Add a dynamically-resized background image to the page.txt Sayed Hafez (sayedhafez948@gmail.com) جارٍ عرض Add a dynamically-resized background image to the page.txt.

أدخل كلمة للبحث

الزائرون

Flag Counter

زوارنا

Flag Counter

الزائرون

آخر التعليقات

الجمعة، 20 يناير 2017

اشاعة بقلم ليلى بن عائة










تحليل مسرحية إشـــاعة



دكتورة ليلى بن عائشة
الجزائر












1- الحدث الدرامي في مسرحية إشاعة
        مسرحية )إشاعة( ([1]) هي إحدى الأعمال المسرحية التي ألفها "السيد حافظ" وهي من فصل واحد، تطرح لنا هذه المسرحية العديد من الإشكالات على رأسها تغير المسار الذي كان من المفروض أن تسير عليه الجامعة، في تكوين طلبة يحملون مشعل العلم والنور، وهم في ذات الوقت علماء ومفكري المستقبل وحماة الوطن. هذه القضية تعرض لها "مصباح الزمان" في كلمته عقب تسلمه جائزة نوبل، فرغم فرحته التي لا توصف إلا أن فرحته الحقيقية لن تتم إلا بتفجير الجامعة المصرية للعلم في شرايين كل الطلبة، فإذا كان البعض يرى أن هذه الجامعة قائمة بدورها في تعليم الطلبة وتنويرهم وتحضيرهم لمعركة البحث والبناء والتشييد معا، فإنه يرى عكس ذلك تماما، فما تقوم به ـ في الحقيقة ـ هذه الأخيرة لا يعدو أن يكون تخريج جيوش من الموظفين المتقاعسين الذين لا يلبث أحدهم أن يحصل على شهادة إلا وكان همه الأساسي هو الحصول على وظيفة للإسترزاق أيا ما كانت هذه الوظيفة، ويرمي الطالب وراء ظهره مسؤوليته كجامعي في مواصلة درب العلم والبحث وأداء رسالته الحقيقية المنوطة به، وهذا ما نفهمه من خلال حديث الدكتور مصباح الزمان.
" مصباح الزمان: في الحقيقة إن شعوري لا يوصف فأنا سأشعر بالجائزة عندما تفجر الجامعة المصرية العلم في شرايين كل طالب وطالبة فالجامعة المصرية تحتاج إلى أن تخلق علما وتكون كوادر فكرية لأن ما يحدث الآن يخرج لنا جيوشا من الموظفين"([2]). وعند هذه الجملة يحدث خلل في التلفزيون ـ وبالطبع ـ تعتذر المذيعة عن الإنقطاع بحجة وقوع خلل فني عبر الأقمار الصناعية لتبث بعدها أغنية. إن الخلل في الحقيقة كان في حديث الدكتور "مصباح الزمان"، فكلمة الحق غير مسموعة، وتحاول السلطة بكل أشكالها إخراسها وهذا ما حدث بالفعل.
إن القارئ لهذه المسرحية من الوهلة الأولى يجدها مسرحية عادية للغاية بأحداثها المستقاة من الواقع، إلا أن المتأمل جيدا في سير الخط الدرامي يجد أن الكاتب يطرح جملة من القضايا والأفكار، ففكرة التغيير مثلا تطارد "السيد حافظ" في كل مسرحياته تقريبا، وفي هذه المسرحية أيضا وهذا ما يفسر عدم الرضا لديه عن الواقع، ويأتي انشغاله هذا على لسان "مصباح الزمان"في حديثه إلى الطلبة.
" مصباح الزمان: يعني إيه الطلبة.. يعني إيه طلاب، يعني إيه مهندسين، بكرة وعلماء بكرة ... وفكرة التغيير يعني قوة التنوير والتبصير يعني أنتم الباحثين عن الحقيقة والشاهدين على الغلط اللي فينا فمتبقوش زينا مع إنكم مننا يعني تبقوا حلم المستقبل اللي يبق حقيقة([3]).
يبدو أن الكاتب في عناء بحثه عن الحقيقة التي كان يطمح إلى تحقيقها والعثور عليها وجيله، قد اقتنع بأن ذلك لم يتم ولن يتم على يد هذا الجيل، لذلك كان يرى في جيل الحاضر والمستقبل الأمل والخلاص - لم لا - هذه الكلمة التي تشع ببريقها كلما غصنا في مسرحية من مسرحياته، باختصار فإن الكاتب يعترف ضمنيا بعجز جيله أو تقاعسه عن إيجاد الحقيقة وربما كان البحث عنها مضنيا وتبقى النتيجة رهن الحلم لا أكثر، لذا فإنه يرى في جيل الحاضر والمستقبل الأمل في العثورعلى الحقيقة وتجسيدها بكل أبعادها، بل إنه يذهب إلى أبعد من ذلك إلى حلمه الكبير في تغيير التاريخ أو بالأحرى إعادة كتابته.
« مصباح الزمان: ..لازم نعمل مجموعة جديدة من الشبان تعيد كتابة التاريخ من تاني.. ثورة 1919 مثلا مين اللي ظلم ومين اللي اتظلم.من القيادة الحقيقية والقيادة الرسمية »([4]).
وهذا يعني أن الكاتب ـ حسب اعتقادي ـ غير واثق في كتابة التاريخ، أو لنقل على الأصح أنه ينظر إليه من زاوية أخرى يراها أدق مما هي عليه الآن. أو ربما كانت هنالك بعض الحقائق التي غيبت، وأخرى قدمت مشوهة، ومن هنا سيكون الشباب )الذي يلقن هذا التاريخ( مشوها فكريا ولا يمكنه أن يؤدي رسالته المتمثلة أساسا في حماية الوطن.
« مصباح الزمان: لا يمكن أن نحمي الأوطان بجيل أرانب وقرود.
الرجل المهم: إنت زودت الحدود إحنا عايزين جيل مسالم بيحب السلام جيل مبيحبش المزايدة والحوار والكلام.
مصباح الزمان: قصدك جيل أخرس .. جيل من العميان .. يبقى على الدنيا السلام » ([5]).
إن هذه المبادئ والأفكار النيرة التي يتوقد بها عقل أحد المفكرين العباقرة الذي اتخذ له الكاتب إسما يدل على أفكاره وعلى مهمته "مصباح الزمان والذي يحاول جاهدا أن ينير الطريق للشباب ويضئ الحقائق أمامه وأن يطهر ما دنس منها، تلك الحقائق التي تحاول السلطة بكل أشكالها أن تطمسها أو أن  تلهي الناس عن معرفتها وإدراك كنهها الحقيقي بشتى الطرق. فإن مهمة الدكتور "مصباح الزمان" وأمثاله هي كشفها، بينما تحاول القوى الأخرى قمعها بطرقها المشبوهة.
« مصباح الزمان: ... إنتم عايزين أقول للولاد إيه أهدافكم.
الرجل المهم: والله هدفنا واضح.
مصباح الزمان: فاهم.. وعلشان كده بصنع لكم جيل يحميكم يحمي الأمة يحمي النيل من القذارة ويحمي النفس بالطهارة ويبني الانسان ليحمي المكان والشارع والحي ... وحلم عرابي ومصطفى كامل وسعد زغلول والنحاس وكل الفرسان المجهولين في تاريخنا على شان مصرنا الغالية تعيش.
الرجل المهم: إسمعني إنت ماتقول كلمتين في إطار المنهج وبس والشباب سبهم ... بس سيبك من الإنشـا
والمقالات والشعارات ... »([6]) .
إن تمسك الدكتور "مصباح الزمان" بمبادئه وقناعاته الشخصية جعلته عرضة للأذى عن طريق جهاز التلفيق والتزوير والإشاعات الذي ما كان منه إلا أن يضع هذا الرجل الفذ موضع الإتهام، والأدلة ـ طبعا ـ جاهزة وبالصور، باعتباره خارجا عن القانون، وما أسهل تلفيق التهم لكل من لهم ذرة من الوطنية والغيرة على الوطن.
إذا تأملنا مليا عنوان المسرحية ) إشاعة ( نجد أن الكاتب كان موفقا للغاية -حسب رأيي- في اختياره ذاك، لأن العنوان ينم عن جملة من الأفكار التي يود أن ينقلها عبره إلى المتلقي، ومن ثمة يمرر بقية الأفكار من خلال النص. وربما كان العنوان تمهيدا لما يود الكاتب أن يمرره من أفكار تأتي مفصلة عبر النص. فالإشاعة في حقيقة الأمر يلجأ إليها ضعاف النفوس من الناس، والمهزوزين في شخصياتهم ،وأولئك  الذين لا يستطيعون مواجهة المواقف بصلابة وبقوة، نظرا لضعف حججهم وبطلان ادعاءاتهم، فيلجؤون إلى الأساليب الملتوية التي تلبي أغراضهم الدنيئة، فإذا وصل المجتمع إلى مستوى تصديق الإشاعات كسيطرتها على أخبار الصحف مثلا، وعلى كل وسائل الإعلام على اختلاف تنوعها وسيطرتها أيضا حتى على الأوساط التي يفترض أنها راقية المستوى وعالية التفكير، فإن ذلك ينم عن إنحطاط كلي واضمحلال في التكوين الفكري والشخصي للأفراد.
 ونجد أن الكاتب قد اختار شخصية من الشخصيات التي تركز الفعل المسرحي تقريبا عليها دونا عن غيرها، وهي فتاة دون إسم، فقد عمد إلى تعريفها بالألف واللام )الفتاة( ومن المؤكد أن الكاتب لم يذهب إلى ذلك جزافا، وإنما قصد من خلاله الكثير مما سنتحدث عنه فيما يأتي؛ فقد اختار فتاة من الأسرة المحافظة، والفتاة أو المرأة عموما، هي أول من يمكن أن تطاله الإشاعة. ويتعلق الأمر على وجه الخصوص بسمعتها وشرفها، والمجتمع الشرقي كما هو معهود لا يحاسب الرجل على أخطائه بقدر ما يحاسب المرأة، والخطأ بالنسبة له )أي للرجل( تقريبا أمر مشروع، بينما تعاقب المرأة وتحاسب أشد الحساب مهما كان خطأها بسيطا أو هينا.
        الإشاعة هي إحدى الأساليب البشعة التي يمكن أن تجعل من المرأة هدفا لغرض من الأغراض الدنيئة للنيل منها، وهو ما حدث مع "الفتاة" التي اختارها "السيد حافظ" كشخصية من شخصيات هذه المسرحية -كما أسلفت - والتي تجد نفسها أمام اتهامات لا حصر لها، بينما هي بريئة منها براءة الذئب من دم "يوسف".
« الأخ: … والإشاعات كثرت حواليكي.
الفتاة: إشاعات إيه.
الأخ: اسألي الناس.
الفتاة: إشاعات عني أنا.
الأخ: أمال عني أنا.
الفتاة: بيقولوا إيه.
الأخ: إنت عايزة تجنينيني ] ينم عن تصديق الأخ لكل ما تناهى إلى سمعه [
الفتاة: ليه يا خويا.
الأخ: مش حاسة الناس بتقول عنك إيه.
الفتاة: قوللي يا خويا .. بيقولوا إيه عني.
الأخ: بيقولوا بتروحي الجامعة كل يو من الصبح للمسا.
الفتاة: وفيها إيه شيء طبيعي.
الأخ: بيقولوا إنك بترجعي متأخرة.
الفتاة: ساعات الأوتوبيس والزحمة  وحنا في الشتا والعتمة بتيجي بدري »([7])
        فالملاحظ أن "الأخ" مقتنع بما يشاع عن أخته، رغم أن ما تقوم به لا يخرج عن حدود العرف والتقاليد والأخلاق، غير أن العصر غير العصر، فما هو عادي أصبح في عداد الشاذ الذي لا يقاس عليه، ربما هذا ما أراد الكاتب أن يقوله من خلال هذا الحوار الذي جرى بين "الفتاة" وأخيها المتعلم، هذا الأخير الذي يعي جيدا حقيقة أخته، ومن أي طينة هي. ولكن الإشاعة كانت أقوى، لأنها ـ في حقيقة الأمر ـ القتل على الطريقة البطيئة وبأبشع صورة.
        وأرى أن الكاتب قد أعطى لشخصية هذه الفتاة ـ المتأثرة بأفكار أستاذها "مصباح الزمان "ـ أكثر من بعد في المسرحية، وأرى فيها أحيانا مصر ـ أم الدنيا ـ التي مرعليها الكثير، ثم أن حديث "الفتاة" عن العم كبير العائلة، يوحي بأنها تقصد شخصية تاريخية مرموقة كان قلبها على أرض مصر يشع عطفا وحنانا وحبا وأملا في غد أفضل، وهي رمز لكل العمالقة الذين أثبتوا حبهم لوطنهم )مصر( بشتى الطرق، كما أن الكلب )في هذه المسرحية( لم يكن مجرد كلب، بل هو شخصية من الشخصيات الإنهزامية الخائنة التي لم تكن الشخصية السابق ذكرها تقدر حقيقتها فعلا، بل كانت تتوسم فيها خيرا، ولكن العكس هو الذي حدث، ولحسن الحظ ماتت. نلمس هذا من خلال ما يلي:
« الفتاة: كلب عمك الله يرحم ... بينك وبينك استريحنا منه في الأيام الأخيرة كان عامل دوشة وراعب الجيران كان مأذي الناس ومؤذينا وعمال يهوهو ليل ونهار وحابس الناس في بيوتهم ]الكلب هنا حسب رأيي - و كما أسلفت الذكر-لا يمكن إلا أن يكون شخصية خائنة، والفتاة ما هي إلا مصر التي تشكو أذى هذا الخائن وأذاه للجيران الذين هم مجموع الدول العربية [ .
الأخ: عمك كان بيحبه  ]يبدو أن العم )الشخصية التاريخية المرموقة( كان يثق كثيرا بالكلب الخائن وهذا ما تفسره إجابة الفتاة )مصر[ (.
الفتاة: عمك كان طيب ..ما كانش فاكر إنه حيكون كده متوحش ...
الأخ:لكن الكلب مات إزاي.
الفتاة: حادثة .. بيعدي الشارع صدمته عربية بحصان.
الأخ: عربية بحصان
الفتاة: بس حصان إيه عربي أصيل ]وهذا يعني أن نهاية هذا الخائن كانت على يد أحد الوطنيين، الذي كان
حب الوطن وإيمانه به شيئا متجذرا ومتأصلا فيه )حصان عربي أصيل. [(
الأخ: هو اللي قال إنك لازم تيجي هنا وتتعلمي.. وهو اللي قال إن الكلب لازم يعيش معاه في البيت.. وهو كبير العيلة وهو كل حاجة .. وهو مات.. مات وسابك وحدك مع الكلب ومات الكلب لاخر.. والإشاعات كثرت حواليكي»([8]). وأرجح أن يكون العم ) كبير العيلة( هو القائد "جمال عبد الناصر" والكلب ما هو إلا  "أنور السادات". ومن هنا فإن الإشاعة تتعلق في بعدها الآخر بما حدث عقب اتفاقيات كامب دايقيد، وما أقدم عليه الرئيس المغتال "أنور السادات"، وقد اعتبر ذلك من قبل الحس القومي خيانة لا تغتفر رغم أن سلسلة هذه الإتفاقيات أصبحت شيئا عاديا في الوقت الراهن، وأن ما قام به "أنور السادات" سابقا، لا يعدو أن يكون إتفاقية للسلام، بل إنه كان سبّاقا إلى هذه المبادرة الأولى التي تعد الأولى من نوعها، والتي هي- في رأي  الكاتب - خيانة إنضوت تحت لواء جديد هو لواء السلام الذي هو استسلام وانهزام. إن ما كان خيانة آنذاك جلب الكثير من القهر المعنوي القومي بالنسبة لمصر التي كانت قبلة الأمة العربية،بل كانت بمثابة المنارة التي تشرئب إليها أعناق كل الدول العربية محاولة أن توحّد صفوفها تحت لوائها، لكن ما قام به "أنور السادات" هدم كل تلك الآمال القومية، ومن ثم أشيع عن أم الدنيا ما أشيع، وطالتها الألسن جراء ما حدث.
        « الفتاة: الناس إلي بتكدب .. بتكدب لأنهم لما مات عمك ]جمال عبد الناصر [ حبوا يرفعوا الثمن وينتقموا منو بالكلام عني ] عن مصر [.. ويوقعوا بيني وبينك ]بين مصر والدول العربية وعلى رأسها فلسطين [.. بكدبة بإشاعة »([9]).
        ويبدو أن الكاتب يدين من خلال ما سبق، "أنور السادات"ونظامه ككل، ويحاول بالمقابل أن ينتشل بلده من غياهب الشكوك والظنون السيئة التي أحاطت به آنذاك، فهو يدين الشخص والنظام ويبرئ الوطن، ويطلق على كل ما حدث إشاعة، ولكن إذا كانت هذه الإتفاقية التي اعتبرتها الكثير من الدول العربية أنانية من هذا البلد (مصر) باعتبار أنه تم استرجاع سيناء على حساب الأراضي العربية المحتلة فلسطين والجولان...، فكيف  يمكن للكاتب أن يلخص كل هذا - وهو قناعة لهذه الدول – ويختصره في إشاعة. وأعتقد أن القارئ  لا يمكن أن يسلّم بما يود الكاتب أن يقنعه به، لأن الحقيقة لا يمكن أن تصبح بكل بساطة مجرد إشاعة، ويعد هذا من قبيل تغطية الشمس بالغربال، اللهم إلا إذا كان قصد الكاتب، أن مصر برجالها؛ فبالأمس لما كان "جمال عبد الناصر" تاج رأسها، كانت القبلة لتوحيد الصفوف ولمّ الشمل - كما أسلفت -، بل كان العزم على استرجاع ما أخذ بالقوة، وبذل كل غال ونفيس لأجل ذلك، ولما تغير الرجل الأول من "جمال عبد الناصر" إلى "أنور السادات"، تغيرت أطراف المعادلة وبالتالي فالكاتب ربما أراد من خلال ما سبق أن يصرخ بأعلى صوته، لماذا تدان مصر لماذا؟ فالإدانة لحاكمها ليست لها ولا شعبها، وله كامل الحق في ذلك إذ لا يمكننا أن ندين الأرض الطيبة )مصر( ولاشعبها وإنما الإدانة كلها للنظام، فإذا كان هذا ما قصده الكاتب فليكن.
ويظهر من خلال حديث "الفتاة" )مصر( أنها كانت تحت تأثير صدمة كبيرة جرّاء تصديق الأخ وابن العم الذي هو خطيبها وكافة الأسرة التي لا يمكن أن تكون سوى الأمة العربية ككل لما يشاع عنها رغم براءتها.
« الفتاة: يا بن عمي عمنا الكبير قبل ما يموت وصاك ووصاني بالأرض وبالزراعة والأولاد الجايين يكونوا متعلمين .. وازاي تنبت الأرض بالفكرة ] ولا شك أن حب الأرض عقيدة وإيمان كبيرة من فكرة الحفاظ عليها. وأن هذا الإيمان يجب أن يكون متجذرا ومتأصلا في الأعماق ويضع من الأشداد وسيري في العروق كالدماء[.
ابن العم: عمنا الكبير الله يرحمه .. كان بيحلم أكثر من اللازم ...
الفتاة: ... إبن عمي يا شريكي في بكرة   ] وهذا يعني ـ حسب رأيي ـ أن ما يهم مصر بالتأكيد كمحور استقطاب يهم بقية المستقطبين بما يجعلهم شركاء في حلم المستقبل الأفضل [
إبن العم : ... كان زمان يا مكان .. كنا نحلم في الموالد واحنا عيال .. نحلم بالمراكب تأخذنا لشط الأمان ...
الفتاة: فاكر المولد الكبير ... يوم ما كنا عند سكة الصابرين وحلفنا اليمين »([10]). والمولد الكبير هو حرب 67 لأنها الحرب الوحيدة التي لمت شمل العرب ووحدت صفوفهم. وعندما يقول الكاتب أو يذكر سكة الصابرين، فهي مكان لكن إسمه يدل على الكثير فالجميع قد تواعد على مواصلة السير على درب ذلك الطريق الشائك والصعب، لتوحيد الصفوف من جهة، واسترداد ما سلب بالقوة من جهة أخرى، والقيام بكل ذلك يتطلب صبرا وأناة، دون الإحساس بالفشل أو التراجع، فالطريق لن يكون مفروشا بالورود ولذا فقد كان لزاما على الجميع أن يتمسك بالحلم بأمل وصبر كبيرين. 
« الفتاة:... جاي دلوقت تقولي بهية ويونس دي إشاعة»([11])، أي أن التراجع مرفوض رفضا باتا وغير مقبول."الفتاة" ترد في حالة ذلك المتأثر برد فعل الأحباب والخلان بما هو غير متوقع ومؤسف لها في قرارة نفسها.
« الفتاة: طول عمرنا بنحب الناس.. ونعاملهم بالنية الطيبة..طول عمرنا.
ابن العم: حسن النية في الزمن ده جريمة..إنتهى عصر الأمان.
الفتاة: إتغيرت يا ابن عمي..أنا.. إنت تقول الكلام ده عني.
إبن العم: أنا مش نبي.]تبرير غير منطقي وغير مقنع لظمأ "الفتاة" الروحي القلق [
الفتاة: إنت غبي ]رد فعل طبيعي من الفتاة (مصر) التي تأبى أن تصدق أن الأهل هم أول من يصدق ما أشيع عنها فما كان منها إلا أن تنعت ابن عمها وكل هؤلاء بالأغبياء، إذ كيف لهم أن يسيئوا بها الظنون وهم أكثر الناس معرفة بها وبنبلها ونبل أهدافها  [.
إبن العم: (يصفعها ) إخرسي ]وليس هنالك من صفعة أكبر من تصديق الإشاعة [.
الفتاة: ]رغم كل شيء تتمسك بخيط الأمل الرفيع لعل وعسى أن يستفيق ابن العم وغيره من سباتهم[ قائلة:إذبح جوايا حلم الصبا ]وهيهات أن يذبح حلم الصبا حلم الأمان والحرية واسترداد الحق المسلوب،  وحلم الوحدة والقومية العربية [... ياضي عيني إطلع من بين الشكوك فارس قوي لأنك مني وأنا منك .. لازم نمشي في طريقين »([12]). ولكن لماذا الطريقان لهما، طالما أن الهدف واحد فلم المشي في طريقين لأن ذلك يؤدي إلى الإختلاف بينهما حتما.
        يحاول الكاتب أن ينقل إلينا عبر هذه المسرحية ـ كما أسلفت ـ جملة من الأفكار، والقراءات المتعددة التي تفضي بنا إلى فهم الرسالة. فمن خلال الحوار الذي دار بين "الفتاة" وابن عمها نكتشف أن الكاتب يتعرض إلى نقطة مهمة وهي الهروب، ذلك الحل السلبي الذي يجعل من الإنسان مجرد شبح لا يمكنه أن يستقر ويواجه، "فابن العم" يتحدث عن السفر الذي سيهرب عبره مما يواجهه، فبدل المواجهة الرصينة المتعقلة يختار السفر كحل هروبي والسفر هو الذي يسيطر على عقول الشبان والشابات على حد سواء لأسباب اجتماعية أواقتصادية أوغيرها. وإقحام الجانب الاجتماعي في هذه المسرحية كغيرها من العديد من مسرحيات "السيد حافظ" له دور مهم، إذ يبرز لنا الكاتب جملة من الأمور التي نحياها  في مجتمعاتنا العربية والتي من كثرة رؤيتنا لها ومعاشرتها أصبحنا نقبلها بل ونشجع عليها ، وذلك نظرا لغياب الوازع الفكري الديني والوطني... فبمجرد التفكير في ترك الأرض الأم كارثة، فما بالك إذا كان هذا الهروب في عز الحاجة، حاجة الأرض والوطن إلى الأبناء. فقضيةالهجرة لا شك قضية يأسف لها كل من يحب وطنه )وحب الوطن من الإيمان(، ولا مفر من القول إن من يترك الأرض التي أعطت وربت وعلمت ليطرح ثمارها في مكان آخر جاحد، وليس لأي كان عذر في ترك وطنه حتى وهو في ظروف قاسية.
« ابن العم: ...أنا بفكر أسافر واسيب البلد.
الفتاة: تسافر.
ابن العم: لما تخلصي الدراسة نسافر] أي بعد أن أعطى الوطن الأم كل ما لديه ودرّس وعلّم تذهب الثمار إلى غيره[.
الفتاة: والأرض.
ابن العم: حسيبها لابويا.
الفتاة: أبوك ماعدش يقدر عليها.. أبوك كبر
]تحاول الفتاة إقناعه بضرورة البقاء لأن الأب قد قدم ما عليه والآن جاء دوره فكيف له أن يتخلى عن دوره هذا بالهروب عن طريق السفر أو الهجرة ونجد أن الكاتب يقرن إلى حد كبير  بين ما أشيع عن "الفتاة" التي نراها في كثير من الأحيان )مصر( وبين السفر، وكأن أبناءها يتخلون عنها في وقت الشدة وهي تحتاجهم كسند لها في محنتها، وربما أراد أن يقول من خلال ذلك فإذا كان الكل قد صدق ما أشيع ويشاع، فما كان لأبناء مصر أن يصدقوا ذلك وليتهم توقفوا عند هذا الحد بل إنهم قرروا الرحيل هروبا من المسؤولية[.
ابن العم: متحاوليش تبعديني عن الموضوع الأصلي
الفتاة: أنا مبعتكش .. إزاي تصدق .. إزاي تسافر وتسيب أرضك
ابن العم: مش وقت السفر دلوقتي إحنا فبهية وأخوها يونس"([13])  .وكأنه يلقي باللوم عليها ويحاول إبعاد نفسه عن الإتهام بالتخلي عنها الذي هو في الحقيقة تخلي عن الوطن وهو في أمس الحاجة إليه.
        على طول سير الخط الدرامي للمسرحية نلاحظ أن الحوار كان ثنائيا لا يتجاوزه إلى شخص ثالث، والطرف الثابت فيه هو "الفتاة" –تقريبا- فمرة مع أخيها وأخرى مع ابن عمها )خطيبها( وهاهي في هذه المرة تواجه الأستاذ "عصر الزمان الفهمان" هذا الأخير الذي يحاول بكل ما أوتي من قوة أن يجعل من "الفتاة" نموذجا فاسدا مثله ومثل كل أولئك الذين آثروا المناصب ومصالحهم الشخصية عن مصلحة الوطن. ويعطينا الكاتب أسوء صورة عن هذا الأستاذ الذي لا يدخر جهدا في إقناع "الفتاة" في السقوط في الرذيلة باسم الحذاقة والمفهومية والظرف، أوالتجسس باسم جمع المعلومات لعمل الأبحاث المؤسسة أبحاث الدولة، يعني بيع الوطن بأبخس الأثمان. وبعد أن باءت محاولاته بالفشل، كلفها بتقديم ملخص عن جلسات الدكتور "مصباح الزمان" معها، لأنهم مكفلين تماما بتصوير وتسجيل كل ما يقوله في جلساته العلنية )أي محاضراته أو مناقشاته( مع الطلبة، ولما اقتنع بعدم جدوى ما قاله قرر أن يبعث بها إلى أحد أصدقائه الذي يعتنق نفس مبادئه، الصحفي "أبو الكلام"لعله يفلح في إقناعها بأفكارهم، ولكن قبل لقائها به يأتي "الوالد" )والد الفتاة( لزيارة ابنته والإطمئنان عليها، وخلال هذه الزيارة تحدث أمور ملفقة تؤكد للوالد صحة الإشاعة، إذ يبدو أن جهاز تلفيق الإشاعات كان يرقب كل خطواتها، لذلك تم استغلال فرصة وجود "الوالد" لبث هؤلاء سمومهم عن طريق الهاتف ليشككوه في ابنته، بل ليؤكدوا له صحة الإشاعة، بعد أن كان يتجاهل، على الأقل، أسئلتها له عن رأيه فيما ذهب إليه أخوها وابن عمها.
        أما الحوار الذي دار بين "الفتاة" والصحفي" أبو الكلام"، فقد كان على شاكلة الحوار الذي دار بينها وبين الأستاذ "عصر الزمان الفهمان"، فهما نموذجان حيان للفساد والخيانة وكل ما هو سيئ، فالصحفي" أبو الكلام" يتحدث بكل جرأة وفخر عن قلمه الذي يساير كل عصر وكل زمن دون أن يكون له مبدأ ثابت يدافع عنه، فقد كان في كل مرحلة مع الأقوى.
« الفتاة: إنت فنيت عمرك مع الملك كنت قلمه .. مع الثورة كنت قلمها مع كل رئيس كنت قلمه مع الشرق كنت شرقيا مع الغرب كنت غربي .. وقلمك هو هو والحبر بيتغير مرة أحمر مرة أخضر مرة من دم الغلابة مرة بتبيع الغلابة مرة مع العبيد مرة مع السادة مرة مؤمن مرة كافر بس قلي إنت مين ؟ »([14]) .
        إن الكاتب من خلال حديث "الفتاة" يعطينا صورة دقيقة عن الصحفي "أبو الكلام" الذي يمثل نموذجا سيئا لكل صحفي ليس له مبادئ يغير لونه كالحرباء حسب الظروف والأحوال وكل هذا لأجل مصالحه لا غير، فكل ما يتعارض معها فهو ضده بلا نقاش ولا يجد "أبو الكلام" حرجا في تشريح شخصيته إجابة عن سؤال "الفتاة" )إنت مين ؟(.
« الصحفي أبو الكلام: حريحك حشرحلك ببساطة (يفتح دولاب يخرج مجموعة أقنعة) الصحافة السياسية يا صبية لعبة باينة ومختفية .. والقضية ببساطة إزاي تحط على وشك قناع ..شوفي )يرتدي قناع( دا ملكنا يا جماله هل من التاريخ هلاله من بيت الأشراف من نسب الشجرة المباركة )يخلع القناع( بص ..هوب شوف .. التاريخ إتغير أهو )يرتدي قناع آخر( الملك دا كان فاسد والثورة هي الحقيقة والشعب هو الشعب ...أدي صورة مع البنات الفاجرات والعاهرات واحنا ضد الإستعمار والإقطاع والإستغلال »([15]).
        ولكن همّ الصحفي "أبو الكلام" كان منصبا أكثر من أي شيء آخر على تشويه صورة الدكتور "مصباح الزمان" في نظر "الفتاة" باعتباره المثل الأعلى بالنسبة لها.
« الصحفي أبو الكلام: أصل الصحافة السياسية يا صبية إتخلقت للّي زيي إبن كل زمن إبن كل عصر واللي عند أستاذك التعبان الكحيان مصباح الزمان يقول عليا دا إبن كلب .. أصلي عارفه أصلي فاهمه دا فاشل دا حاقد على اللي زيي واللي زيي ياما... بس إللّي ماجات له فرصة يبق قاعد على القهاوي يسب فيا شفتي قد إيه أنا مظلوم وحاقدين علي ... تشتغلي معايا »([16]).
        ونفس الهم أو لنقل نفس الهدف كان لدى "الأستاذ فهمان" وهو تشويه صورة الدكتور "مصباح الزمان" عند "الفتاة"، فقد أوضح في بعض مقاطع حديثه أن هذا الدكتور لا يهمه شيء سوى تحقيق الأفضل معتقدا أنه بذلك يسيء "لمصباح الزمان" ولكن العكس هو الصحيح.
« الأستاذ فهمان: متفهمنيش غلط.. أنا عارف إنك زي بنته وإنو شغلاه القضية قضية بناء الإنسان والأرض والحفاظ على الحضارة .. واعرف أنه باس مراته لا مؤاخذة مرتين يوم جوازه ويوم ثورة 1952 وأنه بكى مرتين يوم نكسة 1967 ويوم ما مات عبد الناصر وأنه بيحلم كل خطوة بالتغيير... يحلم في الشارع بأنه يلق كل حاجة صح بس النوع دا من الناس نكدي في حياتنا.. مستفز لينا كلنا..
عايز إيه.. يبق إيه..فكرة إيه.. داحنا كل حاجة في البلد دي »([17]). ولكي تتوضّح الرؤية أكثر لكل قارئ حول الشخصية المضيئة مصباح الزمان فإن "الفتاة" طلبت رأي "أبي الكـلام" عنه، ومن خلال حديثه عنه كانت هنالك وقفات تبرز لنا طريقة قراءة الخونة للتاريخ، إذ هي قراءة خاصة تعطي لهم كامل الحق في تبرير كل ما يقومون به حسب ما يتناسب مع مصالحهم.
« الصحفي أبو الكلام: عارفه دا راجل شديد راجل عنيد فاكر إن مصر دي هي أمه وإلاّ أبوه فاكر نفسو زعيم وإلاّ النديم وإلاّ الوزير راجل غريب، البلد دي طول عمرها اللّي خانها كسب واللّي باعها كسب..واللّي زيه ماتو وهمّ عايشين.. النديم مات غريب.. بيرم إتنفى عشرين سنة واللّي ضحى زي محمد فريد طلع من المولد بلا حمص ومخدش حقه من التاريخ..ولا حتى لقى في آخر أيامه طبق طبيخ.. الراجل دا مفهمش اللّي كانوا زيه على مر العصور يا إمّا إتسجنوا يا إمّا دخلوا مستشفى أمراض عقلية.. القضية يا صبية أن مفيش قضية.. إنتي ليه عايزة تحكمي على نفسك بالضياع وتنكدي حياتك بالقضية الراجل دا مصباح الزمان لو عاقل كان هاجر زي اللّي هاجروا العقول اللّي زيه بيفرحو بيها بيوضفوها في مراكز البحوث بمرتبات كبيرة »([18]).
لقد حاول "الصحفي أبو الكلام" – مما سبق – القدح في شخصية  الدكتور "مصباح الزمان" ظنا منه أن ما يقوله  يسئ إليها بينما كان يضعها في مرتبة أولئك الذين اختاروا الوطن ورضوا بما  قضت به الأقدار ولم يندموا أبدا على ما فعلوه ، لأنهم اشتروا وطنهم ولم يشتروا أنفسهم وهذا عمل جليل لا ينتظر منه المقابل الذي كان يتحدث عنه " أبو الكلام" )الذكر في التاريخ أو الحياة  الكريمة(، لأن هؤلاء لم يكن هدفهم من خلال ما فعلوه هو الحصول على هذه أو تلك، بل كان همهم الأساسي وقناعتهم هي الحفاظ على الوطن من كل يد تحاول تدنيسه. وقد كان حديث الصحفي"أبو الكلام" يتأرجح بين القدح في شخصية الدكتور "مصباح الزمان"، ومحاولة إقناع "الفتاة" بتخلّيها عن قناعتها بكل ما يؤمن ويناضل من أجله الدكتور "مصباح الزمان" لأن إيمانها بقضيته هو السبب الرئيسي في كل ما يحدث لها في حياتها من مشاكل)إنت عايزه ليه تحكمي على نفسك بالضياع وتنكدي حياتك بالقضية( ثم أنه يصل إلى نتيجة يراها منطقية لحديثه، ومنها يشير الكاتب إلى قضية الأدمغة المهاجرة التي يرى فيها الخونة تمام العقل وكماله )الراجل دا مصباح الزمان لو عاقل  كان هاجر زي اللّي هاجروا، العقول اللي زيه بره بيفرحو بيها( إنه يمجد الهجرة ،وتقديم ثمرة الجهد والتعب المضني الذي قدمه الوطن على طبق من ذهب للدول الأخرى، بل إنه  يذهب إلى أبعد من هذا ويعتبر التجسس شيئا عاديا ولا يمكن  اعتباره خيانة، تماما كما قال من قبل الأستاذ "عصر الزمان الفهمان" .
«الصحفي أبو الكلام : التجسس في الزمان  دا مش خيانة .. التجسس في الزمان دا اسمه شطارة اسمه  جمعيات دولية للسلام والأمان اسمه مراكز بحوث وفلوس للمحتاجين اسمه المعونة والإعانة للشعوب الغلبانة »([19]).
ويحاول " أبو الكلام" أن يقنع "الفتاة" أيضا بالعمل معه كصحفية تتابع من خلال مقالاتها التي ستنشرها أخبار الفتيات والفتيان بالجامعة وأخبار الموضة... وما إلى ذلك من الأمور التي تبدو  تافهة جدا بالمقارنة مع أهمية القضية التي  يناضل من أجلها الدكتور مصباح الزمان ورغم رفض  الفتاة لما عرض عليها  إلا  أن  "الصحفي أبو الكلام"  كان قد  وصل إلى نتيجة مرضية وهي أنه أقنعها بأفكاره حتى وإن  رفضت العمل معه في الجريدة .فقد كان همه هو تغيير نظرة "الفتاة" إلى الدكتور "مصباح الزمان"، دونا عن غيرها من الطلبة والطالبات، وذلك –حسب رأيي- لأنها الأكثر تقربا منه والأكثر اقتناعا بأفكاره وما يناضل من أجله، وربما كان تحقيق هذه النتيجة من قبل أعداء الوطن وأعداء الدكتور"مصباح الزمان" ضربة قاضية له، هذا من جهة ومن جهة أخرى، أرى أن "الأستاذ فهمان" و"الصحفي أبو الكلام" يحاولان تشويه صورة الأبطال )كبعد أوسع( الذين ضحوا من أجل مصر، بل هم بذلك يشوهون التاريخ ويحاولون قلبه رأسا على عقب، ومن ثمة قراءته حسب ما يرونه وربما في حديثهم وخاصة ما ورد في حديث "الصحفي أبو الكلام" إذ ضمنه اعتذارا خفيا "للفـتاة" )التي هي في الحقيقة مصر( وتبريرا لما يقوم به وغيره من الخونة، وهو في الحقيقة إساءة لمصر)"الفتاة"(.كما نشتم من حديث "الفتاة" مع هذا الصحفي رائحة استسلام جزئي رغم أنها لا تزال مقتنعة بأفكارها وأفكار الدكتور"مصباح الزمان" وبالمقابل وجدت تفسيرا للأمية الثقافية التي تنتشر في أوساط الشباب الجامعي  وهي أمية متعمدة لأنها- يريد الكاتب أن يقول - في النهاية نتجت مما يكتبه أمثال الصحفي "أبو الكلام" والأذيال  التي معه، وما يدرّسه "الأستاذ فهمان" وغيرهم كثيرون، لأن الهدف هو تخدير هؤلاء الشباب ومحاولة إبعادهم عن القضية الجوهرية وتوجيه إهتماماتهم إلى سفاسف الأمور.
« الفتاة : أنا بس عرفت ليه دلوقت فيه أمية ثقافية في الجامعة ليه ولاد كثير مايعرفوش الفرق بين نجيب محفوظ الأديب العالمي وبين نجيب محفوظ طبيب النسا.. ليه ما يعرفوش طلعت حرب ولا سيد قطب ولاحافظ  إبراهيم ولالويس عوض ولا محمود  شاكر.. ولامين اللي بني مصر ..عن إذنك.. بس قبل ما امشي أحب أقولك مع دا فيه ولاد في الجامعة زي النديم و بيرم التونسي وزي فاروق الباز وزي عبد الناصر ويمكن أكثر ..عن إذنك »([20])
ومن هنا فإن الكاتب رغم نقمته الكبيرة على ما يراه ،إلا أن الأمل لديه لا يزال قائما في تحقيق ما هو أفضل بل في غد أفضل لوطنه. وما يؤكد لنا ما ذهبنا إليه من قبل من استسلام "الفتاة" الجزئي لما  قاله كل من "الأستاذ فهمان" والصحفي "أبو الكلام"، غيابها عن المحاضرات التي يشرف على إلقائها الدكتور "مصباح الزمان" والحوار الذي دار بينها وبينه يبين ذلك ، ويتوضح ذلك من خلال الأسئلة التي كانت  تطرحها "الفتاة"
على الدكتور "مصباح الزمان" ومضمونها لا يبتعد عن أفكار "الأستاذ فهمان" والصحفي "أبو الكلام" ،ويتبين
من خلالها اقتناعها اللاّكلي بما قيل وتنم أكثر عن الإستسلام والواقع المعيش الذي يحكمه أو يسيطر عليه الخونة.وقد وصل يأسها إلى حد التخلي عن الأبحاث والدارسات بحجة، ما الفائدة من كل ذلك طالما أن الخونة  يسّيرون كل ما حولهم حسب رغباتهم.
« مصباح الزمان : فين بحوثك يا كسلانة .
الفتاة: ما قدرتش يا دكتور .. ما قدرتش كنت تعبانة ..ممكن أسأل حضرتك سؤال إيه فايدة البحوث لما تترمي في الأدراج وإلاّ على الرفوف وإلاّ تتسجن في كتاب ضرير ما يتقراش.. إيه فايدة القصيدة والجريدة .. والعلم والحلم ولحظة انهيار وطن »([21]) .
لقد تسلل اليأس بل توغل إلى قلب "الفتاة" ) قلب مصر( التي طعنت أيما طعنة من قبل أبنائها الذين ردوا الجميل بالخيانة فخانوها وجعلوا الجميع يسلم بما أشيع عنها. "فالفتاة" كطالبة يئست من الوضع وتخلت عن مسئوليتها وأبحاثها، ولكن "مصباح الزمان" مثال المناضلين من أجل الوطن كان يرفع من معنوياتها (الذي هو رفع لمعنويات هذا الوطن) ويريد أن يطمئن هذه الأرض الطيبة بأن أبناءها الحقيقيين موجودون وسيقفون معها رغم أنف الحاقدين ولن يثني من عزائمهم ما يقوم به الخونة، فلقد أدرك الدكتور "مصباح الزمان" من خلال حديث "الفتاة" اليائس أنها وقعت تحت تأثير الأستاذ "عصر الزمان الفهمان"والصحفي "أبو الكلام"، وحاول أن يبّين "للفتاة" أن هؤلاء خونة أبا عن جد ،والخيانة تسري في عروقهم، ولا يجب أن تستسلم لأفكارهم المسمومة.
« مصباح الزمان: الكلام دا يأس ما حبهوش..ما علمتهوش لكم.. ما عرفتهوش في حياتي، إنت أكيد قابلتي الدكتور عصر الزمان..عارف أنك قابلتيه وعارف اللي ما تعرفهوش عنه.. دا أخوه الصحفي أبو الكلام وابن عمه سابق أوانه المحافظ اللي باع بعض الآثار والأسرار وهرب مليار دولار وحفظهم في خزانة سويسرا في رقم سري... يبقى جده الكبير اللي خان أخناتون ويبقى عمه اللي خان عرابي »([22]).
أي أن الخيانة عند هؤلاء ضاربة بجذورها في أعماق عائلتهم، وأنه لم يسلم منها أحد من المقاومين والثوريين، وربما أراد الدكتور أن يقول "للفتاة" إن الوطن يباع منذ أجدادهم الفراعنة وليس بالأمر الجديد، لكنه لم يتأثر بهذه الخيانات المتتالية، لأنه كان هنالك بالموازاة ثورات ومقاومات ،كما كان هنالك أبطال يشدون من أزر هذا الوطن، ولو استسلم هؤلاء لكان على مصر السلام لكن "الفتاة" رغم كل هذا تواصل سلسلة الأسئلة اليائسة .
« الفتاة: تفتكر إيه معنى الوطن لما يبقى الإنسان ما لهوش ثمن »([23]).
إلا أن إجابة الدكتور "مصباح الزمان" كانت تؤكد لها بأن الوطن أكبر بكثير من أن ينتظر أبناؤه منه الثمن مقابل تضحياتهم، وتاريخ مصر حافل بأسماء لا حصر لها ضحت ولم تكن أبدا تنتظر ما تتحدث عنه هي ولا تزال الشواهد قائمة وتشهد على ذلك.
« مصباح الزمان: جدك الكبير أحمس عارفاه... ولما مات شالوا تاريخه من على المعابد ومسحوا سيرته..
وفجأة بعد أربع تلاف سنة لقوا بردية في مقبرة تلميذ فرعوني مكتوب فيها دوره اللّي أداه.. ومع كده لما تمشي على كوبري عباس أبقي بصي تحت الكوبري تلقي دم الشهداء اللي ماتوا عليه طرح مدارس ومستشفيات وعمارات قهاوي وغناوي على ضفافه.. مفيش حد بيحب بلده بيستنى الثمن واللّي خانوا ياما واللّي باعوا ياما »([24]). ومن المؤكد أن "السيد حافظ" يود أن يوجه هذا الحديث أيضا إلى كل من يبحث عن مقابل لما يقدمه لأجل وطنه ويريد أن يوصل رسالة إلى كل هؤلاء مفادها، أن حب الوطن ليس له مقابل.
 يتصاعد مستوى الحوار بين "الفتاة" والدكتور "مصباح الزمان"، وهذا التصاعد كان على شكل تحدي واستسلام؛ تحدي من قبل الدكتور "مصباح الزمان" واستسلام من قبل "الفتاة" التي تترجم استسلامها في شكل أسئلة ومواجهات للدكتور ، وكانت في كل مرة تتهرب من حديثه بل من تحديه، وكانت تقاطعه في كلامه بين الحين والآخر، وتلك المقاطعة كانت تدل أكثر على عدم اكتراثها واقتناعها بما يقول، وقد وصل بها الأمر إلى طلبها منه أن يهاجر ولكن إجابته كانت أكثر دلالة على إيمانه بقضيته، وأنه مهاجر داخل وطنه، ومهاجر في مستقبله ومستقبل هذا الجيل )مصباح الزمان: أنا مهاجر يا بنتي جوه الوطن مهاجر في المستقبل معكم(. لكن "الفتاة" تصر محاولة منها في الهروب من الحقيقة التي تعيها جيدا وتطلب من الدكتور "مصباح الزمان" أن يغير تفكيره وأن يلقي بمبادئه عرض الحائط، ولكنه وبإصرار أيضا يسعى جاهدا إلى أن يثنيها عن حالة اليأس واللامعنى التي كانت تسيطر عليها.
« الفتاة: يا دكتور كل خطوة فيها شر حواليك.. لازم تفكر زيهم
مصباح الزمان: زي مين.. مالك جرى لك إيه.. هزوكي.. كل يوم بتركبي الأوتوبيس مش بتشوفي الولاد رايحين المدارس، دول اللي حيرسموا الشوارع من تاني بأسماء الشهداء والشرفاء ويعملو في كل حي جنينه وحيزرعوا على كل نجيلة علم عليه صورة بكرة.] أي أن الأمل هو في جيل الغد ويبقى النضال متواصلا ولا رجوع إلى الوراء، لأن أي تخاذل يساوي هزيمة الوطن ككل. وتختصر الفتاة ما يناضل من أجله الدكتور مصباح الزمان في حلم )لن يتحقق في نظرها( ولم تكتف بذلك بل طلبت منه الهروب عن طريق السفر  [.
الفتاة: أرجوك يا دكتور ماتحلمش ..إنت زي والدي .. أرجوك إهرب سافر.. غادر الزمان والمكان
مصباح الزمان: الوطن إنسان مش مكان ولا زمان.. الناس دول ناس وأنا قد كل دا. التاريخ ياما ناس بتقع وتقف من تاني. إسمعي عايزك تعملي بحث عن مصر المملوكية، أو عن صلاح الدين لما حلم بمصــر وإلا عن حلم (جرس المحاضرة).
الفتاة: جرس المحاضرة ضرب.. عن إذنك يا أستاذ »([25]) .
ويبدو من خلال ما سبق أن الدكتور "مصباح الزمان" كان يعتقد أن "الفتاة" أقوى من أن تهتز ولكن هروبها وتهربها كانا إجابة واضحة لما لم يكن يتوقعه. ثم تتقدم الأحداث لتجد "الفتاة" نفسها في موقف لا تحسد عليه، وهي تكتشف أخاها متخفيا يراقبها، ويأسف لأنه لم يلاحظ شيئا يثبت صحة الإشاعة.
« الفتاة: شفت إيه في الثلث أيام.
الأخ: ماشفتش اللي شافوه ولا عرفت اللي عرفوه وحاارجع إيد ورا وإيد قدام.. لا عارف ولا فاهم حاجة.
الفتاة: ندمان إني شريفة.
الأخ: لا يا أختي فرحان.
الفتاة: أمال إيه.
الأخ: سامحيني الإشاعة بتبقى أقوى من الحقيقة والكدب له ألف وألف لسان. والحقيقة دايما مع إنها قوية تبقى مختفية مع إنها ظاهرة بس مغطيها التراب »([26]) .
إن "الفتاة" )مصر( كانت بكل أسى وبقلب مجروح تتأسف لما اعتقد به أبناؤها وأشقاؤها ؛حتى عندما ثبتت براءتها مما نسب إليها،وكأن هؤلاء لم يفرحوا لهذه النتيجة ربما هذا ما قصده الكاتب حسب رأيي.
ينتقل بعدها "السيد حافظ" بنا، إلى نقطة أخرى يراها في غاية الأهمية وهي كذلك بالفعل، ويتعلق الأمر بتلك الطبقة المتغلغلة كالأخطبوط في كل الأسلاك والإدارات ،وتملك من الحق ما لا يمكن أن يحلم به أي مواطن بسيط، وهي زيادة على ذلك المسهم الأول في خلق اللاتوازن في المجتمع بالسيطرة والتحكم في كل شيء، ويجسد لنا الكاتب ذلك من خلال حوار جمع بين "الفتاة" و"الطالب" وقد وصفه الكاتب بطالب بأنه فاسد كان يحاول بكل الإغراءات أن يقنع هذه "الفتاة" بفسخ خطوبتها من ابن عمها الفلاح ليرتبط بها ولنا جميعا أن نتصور شكل هذه الإغراءات من طالب ثري، ولكنها مع ذلك تصر على ارتباطها بابن عمها الفلاح.
« الطالب:عارف دا جواز مش متكافئ.. واحدة زيك فاهمة وعارفة ومستنيرة ودخلت في أحضان المدينة مش معقول تربط مستقبلها بشاب فلاح.
الفتاة: بتقول فلاح.. م هو أنا فلاحة.. واحنا كلنا فلاحين. مصر كلها و أصلها فلاحين »([27]).
وفي اعتقادي أن الكاتب إلى جانب ما ذكرته من محاولته كشف بعض عيوب المجتمع المصري الذي اجتمعت فيه الكثير من مظاهر الفساد الإداري الاقتصادي والأخلاقي، بسبب تفكك وقع على المستوى الداخلي ونجم أساسا عن غياب المسؤولية والإنضباط والإمتثال للقوانين والمبادئ الوطنية، وسيادة العناصر الرجعية الإنتهازية التي تغلغلت داخل المواقع الحساسة في المجتمع تحت ألف غطاء وخصوصا الطبقة الأرستقراطية،ويسعى من جهة أجرى إلى تبيان أن "الفتاة" (مصر) تتعرض إلى إغراء من قبل "الطالب الفاسد" الذي ماهو في الحقيقة إلا مجموع الدول الغربية التي ترى فيها كنزا بل كنوزا يجب الحصول عليها وكسبها،ولن تجد هذه الدول فرصة أحسن من هذه، التي تواجهها مصر "الفتاة". ففي حين تخلى عنها الأبناء والأشقاء على حد سواء، يفتح لها هؤلاء الأحضان بكل الإغراءات، ولكن "الفتاة" )مصر( رغم محنتها إلا أنها لم تنحن ولم تقدم لهم هذه الفرصة فقد كانت إجابتها أو بالأحرى حديثها مع "الطالب الفاسد" فيه الكثير من الأصالة والإرتباط بالأرض؛ "فالفتاة" - كما أشرت في بداية التحليل- تبدو بمظهرين مواطنة مناضلة ومدافعة عن قناعاتها في بعض الأحيان، وتمثل الوطن الجريح (مصر) في الكثير من الأحيان أيضا.
« الفتاة: تفتكر إيه يخليني أسيب ابن عمي واخذك.. شقة على النيل.. مش حلمي.. عربية مرسيدس مش حلمي.. بيت صغير جنب غيط أبويا يبقى تمام.
الطالب الفاسد: كل واحدة تحلم بالقاهرة وأنا أقولك على حلمي مشاهدة أوروبا.. أصل وضعي غير كل القاهريين.. أنا من عيلة ثرية.. لها سلطات ونفوذ.. عيلة من متشعبة ومتوغلة.. تتوغل في كل الوزارات والهيئات.. يعني تلقي نفسك بتكسري إشارات المرور وتتجاوزي العلامات.
الفتاة: تفتكر كل دي إغراءات.
الطالب الفاسد: دي مش إغراءات دي مقدمات لما هو آت.. حفلة خلوية في الهيلتون.. الزفاف في الشيراتون.. مطرب الشعب الأول أبو الصاجات ومطرب الكاسيت تفشات في الفرح ومهر»([28]) .
إن الكاتب يفضح في هذا المقطع الأخير ذلك الإسفاف والفساد الذي تتميز به الطبقة المسيطرة على كل شيء، فاهتماماتها لا يمكن أبدا أن تكون منصبة على أمهات القضايا التي تهم الوطن، بل هي من التوافه بمكان، بحيث يستحي كل من له ذرة من الإخلاص والوطنية أن يذكرها مجرد الذكر، فهاته الطبقة كما يصفها "السيد حافظ" منغمسة في الملذات ومنشغلة عن مصالح الوطن، باللهو والإستهتار.. وربما أراد من خلال هذا أن يقول بأن مصير الوطن بين أيدي الخونة من جهة وأيدي المستهترين من جهة أخرى.
ويختم الكاتب الحوار بين "الفتاة" و"الطالب الفاسد" )بعد عدم اقتناع الفتاة باقتراحه(، بمحاولته تشويه صورة الدكتور "مصباح الزمان" لديها بنعته بالشيوعي، ولكن ردها وإصرارها على حضور محاضراته بشغف واهتمام كان ينم على أنها استعادت قوتها من جديد ورمت وراءها كل الهموم والظغوط، بل ونجحت في مواجهتها له بشكل خاص.
وآخر صورة ينقلها إلينا الكاتب، حوار بين "الفتاة" و"ابن العم" الذي عاد ليمد حبل الوصال لسبب غريب وهو أنه رأى عمه )كبير العائلة( في المنام )الذي قلنا أنه قائد مصـر ورئيسها الأسبق "جمال عبد الناصر"(.
« إبن العم:..قالي خد بنت عمك على حصان وعاود الأرض قبل فوات الأوان..واوعك تهرب خارج البلاد..الطوفان جاي لا محالة..هنا وهناك.. فوق لروحك] ويقصد هنا بأن ما حدث لمصر سيحدث حتما لغيرها من البلدان العربية،فلم التشتت والتفرق والتفرج من بعيد وإلقاء اللوم،إذ لابد من لمّ الشمل [ ثم يواصل حديثه قائلا :
إحمي نفسك بالمبادئ والقيم.. غطي بنت عمك من الظنون.. قلت له إديني الراية.. وسابني وفزيت وجيت.. دقيت عليك الباب..وقلت يا بنت عمي.. تعالي نعيد تاني الحساب..
 والحب والأحباب يتصافوا دوما وقت العتاب !!.
الفتاة: يعني قلبك ارتاح.. لما شفت عمك في المنام راكب حصان وشايل الراية وهو حي كنت بتقول عليه ديكتاتور ظالم ود لوقت حاسس بيه »([29]).
لم تستقبل "الفتاة" عودة "ابن العم" استقبالا يقع من نفسه موقعا حسنا، وجعلت تقلب صفحات الماضي وعاتبته على كل ما كان، وعلى عدم دفاعه عنها رغم أن معرفته بها جيدة، ومجيئه بكل بساطة لمجرد رؤيته لعمه في الحلم هذا- طبعا- ما لم تقتنع به، لأنها كانت ترى في مجيئه مجيئا غير مبني على قناعة بعفتها وفضائل أخلاقها، وهوما دعاها إلى الأخذ والرد معه في الحديث، أو لنقل إنها كانت تجادله للوقوف على حقيقة تفكيره بأكثر دقة، وتوصلت إلى حقيقة هي أنه لا يزال يصدق ما يشاع عنها ولكن الحلم فقط هو ما قاده إلى المجيء إليها ، ومحاولته لمد حبل الوصال بينهما من جديد بعد أن انقطع عبثا.
« الفتاة: عايزة اعرف..إنت ليه مادافعتش عني يوم ما قالوا الكلام.
ابن العم: ما هم لحد دلوقتي بيتكلمو.
الفتاة: ياه..وجاي تعتذر وأنت لسه سامع كلامهم.
ابن العم: أيوه.
الفتاة: ليه.
ابن العم: ما قلت لك أنا حلمت يا بنت عمي وكفاني اعتذار.
 الفتاة: لو اعتذرت بطول البلاد.. ما تمحي اللّي جرى واللّي صار.
ابن العم: قالوا انك تعرفي فلان وفلان.
الفتاة: وبعدين.
ابن العم: وجالوا كمان إنك.. خلفتي ولد في الـحرام »([30]). وتندهش وتصعق "الفـتاة" من هول هذه التهمة الجديدة التي فاقت كل تصور، وأحست بالإهانة أيما إحساس.
« الفتاة: وانت صدقت.
ابن العم: هو دا اللّي سمعته.
الفتاة: تبقى جاي تدور على الولد.
ابن العم: أيوه.. قصدي لا.. قصدي الحلم.. صدقيني أنا حلمت يلاّ بينا نهرب.. للطهارة.. لأرض البكارى.. لحلم العذارى.
الفتاة: مش عايزة كلام أحلام.. برائتي قبل كل حاجة..البيت قدامك أهو فتش فتش.. شوف إبني فين.
إبن العم: بتقول الكلام ده ليه.. أنا عارف إنها إشاعة.
الفتاة: يبقى لازم تتحدى العالم كله.. وتقولهم إني بريئة.. ولازم تواجههم »([31]) .
لكن إجابة "ابن العم" كانت للأسف الشديد طعنة خنجر في صدر "الفتاة" ، لأنه أعرب عن عدم قدرته على التحدي وهذا قمة الإنهزام. ويصل بنا الكاتب إلى نهاية المسرحية بصورة  يود من خلالها أن يقول بأن عديمي الضمائر قادرون على تشويه صورة الوطن وصورة أي شيء نقي وجميل، وجاهزون لتطبيق دسائسهم وتنفيذ خططهم الخسيسة متى لم تسر الأمور حسب ما يرغبون؛ فتعنّت "الفتاة" وإصرارها على إثبات براءتها، ودفاعها عن مبادئهـا  وقيمها وقناعاتها، ومحاولة "ابن العم" مد الجسور )وإن كان ذلك بحذر( كان كافيا لسل هؤلاء سيف الغدر وتثبيت الإشاعة ، فما كان منهم إلا أن دسوا طفلا في بيتها ،وعندما سمع صوت بكائه كان ذلك دليلا كافيا على ما أشيع وأصبحت الإشاعة حقيقة.
« إبن العم: الحقيقة لازم أعرف الحقيقة.
الفتاة: دي إشاعة.
إبن العم: ولد الحرام أهه.
الفتاة: إيه دم.. دي حقيقة.. الإشاعة بقت حقيقة مش ممكن عملتوها يا ولاد الكلب»([32]). ثم يسمع طلق ناري وينهي الكاتب المسرحية بالمحاضرة التي وردت في بداية المسرحية "مصباح الزمان".
والطلق الناري ربما أطلق على "الفتاة" بما أنها أصبحت مدانة بعد أن كانت متهمة وثبت دليل تهمتها ،ولكن موت "الفتاة" (إذا ماتت)يعني موت مواطنة شريفة خطأها الوحيد هي أنها كانت مرتبطة ارتباطا روحيا بأرضها ووطنها، ولا يمكن طبعا أن يدل بأي حال من الأحوال على موت الوطن ؛ لأن الوطن باق ببقاء المناضلين والمخلصين والأوفياء. وموت "الفتاة" -إن ماتت طبعا- هو حياة الكثيرين وما ختام المسرحية بمحاضرة الدكتور "مصباح الزمان" إلا دليل على الإصرار في مواصلة النضال من أجل البناء السليم للوطن وإعادة كتابة التاريخ لبناء أجيال سوية غير مشوّهة. رغم أن قوى الشر قد بدت هي المنتصرة، إلا أن انتصارها غير دائم وسيبقى دائما رهن الإنهيار طالما أن قوى الخير موجودة.
2- المكان في مسرحية إشاعة:
المكان في مسرحية إشاعة محدد ولكنه غير محدد في الوقت نفسه، لأننا عهدنا من الكاتب لجوءه إلى التعبير عن الكل بالجزء، ومن خلال تعبيره عما يعانيه هذا الجزء يفسح المجال واسعا لتتسع دائرة التعبير فتشمل كل مكان يحمل نفس المواصفات وتجري به نفس الأحداث، لذا فنقطة الإختلاف تقف فقط عند الحدود المكانية الواقعية لا أكثر. فالقضايا الكثيرة والملحة التي يعاني منها المجتمع المصري هي ذاتها التي تئن تحت وطأتها الدول العربية الأخرى، فالعلم مثلا لم تعد له تلك القيمة النضالية، ولا المكانة الحقيقية التي يستحقها والتي لا يمكن لغيره أن يتبوأها، كما أن الوجهة الصحيحة للعلم قد تغيرت وانحصرت في تخريج جيوش من الموظفين الذين لم يتحصلوا بعد تخرجهم سوى على شهادات على الورق تدل بأنهم مروا في يوم ما على مكان إسمه الجامعة. ونجد أن الكاتب يطرح لنا قضية خيانة الوطن وهي قضية قديمة ومتجددة لا تحدها حدود، فهي واردة في أي مكان وفي أي زمان، بالإضافة إلى ذلك قضية سيطرة طبقة معينة على كل كبيرة وصغيرة في الوطن؛ ففي حين يحرم الكثيرون من أمور تعد أبسط حقوقهم، يباح لأصحاب هذه الطبقة ما لا يباح لغيرها، و تلجأ هذه الفئة نظير حماية نفسها إلى التوغل في كل الإدارات ومن ثم فلا مجال لوجود إشارة ممنوع أو توقف(STOP) .إلى جانب كل هذا يورد الكاتب كما لاحظنا قضية أو إشكالية الإستسـلام والتخاذل باسم اتفاقيات السلام ،وهي قضية يمكن أن تنعكس أحداثها على كل الأمم والدول التي اختارت لنفسها طريق التنازل عن الحق المشروع تحت ألف غطاء. وبالمقابل نجد قضايا إنسانية تشغل فكر شخصيات أو بصفة أدق أبطال هذه المسرحية، مما سمح بنسف الحدود الزمكانية، وهو ما يعطينا حرية التنقل من مكان إلى آخر دون جواز سفر. إلا أن بعض الأحداث التاريخية التي نقرأ وجودها ما بين السطور تجعلنا نقف على بعض الحقائق التي يؤمن بها الكاتب ويود أن يجلوها لنا بما لا يدع مجالا  للشك ، الذي يمكن أن يحوم حولها غير أنها - رغم اتسامها بمحدودية الزمان والمكان- تجعلنا نتجاوز حدود مكان وزمان حدوثها لنطبعها أو نطبق ما حدث فيها على أماكن أخرى، وإن لم تتوفر لنا هذه الغاية، فإنه بإمكاننا أن نعدها من القضايا التي تهم السواد الأعظم من الناس في معناها الحقيقي والعميق -طبعا- إذا لم نتوقف عند المعنى السطحي.
        وإذا حاولنا الوقوف بشيء من الدقة عند الأمكنة التي كانت مسرحا لأحداث هذه المسرحية، نجدها تتوزع بين أماكن إقامة اختيارية وجبرية ، وأماكن إنتقال عامة وأخرى خاصة؛وتتمثل أماكن الإقامة الإختيارية والجبرية في بيت "الفتاة" ؛فهو مكان إقامة اختياري وجبري في الوقت نفسه باعتبار أن "الفتاة" مجبرة من قبل أسرتها على عدم مغادرته إلى أي مكان آخر باستثناء الجامعة. ومن خلال الجدول التالي نحدد أماكن الإقامة وأماكن الإنتقال على حد سواء.
أماكن الإقامة
أماكن الإنتقال
اختيارية
جبرية
خاصة
عامة
البيـت
)غرفة الفتاة (
البيت
)غرفة الفتاة(
الجامعة
كافتيريا الجامعة
مكتب الأستاذ عصر الزمان الفهمان
مكتب الصحفي أبو الكلام
مكتب الدكتور مصباح الزمان
الشارع
محطة الأوتوبيس

وتشكل تحركات "الفتاة"  عبر سير الخط الدرامي حركة إنتقال منتظمة بين البيت وأماكن خارجية. وضمن هذا الإطار تلتقي "الفتاة"  في كل مرة بشخصية من الشخصيات ، ويجمعها بها حوار يضيف جديدا إلى سير الأحداث، ويمكن التمثيل لهذه الحركة حسب المخطط التالي.




الجــــــامـــــعــــــة




6/كافتيريا الجامعة
 
 















Text Box: ‏5/محطة ‏الأتوبيس

الجـــــامـعـــة

 



Text Box: بيت الفتــاة ‏‎)‎الغرفة‎(‎
 










3/ الزمان في مسرحية إشاعة:
ما قيل عن المكان ينطبق على الزمان، فرغم تغيره النسبي، إلا أننا لا نلمس حقا هذا التغير، وهذا ما لا يجعل للزمن قيمة التحديد الضروري والأكيد، لأنه يذوب ويتلاشى بتلاشي الحدود المكانية عندما تصبح القضية الأهم هي النضال الحقيقي المتواصل لأجل التغيير، الذي يكون كنتيجة حتمية لاكتشاف الواقع. فالزمان في هذه المسرحية هو الأمس واليوم والغد في الوقت نفسه، إذ أن مجمل القضايا المطروحة، بما أنها لا تحتمل الوجود والحدوث في مكان واحد فكذلك الأمر بالنسبة لحدوثها في إطار الزمان، فجل القضايا تقريبا ممكنة الحدوث في الغد كما هي في حركة حدوث حاليا، وهي بالتأكيد حدثت في الماضي )حسب الأحداث التاريخية(.ويوظف الكاتب  جملة من الإستذكارات، التي يثري من خلالها البناء الدرامي وسنحاول تحديدها فيما يلي :
أول استذكار يصادفنا في هذه المسرحية هو ذلك النوع من الإستذكارات الذي نحتاج عبره إلى سلسلة من القرائن والمؤشرات لتحديد مدته بالظبط ،وهو من نوع الإستذكار الطويل المدى،ويمتد بين اثنين وعشرين سنة فما فوق ،مع مراعاة أن تكون هذه المدة ضمن مرحلة الشباب ، باعتبار أن شخصية "ابن العم"-والتي تعد هنا صاحبة الإستذكار- شخصية مثقفة درست بالجامعة، وقد أنهت تعليمها به.تعود هذه الشخصية بذاكرتها – عبر هذا الإستذكار- إلى أحلام الصبا ،وتستعرض أحلامها الوردية ، ثم تعرّج بنا على الواقع المرّ لتؤكد لنا أن أحلامها تلك لم تتحقق.
« إبن العم : كان زمان كان ياما كان..كنا نحلم في الموالد واحنا عيال..نحلم بالمراكب  تاخذنا لشط الأمان ..وانا راكب حصان ..وانت عروسة المولد أخطفك فوق الحصان واحرسك...كنت باحلم ..وآه لما الحلم يذبحوا السحاب ... والقرايب واللي منّك» ([33]) .
وهنالك استذكار آخر نستدل من خلاله على المدة التي مرت على وفاة "عم الفتاة" ، الذي لم تحدد سنة وفاته تحديدا دقيقا ، ومن ثمة المدة ككل التي مضت على قضاء نحبه، وسنحاول تحديد المدة التي مرت على وفاة هذه الشخصية على الأقل ،-لأن تحديد السنة بالظبط غير ممكن- وذلك حسب ما ورد من معلومات ضمن حديث "الأب" إلى ابنته، أي بالإعتماد على القرائن والمؤشرات الماثلة أمامنا.
« الأب : أول ما مات بكت كل العيلة عليه..تاني  تاني سنة شالوا صورته من على الحيطان..فضلت صورته في بيته معلقة ..في بيته هنا بس ..معلقة..» ([34]).فمن خلال حديث "الأب" نستشف أن مدة وفاة أخيه أي العم هي سنتان أو بالكثير أربع سنوات، إذا ما اعتبرنا تكرار كلمة )تاني( سنتان اثنتان تضـافان إلى السنتين الأخريين اللتين أشير إليهما بكلمة )تاني( الأولى، ويعد هذا الإستذكار من النوع القصير المدى.أما إذا أجزمنا بأن العم أو كبير العائلة هو الرئيس والزعيم العربي "جـمال عبد الناصر" فإننا نستدل مباشرة على سنة وفاته من التاريخ الحديث وهي سنة 1970.
كما نصادف في هذه المسرحية استذكارا طويل المدى ،ولكنه أطول مما نتصور ،ذلك أنه لاينتمي إلى
ذكريات الشخصية المتحدثة )"مصباح الزمان" ( وإنما هي ذاكرة شعب بأكمله. ويعود هذا الإستذكار إلى أربعة آلاف سنة، إذ نتعرف من خلال حديث "مصباح الزمان" على شخصية تاريخية فذة ولكن طمس تاريخها عمدا ، إلاّ أن القدر شاء أن تتضح معالم هذه الشخصية بشكل أكثر وضوحا ، وتبيّن دورها في الرقي الفكري والحضاري ، وكل ذلك عبر اكتشاف أثري.
« مصباح الزمان :جدك أحمس عارفاه ... لما مات شالوا تاريخه من على المعابد ومسحوا سيرته .. وفجأة بعد أربع تلاف سنة لقوا بردية في مقبرة تلميذ فرعوني مكتوب فيها دوره اللي أداه ..» ([35]).
        إلى جانب الإستذكار يوظف "السيد حافظ" في هذه المسرحية الإستشراف، ويتعلق الأمر في الإستشراف الأول بجيل المستقبل وماسيقوم به مستقبلا من أجل الوطن،إذ يقول : « مصباح الزمان : ...لما كل يوم بتركبي الأوتوبيس مش بتشوفي الولاد رايحين المدارس دول اللي حيرسموا الشوارع من تاني بأسماء الشهداء والشرفاء ويعملوا في كل حي جنينة وحيزرعوا على كل نجيلة علم عليه صورة بكره »([36]).أما الإستشراف الثاني فيأتي في خضم الحلم الذي حلم به "ابن العم" ) خطيب "الفتاة"( ويتضمن نظرة شاملة عن المستقبل،يقول الكاتب على لسان "ابن العم" : « شفت عمك في المنام ..شفته راكب حصان .. وماسك في إيده راية خضرا وسيف.. وقاللي فز قوم ...شرخ جامد جوا جدران  البيوت قلت له.. أعمل إيه والطوفان جاي لامحالة !؟ .. قاللي خد بنت عمك على حصان وعاود الأرض قبل فوات الأوان .. وإوعك تهرب خارج البلاد  !الطوفان جاي لامحالة  .. هنا وهناك ..» ([37]). هذا كل ما وظفه "السيد حافظ" في ثنايا هذه المسرحية من استذكارات واستشرافات ، ولكن الواضح هنا هو أن النظرة إلى الزمن تختلف من شخصية إلى أخرى، فعلى سبيل المثال نجد أن الزمن بالنسبة لشخصـية "الرجـل المهم" – ومن خلاله كل شخصية تعتنق نفس مبادئه – يتساوى فيه الماضي والحاضر والمستقبل طالما أن هذه الفئة هي المسيطرة على كل شيء « ...إحنا امبارح والنهارده وبكره »([38]). أما الزمن بالنسبة للدكتور "مصباح الزمان" فهو المستقبل، ولكن بشرط أن يبنى هذا المستقبل على أنقاض الماضي غير المزيف، وذلك بإعادة بنائه من جديد وهذا لا يتأتى إلاّ بإعادة كتابة التاريخ.نفس النظرة نجدها لدى "الفتاة" فهي لاتختلف في رأيها عن مثلها الأعلى الدكتور "مصباح الزمان". أما بالنسبة "للأب" ) والد "الفتاة"( فنظرته إلى الزمن تختلف عن الآخرين ،ذلك أن الزمن قد تجاوزه ،ويشبه في الكثير من الأحيان التاريخ الذي يريد الدكتور "مصباح الزمان" إعادة كتابته على يد جيل الحاضر ،ونكتشف ذلك من خلال الحوار الذي يجمع بين "الفتاة" ووالدها.
« الأب : أنا كبرت يا بنتي ..
الفتاة : يعني بقيت أكبر من الزمان ..
الأب : الزمان ما لهوش كبير يابنتي ..
الفتاة : إنت أقوى من الزمان ..
الأب : دا كلامنا هو الرباية .. كان يقول إن أبو زيد أقوى من الزمان ..
الفتاة : ده كلامك لي وده اللي عايشة بيه ..
الأب : أنا ضعفت يابنتي وما عدتش حمل كلام .. كنت فاكر لما أكبر ح يسألوني الكبار والصغار .. لقيت إنه في الزمان ده كل واحد وله صوت  وله مسافة وله طريق لوحده ..يعيش لوحده .. ويمر لوحده فيه ..ده زمن غريب .. وانا خايف عليكي »([39]). يبقى أن نقول إن الكاتب جسّد اختلاف وجهات النظر إلى الزمن ، عبر شخصيات مسرحيته ،ولاشك أن ما طالعنا به من رؤى ، إنما انطلق فيه من الواقع المعيش دون مغالاة أو زيف.
4- بناء الشخصيات في مسرحية إشاعة:
أما فيما يخص الشخصيات فهي شخصيات كالنماذج التي تحدثنا عنها في مسرح "السيد حافظ" عموما، فـ"الفتاة" نموذج للبطل الثوري الرافض للوضع المزري الذي تعيشه، تدافع عن أفكارها وعن مثلها الأعلى الدكتور "مصباح الزمان"،حتى أثناء استسلامها أمام ما قاله "عصر الزمان الفهمان" والصحفي "أبو الكلام" اللذان شرّحا طبيعة العلاقات في مجتمعها ؛ والتي لا تخضع تحت أي ظرف من الظروف لتلك المبادئ والأفكار والرؤى التي يتشدق بها –حسب رأيهما- الدكتور "مصباح الزمان"،فإنها ) أي "الفتاة" ( كانت تحت ضغط اكتشافها لواقعها ومحاولتها إيجاد تفسيرات لما كانت تلاحظه، ولكنها لم تكن تجد له إجابة للأسف الشديد. ولكن رغم ذلك لم تتخل عن أفكارها ومبادئها التي كانت مقتنعة بها تمام الإقتناع، حتى أثناء مجادلتها للدكتور "مصباح الزمان" كانت تحتفظ في ذاتها، بقناعتها الخاصة. أما شخصية الدكتور "مصباح الزمان" فهي شخصية تكتسب دورها كشخصية مجازية من خلال إسمها، وتلعب هذه الشخصية دور المصباح الذي يحاول أن ينير هذا العصر المظلم نتيجة تلك المتناقضات والمتضادات التي تميزه، فعن طريق الكلمة والعلم يحاول أن يرسم حدود النضال ،ومن أين يجب أن ينطلق التغيير؛ فقد ارتأى أن يشمل التغيير في البداية التاريخ بإعادة كتابته للحصول على أجيال سوية وهذا تعبير من هذه الشخصية عن رفضها للكثير من الأمور وعلى رأسها نمطية كتابة التاريخ،« مصباح الزمان : ..لازم نعمل مجموعة جديدة من الشباب تعيد كتابة التاريخ من تاني .. ثورة 1919 مثلا مين اللي ظلم واللي اتظلم من القيادة الحقيقية والقيادة الرسمية» ([40])، ولكن هذا الرفض لا يتعدى حدود الكلمة.
أما شخصية "ابن العم"، و"الأخ"، فهما شخصيتان سلبيتان، وكلاهما يتسم بشخصية مهزوزة اتباعية وسلبية، لأنها لا تحاول أن تدافع عن كيانها أو عن جزء منه ("الفتاة") أو محاولة دحض الإتهامات والإشاعات المنسوبة إلى شرف العائلة بالحجج والبراهين، فكل ما يقال بالنسبة لكليهما يصدق بلا جدال ولا نقاش، حتى وإن كانا على دراية كاملة ومعرفة كلية بأخلاق شخصية "الفتاة"، وما يحز في نفس هاته الأخيرة هو أن كليهما متعلم ومثقف،ولكن لا العلم ولا الثقافة استطاعا أن يعطيا صبغة أرفع في التعامل مع الأحداث لهاتين الشخصيتين. وما يزيد في إثبات سلبيتهما، هو أن "الأخ" يحزن لأنه لم يلاحظ شيئا ذا أهمية يثبت به الإشاعة التي أطلقها الناس « الأخ: ما شفتش اللي شافوه وما عرفتش اللي عرفوه وراح أرجع إيد ورا وإيد قدام..لا عارف ولا فاهم حاجة »([41]) . أما "ابن العم" فيتراجع عن تصديق الإشاعة نسبيا لا لشيء إلا لأنه رأى حلما، أي أن ركيزته في نفي الإشاعة ركيزة واهمة «ابن العم: ...قصدي الحلم..صدقيني أنا حلمت..يلابينا نهرب للطهارة... »([42]).
أما شخصية "الأب" فتبدو باهتة الملامح وهي أيضا شخصية سلبية فلا هي صدقت الإشاعة ولا هي لم تصدقها فتدافع عن "الفتاة". ودور هذه الشخصية كان منحصرا، وقد كان الانحصار مقصودا من قبل الكاتب، ولكن بالمقابل كان لها دور بارز في توضيح نظرة الكاتب إلى الزمن  في الوقت الراهن .                                                         
وإذا عدنا إلى الشخصيات الشريرة في هذه المسرحية نجدها تكتسب هي الأخرى دورها من خلال أسمائها باعتبارها شخصيات مجازية فالأستاذ "عصر الزمان الفهمان"، انطلاقا من إسمه ندرك أنه ذلك الأستاذ الذي عمد إلى أساليب منافية تماما لما تعلّمه، وكأنه بذلك فهم طبيعة العصر فتماشى معه إلى أبعد الحدود وكان مثالا حيا للواقع؛ هذه الشخصية الشريرة شرها لا يتعدى كونها تتصدى "للفتاة" باعتبارها نموذج لمن سيحمل المشعل الذي تسلمته عن طريق العلم من الدكتور "مصباح الزمان"، إذ كانت مثالا للطالبة والمواطنة المثالية التي يمكنها أن تكمل الرسالة التي بدأها أستاذها، بل إنها الأمل الأول في التغيير، لذا فقد كانت تشكل إلى جانب أستاذها "مصباح الزمان" ثنائية متكاملة، وهذه الثنائية عبارة عن كابوس يقض مضجع الأستاذ "عصر الزمان الفهمان" وأمثاله.
أما الصحفي "أبو الكلام"، فإسمه يدل دلالة قاطعة على أنه مثال للشخص الذي لا يمتلك أي شخصية مستقلة, فهو يعتمد على شعار)أنا مع الأقوى( وهذا ما يتضح من خلال دوره في المسرحية، إذ لا يلبث أن يبدل قناعا بآخر يتماشى مع مركز القوة وكانت له نفس المحاولات مع "الفتاة"، وذلك بغية تحطيم حلم الدكتور "مصباح الزمان". أما "الطالب الفاسد"، فهو إسم على مسمى؛ ويدل إسمه أيضا على خطته الدنيئة التي  يسعى من خلالها جاهدا إلى إغراء "الفتاة" بكل ما هو مادي لكي يبعدها عن نضالها الجوهري وقضيتها الحقيقية التي تتمثل في حماية الوطن. وهذه الشخصيات الشريرة  كما لاحظنا عبر سير أحداث المسرحية غير مؤذية بالشكل الكبير كغيرها من الشخصيات الشريرة في مسرح "السيد حافظ".وحتى شخصية "الرجل المهم"
تقتصر على تلفيق إشاعة للدكتور "مصباح الزمان" عن طريق جهاز التلفيق والتزوير، وهو ذاته الذي لفق الإشاعة "للفتاة" التي تسقط ضحية في نهاية المسرحية ، وإن كانت تلك النهاية تستنتج فقط من طرف المتلقي ولا يضعنا الكاتب معها في مواجهة مباشرة وترك لنا حرية التخيل لما حدث.                                    
         وأشير إلى أن هناك تناغم بين هذه الشخصيات يكمن في الصراع من أجل البقاء، والبقاء يكون بدفاع هذه الشخصيات باختلاف توجهاتها عن وجودها. أما مستوى الحدث الدرامي فهو يتصاعد بشكل مكثف ويصل إلى ذروته عند كل حدث جديد يطرأ في سير حياة "الفتاة وبناء هذه المسرحية كان محكما مكننا إلى حد كبير من إستيعاب أفكار وآراء الكاتب الواردة ضمنه.
ومن جهة أخرى نجد أن الكاتب يوظف العديد من التقنيات ،من بينها اللافتات أو اللوحات وذلك للتعليق على بعض المواقف، بالإضافة إلى الأغاني ، وأول لوحة تصادفنا هي « .. تنزل لوحة على النافذة .. ممنوع الخروج ليلا والعودة قبل الخامسة ... ثم تنزل أغنية تعبر عن الموقف »([43])، وقد جاءت هذه اللوحة وكذا الأغنية مباشرة بعد الحوار الذي جمع بين "الفتاة" و"أخيها" الذي فرض عليها عدم التأخر في العودة إلى البيت حتى وإن كانت لديها محاضرات. كما وظف الكاتب أيضا لافتتان أخريان الأولى منهما جاءت للتعليق على الموقف الذي تعرضت له "الفتاة "مع"ابن عمها" وذلك حين طلب منها عدم التحدث مع صديقتها "بهية"،وتقول هذه اللافتة « ممنوع التحدث مع بهية »([44]). أما اللافتة الثانية فتتضمن نفس الموضوع ،مع اختلاف بسيط وهو أن هذه اللافتة تكون متبوعة بأغنية تحمل عنوان ) غاب القمر يابن عمي (،ويقول الكاتب « تنزل لافتة ممنوع التحدث مع بهية « تنزل أغنية غاب القمر يا بن عمي » »([45])، ولكننا نجد بأن هذه اللافتة في غير موضعها لأنها تأتي مباشرة بعد الحوار الذي يجمع بين "الفتاة" والأستاذ "عصر الزمان الفهمان" ،ولا توجد هناك أي علاقة بين الحوار واللافتة وكذا الأغنية ،لأنهما تتناسبان مع الموقف السابق الذي وردت بعده اللافتة الأولى.كما نجد أن الكاتب وظف أغنية للتعبير عن موقف مهين تعرض له الدكتور "مصباح الزمان" من قبل "الرجل المهم" ومن معه ،إذ يقول : « الرجل المهم : مالها .. عيب عليك لما تبقى راجل كبير وناقص .. دي قد بنتك يا أخي .. عيب .. خدوه
 ) يسحبون أستاذ الجامعة ( « ظلام مع موسيقى وأغنية تعبر عن الموقف » ([46]).
5/البناء اللغوي لمسرحية إشاعة :
أما لغة المسرحية فهي في معظمها لغة عامية(مصرية) اعتمد عليها الكاتب اعتمادا كبيرا لينقل أفكاره وآراءه ،خاصة وأنه انطلق بأحداثها من مجتمعه ففضل أن يكون الحوار بسيطا ومعمقا في الوقت نفسه بهذه اللغة العامية، واستعمل في بعض الجمل اللهجة الصعيدية، باعتبار أنه اختار أسرة "الفتاة" من الصعايدة في مصر وهم مثال الأسرة المحافظة التي تعتبر الشرف والعرض تاج الرأس وضياعه يعني ضياع كـل شيء ولا يستعاض
عنه إلا بإراقة الدماء ، وقد كان اختيار الكاتب موفقا للغاية. أما التعبيرات التي لجأ إليها فنجدها تجسد الحدث الدرامي في كل مشهد درامي، ثم إن الكاتب انتقى اللغة التي تنقل في أمانة بالغة الفكرة. ولغة المسرحية اعتمدت كثيرا على الحوار الواضح الذي أسهم في إيضاح تلك الأفكار، كما أن الكاتب عمد إلى توظيف اللغة العربية الفصحى في المواقف التي تقتضي استعمالها فيها كمحاضرة "مصباح الزمان"؛ وقد استعان أيضا في هذا العمل باللافتات التي تعبر عن بعض المواقف، وكذا الأنغام أو الأغاني التي تدعم الموقف أو نهاية المشهد الدرامي .كما وظف "السيد حافظ" في هذه المسرحية بعض الأمثال  التي تزيد من قوة المعاني  وتسهم أكثر في توضيحها ، كالمثل الشعبي الذي أورده  الكاتب على لسان "الأب" الذي كان في موقف نصح لابنته التي ترد على حديثه بمثل آخر . ولابأس أن نسوق هذا الحوار لنقف بشيء من التفصيل عند هذين المثلين « الأب : أنا مش عايزك تحضري للراجل ده محاضرات.. ولا يكلمك في التيليفون .
الفتاة : ليه يا بابا.
الأب : يابنتي الباب اللي يجي لك منه الريح سده واستريح
الفتاة : هو بيقول ..الريح لو جالك عالي .. إعلاله ما تطاطيش.
الأب : هو مين ؟
الفتاة : مصباح الزمان »([47]) .فنلاحظ أن "الأب" وظف المثل التالي ) الباب اللي يجي لك منه الريح سده واستريح ( ،أما "الفتاة" فقد وظفت المثل التالي ) الريح لو جالك عالي .. اعلاله ما تطاطيش(، وهما مثلان متضادان ؛ فبينما "الأب" يدعو إلى الإستكانة والهروب من المواجهة وتحمل المسؤولية ، يدعو الدكتور "مصباح الزمان" – على لسان "الفتاة"- إلى المواجهة والصدام مع الواقع ، ومجابهة كل القوى المضادة وذلك من موقع قوة لا من موقع ضعف. ونجد أن الكاتب مقتنع أيما اقتناع بالمثل الذي ورد على لسان "الفتاة"؛ إذ نجد أن شخصية "جابر حسن عبد الواحد الصعيدي" في المسلسل التليفيزيوني ) عصفور تحت المطر ( حينما يواجه شخصية "أبو الوفا" بحقيقتها يوظف الكاتب على لسانها ذات المثل بالإضافة إلى أمثال أخرى ليبين شخصية المواطن المصري الحقيقي . يقول الكاتب على لسان هذه الشخصية : «إنت المصري الفهلوي اللي الإيد اللّي مايقدرش عليها يبوسها ، واللّي يجوّز امي أقولو ياعمي ، واللي الريح لوجالو عالي يطاطي ، إنما المصري الحقيقي الجدع ابن البلد هو اللي الإيد اللي ما يقـدرش عليها يقطعها ، واللّي يجوّز امو يقولو يا جوز امي ، واللّي لما يجيلو الريح عالي يعلالو ما يطاطيش  »([48])    
أما نهاية المسرحية فتكون بمشهد ميلو درامي فرغم انتصار إرادة الشر إلا أن الخير باق وهو المتمثل في "مصباح الزمان" الذي سيبقى في كل زمان، فبقاء الشر يوازيه بقاء الخير وتلك هي سنة الحياة.                                                                                            



([1]) إشاعة: السيد حافظ.الهيئة المصرية العامة للكتاب 1994.
([2])- م.ن.ص 4.
([3]) م.ن.ص 12 .
([4]) م.ن.ص 16.
([5]) م.ن.ص.ص 13/14.
([6]) م.ن.ص.ص 14 / 15.
([7])  م.ن.ص.ص 7/8.
([8]) إشاعة : السيد حافظ.ص.ص 6/7.
([9]) م.ن.ص 11.
(\

0 التعليقات:

إرسال تعليق

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More