Add a dynamically-resized background image to the page.txt Sayed Hafez (sayedhafez948@gmail.com) جارٍ عرض Add a dynamically-resized background image to the page.txt.

أدخل كلمة للبحث

الزائرون

Flag Counter

زوارنا

Flag Counter

الزائرون

آخر التعليقات

الثلاثاء، 25 أكتوبر 2016

مسرحية "حكاية الفلاح عبد المطيع" الإبداع والتجريب فى مسرح السيد حافظ



مجلة الأسبوع العربى – لندن  23/5/1983         

 بقلم الدكتور / اسماعيل الامبابى
مسرحية "حكاية الفلاح عبد المطيع"
الإبداع والتجريب فى مسرح السيد حافظ
كانت اهتمامات "عبد المطيع" تنحصر فى إنه يزرع
القمح ويحصد الحب.. ويشترى زقزقة العصافير

تعد مسرحيات السيد حافظ من المعالم البارزة فى أدبنا الحديث ذلك لأنها تقف وحدها فى قمة الريادة فى ميدان المسرح التجريبى فى الساحة العربية.
والسيد حافظ ليس مجرد كاتب مسرحى يحكى لنا حدثاً فى قال درامى مسرحى بل يعتبر بإنتاجه الفكرى الناضج خالقاً مبدعاً له لعالمه الخاص وفلسفته الخاصة. وهو يغوص دائماً فى أعماق النفس الإنسانية محاولاً الكشف والوصول إلى المثالية التى فقدناها فى القرن العشرين محاولاً الكشف عن كل ما يقابله إنسان ذلك العصر من صراعات مالية ونفسية وحضارية. والذى لا شك فيه هو أن السيد حافظ يسعى جاهداً إلى خلق أعمال باقية على الزمن مما دفعه غير مرة إلى الخروج صراحة على الأشكال الفنية المألوفة (وهذا ما يؤكده الناقد العربى على شلش - عن مسرح السيد حافظ - حينما قال أن (السيد حافظ حطم بطموحه وجرأته قواعد المسرح من أرسطو إلى بريخت)، وإلى توسيع أبعاد فنه إلى مستوى التنبؤ العام الشامل بالإضافة الاهتمام بموضوعات الساعة والقضايا المباشرة.
والسيد حافظ من الكتاب الذين يحملون مسؤولية الغد على أكتافه، فهو يخوض عمار معركة الحق والحقيقة... وهو يرفض أن يكون ملتزماً بالأفكار المجردة.
فمسرحه يتكلم عن كل الزمان الإنسانية... فهو يتكلم فى مسرحه عن قضاياً إنسانية متعددة...
فقديماً قال دستوفيسكى : أن كل إنسان مسئول عن كل شئ أمام كل إنسان. إذاً هذا الكاتب لم يحمل جواز سفر مصرياً فقط، بل فى الحقيقة حمل هذا الكاتب جواز سفر عربياً أفريقياً عالمياً.. فكل قلوب الناس جنسيته.
والسيد حافظ طائر نورس جوال، وهو من مقدمة ذلك الجيل من كتاب المسرح العربى بشكل عام والمسرح المصرى بشكل خاف. ويعتبر السيد حافظ من جيل ما بعد الستينات هذا الجيل قد تزود دون شك بكل التجربة الفنية والفكرية لجيل الستينات ايجابيتها وسلبياتها... وهذا الجيل ابن لحظة التناقض الفكرى والسياسى والاجتماعى بقدر ما كان جيل الستينات ابن لحظة الثورة، كما قال سعد أردش، وهذا الجيل استعان بالرصيد الهائل المطور من أفكار مسرح الستينات.
وقد لمع من جيل السيد حافظ فى مصر كل من : وحيد حامد - لينين الرملى - د. سمير سرحان، يسرى الجندى - أبو العلا السلامونى - د. فوزى فهمى. إلا أن كلا من لينين الرملى ووحيد حامد اتجها إلى مسرح الفارس. مسرح الضحك للضحك - لذلك تعاملا بنجاح وباستمرار مع فرق القطاع الخاص إلا أن أكثر هؤلاء الكتاب إبداعاً هو السيد حافظ وأقلهم إبداعاً هو د. فوزى فهمى الذى اتجه نحو مسرح الهروب.
الحرية ... قضية جذرية
ومن القضايا السياسية التى تشغل فكر مسرح السيد حافظ هى الحرية وهى قضية جذرية لا يستطيع الإنسان المعاصر أن يتخلى عنها أو تتخلى هى عنه وهذا ما نجده فى أحداث مسرحياته التى صدرت أخيراً... وهى مسرحية (حكاية الفلاح عبد المطيع) وهى من أجود المسرحيات العربية التى صدرت فى الآونة الأخيرة وهى مسرحية من فصلين يناجى بها السيد حافظ الحرية.
لقد شاهدت هذه المسرحية على المسرح العراقى وكانت من إخراج الفنان العراقى الدكتور سعدى يونس وقد لاقت نجاحاً جماهيرياً كبيراً جعلتنى اليوم أتناولها لكى استشهد بها على الإبداعات الدرامية عند السيد حافظ وتأكيداً على أنه مدرسة مستقلة.
وإذا رجعنا إلى الحرية عند السيد حافظ نجد أنه يخاطبها كثيراً فى مسرحه حتى تأخذ مكانها. ولما كانت الحرية لا تتأمل ذاتها وإنما هى تحقق هذه الذات... فهو يخاطبها جاعلاً نصب عينيه شيئاً يريد تغييره فهو يضطلع بمهمة تأكيد الحرية مهددة باستمرار فهو يشعرنا السيد حافظ فى مسرحه دائماً بأنه مسؤول عن حرية الإنسان.
وها هى مسرحية "حكاية الفلاح عبد المطيع" التى يثبت من خلالها السيد حافظ أنه مازال يحمل مسئولية الغد على أكتافه ويحمل مسئولية مساندة الحرية فى أى مكان أو فى أى زمان ويريد حافظ أن يقول إن الحرية هى معادلة للحق وللخير فهو يؤكد وجودها لكى يتحقق لنا المستقبل ومن خلال هذه المسرحية يثبت السيد حافظ وجوده كرائد اتجاه جديد فى المسرح التجريبى العربى.
ومن الملاحظ أن حافظ يستمد تجاربه الفنية المسرحية من دراساته الفنية ومن تأملاته فى المحاولات المسرحية الشعبية على مر التاريخ وهذا هو المسرح الحقيقى لأنه يعبر كما يقول د. إبراهيم عابدين عن المشاكل والهموم التى تشغل كامل الإنسان.
ومسرحية "حكاية الفلاح عبد المطيع" هى صورة لوضع الإنسان فى القرن العشرين والذى يعيش تحت ضغط خوف سلطوى ومع ذلك فهو يعيش متأملاً عذباته ويسكت كل الأصوات التى بداخله : صوت ذاته والذى يشعره بأنه مازال منتمياً إلى جنس البشر إلا أن هذا البريق الصغير المتصاعد من داخل ذاته وهذه الأصوات الصغيرة المتصاعدة أيضاً من جوف الكبت والقمع والإرهاب والمعاناة الملازمة للإنسان والنداءات المستمرة اللا واعية والى أحياناً تنسلخ من اللا وعى إلى لغة الوعى.
كل هذه المعالم تحتاج فى نظر السيد حافظ إلى من ينظمها ويأخذ بيدها ومن يحدد لها طريق الخلاص وطريق الحرية.
لأن الشمس لابد لها من ظل والنهار لابد له من ليل.
فعبد المطيع يعيش فى زمن كان الإنسان فيه مفقود القيمة - كان الإنسان الحيوان قوى النفوذ والسلطان وعبد المطيع فلاح فقير أجير عيناه مسجدان ويداه صلبتان فى صلابة صخر النيل (ص5)
كانت اهتمامات عبد المطيع تنحصر فى أنه يزرع القمح ويحصد الحب ويوزع الابتسامة ويشترى زقزقة العصافير بأغانى صغيرة لا تتسع لعشرة أفراد (ص6).. لقد نهيت مماليك السلطة كل شئ... والمدينة أصبحت عاطلة عن العمل لذلك لم يخرج عبد المطيع لمدة يومين إلى السوق... وبعد يومين ذهب إلى السوق كالعادة وجد أن الناس فى السوق يرتدون السواد فى كل شئ لقد ظن فى داخل نفسه عندما قابل أصدقاءه فى السوق، إن كلا منهم حدثت له حادثة ما جعلته يرتدى ملابسه السوداء... فعبد المطيع يعلم أنه يعيش  زمن عصر الأرانب (ص21).
لقد كان عبد المطيع لا يعرف عن العالم إلا الفأس والأرض والعمل لم يجلس مع السلطان لم يجلس فى الديوان إلا مرة فى شهر رمضان وقالوا له صفق لكل شئ تسمعه... لم يدخل كتاباً ليتعلم القراءة لأن القراءة تجلب المتاعب وتتعب العقل وينبهنا السيد حافظ إلى أن الحدث ليس محدوداً بحكاية عبد المطيع ليخدم إسقاطه السياسى والاجتماعى وذلك على لسان الراوى (ص20) عندما يقول :
الراوى : العاقل من يفهم أن اسم بطلنا ليس فى سجلات التاريخ السلطانى أو المملوكى وشجرة العائلة ليست مسجلة فى كتب التاريخ ولا تدرس حياته فى المدارس (ص20).
ويمضى عبد المطيع فى رحلة حياته اليومية القاسية إلى السوق ليشترى القول للأطفال، والشعير للحمار، ويجد أن الملابس السوداء يرتديها كل البائعين والجوالين فى السوق إلى أن يقابل صديقه حمد ليدور حوار ذكى يعبر عن الهموم الإنسانية..
والسيد حافظ معروف عنه أنه يملك قدرة فائقة عودنا عليها فى مسرحه - على الاستمرار فى الحوار الحر مع القضايا التى تشغل كاهل الإنسان المعاصر والتى تنحصر إلى حد ما فى الحرية والوعى والعدل والمساواة والديمقراطية وهذه كما قلت قضايا جذرية لا يستطيع الإنسان أن يتخلى عنها.
(يسمع عبد المطيع نهيق الحمار) لاحظ دلالة هذا الرمز :
عبد المطيع : حمارى يا سيدنا منذ أمس لم يأكل.
حمد : أتعذب الحيوان؟
عبد المطيع : لماذا تحزن على الحيوان والإنسان فى كل لحظة يموت... من المسئول عنه؟ إذا كان الحيوان جائعاً فما رأيك بالإنسان الجائع؟
حمد : يا بنى الحيوان مخلوق أخرس.
عبد المطيع : والإنسان أيضاً حيوان أخرس إذا نطق.
حمد : يا بنى أنت تكفر بنعمة السمع والنطق والبصر.
عبد المطيع : أنا لا أكفر يا مولانا لكن العين بصيرة واليد قصيرة.
ويعلم عبد المطيع من صديقه أنه لابد وأن يصبغ كل شئ لديه باللون الأسود... وقبل أن يقول له لماذا؟ تجئ الشرطة إلى السوق ويتم القبض على عبد المطيع وحماره لعدم ارتدائه الملابس السوداء وعدم طلى حماره باللون الأسود ولم يكن يعلم عبد المطيع أن القاهرة كلها نفذت الأوامر إلا هو... لقد نامت أحزانه الفرعونية وأحلامه العربية على وسادته فى اليومين اللذين لم يخرج فيهما (ص31).
لقد كان عبد المطيع يحلم دائماً مثل جده الأكبر بالطيور (لاحظ هذا الإسقاط) وسأل المفسرين عن معنى الطير فى الأحلام فقال له البعض أنها الهجرة وقال البعض إنها الحرية وكان فى نظر بعض الناس خيراً وفى نظر رجال السلطة شراً (ص31).
وكان يكره الأهرامات لأنها قتلت جده ولم يكن يدرى أنها رمز العبودية.. كان يكره ولا يعرف أن هذا العصر منحنى القامة - مقهور المعانى - مندس بين أصابع المهانة، ذهب عبد المطيع إلى رئيس الشرطة والذى اعتبر جهل عبد المطيع إلى رئيس الشرطة والذى اعتبر جهل عبد المطيع وتغير لباسه باللون الأسود، جريمة وهو، للسلطات ولرئيس الشرطة فى الوقت ذاته (ص 37) واعتبر ذلك أيضاً دعوى للثورة وزعيماً لحركة مناهضة، وذلك الموقف يذكرنى بعبارة الكاتب المسرحى الراحل نجيب سرور حينما قال عن السلطة (إن لم يضعوك فى خانة وضعوك فى تهمة الخيانة وإذ لم يتهمونك بأنك يمينى فأنت يسارى ولا تدرى)، وهكذا صنف عبد المطيع رغم أنه بحكم عواطفه وعذاباته اليومية فى السعى نحو الحصول على الفول والذرة ولا يدرى عن أمور الدولة أى شئ... سوى أنه كان يفهم جيداً أنه لابد وأن يبتعد عن السير والتعرض للشرطة، فهذا بالنسبة له انتصار يومى... وقد ماتت كل الحقائق وكل التطلعات الدنيوية فى داخل عبد المطيع لأن السلطة استطاعت أن تحصر تفكيره حتى لا يفكر هو وأمثاله فى شئون السياسة. فالسلطة عند عبد المطيع هى السلطة فى أى وضع ديكتاتورى.. فقد كانت تدعى هى الأخرى للشعب العبارة المزيفة (دع السياسة للسياسيين لذلك ساعدت فى تضخيم معاناة عبد المطيع فانصبت اهتماماته ومعاناته الأساسية نحو الحصول على الفول لأطفاله العشرة والشغير لحماره وهذا يتطلب منه أن يعمل ليلاً ونهاراً.
إنه السجن
وكانت نتيجة هذا التصنيف أن وضع فى السجن والحكم عليه بخمسين جلدة كل صباح ومساء لمدة أسبوع هو حماره (ص42).
وحتى ذلك الوقت لم يكن يدرى لماذا وضع فى السجن إلى أن يتم الإفراج عنه، ويومها عرف من الحارس أن عين السلطان مصابة وكان ينبغى أن يلبس السواد.
لقد خرج عبد المطيع من السجن ليصبغ كل شئ فى حياته باللون الأسود.. البيت والملابس والجدران - الشجر الذى أمام المنزل - حتى الحمار دهنه باللون الأسود وعاش عبد المطيع فى غيبوبة القهر والحرمان والمرض الذى لحق به فى السجن.
فى هذه الفترة كانت عين السلطان قد شفيت والأفراح فى كل مكان فى المدينة - فإذا شفيت عين السلطان تقام الأفراح والزينات وإذا مرضت عين السلطان يمرض الأطفال والنساء والرجال والحيوانات فهكذا الحال فى مدينة عبد المطيع ومن المدن المشابهة لمدينة عبد المطيع، وفى يوم عيد شفاء السلطان الذى لم يدر به عبد المطيع خرج مع حماره إلى السوق بملابسه السوداء لتقابله الشرطة مرة أخرى وتأخذه إلى رئيس الشرطة...
لم يكن عبد المطيع يجيد لغة النفاق والتملق. ويطرح السيد حافظ قضية أساسية عندما يتساءل على لسان الجوقة من يحمل هموم عبد المطيع : النجمة؟! أم البحر؟! أم الزهور؟! فالأيام مطعونة كلها والشريف مطعون.. فهذا زمن ردئ.. هذا زمن الجنون.. أين التاريخ لينزل من عليائه.
التأملات الفلسفية فى مسرح السيد حافظ إنما هى فى الحقيقة تنبثق من اهتمام حسى تجريبى بوسائله الخاصة ومنهجه فى الإبداع الفنى.
وحينما يذهب عبد المطيع إلى رئيس الشرطة نجد الموقف المأساوى الضاحك: يلاحظ عبد المطيع أن رئيس الشرطة ينظر إلى ثيابه ويقول له عبد المطيع:
عبد المطيع : نعم صبغت كل شئ باللون الأسود... القميص والسروال والأوراد والجدران والحمار..
الكل باللون الأسود.. حتى جلدى دهنته باللون الأسود... هذا أول يوم اخرج فيه إلى السوق وأرجوك أن تخبر السلطان إنى حزين وزوجتى وأولادى  وحمارى أيضاً. (ص60).
وهل هى الطاعة العمياء للفلاح عبد المطيع الذى أطاع كل شئ ولون كل شئ فى حياته باللون الأسود فى ظل الخوف وفى ظل الضرب والسجن والفقر والمرض... فالسلطة تستطيع أن تجبر أى فكر يقف أمامها على الطاعة فالوسائل عديدة.
ويعاقب عبد المطيع على فعل ذلك بعدم ارتدائه الملابس البيضاء هو وحماره بـ7 أيام فى السجن ويخرج عبد المطيع من السجن فى اليوم السابع وقد انبثقت الكآبة فى قلب الفلاح عبد المطيع نتيجة لحالات الإحباط التى فرضت نفسها عليه دون استئذان ونتيجة لذلك يفلسف عبد المطيع لنفسه موقفاً ورد فعله يدعونا إلى أن نتجاوب معه ونحترمه ونقدره فى الوقت ذاته... لقد خلع عبد المطيع كل ملابسه للوالى وقال له: أى الألوان تحبونها : الأحمر؟ أم الأخضر؟ أم الأصفر؟ أم الأسود؟ أم الأبيض؟ (ص61) ووصل الأمر إلى السلطان قنصوه الغورى (رمز السلطة).
 وأعجب الغورى بقضية عبد المطيع وقال له تم تعيينك قاضى القضاة، لكن عبد المطيع يقرر أنه لا يريد أن يكون قاضياً للقضاة بل يريد أن يكون عارياً من العراة، وتنتهى المسرحية على ذلك المشهد العظيم الذى يعطينا نوعاً من الكوميديا - السوداء... ويعطينا أيضاً دوراً فى الفكر السياسى والاجتماعى... ويقوى فينا لغة الإدراك ولغة التصدى.
أراد عبد المطيع هنا أن يكون عارياً من تصنيفات السلطة... اتخذ موقف العرى من خلال وعى اللحظة التى عاشها... لقد خلع كل ملابسه الشكلية والتى تحاول السلطة دائماً أن تسيطر عليها حتى تطمئن فى قرارة نفسها بالاستقرار.
فالسلطة فى أى زمان وفى أى مكان تستطيع أن تسيطر على الأشكال والصور التى يمارسها الشعب لكنها تقف حائزة دائماً أمام الرغبات الكامنة فى داخل الشعوب: فطالما هناك إرادة ووعى نحو اتجاه السلطة... طالما نتج عن ذلك كبح جماح السلطة. وعبد المطيع فى المشهد الأخير يعلن موقف التحدى والصمود، إلا أنه يعلم أنه يواجه حافة الهاوية، إلا أنه فى هذه اللحظة كان يجمع فى داخله التحدى والتصدى والمواجهة. فعبد المطيع يحتاج إلى الحرية لكى يتحقق له المستقبل. فمأساة عبد المطيع تكمن فى رفضه المطلق العنف المبنى على الإرهاب - المتنصل من مسئولية الحلم بالمستقبل نفسه.
والسيد حافظ يرمز بعبد المطيع على أنه رمز لجيل عاجز وعتيق - لكنه جيل تواق إلى العدل والحرية ولا يعرف سبيل الحق إليهما أبداً.
والرموز عند السيد حافظ فى هذه المسرحية تصل بين عاملين من عوالم الأفكار والأحاسيس فى عالم الحياة اليومية، فقديماً قال نيتشه، إن المشاكل الكبرى توجد فى الشارع.
لذلك نجد أن الموضوعات التى تشغل فكر حافظ هى المشاكل المصيرية المتصلة بحياة الإنسان اليومية، وهذا معاكس لما قاله سابقاً بعض الكتاب أمثال د. فوزى فهمى المغرم بالكتابة عن ميتافيزيقية الموضوعات.


شفافية الحوار
ولغة الحوار فى مسرحية عبد المطيع هى اقرب إلى لغة التنوير والإيضاح، وهذه المسرحية بشفافية الحوار المثقف الواعى... وهى مسرحية تتمتع بلغة الخلاص بلغة الفكر، وهذا ما يؤكده الناقد فتحى العشرى عندما قال عن مسرح حافظ إنه يقدم فكراً أكثر منه فناً. وهكذا يؤكد السيد حافظ بهذا العمل الخلاق إنه يستلهم موضوعاته من قضايا الناس المعاصرة ومن مشاكلهم الملحة ويقوم بعلاجها فى إطار من التراث الشعبى المألوف لدى الجميع.
وبعد هذا العرض البسيط الذى قدمته عن مسرح السيد حافظ وعن مسرحيته حكاية الفلاح عبد المطيع نكتشف أن قضايا مسرح السيد حافظ هى قضايا الحياة لذلك فمسرحه يعيش من خلال الشكل والتعبير كما قلت سابقاً. وهذا ما يجعلنى أقول للمسرحيين فى الساحة العربية انتبهوا فبينكم خلاق ومبدع، وكما قال د. إبراهيم عابدين، ملك كل الأدوات التى تؤهله لأن يكون كاتباً عالمياً عربياً.
أعطوا لهذا الكتاب الحب... أعطوه النقد البناء... أعطوه الأمان تمسكوا به لكى يعطيكم أكثر فأكثر... فقديماً كانت انكلترا على استعداد أن تتنازل عن مستعمراتها فى الهند ولا تتنازل عن شاعرها شكسبير، لكننا فى الوطن العربى نتنازل عن المبدعين والمفكرين ونتنازل عن رعايتهم ومنحهم الخلاص.
لكن أريد أن أقول : متى نستيقظ من غفلتنا هذه؟ وإذا قلنا أن الشلليات الثقافية والفنية فى مصر جعلت الحركة الثقافية والفنية راكدة فهل أقول أن العدوى انتقلت إلى بلدان عربية أخرى؟
هذا الكاتب رائد فى المسرح التجريبى العربى وإن كنت لا أبالغ إذ قلت أنه من أوائل المبدعين فى مسرحنا العربى. فالمسرح العربى ملئ بإبداعات حقيقية تحتاج منا أن نقف معهم وقفة صحيحة حتى تنطلق بالمسرح العربى إلى آفاق واسعة، ففى مصر يوجد المبدع العربى السيد حافظ، فى العراق يوجد المبدعان يوسف العانى وقاسم محمد وفى سوريا يوجد المبدعان كاتب ياسين وولد عبد الرحمن كاكى، وفى المغرب يوجد عبد الكريم برشيد والطيب الصديقى، ومن تونى عز الدين المدنى، أما أعمال هؤلاء المبدعين فتعتبر وثائق هامة فى المسرح العربى، فلو كانت ابداعات هؤلاء الكتاب فى أوروبا لاهتزت لهم المساحات الفنية العربية أكثر من الساحات الفنية العالمية.
فى النهاية أريد أن أقول أن السيد حافظ مدرسة مسرحية لها كيانها وسوف يصبح مسرحه فى المستقبل ترثاً مسرحياً نادراً لأنه ينتمى للمسرح الجاد... المسرح المتطور وسوف يشعر به أكثر الأجيال القادمة الأكثر عطاءً والأكثر طموحاً... فأفكاره المسرحية ستظل دائماً فى قمة الخصوبة وفى قمة العطاء.
لندن - د. إسماعيل الإمبابى


السبت، 22 أكتوبر 2016

السيد حافظ ومرآة جيلى أحمد غانـم – الكويت ملحق البيان الثقافى

السيد حافظ ومرآة جيلى

أحمد غانـم – الكويت
ملحق البيان الثقافى

عرفت السيد حافظ عندما توهجت رؤوسنا وهى تصطدم – بمستطيل – النكسة وهو مستطيل أسود مستن يخالف فى الشكل والمضمون مستطيل كيوبرسك (أوديسا الفضاء) لقد دشن ميلادنا فى لحظة الذبح، والتقينا فى ابهاء وأزوقة دار العلوم الخشبية، كطيور النورس المذبوحة، كان السيد حافظ طالباً يتمتع بتمرده ، وكان الوقت – بالنسبة إليه – هو الفصل الختامى فى رحلة قلقة الجامعى بين كليات التربية اسكندرية و... و... وكنت فى العام 1969 مشرفاً فنياً للنشاط التشكيلى بالكلية. وكان اللقاء حميماً بين خريج كلية فنية ممثلى – الطلاب أقرب إليه من حبل الوريد – وبعد أن مارسوا – الذبح الوظيفى – عليه ، يتمرد ع لى طقوس الوظيفة فى مدينة النكسة التى ينخرها السوس. كنت هذا الذى هو إنسان أولاً وفنان ثانياً ولا موظف ثلثاً.
فقد كنت أقول – إننى موظف فى اللاوظيفة أو – إنها وظائف اعتمدت فى الوقت الضائع البوار من الأمة – كان السيد حافظ ابناً لمدينة ونبتاً للأسكندرية وشقيقاً لقاص سريالى رائع – محمد حافظ رجب – اصطدم رأسه – الكرة – بالجدار المسنن ، وصار رأسه رأسين وثلاثة وزيادة. وكنت ابناً للريف (مسقط رأسى البحيرة ) وزرعاً لمدينة ريفية صناعية (المحلة الكبرى) .
كانت المدينة الكوزموبولاتانية بالنسبة إلى متاهة تحتاج حلاً. وكانت المدينة بالنسبة إليه أوراقاً كرتونية بل أوراق – نرجسية - بائسة سافرة كان تمردى تمرداً استيطانياً طويلا، ومحاورات مع صديق اختزلت فيه العمر والأمة (فاروق عبد العزيز) وكان تمرده صراخاً ومبالغة محببة. وكان – وكأنه – لابد وأن نلتقى النفى جيلنا على مقولة شهيرة – نحن جيل بلا أساتذة – وبدأ جيلنا يكتب وهو أعجب الأجيال فى تاريخ الأمة المصرية (وهذا ما أوكد أن الأيام يتثبته) فجيلنا ليس ابناً محضاً لثورة 23 يوليو. لقد تشمم جيلنا رائحة أساتذة الأربعينات كان أحدنا أو الأخر قد تأثر بعمق بالآثار الأدبية الرائعة لطه حسين أو توفيق الحكيم أو عباس محمود العقاد أو سلامة موسى.
غير أن التيار وهو يجذر بنا ويمد ويجزر قد أخذنا إلى بعيد،، كانت التحديات الفوارة أكثر ضراوة من ضراوة طروادة هذه الذكرى.
ولقد ولد جيلنا فى عاصفة فصرخته الأولى كانت قنبلة هيروشيما، وقسمة كان – النكبة – وحجلة كان ثورة 23 يوليو وفى لحظة الميلاد الحقيقة لأى جيل (التخرج) اكتشفنا أننا أوراق خريف تخرقها البرودة وتذروها الرياح.
نحن الأحلام الطائلة لجيلين (الرواد / وجيل الوسط) وقالوا : صرح بدون صوت، فالحبل والمشنقة فى رقبتك، احكمت دائرة الحبل على العنق باسم الثورة والنكسة والمعتقلات ونضال الأمة، وامتد الحبل طويلاً باسم – النفط – وبدأ المسلسل الأوسد : مسلسل الكآبة: نفط بطعم الحنظل، ومدائن يحكمها العسكر ويتركون أبوابها ومرانعها ورمالها تحت نجمة اسرائيل التى تتسيد النجوم الأمريكية.
وبدأنا نكتب ونرسم، وكأننا نمارس الطقوس الوثنية للحرية، وجاءت كتابتنا – شفرية – الأدب والخيال والتاريخ البعيد واللاوعى. تقرأ فيصيبك الدوار أو الخبال. المهم أن تكتب لغة لا يدركها قلم الرقيب ومقصه. وهكذا ولد الغموض شرعياًتحت مقارع النكسة.
كان كل شئ فضفاضاً واسعاً، غامضاً ووهمياً : التاريخ والذكر والفاجعة والأنا والمستقبل : ما تعلمناه وما لم نتعلمه. وما لن نتعلمه. كان السيد حافظ يملك تلك الجرأة التى يملكها ابن المدن الكبيرة، والذى تعلم مع الحجل كيف يتشعبط على أبواب الترام والتروللى والباص. يلج مكاتب – الكبار – بركلة من قدمه. وكنت كريفى يحيا ليلته الأولى فى مدينة لا تحسن استقبال أحد.. ويتساءل: لماذا ؟ وكيف؟ والى أين؟؟ وتشكل جيلنا بين جزئيتى ذرته (السالب/ والموجب) بين جبال الاستبطان الشامخة وبين قعقعة الأحجار المتصايحة وهى تدك أشياء المدن. بين الحزن والسخرية. وكانت الدائرة، وبدأ الجوهر واحداً وواعداً. والنقطة المركيزة للحدث واضحة. والتقى الفريقان على لغة رومانسية ثورية : لغة هياج مصطرخ كان يكتب إلينا السيد حافظ اسم أوزوريس اهداءات كتبه هكذا : إلى الأخضر، إلى النورس ، إلى ضياء الماء، وماء الضوء، إلى البنفسج، إلى الطاقة .
واقتحم السيد حافظ مع الطلب والطالبات مخزناً مغلقاً به الكراسى والمناضد والدواليب التى نريدها لمرسمنا، وأقمناه فى الدور الأول الذى قيل أنه آيل للسقوط ولم يخش – أحدنا – شيئاً من سقوط المبانى، كانت ألفتنا عجيبة لهذا المبنى وكنا حجرة وحيدة، تطل على صحن دار العلوم حيث يلمع تمثال نصفى أبيض لمؤسسها – على مبارك – باشا وكنا نشعر بالألفة العميقة مع هذه الأعمد من الأخشاب النابتة من قلب قرن مضى، وحيث يتساقط دهانها وكأنه لحاء لأشجار عجوز – مع الأطلال – أن نستمع إلى ترددات أصوات المحاضرين عبر مائة عام والى سكون الليل، والى شقشق الضوء فى رواق إسلامى والى جابة الطلاب بين الأعمد، والى مرائى المظاهرات الوطنية التى خرجت من دار العلوم إلى قلب القاهرة عبر السنين.
وحاول السيد حافظ أن يمارس الرسم، ولجأت إلى الرسم به. فلوحتى – الخوذة والشهيد – تحمل بصمات قدمه وبيده كنا رمزيين وتجريديين ، رافضين وباحثين عن واقع آخر، وكنا تعبيريين وحوشيين ووحشيين ومجربين. وكنا نمضى الوقت فى هذه الأنحاء إلى منتصف الليل. وكانوا فى الصباح يسألوننى عن تأخير خمس دقائق من الحضور الوظيفى.
كنت أمارس فى قلب الدوام رحلتين مقدستين إحداها باتجاه الجنوب – عابراً الحى الراقى جاردن سيتى النيل ، اسكب العيون فى أبها، أمواهه وأصواءه، ثانيها إننى أعتلى ظهر مقعد حجرى رطب وثانيتهما باتجاه الشمال إلى قلب ميدان التحرير إلى شارع شمبليون اسمع الموسيقى الكلاسيكية مع رفقة أخرى منهيا العرض دائماً – بالدانوب الأزرق.
وكان السيد حافظ يختفى فى نفس الوقت باتجاه الجنوب إلى روز اليوسف وباتجاه الشمال إلى دار الهلال يقرع أذان- الأسماء 0 بصراخه المشروخ روعة.
وبدأت رحلتى مع مسرحية – حدث كما لم يحدث أى حدث – ولم يكن هناك أوضح – فى لغتنا – من هذا العنوان، فالذى حدث هو أنه لم يحدث أى حدث ، وهذا وحده يكفى تبيانا لموقف .. كنت فى هذه السنوات قادراً على أن اتناول هذه اللامعقولية فى الفن كصرخة احتجاج جيل. وكان فى هذا السيد حافظ لا يبارى. ولقد اتممنا دراسة هذا العمل واحتشدنا لديكور مسرحى فيه لوحة مصممة فى أن نرسم بالقلم الجاف الأسود على مساحة 2,5متر. (ولك أن تقدر حجم هذه الطاقة الانفعالية التى كنت نمتلكها)
فلم نكن نلعب . ووقت البيروقراطية كانت نكبة فى جيل كامل بكل فرقة (الموظفين والعسكر والبيروقراطية والدكاترة ضدنا) وكلهم ينظر إلينا وكأننا نتاج كوكب منفصل لا أحد يريد لنا المشاركة بشئ.
تحول السيد حافظ إلى الاسكندرية وبدأت مراسلاتنا ما بين – عزبة دومور – التى بالكاد أدركت فيها شقة متواضعة من ثلاث غرف فى حجم علبة السردين (الغرفة 2,5 × 2,5 متر)وكان الحصول عليها معجزة بمقدم ومؤخر وصداق ونفقة متع ونفقة حضانة وفى النهاية دخلنا فى طاعتها، وما بين مكسنه الذى لم أراه حتى اليوم ، وكان عنوان، أيضاً بالنسبة إلينا عنوناً شفوياً : محرم بك خلف نمره 16.
أخذتنا سفينة الرخ إلى مدينة الكويت وحتى تكون القاهرة ومصر كبيضة فى راحة اليد على استقامتها. وكانت البيضة ما تزال تفرخ أفراخها المذبوحين. وانقطعت أخبار السيد حافظ عنا. واكتشفت المرء عند لحظة الاصطدام الأولى: كم هى وهمية تلك المدن الذهبية. وأننا أخطأنا العنوان : خلف نمرة مدينة الذهب – لقد غلبتنا شقاوتنا وبدأ فى الكويت لنا تحصيل ثقافى فذ وكبير، ونعتز به تلك كانت طبيعتنا: أن نفرخ ثقافة ولا نفرخ دنانير.. وتذكرت أننى فى مشاهداتى الضحاوية (نسبة إلى الضحى) قد امتلأت بدنانير النيل، وحيث تلمع أضواء الأسماء الفضية على سطحه الأزلى. وكان فضل الكويت علينا أن أدركنا الإدراك الكلى صحوباً بإدراك جزئى. هنا كانت رحلة تطبيق الدنانير. لماذا ؟ والتعليم : لماذا؟ والطباعة : لماذا ؟ ومصر : لماذا ؟ والفلسطينيون: لماذا ؟ وعرب النفط: لماذا؟ والسينما : لماذا ؟ والتصميم  : لماذا ؟ والسياسة  : لماذا ؟ والعسكر  : لماذا ؟ والفرد  : لماذا ؟ والجماع  : لماذا ؟ وآه من هذه اللماذا ؟
بدأنا رحلة التخصص والتطبيق الميدانى الشاق ، الوعر، هنا.. هنا إمكانية ما لتطبيق ما. ومعمل اختبار للأمة العربية كلها. وفى مصر إذا كانوا قد استولدوك ابناً لهم بخساً، فإنهم هنا قد اشتروك بخساً وتظل قيمتك حائرة. هذا الجيل الراحل بلا نظرية ابداً لن يعود إلى ثكناته الريفية إلا بنظري . والنظرية معرفة بالأصول والفروع ، بالكليات والتفاصيل . والفلاح يعرف لا يكف يزرع الطين بل كيف يزرع الرمل والماء بل الأفكار والأحلام والمشاعر. الفلاح الحقيقى هو المثقف الذى عاد يدرك أن الأرض كلها ليست سوى تربته الداخلية: قلبه. وفى قلبك يتكون العالم – خلال رحلة المتاهة العربية – لا لا هالة وهمية بل جداراً جداراً ولبنة فلبنة.
وفى ذات ضحى صيفى صحراوى قائظ، قابلنا (أنا وفاروق) السيد حافظ فى مدينة الذهب. كان فى أعناقنا طوق عمل لـ22 ساعة يومياً. وفاءاً بوعد لصاحب شركة اعلانية. لكنه خلع بعد تمام العمل صوت الرجل إلى صوت الذئاب وكان للسيد حافظ يبحث ظامئاً عن قطرة ماء. كان كلانا مقيداً – وما يزال – إلى عجلة النار والتجربة. ولم نملك أن نعطيه سوى أعمق الأمنية والسلام.. كان القلب منا يتقطع وهو يسكن فى حرجة 6 × 6 متر بها اثنتى عشر سريراً صعيدياً . وكان قد أتى ومعه لفائف نشرة ورسائله وبعض أعماله ، وفى لحظة إنسانية – أقدرها – لحظة امتعاض مزق خطابات – منطقة دولار – إلى منطقة خلف نمرة 16 – وبهدوء سحبت منه عدة خطابات كان آسفاً وكنت مشرفاً على هذا الأسف بعشق لاضحياتنا القاهرية والنفطية.
ومن مجلة – صوت الخليج – إلى المجلس الوطنى للأداب والفنون – بدأ السيد حافظ يتعيث طريقه ويتوازن وكنت فى هذه الفترة أحمل ما بين القاهرة – الكويت وبالعكس الكتب والرسوم الثقيلة، لا أدرى كيف أو أين تسكن، وبدأ عذاباً كعذاب سيزيف وصرحته. قمة الجبل تنكر عليك الصعود . وبطنه ينكر عليك النزول والعود ليس بأحمد. وامتلأ جسدنا، وتضخم الصوت وعرفنا طعم الفاليوم، واتخذ السيد حافظ ثمة المهاجم فى حديثه يا أولاد كذا وكان فى هذا الصراخ – السبعينى أنقى قلباً وأصفى من الأطفال. هنا بدأ يتعلم الهجوم.. ليس على كتاب أرصفة القاهرة، بل على الجنس العربى كله.
وبدأنا – ننجح – والعارف لا يعرف . وظلت للسيد حافظ لغته المسرحية الفضفاة واكتشفت إننى صرت صاحب ذوق محافظ خاصة فى غير الفن الذى امتهته هل هى المعرفة بالتخصص والتفاصيل أم أن المعارك صارت على جبهات تخصصية شتى ؟
وفى العام 1983 طلبنى السيد حافظ لأصمم له ديكور أول مسرحية يكتبها للأطفال – سندريلا – والتى تعاقد عليها مع مؤسسة البدر . قرأت المسرحية فأسعدنى جمالها وإشراقها ، بساطتها ومغزاها.
وبدت النهاية فيها فى قوة وجمال – لحظة التنوير – فى القصر القصيرة . هل يأس ا لسيد حافظ من عالم الكبار فلجأ إلى الأطفال ؟ ! واكتشفت فيها أن ذلك الشاب الذى مازال يتحدث بلغة المطلقات والرموز. وهذا القلب الغوار بالمحبة قد وجد فى نهاية المطاف أين يضع موهبته؟ ولمن يقدمها ؟!
كنت سعيداً بهذا الاكتشاف واكراماً للسيد حافظ اعددت تصوراً للديكور. واعدت تدارك ما انكمش فى الذاكرة من المنظور المسرحى الخ... التقيت المخرج والمنتج وعرضت عليهم تصورى. وكنت ألمس فى شبح السيد حافظ حزناً لم أره فيه من قبل قط.. بلى وبأساً من المواجهة. لقد اختفى أمام ناظرى.. ولم أعد ألقاه.. وكانت مفاجأة لى أن المخرج والمنتج قد استبدلا – لحظة التنوير – بلحظة تعتيم لا تضفى على المسرحية ناراً بل تجعلها هشيماً . لقد أبدلا النهاية إبدالاً.. تحت دعوى إنها نهاية.. تراجيدية ، وأنهم قدموا من قبل ثلاث مسرحيات أو أربع بنهايات حزينة..!!!
فى نهاية مسرحية – سندريلا – السيد حافظ جعل الشرطى الذى يقيش حذاء سندريلا يصرخ : الحذاء ليس حذاؤها.
وسندريلا تصرخ : إنه حذائى . ومن يصدق سندريلا ؟! وبهذه النهاية – وهى إضافة لها قيمة – يكون هنالك مبرر درامى لفهم موقف الوزير الذى يرفض من البداية هذا الزواج ويكون هنالك إثارة حقيقية للأطفال نحو فهم العلاقات الاجتماعية فى عصرهم وصراعاتهم.
وبتغيير هذه النهاية إلى النهاية التقليدية صارت مسرحية السيد حافظ بلا معنى. ولقد حملت تصوراً رمزياً وتجريدياً وعملياً للديكور يخالف تصورات المخرج. فانسحبت من العمل.. ولم يكن السيد حافظ بقادر فى كآبة نفسه المفاجئة أن يصرخ.. ولأول مرة أرى السيد حافظ استبطانياً..
وفوجئت بالهجوم المنظم والمخطط والذى يستعدى العامة على السيد حافظ محملاً إياه ما قاله كاتب فى مصر أن السيد حافظ يطور مسرح الأطفال فى الكويت – وكأنها سبة أو جريمة يقتضى عقابها؟! وهذا السيد المحرر الذى كتب واستكتب غيره طعناً فى السيد حافظ ومسرحه لم يعتنى أن يشير إليه .. هذا الذى يأكل كلمة ابداعات أمثال السيد حافظ.. ويفرد ضد مسرحه الأعمد الطوال العراض لا يشير إلى من يطعنه ...
وهكذا تمت الدائرة، تولد فى أنظمة العروبة فى غفلة من التاريخ والزمن. تنسانا عند المواقف، تبتزنا بكل اسم، وتطعننا دون أن تشير إلى اسمنا.
المهزلة كاملة، هى رحلة السيد حافظ ولأن الناقد، والنقاد تخلوا عن دورهم الرشيد البناء. فقد تمزعت فى أنفس كآبة السيد حافظ الظلال كلها، فاتخذ من الأطفال فى مسرحيته التالية – الشاطر حسن – حفل اختبار للغته الفضفاضة الواسعة التائهة.. وكانت تلك جريمة النقاد بأكثر مما هى مسؤوليته. لقد خالفت تصوره المعذب المشتت .. المشتت هذا.. وارباً به أن يعود إلى سندريلا قاموساً له.. بكلام الأطفال بهذه اللغة البسيطة المشرقة ويعيد سرد حكاوينا القديمة بمرآته العصري البسيطة. لا استعراض فى الفن. ولا لغة فضفاضة ومتشتتة ستعيش للزمن. أملنا فى السيد حافظ أن يخاطب الطفل بحنو قلبه ببساطة الكلمة، وعمق مراييه وشروخات عصره. ستبرز من بين يديه كإشراقة يوم جديد.
ليس حديثى حديث ناقد.. فلست بناقد مسرحى.. إنما هو حديث نتاج رحلة واحدة. ركب فيها السيد حافظ بساط المسرح الذى هو ساحر وأنا مسحور به (هذا البساط) وركبت متون جبال المستحيل بين الضوء والطمى. ولا استطيع الحديث عن السيد حافظ دون أن اتحدث عن نفسى، فهذا الحوار بين أفراد جيلنا صلة لا نستطيه منها فكاكاً، نحن المقيدون فى عجلة النار العربية، نستطيه أن نتخاطب.. أن نتهاتف ، أن نتحاور، حتى ولو عددت الكلمات فى عصرنا العربى كل معانيها حتى ولو كان الصمت حبلاً وطرقاً وأنشوطة عذت.
احمد غانم
الكويت 5 مارس 1985

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More