جريدة مسرحنا
العدد 515
10يوليو 2017
صفحة 23
بقلم: عائشة بن علي
سحر المكان عطر الزمان ...وروح الإنسان
كابوتشينو رشفة على شفاه الأنا
نرجسية الكتابة وحمى التجريب:
كان التجريب ولا يزال ضالة المبدع المبتكر الذي يسعى سعيا حثيثا إلى تجديد دماء إبداعه بطفرة إبداعية أو تجريبية تغير معالم الجاهز والمعهود إلى اللامألوف المبهر الصادم والمختلف ، ولعل السيد حافظ أسير التجريب منذ عهده الأول بالكتابة .
إن المتأمل لكتابات السيد حافظ سيجد لا محالة ذاته مبثوثة في ثنايا الكلمات وروح إبداعاته التي تحيلنا على انه يعشق الكتابة حد الجنون إنه يعشقها في ذاتها ولذاته لا لذاتها ، قد يكتب للمتلقي في دعوة مفتوحة له ليشاركه أحاسيسه ومشاعره وأفكاره ، ويبثه شكواه ، ولكن الخفي واللامعلن في الأمر أنه لا يكتب سوى لذاته وإرضاء لها ، قد ينظر البعض إلى الأمر من زاوية الأنانية والنرجسية المفرطة من قبل الكاتب، "طوال عمري كنت أفسد حياتي باختياري للحكمة والحب والمعرفة والكتابة"ص.114.ولكنها من زاوية نظر أخرى قمة التواصل والتلاحم مع الآخر ؛إذ لمن يبث الإنسان شكواه ويروي عذاباته وأناته ولواعج نفسه، ومر وحلو أحاسيسه إلا لمن يحب وبمن يثق، فقد صفا ود الكتابة لديه حتى أضحى شفافا يرُى منه كل شيء لذا اختار أن يكون كذلك أمام القارئ الذي يتلقى روحه عبر كلمات تنبض نورانية وروحانية وحسية أيضا، ليكون ملكا مشاعا للجميع . "قلت دون ادعاء : أنا من تخلع النساء أحذيتهن عند عتبات داري ومن يتعطرن له حين يقرأن كلامي ومن يتوضأن ويصلين شكرا لله ركعتين عند عتبات داري ..."ص.115، لذا وأنت تقرأ له فأنت تقرأه من الألف إلى الياء ، وأنت تقرأه فأنت تطلع على سرائره ، والسرائر هنا جمع لذاته المتقلبة بين الحزن والفرح بين الأمل واليأس بين الاعتزاز والاعتداد بالنفس والانكسار والقهر ،بين الاعتراف والجحود والنكران..فبين التقلبات المزاجية العديدة لا يملك هذا الكاتب إلا مساحة الكتابة فقد بات الصوت مبحوحا ولا يكاد يصل، وأي المنابر ستسمع أناته وزفراته ، كل المنابر عاجزة أو جاحدة..لكن وحدها الكلمة التي يسجلها التاريخ تبقى أزلية وصوتها المهموس والمجهور مسموع وإن سدت الآذان فهو يخترقه ليرتسم نقشا على العقول والقلوب .
"أنا لا أستطيع أن أكون أبا حنيفة ، ولكنني قد أشبهه في بعض الأشياء في قولة الحق ولقد خسرت كل شيء في حياتي بسبب هذا "ص.113
كابوتشينو هي ثلاث حكايات تخترقها مئات الحكايا ( شخصيات متباينة، في أزمنة مختلفة ومتباعدة ولكنها متشابهة أو بالأحرى ثمة ما يصل بينها :
حكاية سهر وكاظم .
حكاية فتحي رضوان وتهاني /فاتن.
حكاية نور ومحب .
لكنها حكايا عن الذات وتقلباتها ،عن بناء الإنسان /بناء الحضارة ،عن الماضي/ والحاضر ،عن المستقبل الذي يستشرفه الكاتب/يحلم به،هي سيرة ذاتية /غيرية،،هي تاريخ/ وفلسفة حياة ،هي انا /وانت ،هي الأنا /والآخر، هي الهو /والهو، هي نبوءة/ واستشراف...باختصار هي تشكيلة من الثنائيات المتلازمة ،المتضادة المتلاحمة ،هي مشروع يتعدى مجرد سرد حكايا لقارئ يتسلى ...هي ماذكر آنفا وأكثر...
لذة الكتابة وتعرية الأنا
ليس من السهل الكتابة على الأنا والوقوف أمام القارئ عاريا؛ حيث خبايا الروح وحناياها تشف من بين الضلوع لتعلن عن إنسانية الإنسان في أدق تفاصيلها ،وأحلى معانيها ،إنسانية يتجرد فيها الإنسان من الحقد الأزلي والضغينة التي تعتم على كل ماهو جميل ،إنسانية يترفع فيها عن العنصرية ،والفرقة الدينية والفكرية والطائفية " والله أخوي كاظم ما عدنا نعرف مسلم من مسيحي من درزي لسني لعلوي لشيعي ...
أحسن هيك ...إنك تسيب الموضوع ده لله في السماء...
كلنا بشر "ص.15، يترفع الكاتب عن كل هذا وذاك ليرسم دروبا للمحبة والنقاء المفتقدين في عالم تغيرت فيه ملامح الإنسانية وأضحى التطرف ينخر كل شيء حتى المشاعر.
لقد أبى السيد حافظ عبر شخصيات روايته هاته بل رواياته إلا أن ينشر ذاته بين ثنايا كل واحدة منها ،لتتوزع هذه الذات المتفردة عبر مئات الشخصيات ليقرأها ويستقرئ مكامن الضعف والجمال والعنفوان في كل منها ،وكأنه روح عاشت بألف روح،أو روح حلت في ألف روح وروح لتتجلى تجربته في معرفة تفكيرها وعلمه بحالها وأحوالها والغوص في أعماقها ،ولكنه في كل هذا وذاك يقدس ذاته بنرجسية عبر الكشف عن ما تنطوي عليه هذه الشخصيات على اختلافها وتنوعها ،ويبث روحه المشرئبة إلى عودة الإنسان إلى منابعه الأولى والفطرة التي جبل عليها،رغبة منه في أن تكشف هذه الشخصيات عن ضعفها الذي هو أمر طبيعي وإنساني ،وليحملها على تقبل ذاتها ،كما يتقبلها هو ، فذاته رغم تعاليها وإحساسها بالتفرد والتميز تهفو إلى جوهر الإنسان وروحه التي خلقها الله وأبدع في خلقها ،لا ينشد في ذلك المثالية بقدر ما ينشد الإنسانية الحقة على فطرتها بعلاتها وضعفها ولحظات قوتها ،لأنه ببساطة إنسان ...
أنسنة المكان وروحانيته:
لعل سيطرة البحث عن إنسانية الإنسان ،الإنسان /الذات/الآخر هيمنت على فكرة السرد في هذه الرواية حتى أسبغ الكاتب صفاتها على كل شيء،فـــــ" إذا كان المكان الواقعي يتحدد بعلاقاته المكانية فإن المكان الروائي (...) يتميز بأنه فضاء لفظي (وهو لا يتشكل إلا من خلال اللغة )،وفضاء ثقافي (وهو ماتعبر عنه اللغة من التصورات والقيم والمشاعر،...)، وفضاء متخيل (وهو الجانب الحكائي المتخيل من يا الروائي). ولكن هل يخضع المكان في المتن الروائي لهذه التحديدات والأطر ؟،
لئن كان غاستون باشلار قد تحدث عن الأطر التي تحدد المكان وتعطيه أبعاده الجمالية والفنية، والتي تتسع وتضيق بحسب طبيعته وشكله ونوعية الفضاء والحيز الذي ينطوي عليه، فإن المكان في رواية كابوتشينو يتخذ أبعاد وأطرا تتجاوز حدود ما أطر ،وتتحدى نواميس المنطق المعهود لترسم لنفسها معالم من أخاديد الروح وعذابات النفس، وسمو المشاعر وقدسية الحب، وحرية الاعتقاد...لقد غدا المكان في هذه الرواية أيقونة تحيلنا على قراءة جديدة ومختلفة للمكان الذي أُنسن فأضحى شخصا من دم ولحم وروح،لذا ونحن نسترق السمع، نجد القمر قد نزل من عليائه فنسمع صوته وهو يئن ويشكو ، وشهرزاد القديمة المتجددة تأبى أن تستقبله .
" لن أفتح الباب ..ربما هو صوت القمر نزل ليطمئن علي ويشكو لي من النساء. " ص.46
بل يخلع الكاتب على القمر الصفات الإنسية ليغدو عذراء يحمر وجهها خجلا..
"ماذا بي؟.. عندما سأقول أحبك يحمر خد القمر لا أعرف لماذا؟ " ص.68
جمالية المفارقات:
حبلت كابوتشينو بجملة من المفارقات الصارخة التي تعمق الصورة وتجعلها أكثر شفافية ووضوحا، أين يؤنسن الصمت ويصرخ بملء فيه :
"متى يكف صمتك عن الصراخ في دمي" ص.68.
بل يغدو الصمت إنسانا يرقص في لحظات الحب المفعمة بالشاعرية
"الصمت يرقص معنا "ص.85.
ومن جهته يغدو الفضاء ذو الخصوصية المحددة ،بوصفه فضاء حميميا مكانا للرقص واستعادة الذات ،ومقاومة
أجمل الاشياء أن ترقص بمفردك في غرفتك ،أو وانت في الحمام وأن ترقص وتغني..وأن تسمع صوتك وأنت تشدو لتقاوم الحزن والوحدة والاكتئاب ..." ص.89..فالرقص تعبير جسدي عن خبايا وآلام نفسية ،وحده الرقص يقاوم الألم والعذاب، بإخراج الطاقة السلبية لتحل محلها طاقة إيجابية يستشعرها الفرد وهو يمارسه..
الحشيش عدالة/ووطن
تتحقق العدالة في كابوتشينو بين بني البشر عبر سبل لا يمكن توقعها إذ العدالة التي تقوم ثورات لأجل تحقيقها وتراق من أجلها الدماء قد تحقق بجلسة مزاج يتساوى فيها الجميع ..
" الحشيش يجمع الأمير مع الخفير..الثري مع الفقير.." ص.49
بل يصبح االحشيش وطنا لفئة معينة ممن لا وطن لهم ولا سكن،ثم إن ضيق واتساع المكان يرتبط بالكلمة في حد ذاتها ،حسب ما قد تحدثه من تأثير على الشخص"الحشيش الوطن السفلي للضائعين..عالم الحرافيش والمهمشين والسفلة..متسع وضيق لا يعرف اتساعه إلا من ملك كلمة السر..حشيش.."ص.49
الجبل/حرية وانعتاق
"صعد الجبل ..لتصعد الروح للحرية للنور للسماؤ...روح الجبل بها جمال ولعنة مخفية في الأحاسيس "ص.14
ربما هو الجبل جاء على هيئة رجل ليزورها [ ليزور شهرزاد]" ص.4
قد يشكل الجبل مكانا للحرية والتحرر عبر طقوس الرقص .
" ..قالوا الرقص هو الخلاص أرقص فوق الجبل ليتحرر الجسد والروح من الوجع والسهد"ص.85
إن المكان في هذه الرواية يشكل بؤرة السرد وجوهر الرواية بلا منازع
الحب
الحب/سكن وسكينة :
الحب إنسان له روح مقدسة سامية ،روح رقيقة وشفافة ،الحب في كابوتشينو سكن وسكينة وطمأنينة،هو السبيل إلى الكاترسيس ،و
"الحب روح لا تسكننا بل نحن نسكن روح الحب ..حتى نغسل نفوسنا من الحزن والشر" ص.71..والحب مكان هلامي خارج الزمان والمكان ولكنه في الوقت ذاته مكان نتحسسه ولا نراه.
"الحب قصر نسكنه ولا نراه" ص.84.
وهو أي (الحب) في الوقت نفسه وطن كيفما كان هذا الوطن " الحب وطن ..هناك بلاد يحبها الله وهي لا تحب الأنبياء والعلماء ولا الحكماء.."ص.233
تشخيص الزمان
وأنت تقرأ للسيد حافظ تحس أنه يعيش الزمن بشكل مختلف؛فاللحظة لديه دهر جميل يحياه ويعيش أزليته أمادا بعيدة من خلال شخصياته المبثوثة عبرالمتن الروائي .
يؤنسن الزمان ويشخص في رواية كابوتشينو
تشيؤ الإنسان وجموده
0 التعليقات:
إرسال تعليق