Add a dynamically-resized background image to the page.txt Sayed Hafez (sayedhafez948@gmail.com) جارٍ عرض Add a dynamically-resized background image to the page.txt.

أدخل كلمة للبحث

الزائرون

Flag Counter

زوارنا

Flag Counter

الزائرون

آخر التعليقات

الثلاثاء، 25 أكتوبر 2016

مسرح السيد حافظ بين التجريب والتأسيس بقلم الكاتب والمخرج المغربى الكبير عبد الكريم برشيد



مسرح السيد حافظ
بين التجريب والتأسيس
بقلم الكاتب والمخرج المغربى الكبير
عبد الكريم برشيد
مدخل للتساؤل...
الكاتب فى المسح. ودوره؟ هل يحاكى العالم - كما هو العالم - أم يعيد خلقه وإنشاءه من جديد؟
شئ مؤكد أن الوجود ليس كما ساكناً وثابتاً، وإنما هو التغيير؟ هل يحاكى المخلوقات أم مبدأ الخلق؟ هل يستنسخ الزمن والمكان والناس والعلاقات والمؤسسات - كما هى أم يعيد خلقها من جديد؟
نعرف أن العالم - كموضوع فى المسرح - شئ لا وجود له إلا من خلال ذات المبدع. نحن دائماً أمام موقف ما، موقف المبدع بالضرورة. هذا الموقف يتولد عن رؤية غير محايدة بالتأكيد تجديد الأدوات التعبيرية، وبذلك يولد المسرح التجريبى ولادة شرعية لأنه يأتى موصولاً بالرؤية وموضوعها وأدواتها، إن التجريب - كتعبير فنى فكرى - هو بالأساس محاكاة للتغير الواقعى - اجتماعاً ونفسياً وسياسياً وفكرياً، ومن هنا يكون للتجريب الغربى معنى، لأنه ثورة تسير بمحاذاة ثورات أخرى، ثورات يمكن حصرها فى الثورة السياسة والصناعية والدينية والفكرية. أما بالنسبة للمسرح العربى فماذا يمكن أن نقول عنه؟ هل نقول بأن التجديد حاصل فى المجتمع والفكر والساسة، وبالتالى يمكن أن يكون له امتداده الطبيعى إلى المسرح والى سائر الآداب والفنون الأخرى، هذا هو السؤال الذى سنحاول الإجابة عنه، وذلك من خلال دراسة مسرح السيد حافظ، وهو مسرح تجريبى بالأساس.
- التجريب بين تجديد العالم وتجديد الرؤية والتعبير :
إن الحديث عن التجريب فى المسرح العربى يمكن أن يؤدى بنا إلى الحقيقة التالية، وهى أن التجريب الفنى والفكرى بابه موصود لأنه حوار غير موصول بين المبدع والواقع. إنه رؤية مغايرة وأدوات وأدوات فنية جديدة لواقع لا يريد أن يكون جديداً أو مغايراً. فعلى مستوى الخلق الفنى سنجد أن التجريب ينسى أو يتناسى الجمهور - بكل ما يحمله هذا الجمهور من ترسبات الماضى واحباطات الحاضر - ومن هنا، يبقى الإبداع، رغم التجديد - تأليفاً وإخراجاً وتمثيلاً وتقنيات - ولكن الجانب الآخر فى الحوار، هل تجددت رؤيته؟ هل تغيرت أدواته ومفاهيمه للحياة والمسرح؟ من هنا تجدنا مضطرين لن نرسم بعض التساؤلات/ بالمفاتيح وذلك حتى ندخل المجال الحقيقى للتجريب.

               1-    هل يمكن للتواصل أن يكون حقيقياً بين إبداع تجريبى متقدم وجمهور مسرحى متخلف؟
               2-    كيف نسعى إلى خلق خطابات فكرية وفنية مغايرة ثم تعمل على إيصالها إلى الآخر، فى الوقت الذى لا وجود فيه لهذا الآخر المغاير، إن الكتابة الجديدة تتطلب بالضرورة قراءة جديدة.
               3-    التجريب بالأساس ضرورة، فالواقع عندما يزداد تركيباً وتعقيداً فإنه يصبح فى حاجة إلى أدوات مركبة ومعقدة أيضاً، وذلك حتى يستوعب التقنية الموضوع والمضمون معاً، وتكون أقرب إلى التعقيد الذهنى والنفسى للجمهور. فهل وصل الواقع العربى إلى مرحلة دقيقة مركبة ومعقدة حتى نبحث له عن لغات نية وتقنية تكون أكثر تعقيداً وأكثر دقة؟
               4-    الإبداع الحقيقى يقف دائماً فى مواجهة السلطة، هذه السلطة التى لها أكثر من وجه وأكثر من قناع، وإن أخطر سلطتين يواجهها الإبداع العربى هما سلطة الدولة وسلطة الجمهور، فالدولة تفرض مغازاتها والدوران فى أفلاكها، أما السلطة الثانية فتعبر عن ذاتها مسرحياً من خلال الشباك الغاشم الذى يرضى عن العادى والمبتذل والمفهوم والساقط ويعادى الجديد والحقيقى والغريب والموحى.
إن الإبداع فى المجتمع العربى مطالب بأن يكون تابعاً للسلطة.. فى جميع تجلياتها - عوض أن يكون سابقاً لها، أى أن يكون ساكناً ثابتاً متخلفاً معادياً للتجريب وللاجتهاد، قانعاً باجترار المفاهيم القديمة.
إن الإبداع الحق يقوم أساساً على الحرية، حرية المبدع فى الخلق. وحرية الجمهور فى التجمع والتجمهر والفهم. وهذا ما ليس له وجود مع وجود السلطة فى تجلياتها المستبدة والمتسلطة. يقول أبوللينر عن الكاتب المسرحى :
(من العدل أن يجعل الجموع والأشياء الجامدة تتكلم إذا راق له.
وأن يغفل الزمان
وكذا المكان
إن عالمه هو مسرحيته
وفى داخلها هو الإله الخلق
الذى يرتب كما يشاء
الأصوات والإيماءات والحركات والكتل والألوان).
وهذا ما سنجده فى مسرح السيد حافظ، هذا المسرح الذى هو عالم آخر، له أزمانه المغايرة وأشخاصه وطقسه والذى هو عالم سحرى يختلط فيه الواقعى بالحلمى والتاريخى بالاسطورى والمحسوس بالمجرد والمشخص بالمعنوى. هذا العالم له بنية الخاصة، سواء فى التركيب الذهنى والنفسى للشخصيات أو فى اللغة والحدث والمواقف، وهذا ما سوف نراه فى هذه الدراسة..
- السيد حافظ : لسان حال النكسة..
من يكون السيد حافظ؟ من هنا أبدأ؟
إنه مؤلف ومخرج مصرى من جيل النكسة، أى من جيل العنف والغضب والشهور بالإحباط، ومن هنا كان القلق ميزته الأساسية فى الكتابة. و هو قلق وجودى واجتماعى معاً، لأنه يتردد بين رفض الشرط الإنسانى ككل ورفض الواقع المصرى، وهو واقع تاريخى ساقته عوامل عديدة ذاتية وموضوعية - إلى عنق الزجاجة، وبذلك كانت النكسة. يقدمه لنا (محمد يوسف) كالتالى. (ينتمى السيد حافظ إلى رعيل من جيلنا، شارك فى المظاهرات الطلابية التى انفجرت فى مدينة الإسكندرية عام 1968 أى بعد مرور عام الهزيمة الفاجعة فى عام 1976. وكان واحداً من هؤلاء المتظاهرين الذين خرجوا يتحدون الحكومة والنظام، ويطالبون بمحاكمة الجنرالات والضباط الكبار الذين انشغلوا بالكرة والأندية الرياضية عن الاستعداد العسكرى). هذا الغضب على الواقع التاريخى - بكل مظاهره ومكوناته المختلفة - ولكنه يمتد ليصل إلى الكتابة عند السيد حافظ، هذه الكتابة التى تكفر بالقوالب البالية فتحطم كل شئ، اللغة والشخصيات والحوار وكل المفاهيم العتيقة، فالتجريب لديه ضرورة، لأنه متولد عن حاجة داخلية للتغيير، تغيير الرؤية وموضوع الرؤية وأدوات الرؤية، وذلك من أجل ايجاد فن جديد لعالم جديد، عالم يفقز على قبح الحاضر المحمل بالهزيمة والمرسوم بكل عوامل النكسة.
يقول السيد حافظ فى استجواب صحفى (جيلنا من الكتاب الذى لم يظهر إلى الآن.. جيل رائع ملئ بأشياء خفية مضيئة مكتوب عليها ممنوع الاقتراب من هيئة المسرح والثقافة الجماهيرية مرتع للفوارغ من كل شئ فى الأقلام) هذا الغضب ناتج من إحساس باطنى بالغبن. فالمؤلف - من جهة - لا ينتمى لجيل الستينات - الذى كانت هيئة المسرح والثقافة الجماهيرية مفتوحة فى وجهه. ثم إنه - من جهة أخرى - ينتمى جغرافياً إلى مدينة الإسكندرية، هذا الانتماء الذى يعنى إبعاده عن المركز، أى القاهرة، التى هى السلطة الوحيدة والكلية، إنها الكل، وخارجها لا وجود إلا للفراغ. ومن هنا جاءت ثورته على الاستبداد السياسى موازية لثورته وغضبه على الاستبداد الجغرافى. ففى مسرحية (حدث كما حدث ولكن لم يحدث أى حدث) نقرأ هذا الإهداء :
(إلى جيلنا الرائع فى غلاف التكوين.. إلى أدباء الأقاليم)
إنه الحصار إذن حصار جيل كتبت عليه الهزيمة وفرض عليه أن يتحمل وحده تبعاتها، وهو أيضاً حصار أقاليم ليس لها من ذهب سوى أنها تقع خارج القاهرة. أى بعيداً عن مصدر السلطة السياسية والثقافية والفنية..) يقول إبراهيم عبد المجيد عن المؤلف :
(وهو يعيش بالإسكندرية بعيداً عن القاهرة. والبعد عن القاهرة كثيراً ما يكون غنيمة ولكنه فى مجتمعنا - وخاصة فى مجال الأدب - مصيبة. فالكتاب والفنانون جميعاً مدعوون لهجرة الأقاليم والمدن من أجل هذا المرض الخطير المسمى "بالمركزية" مركزية مادية وروحية أيضاً) وبهذا كان لتمرد السيد حافظ أبعاداً متعددة، فهو تمرد على السلطة وعلى تمركزها فى مدينة واحدة، وفى شخص واحد، وفى جمهور واحد له بُعد نفسى وذهنى وذوقى واحد، لأجل هذا كان دخوله المسرح التجريبى دخولاً شرعياً، لنه دخول يهدف إلى تحطيم أوثان وهدم الوثنية، هذه الوثنية الملائكية التى تتجلى فى عبادة المدينة / الصنم والشخص الوثن. إن التجريب مرادف التغيير، فهو يظهر دائماً فى المراحل الانتقالية. ففى فرنسا ظهر مسرح العبث بعد الحرب العالمية الثانية، جاء كفراً بكل القيم فى العلم والتقدم والتفاهم والتعايش، أما فى العالم العربى فقد جاء التجريب مباشرة بعد النكسة، نكسة العرب فى 1967، جاء فى الزمن الصعب ارتجالاً لواقع مغاير وفكر مغاير وفن مغاير، جاء كفراً بعد إيمان، لحد السذاجة وتمرداً بعد خنوع، وحركة بعد سكون، وبحثاً بعد انتظار وصراخاً حاداً بعد صمت طويل لقد كتب السيد حافظ مسرحيات لا تمت للمسرح فى شئ، وصور واقعاً عربياً متعدد الأبعاد والزوايا. فبدأ هذا الواقع غريباً، وبدت مسرحياته أكثر غربة. فالشخصيات قد تكون رموزاً وقد تكون أصواتاً وقد تكون حيوانات بشرية. وتبدأ الغرابة لديه فى أسماء مسرحياته:
1- حدث كما حدث ولكن لم يحدث أى حدث.
2- الطبول الخرساء فى الأدوية الزرقاء.
3- قرية المفروض فى مدينة الرفض ترفض رفض الأشياء.
4- الحانة الشاحبة تنتظر الطفل العجوز الغاضب.
5- هم كما هم ولكن ليس هم الزعاليك.
6- كبرياء التفاهة فى بلاد اللا معنى.
7- ست رجال فى معتقل - ب شمال حيفا.
8- حكاية مدينة الزعفران
9- حبيبتى أميرة السينما.
هذه الأسماء هل لها معنى؟ أكيد لها معنى، ولكن يبقى بعد هذا، هل يصل إلى القارئ المتفرج هذا المعنى؟ مرة أخرى نتساءل. أى قارئ وأى متفرج نعنى؟ شئ مؤكد إنهما الكتابة الغاضبة الرافضة تتجه أساساً إلى جيل غاضب رافض. وإن تفجير الكتابة التقليدية جزء من تفجير هذا العالم، وذلك لإعادة بنائه بصيغة أخرى مغايرة.
فلو تأملنا جيداً أسماء مسرحياته فماذا سنجد؟ سنجد أنها تتركب من المفردات التالية : الكبرياء - التفاهة - اللامعنى - الخرساء - الرفض - الشاحبة - تنتظر - الطفل العجوز - الغاضب معتقل - هذه الكلمات القليلة تختصر كل رؤية المؤلف للعالم، وهى رؤية مأساوية، كما تختصر شعوره القائم على الغضب وعلى رفض التفاهة واللامعنى من اجل تجاوز الانتظار والشيخوخة والعجز والاعتقال. يقول على شلش عن المؤلف :
(إنه شاب جرئ جداً، وطموح جداً، حطم بطموحه وجرأته قواعد المسرح من أرسطو إلى بريخت).
عن الطليعة فى منظورها العربى..
أعمال السيد حافظ المسرحية تحدق فى الناس والأشياء بعينين : العين الأولى عربية، وهى مفتوحة على الـ "نحن" وعلى "الآن" والـ "هنا" أما الثانية فهى عين غربية مفتوحة على المسرح الأوروبى كتجارب جريئة وجديدة ومدهشة. هذا الازدواج فى الرؤية والتعبير عنها هو ما حرر مسرحه من التبعية للمسرح التجريبى الغربى. إنه لم يسقط فى اللا معقول لأنه أكتفى بمحاورة الشكل العبثى من غير أن يغوص فى مضمونه الفكرى، وهو مضمون وجودى محض، مضمون قائم على نظرة عدسية ترتكز على النفى، نفى المعنى ونفى الحوار واللقاء ووحدة الهوية وإمكانية أن يحدث شئ جديد له معنى، فلا شئ إلا الخواء، ولا وجود إلا لشخصيات بلا عمق ولا ملامح، شخصيات خاوية تقول أى كلام وتتصرف أى تصرف، لا تختلف عن غيرها ولا يختلف غيرها عنها. هذا المسرح العبثى ليس هو مسرح السيد حافظ بالتأكيد، لأنه - حتى فى هلوساته المحمومة وتحليقاته - فهو لا يفقد الصلة بالأرض التى يقف عليها، ولا ينسى المكان والزمان والناس والقضايا. إنه يبتعد - شكلياً - ليقترب مضمونياً. فقد نجد أن مسرحياته بعيدة عن جزيئات الواقع، ولكنها قريبة من روح هذا الواقع. قريبة من لحد الانصهار فيه.
عندما نقرأ - كتبه الأولى نجد أن السيد حافظ عضو سابق فى جماعة المسرح الطليعى، الشئ الذى يجعلنا نتوقف قليلاً لنتساءل : الطليعة - كمصطلح فنى - ماذا تعنى؟ يقول بيرناردورت (كل طليعة هى أولاً انقطاع عن باقى الجيش، وهى كذلك رفض للنظام والسلوم المشترك). فالأساس هو الانقطاع، الانقطاع عن الماضى والحاضر وعن كل المكونات التى صنعت هذا الحاضر بكل سلبياته المختلفة. الانقطاع عن شروط الهزيمة، وهى شروط لها وجود فى الإنسان وفى الرؤية المتخلفة للوجود وفى الفكر والمؤسسات والعلاقات والسلوك وفى اللغة والفنون والآداب والأخلاق.. ويبقى أن نتساءل عن الطليعة، هل هناك فرق بين مفهومها - فى الغرب ومفهومها لدى السيد حافظ وجماعته؟ أكيد هناك أكثر من فرق لأن الانهزام العربى هو انهزام عسكرى سياسى حضارى تاريخى اجتماعى، انهزام يمكن تفسيره وتعليله لأنه نتيجة حتمية لشروط موضوعية، أما الانهزام الغربى فهو انهزام وجودى ميتافيزيقى، انهزام الإنسان أمام صمت الكون وانغلاقه وعبثه، ومن هنا فلا مجال للتفسير والتغيير، فلا شئ حقيقى إلا العبث والخواء والعدم، هذا العبث الذى اتخذه الإنسان الغربى (موقفاً وجدانياً من الحياة. قبل أن يكون موقفاً فكرياً من الوجود) هذا العبث - فى بعديه الوجدانى والفكرى - هل نجد له صدى فى مسرح السيد حافظ، هناك إشارة إلى العبث جاءت فى مسرحيته (الطبول الخرساء فى الأودية الزرقاء) ولكن ذلك لا يكفى، لأن المضمون لا يعرف أن العبث ليس مذهباً حديثاً، وأن أوديب قمة العبث وأن الأساطير والتراث تأكيداً والتغريب فى عدة وجوه ومراحل) هذا إقرار بأن العبث قديم جداً، وأن له جذوره فى الماضى البعيد وامتداد فى الحاضر وما بعده، ويبقى أن العبث - كإحساس باطنى أو كمفهوم أخلاقى - شئ والعبث كمذهب فكرى متكامل شئ أخر ويبقى أيضاً أن العبث الغربى هو نوع من الترف الفكرى والحضارى، إنه القفز على القضايا الاجتماعية والسياسية لمعانقة القضايا الميتافيزيقية المجردة، إنه تساؤلات ما ورائية تتخطى الخبز والكرامة والعمل والحرية والعدالة الاجتماعية والاعتقال والاستغلال والاضطهاد والقهر النفسى والجسدى والغربة والمنفى والتمرد للبحث عن معنى الوجود.
عبثية السيد حافظ يمكن ردها إلى أصولها الحقيقية لأنها مرتبطة بالوضع الاجتماعى المحدد، مكانياً وزمانياً وليس مطلقة، إنها الكشف عن اللامنطق واللامعقول فى المجتمع، أى فى العلاقات والمؤسسات وبهذا كان تمرده ثورياً، لأنه كفعل - يمكن أن يثمر التغيير يغير الإنسان / المدينة / الدولة / الأمة..
عن البطل المسرحى والأقنعة :
عندما نسأل، عن أى شئ يبحث أبطال السيد حافظ فإن الجواب يأتينا كالتالى، إنهم يبحثون عن الممكن وليس عن المحال،يبحثون عن مدينة يغيب فيها (ممارسة القهر على المواطن. وطمس كيانه ومسخه بتمريره على أجهزة القهر والعجز والتخلف)
وإذ كان هؤلاء الأبطال يقفون بين حدى الإيجاب والسلب فإننا نجد على رأسهم شخصية أبى ذر الغفارى، ذلك (الصحابى الجليل الممسك بسيف الحق القابض على الجمر) إنه رمز التمرد عنده، وهو تمرد اجتماعى سياسى يقرن الفعل النظرى بالفعل العملى ويزاوج بين كلمة الحق والسيف الذى يحمى الحق وينصره، هذا البطل الملتحم بالناس وبقضاياهم اليومية يعيش النفى والغربة، وذلك شئ طبيعى ما دام لحمه يحمل فكراً مغايراً وأخلاقاً مغايرة وتصورات حقيقية للعلاقة بين المواطن والمواطن، وبين الرعية والراعى. ولأنه يرفض الواقع المزيف فقد كتب عليه أن يعيش غربته النفسية والاجتماعية والفكرية.
- (وتموت غريباً فى أرض الله الواسعة
وتموت غريباً بين خلق الله الجائعة
وتموت بعيداً ولم تحسم القضايا
بين أغنياء البلاد والفقراء العرايا)
تتكرر كلمة الموت ثلاث مرات، وتتكرر (غريباً) مرتين وتبقى الكلمات الأخرى هى أرض الله الواسعة وخلق الله الجائعة والفقراء العرايا وأغنياء البلاد مما يؤكد - نية التمرد لديه، وذلك لنه فى حقيقته تمرد على التفاوت الطبقى الفاحش. (وبين قصور السلاطين والأمراء بيوت الفقراء.
بلا طعام
والموائد تمتد فى حدائق القصور الغناء.
بأطيب الطعام
وأنت هنا.. تشرب رملاً وتأكل رملاً هنا..) كما أنه تمرد على السلطة القائمة على القمع وعلى التجسس على أنفاس الناس.
(بين كل رجل ورجل رجل من الشرطة السرية وبين صوتك وصوت الناس التضليل والضلال المبين) وإذا كان اللا معقول يؤكدون على غياب المعنى فى الوجود فإن السيد حافظ يشير إلى وجود المعنى ووجود الحق والحقيقة، ولكن هناك من لا يريدهما فيعمد إلى التضليل والتجهيل حتى يغيب الوعى ويسود الجهل وتبقى الدنيا كما هى الدنيا ساكنة من غير تقدم، وجامدة من غير تغير ولا تحول. هذا هو القناع الأول للبطل فى مسرح السيد حافظ، أما القناع الثانى فيمثله (سيزيف) وسيزيف والواقع هو رمز العبث الوجودى، إنه لا يحقق هدفاً معيناً ولا يصل عند حد ما. هذا البطل العبثى يتسرب إلى مسرح السيد حافظ فنجده فى المسرحية التى تحمل اسم (سيزيف القرن العشرين) ونتساءل. لماذا سيزيف بالذات؟ ولعل السؤال الأكثر أهمية هو كيف قرأ - المؤلف الجديد الأسطورة القديمة؟ هل استنسخها - كما هى أم أنه أعاد كتابتها من جديد؟ لا شك أن السيد حافظ لم يقدر التملص التام من جاذبية الفكر الأدبى الغربى، خصوصاً وأنه كان يعيش مرحلته الإبداعية الأولى. ومع ذلك يمكن أن نقول بأن سيزيف الجديد جاء وهو يحمل على ظهره هموم الإنسان العربى. فهو لا يعانى من أزمة وجودية تتحدد فى حضور السؤال وغياب الجواب وفى البحث عن معنى للوجود وغياب هذا المعنى. سيزيف عند السيد حافظ يزاوج بينا لهمين الوجودى والميتافيزيقى والهم الاجتماعى المادى حيث نتلمس (مقالب السلطة والبيروقراطية) أن التمرد على العبث الوجودى هو فى جوهره عبث لأنه (ثورة) على اللا متغير، إنه العبث الذى يواجه العبث فلا يثمر شيئاً غير العبث. أما مسرحية السيد حافظ فتختفى (بالإنسان المتمرد على المواصفات الاجتماعية والحضارية) أى أنها تتجاوز المطلق إلى ما هو نسبى، وتركز على الاجتماعى المحسوس عوض أن تغوص فى الميتافيزيقا وفى المجردات الذهنية.
أما القناع الثالث للبطل فهو الذى يمثله الفلاح عبد المطيع، وهو رجل بسيط، يعانى الفقر والتسلط مطالبه محدودة ومتواضعة، ولكنه مع ذاك يجد نفسه محاصراً بين سلطتين ظالمتين، سلطة الزوجة فى البيت وسلطة الحكم خارج البيت. وهو بينهما يعانى الكبت الاجتماعى والسياسى. يفرح من غير فرح ويحزن من غير حزن، ويتزوج من غير حب ويفعل من غير اقتناع. إنه يعيش داخل آلة جهنمية تسمى المجتمع، وهذا المجتمع قائم على اللامنطق. فلا شئ فيه معقول، ولا شئ له ما يبرره. وهو مطالب بأن يسمع أوامر الحكم وان يطبقها حرفياً. من غير أن يسأل عن معناها ومعزاها. حسبه أن يطيع فى البيت وخارج البيت، حتى يكون أهلاً للاسم الذى يحمله، عبد المطيع. هذا البطل هو الحلقة الثالثة فى مسرح السيد حافظ، وهو شخصية واقعية حقيقية بسيطة. وهو يختلف بالتأكيد عن (سيزيف) المتمرد الوجود وعن أبى ذر الغفارى - الثائر الطوباوى.
ملامح الكتابة / الضد عند السيد حافظ :
إن الكتابة الدرامية لدى السيد حافظ تتمرد على كل الأصول التقليدية. إنها الكتابة / الضد التى تقف داخل وخارج الفن المسرحى. فهى كتابة تؤمن بالمسرح - كمظاهرة شعبية وإبداع فنى وفكرى - ولكنها تكفر بقواعده البالية، وهى قواعد مستهلكة وقوانين جائرة ومستبدة. وماذا يمكن أن يكون موقف كاتب مل الاستبداد سوى أن يرفض كل القيود - داخل وخارج الفن المسرحى؟ وكذلك كان. فـ (عندما نشر مسرحيته الأولى عام 1970 "كبرياء التفاهة فى بلاد اللا معنى" أثارت أثناء مناقشتها فى جمعية الأدباء بالقاهرة جدلاً لا حد لغلوائه وعدم تعقله.. أطلق البعض يرجمها بدون هواده وبغير رحمة. لأن هذا البعض صدمته غرابتها لما هو مألوف لديه) هذا الهدم هو فى جوهره هدم للصيغة الغربية للمسرح، هذه الصيغة التى تريد أن تكون المسرح كله فى كل مكان وزمان وعند كل الشعوب، ولكن أهذا ممكن؟ أهو ضرورى أن يكتب كاتب عربى من مصر - يعيش فى النص الثانى من القرن العشرين - أن يكتب كما كتب موليير وراسين (كورناى) فى القرن السابع عشر؟ إن إحساس الكاتب بأنه يحمل مضامين مغايره ألزمه بأن يبحث لها عن أشكال مسرحية مغايره. وفى انتظار أن يعثر عليها فلابد أن يبدأ من حيث يجب البدء، أى من هدم المسرح فى شكله التقليدى، وذلك ما فعل. قد يكون هذا الهدم فوضوياً فى البداية لأنه لم يعطى البديل الفكرى والفنى، ولكنه هدم ضرورى، أولاً لتحطيم قدسية الأوثان المسرحية، وثانياً لتوكيد الشعور بالحاجة إلى مسرح آخر. بعد هذا نسأل : ما هى ملامح الكتابة التجريبية عند السيد حافظ:
يمكن أن نقول بأن كل مسرحية لديه لها بناؤها الدرامى الخاص، فهو فى كل إبداع جديد يجرب شكلاً جديداً. هذا البناء بأى شئ يمكن أن ننعته سوى أنه لا أرسطى، بمعنى أنه لا يلتزم بقواعد أرسطو، سواء من حيث التمييز بين التراجيديا والكوميديا، أو من حيث الوحدات الثلاث أو الحدث وتطوره التصاعدى وتأزمه وانفراجه، أو طبيعة الشخصيات ومفهوم التراجيديا. فالحدث فى مسرحه موجود، ولكنه حدث ممهور بالغرابة. وهو غالباً ما يكون ساكناً قائماً على الانتظار والترقب والترصد وإذا تحرك هذا الحدث فإنه لا يتحرك فى خط مستقيم يصعد إلى أعلى. فقد يبدأ من الخلف أو قد يعود إلى الخلف بشكل سينمائى (فلاش باك) هذا الحدث يبدأ متأزماً. ربما لأن الانفراج نوع من التفاؤل الكاذب، وعليه فلا مجال للتمويه على النفس والكذب على الجمهور والقراء.
أما المكان فى مسرح السيد حافظ فهو مكان مسرحى خاص، مكان مرتبط بالمسرحية كعالم جديد وكون جديد، وبذلك فلا مجال للبحث عنه فى خرائط العالم. إنه المكان خارج الجغرافية. أما الزمن فهو متحرر من الساعة ومن عقاربها، إنه الزمن الحلمى والاسطورى. وقد يحدث أن يكون للمسرحية تاريخ محدد، ولكن هذا التاريخ يظل غائباً كوقائع - لها ارتباط بمكان محدد وزمن محدد وأشخاص معينين - لأنه روح قبل كل شئ، وإحساس وظلال نفسية وفكرية. فالزمن فى مسرحية (حدث كما حدث ولكن لم يحدث أى حدث) يدور (أثناء الحرب العالمية الثانية، والمكان، مخبأ عام فى أحد أحياء الإسكندرية) أما فى مسرحية (الحانة الشاحبة العين تنتظر الطفل العجوز الغاضب) فإن المؤلف يحصر الزمن (بعد أحداث خمسة يونيو - الفترة الأخيرة من القرن العشرين  الفترة التى تبدأ فيها الشمس فى الاستغراق والظلام يزحف).
أما المكان فى المسرحية فهو (جزيرة السمان - فى صحراء رام الله - فى خطوط المواجهة "السويس والإسماعيلية" فى داخل الأرض المحتلة - فى بقاع آخر "من المجتمع") وبرغم هذا التحديد فإن السيد حافظ لا يمهمه أن يقدم صورة واقعية وطبيعية للمكان والزمان، لأن الأساس لديه هو ألا يكون الديكور واقعياً وذلك حتى لا يسجن ذهن المتفرج داخل بؤرة واحدة ضيقة (الديكور رمزى - تجريدى - يستخدم أشياء بسيطة فى ديكور هذه المسرحية)
وتدور المسرحيات الأخرى فى إطار مكانى / زمانى غريب. فمسرحية (ظهور واختفاء أبو ذر الغفارى) تقع أحداثها (فى دولة "فردوس الشورى" (الفردوس الأخضر سابقاً) أى أنها دولة ليس لها موقع جغرافى على خريطة العالم، لأنها دولة تقع على حدود اللازمان واللاماكن، بمعنى أنها دولة "معنوية" تظهر فى عصور التخلف والعجز والقهر والهزيمة) قد لا يكون لهذه الدولة وجود على خريطة العالم، ولكنها بالتأكيد لها وجود فى الذهنية العربية، لأن الأسماء قد تتغير، ولكن المسميات تبقى كما هى حاضرة موجودة وقائمة، فالمهم إذن ليس الدولة ولكن ما يقع داخل الدولة من أحداث وممارسات. وإذا كانت التسمية غريبة فإن الأحداث والمواقف والشخصيات غريبة منا جداً. فالمؤلف يترك للمتفرج حق القراءة الحرة القائمة على الإسقاط، إسقاط مكانه على مكان المسرحية وإسقاط زمانه على زمانها الخاص وبهذا يصبح الواقع مرآة للمسرحية والمسرحية مرآة للواقع، وتكون العلاقة بينهما جدلية). ومن أمثلة الأمكنة الفنطازية مدينة الزعفران فى مسرحية (حكاية مدينة الزعفران) هذه "المدينة" ليست مدينة واحدة بقدر ما هى مدن متعددة ودول كثيرة تتمدد على الخريطة - السرية للعالم العربى والعالم الثالث حيث (تبرز صورة الحاكم الفرد المتسلطة الذى يمارس علناً الاستئثار بقوت الشعب وثروته وامكاناته بالظلم والإرهاب والقمع ومحاولاته الدائمة للتمسك بمنصبه وسلطته ضد كل القوانين والتشريعات والأعراف ورغم كل النكبات والهزائم ومظاهر التخلف والفساد والخراب) كل هذا يؤكد الحقيقة التالية : وهى أن السيد حافظ - فى تجريبيته - لم يفقد ارتباطه بالأرض التى يقف عليها. ويكتوى بحرها وبردها وتخلفها وانهزامها وعذباتها.
الشعر بين اللفظ والصورة :
أما من حيث اللغة فهناك هذا التداخل بين النثر والشعر و"البناء الشعرى" عند السيد حافظ لا يقوم على موسيقى اللفظ بقدر ما يقوم على الصورة الفكرية التى تنبعث من البناء اللغوى. الشعر هنا شعر المضمون لا شعر اللفظ. وهو نوع من اللغة يبعث فى النفس ذلك الحنين وتلك الوحشية إلى المثل العليا فى الوطنية وفى الأخلاق وفى الدين، وفى التنظيم التى تبعثها الصور التراثية الشعبية من ملاحم وحواديت  ومواويل وأشعار). فالمؤلف يستنطق الصور التراثية.
هذه الصور التى هى الشعر الحى المحرك أنه "الحواديت" فى أغرابها وأجوائها وعجائبيتها، إنه المواويل فى جرسها وأنفاسها وآلامها وتأوهاتها، إنه الملاحم التى تتداخل فيها الصورة والكلمة والمنفعة بالحيوية والحركة. فالسيد حافظ يفهم الكتابة الدرامية على أنها (كل واحد لا يتجزأ. فلا شعر ولا نثر، لأنهما معاً يكونان لحظتين متداخلتين من الوجود. فى البدء يختلفان، ولكنهما فى الأخير تنتهيان إلى شئ واحد. فى العمق لا وجود إلا للشعر، أما فى السطح فهما يختلفان بالتأكيد/ وما بعد الاختلاف غير الائتلاف، وما وراء الكثافة غير الشفافية. وما نهاية العلم إلا الشعر. وما خلف الشعر إلا الحكم وهناك - عند نقطة معينة - تكف الأشياء أن تناقش بعضها البعض. لأن الشعور بالوجود يصبح لحظتها مرادفاً للعلم بالوجود وذلك هو الشعر/ العلم والعلم/ الشعر) فالسيد حافظ فى تجربته الوجودية كثيراً ما يعمل إلى هذه النقطة التى ينتقى فيها التناقض بين الأشياء. فيتحول النثر إلى شعر والشعر إلى علم والعلم إلى حكمة. أى إدراك الأشياء من خلال العقل والقلب. ولعل هذا ما يفسر هذه الحرارة الموجودة فى مسرحه وهى حرارة تنم عن التحام الذات بالموضوع وانصهاره فيه فهو يكتب عن عالم ينهار، من غير أن ينسى أو يتناسى أنه جزء من هذا العالم الذى ينهار وبذلك فهو يكتب بعنف وغضب وحزن، إنه يصرخ بصوت عال، ويفكر بصوت مرتفع. حتى أنه فى بعض الأحيان تختفى الشخصيات كلها ولا تجد أمامك إلا المؤلف الممتلئ غضباً وسخطاً وشاعرية. إن المهم لديه هو أن يكتب، وعلى حسب كثافة الحالات وتنوعها تتغير كتاباته، فتكون نثراً أو شعراً أو كل هذا داخل العمل المسرحى الواحد. ففى مسرحية (علمونا أن نموت فتعلمنا أن نحيا) نجد أن الإشارة الأولى - الفصل الأول - بالفصحى أما بالإشارة الثانية فهى بالعامية. وفى مسرحية (الحانة الشاحبة تنتظر الطفل العجوز الغاضب) نجد أن مجموعة الرجال تتحدث العامية، أما مجموعة النساء فتتحدث العربية الفصحى وقد يحدث أن تتحرر اللغة من حدودها فتصبح حديثاً مسرحياً فيه شئ من الفصحى وشئ من الحديث اليومى. فى الفصحى المؤلف رسم الحقيقى والتاريخى والنظرى. أما العامية فترسم لديه اليومى والواقعى والحسى انطلاقاً من الأمثال الشعبية والحكايات والحكم والتعابير السائرة وألعاب الأطفال اللفظية من مثل:
(سلام : شوف يا بنى .. حادى بادى (يشير إليه والى نفسه) كرومب زبادى. بنت العسكر.. راجت تسكر.. مين سكرها.. قمح السكر..)
يبقى أن نشير - فى ختام هذا البحث إلى أن التجريب فى مسرح السيد حافظ هو مجرد مرحلة، ويمكن أن نعتبر مسرحية (حكاية الفلاح عبد المطيع) بداية مرحلة مسرحية جديدة، وهى مرحلة التأسيس التى تأتى عادة بعد فوضى الهدم والتجريب. ففى هذه المسرحية يعود السيد حافظ إلى التراث العربى وإلى الوجدان  الشعبى وذلك منأ جل صياغة لغة مسرحية، لغة تملك القدرة على التعبير عن الهم العربى وعن فكره وروحه. هذه المرحلة تحتاج بالتأكيد إلى دراسة منفصلة، وذلك ما سوف نحاوله مستقبلاً.
عبد الكريم برشيد - المغرب
الدار البيضاء فى أكتوبر - 1984
مجلة أدب ونقد - القاهرة - العدد العاشر - يناير 1985

مرافئ ثقافية كتب جديدة حكاية الفلاح عبد المطيع مسرحية : السيد حافظ



جريدة الرأى العام الكويتية
27/9/1982 العدد 6777
مرافئ ثقافية
كتب جديدة
حكاية الفلاح عبد المطيع
مسرحية : السيد حافظ
     صدر للكاتب المسرحى السيد حافظ كتاب جديدة بعنوان حكاية الفلاح عبد المطيع عن مطابع صوت الخليج بالكويت مع كونه يضم مجموعة من الآراء النقدية فى مسرح السيد حافظ التجريبى، وأهم ما فى هذه الآراء التى نشرت لكتاب ونقاد فى الصحف والمجلات العربية، فى مصر والأردن والعراق والكويت وغيرها تتقارب فى الإجماع على أن هذا الكاتب يحمل هموم الإنسان العادى، هذا الإنسان الذى يدفع الثمن.
     والمؤلف لا يكتب المسرحية التجريبية الطليعية وحدها وإنما يكتب القصة القصيرة وأناشيد مسرحياته بنغم شاعرى يحدث تلك الخلجات المؤثرة فى أعماله. وهو مخرج لمسرحيات قدمها فى أوائل وأواسط السبعينات حيث كان يقدم اسمه فى الفترة الأولى بتوقيع "أوزوريس" عندما قدم مسرحية "حدث كما حدث ولكن لم يحدث أى حدث" عام 1973، وأخرج فى عام 1976 مسرحية "قصة حديقة الحيوان" فى الإسكندرية، وعن إخراج هذه المسرحية كتبت مجلة الكاتب القاهرية تعليقاً  - أكتوبر 1976.
     وأظهرت مقدرة المخرج وبراعته فى نقل هذه المسرحية إلى المشاهد فى صراعها الطبقى وزيادة احتداد التباعد بين الشخصيات، كما أخرج مسرحية "وطنى عشت يا وطنى" وقدمتها فرقة المسرح الطليعى أيضاً على خشبة "قصر الثقافة" فى الإسكندرية عام 1973، وعلى نفس الخشبة مسرحية أحبك يا مصر.
     وقد كتبت جريدة الأهرام بتاريخ 27/3/1975 كلمة حول أعمال المسرح الطليعى الذى قد ذلك التاريخ مسرحية "الجسر" ومسرحية "أحبك يا مصر" للمخرج السيد حافظ فما هو هذا المسرح الطليعى الجديد الذى بدأ منه السيد حافظ إخراجه ومسرحياته؟
     تقول كلمة الأهرام :"يظهر مسرح الهواه فى العالم اليوم كمسرح يقدم فناً طليعياً تتفجر فيه إمكانيات ورؤى ومفاهيم جديدة يحاول من خلالها اكتشاف علاقات أكثر فاعلية وأصالة فى جمهوره. وهذا الفن أى مسرح الهواه هو امتداد فعال وحى لواقعهم الحقيقى على عكس مسرح المحترفين الذين يثقلون الواقع على الخشبة دانياً ليقترب وينعزل داخل قوالب تقليدية ومتكررة.
     إن مسرح الهواه ليس مسرح المؤلف، أو مسرح الممثل، ولا مسرح المخرج كما صنف من قبل.. إنما هو مسرح الجماعة، وإذا كان السيد حافظ قد كتب مجموعة فى المسرحيات تنتهج أرضية من الواقع يدخل إليها الرمز أحياناً بأحلام المسحوقين وحواراتهم، وأحياناً أخرى بشكل مباشر، فإن أسلوبه فى الإخراج يعتمد على حركة ومظاهر هؤلاء على المسرح من خلال المسرحيات التى أخرجها لغيره من المعدين والمسرحيين، وكما أن له عدة مسرحيات مطبوعة المسكين يتساءل فى كربه وشقائه من أتى لنا بالمماليك؟ ويسقط أيضاً فى هذه الورطة عندما شفيت عين السلطان ولا يعلم بقرار إعلان الفرح وارتداء الثياب البيضاء، فهو يرتدى ثياب الحزن السوداء، وحكاية الفلاح عبد المطيع هى حكاية فيها اسقاطات تاريخية، والسيد حافظ فى هذه المسرحية إنما يتحدث عن الإنسان العادى الذى يبقى بعيداً عن أحداث السلطة أو مشاكل القوى الكبرى ثم يدفع الثمن فى كل زمان تكون فيه إرادة البؤساء مغلولة ومعطلة.
     وحينما تقرأ هذه المسرحية تتساءل من جديد من أتى بالاسرائيليين إلى فلسطين؟ ومن أتى بهم إلى بيروت؟ إن الإنسان البرئ يدفع الثمن غالباً، تلك هى باختصار خلاصة مسرحية " حكاية الفلاح عبد المطيع" فى كتاب السيد حافظ الجديد. ومعها مسرحية أخرى نأمل يكون لنا عودة فى وقت لاحق.

كتاب من الكويت حكاية الفلاح عبد المطيع مسرحية بقلم : السيد حافظ



جريدة الوطن الكويتية
الخميس 10 فبراير 1983
كتاب من الكويت
حكاية الفلاح عبد المطيع
مسرحية بقلم : السيد حافظ
عرض  / شفيق العمروسى
حكاية "الفلاح عبد المطيع" أو "ممنوع أن تضحك، ممنوع أن تبكى" والتى صدرت مؤخراً هى آخر أعمال الكاتب المسرحى السيد حافظ وقد كتبها فى الفترة من عام 1979 إلى 1981 أى استغرقت كتابتها حوالى ثلاث سنوات ويمثل تاريخ كتابتها مسألة هامة إذ أنه من الناحية التاريخية يمثل تاريخ كتابتها مسألة هامة إذ أنه من الناحية التاريخية يمثل نهاية فترة من أخطر الفترات التى مرت بها مصر والتى تتعرض لها المسرحية.
وعبد المطيع كما تخبرنا المسرحية "فلاح فقير" أجير، عيناه مسجدان وقلبه يتسع حتى يحتوى العالم ويداه صلبتان فى صلابة صخر النيل، يعيش بالقاهرة فى كوخ على شاطئ النيل.. على هامش الطريق.. يغنى لأطفاله كل مساء وينام وهو "متعب بجوار عتبة الباب لأن غرفته صغيرة لا تتسع لعشرة أفراد ورغم أنه يمضى حياته هذه منزوياً لا يشعر به أحد حتى الجيران فهو يعرف كما علمه والده أن الأحزان تأتى من الجيران، يتعرض لمتاعب كبيرة، فقد مرضت عينا السلطان ولأجل شفاء عيونه تقرر أن يرتدى أهل المدينة الحداد، لأن صاحبنا كان مشغولاً بالبحث عن الطعام لأولاده وحماره لم ينتبه للقرار، فقبض عليه وقضى بالحبس سبع أيام تعرض خلالها لمعاملة من نوع خاص، خرج بعدها كى يرتاح فيذهب فى غيبوبة طويلة، وخلال غيبوبته ليخرج إلى الشارع فى ملابسه السوداء حيث يقبض عليه هذه المرة لأنه لم يخلع ملابس الحداد ويرتدى ملابس الفرح البيضاء وأيضاً يقضى سبعة أيام أخرى فى الحبس يرفض بعدها منصب قاضى القضاة ويفضل أن يخلع ملابسه ويكون من العراة.
تلك هى بشكل عام حكاية الفلاح عبد المطيع وهى تذكرنا بالنوادر التى ارتبطت بشخصية جحا، وهى الشخصية التى اختلف عديد من الباحثين فى حقيقتها وموطنها الأصلى، وإن كان هناك شبه إجماع بينهم على أنها ظهر كرد فعل لحكم الطغيان.
المهم إن السيد حافظ استطاع أن يقدم لنا تلك الحكاية فى قالب مسرحى من نوع التراجيكوميدى "وليست كما فضل أن يقدمها باعتبارها كوميديا" فالمسرحية حين تجعلنا نضحك على السذاجة البادية لعبد المطيع تدفعنا فى نفس الوقت إلى البكاء معه عليه، ورغم أنه لا يحدث انقلاب مفاجئ من الضحك إلى المأساة أو العكس إلا أن السخرية والتهكم يستمران طوال المسرحية ويكشفان عن مأساة الطبقة الفقيرة والطغيان والإرهاب والفساد.
فى بداية المسرحية يدعونا الراوى إلى العودة للوراء إلى زمن كان الإنسان مفقود القيمة يهان، كان الإنسان الحيوان، قوى النفوذ والسلطان.
و"كان" هذه لابد وأن تدفعنا إلى التساؤل، هل حقاً افتقاد الإنسان للقيمة وإهانته وسطوته بعضه على البعض الأخر مجرد ماض، أم أنها مازالت متصلة حتى الآن؟
من الواضح أن الكاتب لم يرغب بتقييمه لذلك العمل أن يقدم لنا مجرد صورة "كاريكاتورية تاريخية" أو لم يرغب فى تقديم عمل تاريخى فى إطار الكوميديا، إذ لا يخفى على القارئ أن اختيار الكاتب جاء لتلك المرحلة التى حكم فيها قنصوه الغورى مصر كان وسيلة للتغبير عما حدث فى مصر طوال فترة السبعينات من القرن الحالى.
فقد اختار الكاتب فترة حكم قنصوه الغورى زمناً لمسرحيته، وهى فترة لم يحاول أى كاتب أخر أن يستفيد منها رغم أهميتها، فأكثر من تعرض للطغيان والفساد اتخذ من فترات الحاكم بأمر الله أو كافور الأخشيدى رموزاً.
من المعروف أن قنصوه الغورى استمر فى الحكم حوالى ستة عشر عاماً "1501 - 1516" وقد حكم زمن نهاية دولة المماليك الثانية التى تميزت بعدة ظواهر من أهمها التنافس على السلطة، فأصبح القادر منهم هو الذى يتولى الحكم فانتشر الارهاب والفساد وفى نفس الوقت انتشرت الفتن والثورات الداخلية. كما تحقق لتلك الفترة أكبر اتساع امبراطورى لدولة المماليك.
إذن جاء قنصوه الغورى ليحكم تلك الدولة وقت أن بلغ الفساد قمته وليس أدل على ذلك ما حدث من الخيانة المعروفة التى تعرض لها أثناء صدامه بالاتراك فى معركة مرج دابق من قادة جنده، وهى المعركة التى لقى فيها حتفه وأودت بالامبراطورية المملوكية فى مصر والشام وقضت على استقلالها بقرون عديدة. بل ويدلل على ضعف الدولة المملوكية فى ذلك الوقت أن قنصوه الغورى دخل تلك المعركة مضطراً بعد أن رفض العثمانيون الصلح الذى عرضه عليهم، والواضح أنه لم تكن لديه الرغبة أو القدرة على القتال إذ لم يكن لمماليكه من هم سوى جمع المال من الأهالى الغارقين فى بحر الفقر والإهمال.
ومن خلال ذلك الواقع التاريخى حاول الكاتب أن يقدم عمله المسرحى حيث يعرض علينا أنماطاً من السلوك الاجتماعى ترتبط أشد الارتباط وتنتشر أوسع الانتشار فى ظل حكم الطغيان، وذلك من خلال ما يعانيه شخص الفلاح عبد المطيع الذى يمثل بجانب سذاجته جموداً يعتبر امتداداً تراثياً خطيراً فى تاريخنا ممثلاً فى قيم مجتمع الطغيان التى سيطرت نتيجة عهود طويلة لا يمثل عهد السلطان قنصوه الغورى سوى مرحلة من مراحلها.
وسط تلك الظروف عاش الفلاح "عبد المطيع" وهو الذى يمثل لنا شريحة هامة من الأهالى تعيش حياة الحيوان، وكما يبدو من المسرحية فإن عبد المطيع يجد غذاؤه الوحيد فى صداقته للحمار، بل نحن نجد حوار يدور بين الاثنين فى بداية المسرحية، والحمار عند عبدالمطيع يفهم "أكثر من أى شخص فى هذه الضاحية" كما يلعب الحيوان دوراً هاماً فى الكشف عن الظروف التى يعيشها عبدالمطيع.
فى ظل الطغيان يتحول القهر إلى سلوك عام فالأمر لا يقتصر على قهر السلطان ارعيته بل يمتد ليشمل الجميع فعبدالمطيع يخالف زوجته، وهى تتهمه بأنه سبب بلائهم هى وأولادها ورئيس الشرطة يجد لذته فى القبض على فلاحنا الساذج، ثم أن القهر يولد القهر فعندما تؤلم السلطان عيناه "يصرخ ويصيح ملعون الوزير" والوزير بدوره يهتف "ملعون المستشارون".
والقهر يتبعه بالضرورة النفاق، ويصوره لنا السيد حافظ أروع تصير فى مقابلة عبدالمطيع لصديقه مرسى فى السوق ففى إطار كوميدى يعتمد على المفارقة فى الحوار بينهما تكتشف أن عبد المطيع هذا الكائن البسيط قادر على التلون بأكثر من لون وممارسة الحزن طبقاً لما يتطلبه الموقف فى اعتقادى بوجود مصاب اليم ألم بأسرة صديقه موسى "فالموت قد يأتى مفاجأة لمن تحب"، وهذا أمر يستلزم تعبيرات الحزن وقد يتطلب ذم الميت إذا كان ممن لا تحب، بل أن عبدالمطيع بفطرته وسذاجته اللتين تسلل اليهما النفاق يعلنها صريحة فهو لم يسمع بجنازة إلا و"خرجت فى الحال". فأنا لا أترك أى جنازة إلا وسرت خلفها، الحياة موعظة والموت أكبر موعظة.
ولا يجد عبدالمطيع فى النهاية ما يواجه به عالمه المهترئ غير أن يخلع ملابسه ويقف عارياً وذلك ليرد على قرار تعيينه قاضى القضاة.. ربما رفضاً للنفاق الاجتماعى وربما تعبيراً عن سخطه ورفضه وتمرده على كل قيم عصره الفاسد وسلوك مجتمع الطغيان، وتصاب حاشية السلطان بالذعر بينما يضحك الفلاح عبدالمطيع فى النهاية!
وتصبح نهاية المسرحية التى أرادها الكاتب مثار تساؤل وتفكي فى الإطار المسرحى الذى يعتمد على التنوير، فالنهاية تمثل الحركة العفوية فى مواجهة الطغيان، وهذا ما استطاع السيد حافظ أن يقدمه بذكاء شديد فى إطار متماسك وبلغة لم تفقد تلك الشاعرية التى تعودنا منه فى أعماله السابقة

عبد المطيع وحكايته



مجلة فنون العراقية
العدد 107 بتاريخ 22/2 ايلول 1980
عبد المطيع وحكايته

       مجلة (فنون) أضافت إلى مبادرتها، مبادرة جديدة، إذ اتفقت مع د. سعدى يونس، لتقدم فرقة العراق، مسرحية حكاية عبد المطيع..، فى الساحة المكشوفة لموقف سيارات مجلة (فنون).. ودعت إليها عوائل حى الإعلام والجوار إلى جانب المسؤؤلين والفنانين..
جمهور الحى الشعبى الذى استمتع بهذا العرض المسرحى صفق كثيراً للممثلين ولمبادرة (فنون)...
     مهدى على الراضى رئيس قسم الفنون المسرحية كان حاضراً وكتب هذا التعليق :
     الدخول بالمسرح إلى المحلات الشعبية، والأزقة، والمقاهى، مسألة فى غاية الأهمية، وظاهرة حضارية متقدمة لها دورها الكيبر والإيجابى فى كسب الناس إلى هذا الفن العظيم، كما لها اسهامها الفعال فى إيصال الوعى الفنى والجمالى والسياسى، إلى قطاعات كبيرة لم تتسن لها فرصة ملاحقة ما يقدم على خشبة المسرح، وهذا ما دفع بعض فنانينا إلى المبادرات فى القيام بتجارب مسرحية فى أماكن عديدة ومن هؤلاء الفنان سعدى يونس، الذى استطاع أن يكسر هذا العرض، وأن ينزل بتجاربه إلى الناس بمسرحيات عديدة، فأصبح بحق ظاهرة متميزة فى هذا المجال، والفنان سعدى فى معظم أعماله سواء التى كتبها أم اعدها يعايش ويعالج الهموم اليومية على المستويين المحلى والقومى، ولعل حكايته الأخيرة مع عبدالمطيع، كتب النص السيد حافظ، والتى قدمها بمبادرة مجلتنا فنون، واحدة من تلك المسرحيات التى تتحدث عن الخاص بصيغة العام وما هو فنتازى بحسن واقعى، لذلك تتداخل فيها عناصر حكواتية ربما جاءت بإضافة من المخرج نفسه، والمسرحية تقدم لنا نموذجاً، يمثل شريحة اجتماعية كبيرة مسحوقه، تعانى الاستلاب فى ظل فوضى القوانين وفوضى حياته الخاصة، جاءت أحداثها متسلسلة ومتداخلة، ينقلك المخرج فيها عبر حالات من التقابل والتزامن تبتدئ من وقوف الممثل على الخشبة شارحاً وضعية عبدالمطيع، ومروراً بمشاركة بقية الممثلين فى إثارة هذا الموضوع كذلك فى بيت الوزير، والسلطان، وبيت عبدالمطيع، والشارع - وهو بهذا استطاع أن يخلق فيما يسمى بتصوير الحالة والتعليق عليها، من خلال تكوينه لبعض التنكيلات الجماعية، التى أعطت بالمقابل فعل اشراك الجمهور باللعبة، وفى الاتصال مع الحدث ومن ثم التفاعل مع الحكاية عبر الانتقال من وضع إلى آخر، ومن حالة إلى أخرى ساعد على ذلك طبيعة النص لأنه يعتمد بالأساس على طرح المفارقات فى لوحات منفصلة، وهذا ما جعل المخرج يتحايل فى بعض الأحيان لكى ينقل صورة أخرى بعيدة عن الحدث الرئيسى، مثلاً فى مشهد السوق أو المبالغة فى رسم شخصية الحمار، لكنها مع هذا تبقى تدور حول المحور الأساسى عبدالمطيع.
     وذلك لعدم إدراكه خطورة تلقى القرارات دون مناقشتها فيصبح بالمقابل ضحية ولائه المفرط، مع هذا يبقى مصراً على التمادى فى أخطائه ففى الوقت الذى يعلن فيه الحداد على عين السلطان.
     يرتدى عبدالمطيع اللباس الأبيض، وعندما تعلن الفرحة، يخرج عبدالمطيع بلباسه الحزين، فيتعرض لنفس التحقيق السابق حتى يكتشف نفسه فى بيت السلطان، وهكذا تتابع الحكاية، عارضة لنا المهازل التى تعيشها هذه المدينة، ومهازل قوانينها... كما عالجت الموقف السلبى الذى يتسم به البعض ممن ينفذون التعليمات كما مطلوب دون وعيها.. ولعلنا هنا لا نستطيع الحديث عن العمل باتساع وبعين نقدية، ذلك لأن طبيعة العرض فى الهواء الطلق ووسط مشاهدين أكثرهم من العوائل الشعبية والأطفال واستجاباتهم الصاخبة، الفرحة، يجعلنا نشد بحماس على ايدى الممثلين الذين قدموا جهداً استثنائياً من أجل إنجاح التجربة.


حكاية الفلاح عبد المطيع بقلم زكريا عبد الجواد



المكتبة المسرحية
مجلة فنون العراقية – بقلم زكريا عبد الجواد
حكاية الفلاح عبد المطيع
     قبل أعوام استضافت "فنون" الدكتور سعدى يونس وأعضاء فرقته لتقديم مسرحية "حكاية الفلاح عب المطيع” للسيد حافظ. وتم عرضها أمام مبنى المجلة فى الهواء الطلق، وعرضت فى أماكن مختلفة أخرى.
المسرحية صدرت فى الكويت مؤخراً وهنا نقدم عرضاً للنص.
- المحرر-
     - فى مجمل مسرحيات السيد حافظ يمكن ملاحظة ذلك الإلحاح على أن الغد الأكثر إشراقاً لابد قدومه مهما اتسعت مساحة الأيام الغائمة، لذا فإنه يوظف جميع شخوصاتها لإعطاء المتلقى انطباعاً يدين به القهر والظلم والتسلط، ويمكن الإمساك بذلك فى المسرحية الأولى من الكتاب "حكاية الفلاح عبدالمطيع" فهو لا يقف عند حد الوصف والشرح الفنى فقطن وإنما الإدانة الصارخة والساحرة من بشاعة القوى القاهرة وديماجوجيتها. فالمسرحية تحكى ببساطة، إن عين السلطان المملوكى قنصوة الغورى قد أصيبت بمرض فالتم الاتباع والحاشية، واقترحوا إصدار فرمان بأن يرتدى الخلائق الملابس السوداء وإن تطلى منازلهم بذات اللون وأن تمنع الأضواء والأفراح وكل ما يخالف مراسيم الحداد العام.
     لكن عبد المطيع وهو هنا شخصية كسولة سلبية، ساذجة إلى حد البله، لا تصل إليه تلك الأوامر، فيقبض عليه ويعذب بحجة تحدى الأوامر وعندما يخرج ويرتدى السواد ويصبغ حتى حماره به نجد عين السلطان تبرأ من مرضهات فيصدر "الفرمان" بأن تعود الأمور طبيعية بلا سواد ويمنع تماماً الظهور بذلك اللون الحزين.. ولا يعلم عب المطيع الساذج بهذا أيضاً، فيعاد القبض عليه أيضاً بالتهمة السابقة.
     وبين البياض والسواد بين الأمر بالحزن، تدور أحداث المسرحية فى إسقاط بارع وإشارات لممارسات غاشمة أوصلت إنسان الشرق التعس إلى ذروة الإحباط والخوف، وأسقطته فى سلبيلة قال أن توجد بعيداً عن تلك البقعة التى تكالبت عليها عوامل الانحطاطات المتوالية والأطماع الاستعمارى والعنصرية من أفجاج الأرض بينما يبعد البسطاء حتى عز ابداء الرأى فى أبسط الأشياء المؤثرة على حياتهم.. خوفاً وقهراً ورعباً.
     والمسرحية تقع فى فصلين ويمكن تصنيفها ضمن مسرحيات الملهاة الجادة. أى تلك التى تتخذ من الكوميديا الراقية طريفاً لبناء الحدث وتصعيده والتى تتبع جديتها من خلال المواقف المتعدد الحاملة سخرية مريرة.. يتطلبها الموقف.
     وقد أجاد الكاتب تحريك شخوصه بدءاً من الشخصية المحورية "عبد المطيع" وانتهاء بالشخصيات الثانوية، وجاء الحوار ملائماً لطبيعة كل منها وسلوكياته وحالاته النفسية جاء اختيار اللحظة التاريخية منسجماً مع طبيعة الأحداث وإن لم يكن هناك تركيز على الجو التاريخى لذلك العصر وعلى أحداث المسرحية حتى أنه يمكننا حذف اسم السلطان الغورى وكلمة "فرمان" مثلاً لنجد أننا لا نكون أمام مسرحية تاريخية بقدر ما يكون للواقع حضور مكثف وواضح هى أفضل مسرحياته الثلاث التى احتواها الكتاب. وهى تعتبر طيباً فى المسيرة المسرحية العربية الجادة، ولا شك أن السيد حافظ قد خظى بها خطوة واثقة فى عالم رحب وممتع هو عالم المسرح.
     وتقدم المسرحية الثانية "علمونا أن نحيا".. الحوار الدائر بين الشخصيتين الرئيسيتين واللذين يحملان مفاهيم وأحلاماً متباينة تماماً، اجتمعا معاً فى غرفة واحدة من غرف السجن ودار بينهما حوار يبدأ فى الإشارة الأولى بالفصحى، ثم ينتقل إلى العامية فى الأشارة الثانية ومن خلال ندرك أن هناك سجينين الأول يعمل صحفياً ويسجن بتهمة سياسية، والثانى تاجر ويسجن لارتكابه جريمة قتل.
     والحوار الدائر يكشف عن مدى وعى كل منهما، لكن الذى يجمعهما معاً هو حلم الإفراج، الأول لكى يحارب الأعداء (على المستويين الخارجى والداخلى)، والثانى لكى يعيش مع زوجته الرابعة، وبين الحلمين مسافة كبيرة تفصل ما بينهما بحجم الوعى ومسار العاطفة، ويشتد حلم الإفراج وقت الغارة المعادية التى تستمر طوال المسرحية وعلى مدار الإشارتين فيها، ويجسد المؤلف هنا عذبات الوعى حيث يقف السجين الثانى (غير الواعى والسلس الانقيادن الذى يحمل العواطف المتناقضة والمشوشة) مناقضاً للسجين الأول (الصحفى والسياسى الحالم).
     غير أنه يعود ليؤمن مع السجين الأول بطلوع وقت آخر جديد رائع، حتى نهاية المسرحية حيث ينهار حلمهم بإصدار قرار التحفظ واستمرار الحبس بعد انتهاء الغارة... وقد كان للقطات الجانبية وتوزيع نقاط الضوء الأثر الكبير فى إثراء الأحداث والغاء الظلال على دخائل ومكونات السلوك عند كل من الشخصيتين المحوريتين، إلى جانب الحوار الملائم والذى لا تخفيه كثرة الأغلاط الطباعية، وترقيم الشخصيتين.
     أما المسرحية الثالثة "الخلاص" وتدور أحداثها فى الفترة من 4 حزيران 1967 حتى 6 تشرين أول 1973، حيث يستدعى المؤلف ثلاثة من الشهداء الأشقاء "صابر ، هادى، سلام" فى جو احتفالى انشادى ليروى كل منهم قصة الاستشهاد ولعلنوا عن تحديهم للموت وللهزيمة، حيث تلمح من خلال حوارهم ذلك الخيط الذى يربط مسرحيات السيد حافظ، والذى يتمثل دائماً فى تحدى الظروف القاهرة والتبشير بالغد الواعد الرائع،  الذى تخلفه سواعد الرجال وعزائمهم القوية.
     والمكان : مدينة السويس، حيث تكون التضحية الدائمة، منذ أن حفرت القناة وحتى حروب 56، 67، 73.
     وحيث تكون صلابة المقاومة وشجاعة الفداء الرجولى، سمة عظيمة تتضح بها جباه البشر فى تلك المدينة الباسلة فى لغة أقرب إلى الشعر العامى المصرى يتبادل الأشخاص فى تدفق حماس وخطابية إحياناً انشاد أهازيج حماسية عن الأرض التى تروى بدماء الرجال وعرق جباهم وعن الشمس المتلألئة فى العيون والنهار الوردى والحلم الطالع.
     حتى نصل إلى نهاية المسرحية ليغنى "الكورس" :
     "ازرع لا.. للهزيمة، ازرع لا، ازرع لا فى وشط عدوك"....
     و "اطلع فوق الهزيمة مقاومة واضرب.. اضرب رصاص واحصد خلاص.. احصد.. احصد.. خلاص" وهكذا تمزج المسرحية بين الرصاص والخلاص، ومنذ الحرف الأول فيها، وحتى الأخير، يظل للمقاومة الصوت الأعلى باعتبارها الحل الأوحد فى مواجهة عدو شرس.
زكريا عبد الجواد


حكاية الفلاح عبد المطيع للسيد حافظ ومسرح التضامن والمشاركة

جريدة السياسة الأربعاء 13/7/1983
حكاية الفلاح عبد المطيع
للسيد حافظ
ومسرح التضامن والمشاركة
للدكتور / السعيد الورقى
أستاذ الأدب الحديث - بكلية الآداب
جامعة الإسكندرية
     يبدأ العرض بمسرح يكاد أن يكون خالياً من الديكور، يوضح المؤلف خطوطه ويوظف آلياته كما يفعل مؤلفو العرض الشامل.
     فى بقعة مضيئة فى منتصف المسرح، يتحول الكورس اليونانى القديم إلى جوقة تقترب أكثر من الراوى فى القصص الشعبية. وتقوم الجوقة بتلخيص الموقف الذى يستدعى إلى الحضور بانتقال الضوء إلى مستويات أخرى تباعاً.
     أما الموقف، فهو صراع الإنسان من خلال التفاوت الطبقى. وهو صراع قديم حديث يقوم على الاستغلال فى صوره التى عرفتها البشرية فى أطوار حضاراتها الثلاث : حضارة الرق والعبودية. وحضارة الإقطاع، ثم الحضارة البرجوازية، حيث كان صراعاً بين طبقة العبيد والسادة فى حضارة الرق. وبين الأفنان والملاك فى حضارة الإقطاع، ثم كان صراعاً بين العمال.
     والبرجوازية فى الحضارة البرجوازية وهو صراح مع اختلاف صوره - يعكس الصلة بين المستغل إلى إذابة الفوارق الطبقية تحقيقاً لمفهومه عن العدالة الاجتماعية، ويسعى فيه المستغل إلى مزيد من الضغط على الطبقات الأخرى.
     هكذا يلخص الراوى فى بداية المسرحية الموقف كله سنعود إلى الوراء - إلى زمن كان الإنسان مفقود القيمة يهان وكان الإنسان الحيوان قوى النفوذ والسلطان موهماً أن ما حدث قد حدث فى الزمن الماضى. وتاركاً الاسقاطات والمقارنة لخيال المشاهد.
     ويبدأ الحديث بعد تقديم الراوى والجوقة لشخصية البطل المأسوى عبد المطيع - لاحظ الدلالة الرمزية فى الاسم والكاتب مولع بمثل هذه الاستخدامات - على هذا النحو فلاح فقير أجير عيناه مسجدان. وقلبه يتسع حتى يحتوى العالم ويداه صلبتان فى صلابة صخر النيل. (ص5)
     وعبد المطيع هذا الذى لا يعرف سوى الطاعة والطاعة العمياء يجازى بالسجن والضرب من السلطة وأعوانها، وهو فى حيرة من أمره لا يملك أى حق. ولا حتى حق الاعتراض.. ومشكلة عبد المطيع التى ارتكبها وهو طائع إنه كان يعيش فى زمن مماليك مصر - ولا يعنينا هنا الواقع التاريخى بقدر ما يعنينا الواقع الذى جعله المؤلف إطاراً اجتماعياً لمسرحه.
     الواقع الذى وضع فيه المؤلف عبد المطيع واقع غير إنسانى استهانت فيه السلطة بالشعب فى شراسة خنقت كل الحريات. وسيطرت على كل مقدرات الإنسان حتى على عواطفه فأصبح الإنسان فيه ممنوعاً من الضحك أو البكاء إلا بفرمان حكومى يتحدد وفقاً لمزاج السلطة وأحوالها.
     لقد مرضت عينا السلطان المملوكى وصدر تبعاً لهذا فرمان حكومى بإعلان الحداد والحزن العام حتى تشفى عينا السلطان.
     ولأن عبد المطيع نموذج من الطبقة الكادحة، طبقة العبيد أو الخدم أو العمال - فهو مشغول بمتابعة قوت يومه عن التسمع لفرمانات الوزير أو السلطان، لذلك فلم يتمكن عبد المطيع من سماع الفرمان، ولم يصبغ ثيابه - بالتالى - باللون الأسود، فقبض عليه لهذه المخالفة الشديدة وسجن وجلد وأفرج عنه بعد أسبوع على أن يصبغ ثيابه وانصاع عبد المطيع فى - سلبيته - إلى الأمر فصبغ ثوبه وحماره وبيته وانطوى على نفسه يعالج جروحه ويجتر آلامه فى حزن صامت لا يعرف الثورة.
     ويتحول عبد المطيع إلى أسطورة - أجهضها المؤلف - لدى العامة فيرون فيه زعيماً لحركة مناهضة تتحدى السلطة والسلطان.
     ولا يلبث السلطان أن يشفى ويعلن الفرح فى البلاد بأمر سلطانى وضرورة أن يرتدى الجميع الملابس البيضاء مع إقامة الزينات والأفراح. وإلغاء الجنازات فالموت لابد أن يتم فى صمت.
     ولم يعرف عبد المطيع فى غيبوبته بهذا النبأ الجديد ومرة أخرى يقبض عليه لمخالفته أوامر السلطان ويسجن من جديد ويجلد لمدة أسبوع أخر وفى حيرة عبد المطيع يخلع ثيابه - سبب بلواه - ويتساءل لأول مرة ماذا تريد منى أيها السلطان. وأى الألوان تفضل أن أرتديها؟
     مسرحية "حكاية الفلاح عبد المطيع" للسيد حافظ، كما هو واضح، كوميديا بشرية ساخرة، تسعى إلى المزج بين مسرح المواقف والمسرح التسجيلى. ومن خلال هذا الإطار يقدم المؤلف شخصياته نماذج إنسانية تتحرك فى مجال اجتماعى وداخل إطارات عاطفية وعلاقات اجتماعية.
     هكذا تبدأ الشخصية فى التحرك من الخاص نامية لتحقيق الموقف العام ذى النظرة الإنسانية الشاملة، وهو ما نراه مسيطراً بشكل واضح على المسرح الحديث والمعاصر خاصة عند أبسن وسترندبرج وشووبرشت ودروعات وتنسى ويليميز ميلر وأمثالهم.
     حكاية الفلاح عبد المطيع كوميديا مأساوية تطرح على مستوى الموقف الفكرى قضية إنسانية هامة تتلخص فى السؤال التالى الذى جاء على لسان الكورال، ما معنى الإنسان إذا صار عبداً؟
     وقد اتجه السيد حافظ إلى بعض أساطير الهزيمة التى تطرح العديد من صور التعفن والامتلاك فى التاريخ المصرى.
     ليشكل منها إطار الحدث الدرامى وذلك فى محاولة منه لإعادة تشكيل العالم وصياغته بعد أن أصابته الفوضى، وبعد أن اختل ميزانه.
     هكذا سعى المؤلف إلى تقديم هذا الجو من المثالية الزائفة، التى تتضمن فى الواقع تنبؤات أليمة، من خلال التركيز على الإنسان فى صراعه مع القوى المناهضة.
     وقد تبدو شخصية عبد المطيع نموذجاً سلبياً فى جهله وبلادته، وفى ارتباطه بواقع اجتماعى متهرئ لا يمكن إيقاظه بسهولة، إلا أن هذا التكوين فى الواقع هو النظرة السلبية للحياة التى يتضمنها مسرح التضامن والمشاركة، الذى وإن حاول التركيز على التواصل الفعلى فى الصراع، إلا أن مرارة الاحتجاج هذه.
     وتكشف مسرحية "حكاية الفلاح عبد المطيع"  بوضوح عن الخصائص البناءة المميزة لمسرح السيد حافظ. فهو مسرح تجريبى، أخص مايميزه هو نوع التعامل مع الزمن.
     يتعامل السيد حافظ فهو مسرح تجريبى أخص ما يميزه هو نوع التعامل مع الزمن.
     يتعامل السيد حافظ مع الزمن فى عمله الدرامى بمفهوم متأثر كثيراً باتجاه تيار الوعى فى الكتابة القصصية وبأسلوب الفلاش باك فى السينما.
     فالزمن هنا قد فقد منطقه العام وحدوده التقليدية، وأصبح زمناً متداخلاً يستدعى الأحداث والشخصيات بتوظيف بعض آليات المسرح وخاصة الإضاءة. وقد مكن المؤلف من إجادة هذا البناء وتوظيفه لخدمة عمله الدرامى. إنه كما قلنا من مؤلفى العرض الشامل.
     وإذا كان السيد حافظ قد أجاد فى سبيل معمار عمله المسرحى على نحو ما رأيناه. فقد أخفق فى استعمال اللغة، حيث كان تركيزه الأكبر فيها على القيمة البلاغية.
     واعتمد إنه لو توافرت لهذا العمل لغة شعرية تنفعل بالموقف وتثير الانفعال به، خاصة وإن المؤلف أثبت مقدرة لا بأس بها فى التعامل مع هذه اللغة الشعرية فى أعمال أخرى منها "عودة أبى ذر الغفارى" و"حكاية مدينة الزعفران"، اعتقد لو توافرت للعمل مثل هذه اللغة، لتحقق له تمام التواصل الفعلى الذى يستهدف المؤلف وصولاً إلى مسرح التضامن والمشاركة.



الفلاح عبد المطيع : يحدث دجلة.. فمن يستجيب؟



مجلة فنون العراقية
إعداد : حسب الله يحيى
الفلاح عبد المطيع : يحدث دجلة.. فمن يستجيب؟
     قص الفلاح المصرى البسيط حكايته فى مقهى الصالحية، ومعهد الفنون وأماكن مختلفة من بغداد.. وتوقف عند نهر دجلة، حيث استضافته الزميلة مجلة "فنون" مع فرقة العراق المسرحية، وقد عبد المطيع حكايته أمام واجهة المجلة المطلة على دجلة الخير والعطاء.. واستمع إليه جمهور أسرى جامع بين الأب والأم والأبناء.
لم تكن الحكاية ممتعة، ولا تبعث إلى السرور، بل إنها تستثير الهمم وتحديد المواقف من الظلم والتعسف.
     فالفلاح عبد المطيع يعيش حالة فقر مدقع، وامرأته تعانى الشقاء معه، بينما سلطان المدينة ينعم بثرائه، وحاشيته متعلقة، لا يهمها مصلحة الناس.. لذلك تصدر الأوامر بأن يرتدى كل فرد ملابس سوداء حزناً على مرض السلطان، لكن عبد المطيع لا يسمع بالأوامر، فيعاقب ويشفى السلطان من مرضه، وعلى الناس ارتداء ملابس بيضاء، بينما يبقى عبد المطيع على ملابسه السوداء، فيعاقب أيضاً وزيادة فى التنكيل يسخر منه السلطان بأن يعينه قاضياً ثم يأمر بجلده.. حتى يصرخ عبد المطيع ويسأل عن أى الملابس يرتدى، وكيف يعش كأنسان له مشاعر وهواجس وهموم، وكيف يوقف بين جوعه وبحثه عن العمل وبين الولاء للسلطان المترف؟
     السيد حافظ - مؤلفاً للمسرحية، استطاع أن يلتقط حدثاً بسيطاً ويبنى عليه عملاً درامياً تتوقف حدثاً بسيطاً ويبنى عليه عملاً درامياً نتوقف عنده، ويخلق فينا حالة توتر ونقمة إزاء كل نظام يحاول قهر الإنسان فى خبزه وحريته.
     وبدأ أن الزيادات التى وردت فى بداية العرض كأن يشار إلى أن هذه المسرحية لا تتعرض لإبطال مثل هاملت أو هنرى الرابع، وإنما هى حكاية فلاح بسيط لا تضيف جديداً للحدث المركزى، وجاءت النهاية ذات إيقاع بلاغى وحكمى كالقول: "شرط المحبة الجسارة" وكان إخراج الدكتور سعدى يونس يشكل تواصلاً مع النشاط الذى مثله فى "الاستعراضى الكبير" و "المجنون" وعدد من المسرحيات التى تتوجه نحو التجمعات الجماهيرية فى الأحياء الشعبية والأماكن العامة..
     ومثل هذا التوجه، يحقق اكتساباً جماهيرياً ناجحاً لفن المسرح، وبالتالى يسهم فى زرع بذور طيبة لإزدهار وجود المسرح بين الناس.
     ورغم أن العرض قام على مواهب جديدة فى الأداء، إلا أنه استطاع أن يصقلها ويحقق من خلالها عملاً ناجحاً، فكانت نجاة على "نفسية" تحسن اختيار الحالة المتغيرة للشخصية، وتغير توصيلها فى الأداء صمن شرطها.. فأجادت وحققت ما هو مطلوب منها فى عمل يعيش بين الناس، وتألق ستار جاسم فى دور "المنادى" أكثر منه فى "المستشار" وعرفنا صاحب شاكر "الراوى" بارعاً وقريباً إلى النفس.. وبدأ فلاح حسن - من الفرقة القومية يحمل اسهامه متواضعة مع زملائه فى فرقة العراق المسرحية. أما هادى مضمن "مرسى" وراضى مطر "المستشار" العجوز "وتقى شواى" ، "مستشار" فلهم امكانات طيبة، وتميز د. سعدى يونس ممثلاً مقتدراً جعل الهوة بينه وبين فرقته شاسعة.. وأمكن للمشاهد أن يحترم تلك المواهب التى تقف بجدارة بين جمهور مختلف الأمزجة والأطر بدلاً من ترقب مشاهد اعتاد أن يزور المسرح ويتفاعل معه.
     وكانت الحان وموسيقى علاء زكى طموحة وجميلة فى عرض مهموم ومأزوم بالبطل وشارك اللحن الغنائى وحشية السلطة فى مشهد، وحقق انسجاماً مع العمل، وملابس ياسمين خليل بدت ملائمة، سهلة التغيير، حالية من التعقيد..
     الديكور لا وجود له، دائرة خشبية مرتفعة وسط الجمهور والأداء يجرى فوقها، وتغيير الملابس والحركات تجرى أمام الجمهور فالعرض بريشتى، يقدم تلك الحالة كونها تمثيل لواقع.. ويؤمل من العرض أن يتعرض المتفرج على مثل هذا الواقع.
     العرض يتحثد إلى دجلة وينساب كلمة ولحناً وحركة مع مساء الماء وانعكاسات الصور.. ويبقى عبد المطيع، متسائلاً عن فواجعه، فمن يستجيب له، ومن بدله على سبيل أخر!


Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More