شهادة
المتوهج أبداً.... !
بقلم : رجب سعد السيد
*****
أحب كتابة الشهادات ، وأقبل عليها، لأن فى كتابة الشهادات تحرراً من (الموضوعية) ، التى تفرض عليك أصولاً ومنطقاً وتجعلك تكتب وفى ذهنك الآخرون، أما الذاتية التى تتميز بها الشهادات، فهى تعنى الانحياز الواضح (الصريح) وغالباً، فإن من يقوم على "كتابة شهادة" لا يفعل ذلك إلا عن حب وبحب، فلماذا يقوم بـ"دلق" ذاته على ورق، إن لم يكن من أجل حالة من الود الصافى؟ وهكذا – بهذه المواصفات – أكتب عن (السيد حافظ)...
يشاركنى السيد حافظ تاريخ الميلاد : سنة (النكبة) 1948، ومن ثم يشترك فى كل ما مرّ بالوطن من أوجاع وأسقام... تاريخنا الوطنى فى نصف القرن الماضى هو تاريخ رجل مريض، يجبر ويزعج أبناءه! ولست أدرى متى كانت المرة الأولى التى التقيت فيها بالسيد حافظ، ولكنى أذكر بدايات التعارف بيننا، فى صالون الشاعر صبرى أو علم، وكان ذلك الصالون يجمع معظم المشاركين فى الحياة الأدبية والثقافية بالاسكندرية، منذ منتصف الستينات، حتى سافر أبو علم للسعودية فى الثمانينات. وقد لفت نظرى بشدة ذلك التوهج الشديد فى السيد حافظ ، واشفقت عليه. ذلك التوهج المبكر يعنى احتراقاً سريعاً. كان السيد حافظ نبتة جديدة، تشق سطح التربة – لم تكن تربة جيدة، فى معظم الوقت – وتحاول أن تستقيم تحت الشمس. كان الأمر يحتاج لمهارات خاصة ليستمر النمو، وليعرف الجميع أن يتحدث لغة مختلفة.. لم يشأ أن يرتدى أسماك القطيع، فاختار لنفسه مساءاً متفرداً، فكان عليه أن يضاعف من طاقته : ليشق طريقه المختار، وليرغم الأخرين على أن يلتفتوا إليه ، وهو يسير بمنأى عنهم!
إننى أٌرأ الآن سطوراً من كتابه المسرحى (حبيبتى أنا مسافر) ، الصادر بالعام 79 ، وأجدها لا تزال محتفظة بطزاجة الولادة. لقد كانت الدراما هى الأقرب إلى ذات السيد حافظ أعطى لها معظم جهده ، فأنتج ما يزيد عن الخمسين مسرحية. كان يكتب مسرحه فى زمن كانت له أعمدته المسرحية التى تقوم عليها (كهانة) ذلك الفن. ثم إنه كان يكتب – حيث يقيم – فى تلك القرية الصغيرة على ساحل المتوسط الاسكندرية . وبالرغم من كل هذه الظروف ، استمر (ينحت) مسرحه : كاتباً ومخرجاً وناقداً. وكنت أحسده : كيف يجد كل هذه الجرأة ، ليكتب لغة مسرحية خاصة مختلفة، ويجمع من حوله كل هذه الوجوه الشابة العاشقة لفن المسرح، ويقدم على مغامرة الإخراج المسرحى.. ومن أين يجد الوقت والجهد لذلك كله؟. لقد كنت اكتفى بيوم واحد بالأسبوع يوم الاثنين – لأحضر أمسية نادى القصة ، فى قصر ثقافة الحرية ، أما السيد حافظ كان يمضى فى هذا القصر وقتاً أكثر مما يمضيه ببيته، وقد أثمرت هذه الحياة المرهقة.. جاءت منها بذور طيبة لحركة مسرحية رائعة بالثغر، وأسس السيد حافظ فى قصر ثقافة الحرية مسرحاً طليعياً، كان أحد نجومه شاب خلق ليكون ممثلاً مسرحياً، هو نجم الكوميديا الحالى أحمد أدم.
ولم تتحمل (الثقافة الجماهيرية) آفاق أحلام وتطلعات السيد حافظ ، الذى عين بها مديراً لقطاع الدراما.. وكان يتعرض لمضايقات إدارية ، وانتهى به الأمر مغادراً للوطن، الذى كانت أحوال الحياة فيه لا تتيح لموهبة بحجم موهبة السيد حافظ أن تعيش كريمة مستريحة.
وفى (الكويت) ، حيث حط الرحال، لم يجد البيئة اللبديلة، إذ كان عليه أن يستمر فى صراعات حادة، كانت تشى بها خطاباته لى، حتى نجح فى أن يثبت وجوده ، وبالرغم من اشتغاله بالصحافة ، وهى مهنة قاتلة لروح الفن، فإنه لم يتخل عن المسرح، بل لقد انتج إضافة عدداً من الروايات والمجموعات القصصية. لقد غادر السيد حافظ الوطن، ولكن الوطن لم يغارده.. طرح قضاياه.. دافع عنه، بالرغم من تاريخ طويل من الإحباطات.. غنى له.. نعم .. إن مونولوجات بعض أبطال مسرحيات السيد حافظ هى – بالواقع – غنائيات للوطن ، بكل ما بها من (قرارات) و(جوابات). وكنت – طول الوقت- أقول : ربنا يستر على هذا الولد (الماغنسيوم) ، ولكنه ظل يمتلك القوة والقلدرة على أن يظل كالماغنسيوم ، متوهجاً ولكن ، من غير أن يحترق ويذوب!
وانتهت الحقبة الكويتية، واختار السيد حافظ أن تكون العودة إلى المهد.. إلى الاسكندرية. وقد كان – فى هذا الاختيار – رومانتيكياً، فى زمن التصالحات والتربيطات والمصالح التى تبيح المحظورات. وأسس فى مدينة الاسكندر مؤسسة ثقافية طموح، هى (مركز الوطن العربى للنشر والإعلام – رؤيا) ، الذى استنزف قدراً من جهده وماله، ثم خيب آماله، ربما بسبب الحاجة إلى إدارة، وربما بسبب أن طموحاته كانت أكبر مما تسمح به الظروف والمواصفات السائدة. قد كان السيد حافظ يخطط ليقوم ببعض أعمال وزارة الثقافة!
ومنذ ربع قرن، صدر السيد حافظ كتابه (حبيبتى أنا مسافر) بكلمة يقول فيها:
" لا أريد أن يكرمنى الوطن العربى، بعد موتى، ويقول: رحمه الله، كان عظيماً...
لا أريد أن يكتب عنى فى المجلات والصحف ، بعد موتى : إنه عبقرى ، أو عظيم.. إلخ.
أريدكم أن تكرمونى وأنا أعيش بينكم كأنسان.. أريد أن أعيش بينكم، وأن تفتح الحوار حول الكلمة المضيئة، بالقيمة الجدية، بالأصالة والصدق، بحق الفنان فى أعادة ترتيب الأشياء وصياغة هذا الواقع من جديد..."
وأنهى شهادتى بالدعوة إلى أن يكون تكريم السيد حافظ بان يلتفت النقاد – أكثر- إلى : لغته المسرحية – لغته القصصية ، وخصائص أدبه المسرحى والقصصى، مع دعوة خاصة لإبقاء أضواء كاشفة على جانب مهم من نتاجه الإبداع : أجب الطفل.
فيا أيها العزيز ، دائم التوهج، لك فى القلب المودة، وعلى اللسان التحية. إن توهجك هذا – الذى هو نار فى الطبيعة، غير أنها نار تضيئ ولا تحرق.. هذا التوهج يجعلنى – فى أحيان كثيرة، أفكر فى أنك لم تعط – بعد – كل ما عندك، وأننا فى سنوات قادمة – أطال الله عمرك – سنحظى بثمرات ثم نضجها، أو بقوارير خمر تعتقت ، وتنتظر كؤوسنا !
بقلم : رجب سعد السيد
الاسكندرية الأربعاء 10/3/2004
0 التعليقات:
إرسال تعليق