رسالة من المبدع الكبير
د. عبد الرحمن بن زيدان
الأخ العزیز
المبدع الفنان السید حافظ
تحیاتي الصادقة
وبعد
فقد حارت كلماتي وحرت مع حالتي الموزعة بین صھد اللحظات وتعب السنین في خطواتنا
وانفاسنا. الجیرة قلق والقلق سؤال، والسؤال تأمل والتأمل قراءة لصفحات الحیاة في للعمر،
وقراءة للعمر في الحیاه، وقراءة للإنسان، للمجتمع، للعالم الغامض فینا وحولنا .
ترددت كثیرًا في أن أكسر القلق أو ان أجعل الجفاف یستولى على معنى المداد وعلى بلاغة
الكلمات والصفحات، ترددت في أن أمزق القرطس، لكن ھذا التردد كان یتبخر أمام الطموح
المتجدد في المسیرة، وكنت مع الأمل الملم إرادتي في خطوي لأواصل التواصل مع
الأصدقاء، مع الكتاب ، مع الواقع والخیال لأقول لنفسي : " بقدر ما أنا أنتظر وصول
الرسائل من أصدقاء العمر فھم بكل تأكید ینتظرون وصول الخطابات والأخبار وأنفساس
الحیاة في الخطابات .
بین الھلع في الحیرة والتردد ، وبین نبض التفاؤل في غفوة التفكیر، صرت أرسم كلماتى
بإكسیر الحیاة، وصرت أطرّز رؤیتھا بانتظار الذي یأتي والذي لا یأتي ، وصرت أقلب
الصفحات، أقرأ رسائل الأصدقاء ، فلا أجد إلا قطرات التشاؤم تملأ بلاغة الكلمات التي تسافر
نحو حتفھا، أو أنھا ترحل إلى حیاتھا الجدیدة ، أو تحلم ببعثھا الجمیل .
لا أرید أن أحكي عن صمتى في السنوات الأخیرة، ولا أرید أن أبحث عن الأسباب والدواعي
التي رمت بي وبكل جیلي – في دوامتى الحیرة والقلق والعجز عن الكتاب والرد عن
الرسائل، لأن الواقع أقوى وأشرس وأعنف من حلم الكلمات في حوارات المسرحیات، في
السجالات ، في النقاش حول الصمت والكلام، حول الثقافة، حول دورھا في زمن العولمة
الذي أراد أن یبتلع ما تبقى من أصالة في أصالتنا .
أخي السید حافظ
أتساءل في سؤالك ، كما أنت تتساءل في سؤالي: ألا توجد نقاط التقاء بین المبدعین
والمسرحیین العرب؟ ألا توجد تقاطعات حول ھذا القلق المشترك الذي یجمعنا ، ویوحّد صیغة
اسئلتنا الوجودیة؟ ألا توجد بؤر توتر فینا توحّد نظرتنا للذات المتشظیة، وللعالم الملتھب؟ ألا
نتشارك في رؤیة الألوان كما ھي ، أو نراھا كما مسختھا أیادي الواقع المسئ ؟
عندما أقرأ رسائلى، وأسمع إلى كلماتي، وأصیغ السمع إلى ھمساتك وتنھداتي بین أھرامات
مصر، وبین كتب التاریخ والجغرافیا والأدب والفلسفة، أشعر أنني أنا الذي كتبت ھذه
الرسائل، أو أن ھذه الرسائل انكتبت بنا وبذواتنا لأن جیلنا ھو جیل التحدیات، والانكسارات،
ھو جیل الرھانات الرابحة والخاسرة ھو حصان طروادة بكل الاكراھات التي یحملھا في رحمھ
فیختار أبطالا من واقع عنید وصلیت ومتسلط ، أو أنھ یختارنا – نحن – أبطال مرغمین للسیر
في المسالك الوعرة التي لا تفضي بنا إلا إلى متھات العبث واللامعقول.
الآن صدیقى السید – وبعد تفكیر عمیق وھادئ وواقعي ، كنت أسمھ صوتي أثناء التفكیر،
وأسمع صدي صوتي وھو یحفزني كى أعود على ذاتي وإلى إیقاع الحیاة كما ھي ، وأتجاوز
بحتى الصوت والكلمات وبحة معاني الكلمات، وفى مخاض ھذا التفكیر ایقنت أن حلمنا
الصغیر، وطموحنا الكبیر ، وإصرارنا على تغییر الواقع، وإبدال السلبیات بالإیجابیات ، كان
موضوع سخریتي كومیدیات سیاسیة ساقطة ، وكان تیمة سخریة أعاني راقصة بدون ثیاب،
وكان ثرثرة الأفلام الماجنة التي أصابتھا دوخة الربح ، ونشوة التفاھة وحلاوة المشروب
المسكر الذى یعانق الدخان الطالع من أنف الصور والألوان والأماكن والأزمنة الشاحبة.
الان سأعود إلى الكتابة ، سأرجع إلى التواصل مع أصدقاء العمر، كي تعلن الصفحات حقیقة
وجودنا الذي ضیعتھ الایدلوجیات الضیقة التي تخرج عن إجماع الأمة والوطن، سأعود إلى
عشقي، إلى التصوف الذي یفتح لنا كل مغلق وغامض ومحجوب لفھم ما یحبّره الأصدقاء وما
یكتبونھ، حتى أقنع نفسي أني لم استلسلم لاغراءات القلق والیأس والقنوط والانطواء ، لأن
إرادة جیلنا - رغم الداء والأعداء – قویة، لا تعرف المساومة أو البیع والشراء، وھي الخصال
التي شعرت بنبضننا في كل الكتابات الأدبیة التي تقف شاھدة على منبر الوطن، لتعلى
صوتھا ، لا تخاف لومة لائم، فیفضي بھا موصعنا كي تسیر شھیدة في عصرنا.
أخى السید
بعد العمل في التعلیم والتربیة والتكوین من سنة ١٩٧١ إلى عام ٢٠٠٥ وبعد البدل السخي
من أعماري، شعرت أن ظروف البحث الأكادیمي والعمل داخل الجامعة صار عبث اً وأضغاث
أحلام بدون مردودیتى ، وبدون أمل ، وأن مستوي التعلیم صار ضحلا، كل سنواتي صارت
عجاف اً تحرق الأعصاب، وتحد من الكتابة والإنتاج والاختلاف، لھذا قررت أن أغادر الجامعة
– كلیة الآداب والعلوم الإنسانیة – بعد أن حصلت على تقاعد مبكر... وھذا سیفتخ لي مجالا
واسعاً لأعید ترتیب لحظات العمر في عمري أو لأرد للصفحات البیضاء بماءھا وحیویتھا
بالكتابة التي كنت قد غادرتھا ، أو نحن الذین غارناھا .
ھذه المغادرة الطوعیة للجامعة، ستمنحنى عمرًا إضافیًا كي أحقق ما كنت قد أجلتھ ، وسأبدأ
بتأثیث زمن قراءة جدیدة للإبداع العربي وسأقرأ مسرحیاتى لأكتب عنھا وسأبحث لك بالأسئلة
التي تغوص ف عمق تجربتى وفى بلاغتى ھذا العمق ، سأكتب عن مسرحنا العربي الذي بدأت
تبتلعھ أفواه المتسلطین على الفنون والآداب ، ساكتب عن رموز ھذا المسرح سواء الذین
غابوا ، او الذین یعیشون محاصرین بالمسخ الذي تفرضھ ثقافة الاستھلاك.
سأخرج إلى الوجود كتابًا كان یعیش على إیقاع التأجیل، موضوعھ الأساسى المسرح العراقي
، لقد أنھیتھ الآن ، وسأعمل على إخراجھ إلى النور بعد ظلمات التأجیل والتردد ، وعندي
كتاب حول المسرح العربي ، وآخر حول الكاتبات العربیات ، ثم ھناك كتاب جمعت فیھ كل
الحوارات التي أجرین معي ، ثم كتاب یضم حوارات مع مبدعین في المسرح العربي.
أخى العزیز
أتمنى أن نتواصل ، أن نختلف ، أن نتألق ، أن نواصل الشغب الفكرى، والجدل ، والنقاش من
أجل الثقافة والمجتمع اللذین نبحث عنھما، ولنغفر أخطاء أطفالنا الذین نریدھم أن یكونوا
أحسن منا ، لكن ما نراه في ھذا العالم المحمل بثقافة الاستھلاك والمسرخ واللذة البائسة لا یثلج الصدر، ولا یبعث عن التفاؤل ، لكن صبرًا أخي ، صبرًا فإننا نداوي أنفسنا بالتي كانت
ھي الداء – الأسئلة – الكتابة – المراجعة – الأحلام.
من أجل الجیل الصاعد ، الداء ھنا ھو التظھیر من وسخ الحیاة وأدرانھا ، الحیاة التي نریدھا
أن تكون جمیلة لكن لله غالب..
أتمني أن تكون بألف خیر ولنوحد أنفسنا وطموحنا لمواصلة المسیر..
أخوك
عبد الرحمن بن زیدا ن
١ یولیو ٢٠٢٤
0 التعليقات:
إرسال تعليق