قراءتها من منظور نقدي معاصر، يعكس قلق الحاضر وتطلعات المستقبل.
على سبيل المثال، تُصبح شخصية أبو ذر الغفاري تجسيدًا للمثقف المعارض، لا مجرد صحابي من صدر الإسلام، ويُعاد تقديم شخصية سندريلا كرمز للتغيير الاجتماعي لا كفتاة تنتظر الأمير، بينما يتحول الصراع على طبق الملوخية في مسرحية "حرب الملوخية" إلى مجاز ساخر للتناحر السياسي العربي.
2. يزاوج بين الشعبي والتجريبي
تتميز عروض السيّد حافظ بمزيج فريد من تقنيات المسرح الشعبي وخصائص المسرح التجريبي. فهو يستعير من الراوي، والحكواتي، والمقامة، والعرائس، ومسرح الظل، ويضعها في قلب تجربة معاصرة تقوم على كسر الجدار الرابع، وتعدد مستويات التلقي، والانفتاح على تقنيات السينوغرافيا الحديثة.
هذا المزج لا يُفقد العمل بساطته الشعبية، ولا يُعقده تجريبيًا إلى حد النخبوية، بل يصنع منطقة وسطى، يتفاعل فيها المتفرج البسيط مع مضمون عميق، ويُحاط بجماليات غنية دون أن يشعر بالاغتراب.
3. عروضه ثرية بصريًا وسينوغرافيًا
تُظهر الدراسة أن العروض التي كتبها وأشرف على إخراجها السيّد حافظ أو أُخرجت برؤيته، تمتاز بثقل بصري واضح، يعتمد على التكوينات السينوغرافية المدروسة، والإضاءة التشكيلية، واستخدام اللون بشكل رمزي، والمزج بين الصورة والصوت لإنتاج معنى جديد.
وفي عروض الأطفال، تظهر هذه السينوغرافيا بشكل أكثر حيوية من خلال الأزياء الزاهية، الألعاب البصرية، حركات الممثلين المبالغ فيها، والديكورات المستوحاة من الطبيعة أو الحكايات، ما يمنح العرض بعدًا تربويًا وفرجويًا في آنٍ واحد.
خلاصة النتائج
يمكن القول إن السيّد حافظ يُمثّل في هذه الدراسة نموذجًا مركبًا لمثقف مسرحي عربي يعيد إنتاج التراث لا لكي يحفظه، بل لكي يجعله قابلًا للحوار، والتحول، والتجريب. وأن المسرح في يده لا يصبح مجرد حكاية تُروى، بل فعل مقاومة ناعم، ومشروع وعي، ومختبر فني وفكري يتجدد باستمرار.
ثامنًا: القيمة الأكاديمية للدراسة
• تؤصل العلاقة بين التراث والمسرح في السياق العربي.
• تسهم في إعادة تعريف مفهوم "الهوية المسرحية".
• تشكّل مرجعًا للمشتغلين في مجالي الكتابة والإخراج.
خاتمة الدراسة
أثبت السيّد حافظ في نصوصه أن التراث ليس جامدًا بل طاقة إبداعية. ومن خلال قراءتها النقدية، تبرز أطروحة ريما بن عيسى كمرآة لجهد أكاديمي نوعي يسعى إلى قراءة المسرح العربي من زاوية الجذور لا السطح، ومن زاوية التفاعل لا التقديس. وتبين تجربة السيد حافظ في المسرح أهمية استلهام التراث الشعبي بأبعاده المادية واللامادية في صياغة خطاب مسرحي معاصر، يعكس قضايا المجتمع العربي والمصري بأسلوب فرجوي نقدي. وقد تمكن من توظيف عناصر التراث – من شخصيات وتعبيرات وأساطير وفنون – لخلق عروض تحمل بعدًا جماليًا ورمزيًا، يجمع بين العامية والفصحى، ويزاوج بين الماضي والحاضر. وقد اتسمت أعماله بالمساءلة والبوح الصريح، معتمدة على أدوات العرض المسرحي المختلفة، ليكون المسرح عنده أداة وعي وتغيير، لا مجرد تأمل وبذلك، يتحول المسرح إلى أداة حيوية لإحياء الذاكرة وبناء الوعي المعاصر.
في الختام في ضوء ما سبق، يمكن القول إن دراسة الباحثة ريما بن عيسى تمثل إضافة نوعية إلى المكتبة المسرحية العربية، ليس فقط لأنها تسلط الضوء على تجربة فنية مميزة مثل تجربة السيّد حافظ، بل لأنها تنطلق من رؤية أكاديمية واعية تحاول فهم المسرح بوصفه خطابًا متشعبًا: جماليًا، معرفيًا، وتاريخيًا.
ما يميز هذه الدراسة أنها لا تكتفي بالتحليل التقني للنصوص أو العروض، بل تتجاوز ذلك إلى مساءلة العلاقة بين التراث والمسرح في سياقنا العربي، وتطرح أسئلة حول الهوية والتلقي والتأويل، وهي أسئلة لا تزال مفتوحة أمام كل من يكتب أو يُخرج أو يقرأ المسرح اليوم.
كما تُحسَب للباحثة أنها أضافت صوتًا جديدًا إلى قائمة طويلة من الدراسات والرسائل الجامعية التي تناولت تجربة السيّد حافظ، وهو الكاتب الذي حظي باهتمام أكاديمي واسع وموثّق، ربما يفوق ما كُتب عن أي كاتب مسرحي عربي آخر في جيله، نظرًا لغزارة إنتاجه وتعدد مناحي اشتغاله المسرحي.
إن دراسة "مسرحة التراث عند السيّد حافظ" لا تُعيد فقط قراءة الماضي، بل تدفعنا إلى التفكير في الحاضر المسرحي بأدوات نقدية جديدة، حيث يصبح التراث مادة للحياة، لا حنينًا للمتاحف، والمسرح أداة لليقظة، لا مجرد مساحة للعرض.
أحمد محمد الشريف