نون النسوة برواية "كل من عليها خان"
كنه العنوان ونون النسوة...
دكتوره جميلة مصطفى زكاى الجزائر
يشكل العنوان في الإبداعات الأدبية والفنية النافذة التي تفسح المجال أمام القارئ ليلج معالم النص مستكشفا مضامينه وأفكاره ومكامن الجمالية التي يحفل بها، كما ييسر معرفة نمط النص ونوعه بغية وضعه بمكانه المنوط به، كذا لتيسير إقبال المتلقي على المجال أو الجنس الإبداعي الذي يود الاطلاع عليه والإلمام بمكنوناته.
يؤدي العنوان دورا جوهريا في فهم المعاني العميقة بالعمل الإبداعي والأدبي لكونه العتبة الأولى التي يدرج بها القارئ طلبا لاستكناه معالمه وعوالمه. وقد يتسلح برؤية أو منهج في مقاربة ودراسة هذا العنوان ونقده والعمل على تشريح مضامينه متى أحسن اختياره وفق ما يتطلبه مضمون العمل ويوائم أغواره.
وعليه، شغل العنوان في ثنايا المنهج السيميائي مساحة واسعة؛ فكان محل نقد وتأويل لفك طلاسمه واستجلاء مواءمته لمعاني النص ومضامينه. وهذا ما كفل له ان يكون أول درج بسلم النص لما بينه وبين النص من علاقة تكاملية...
وعنوان "كل من عليها خان" عبارة عن جملة إسمية تستهل ب"كل" التي توحي بالجمع والشمولية المطلقة، فيأتي بعدها "من" الاسم الموصول المشترك الذي يؤكد معنى سابقه، لكنه يحدد مساحة الإطلاق بدلالته على العاقل الذي قد يكون المرسل أو المرسل إليه الذي احتفى به النص الروائي من بداية السرد إلى نهايته. وقد أصرّ المرسل سرد واقع أليم جمع فيه بين الماضي والحاضر وبينهما تشابه وتماه..
وإذا كان المرسل إليه كيّسا حويطا متفقها حكيما سيتقبل هذا الواقع بعلاته، فيعايشه من الاستهلال إلى النهاية، فتبقى عينه حريصة على متابعة السرد وتقصيه في تداخله عن طريق الحكاية في الحكاية والواحدة منها أشد تشويقا وإمتاعا وإيلاما أو حتى إيذانا بالوجع والألم والتقزز إلى جانب الانبهار والدهشة والرعشة..
قد يدل الاسم "من" على عموم العقلاء وحتى المجانين الذين يملاون المعمورة إيجابا وسلبا، بخاصة إذا تم فحص الجار والمجرور الذين ذيلا "من" والضمير "ها" الذي يعود فيه على الفضاء الجغرافي الانساني الذي يتحمل ما يقترفه هؤلاء بصبر وسعة صدر، بينما يقابل هذا الشعور الانساني وهذا العطاء اللامتناهي بالخيانة والجحود والنكران وقد تجسد ذلك بالفعل الماضي الذي ينهي صياغة العنوان " خان". وعلى الرغم من ماضوية الفعل إلا أنه يتماهى بالحاضر دلالة وإيحاء، إضافة إلى ما يحويه من استفزاز وإثارة وجرأة وعصيان...
يبدو هذا العنوان ظاهريا متجافيا مع نون النسوة لكن الجفاء والخيانة نسبيتان.. إذا كانت نون النسوة تعول على التأنيث فهي ضمن هذا الكل الذي تشكلنه وتتحكم فيه ببراعة وراحت تمسك بزمام بنائه حكاية حكاية وحدثا حدثا. ..
وإذا تعود المرسل إليه المقهور قبل الآن على عنوان واحد، فإن كل من عليها خان جاء مرفوقا بست عناوين أُخر تكفل له الحرية في الانتقاء وهي على النحو الآتي:
فنجان شاي العصر – الرائي- العصفور والبنفسج –كل من عليها جبان – كل من عليها هان – كل من عليها بان
يبقى السؤال مطروحا متى سيتم اختيار القارئ للعنوان؛ وهو تاج العمل، أببداية القراءة أم حين يدرك منتهاها؟؟ لا يغبط القارئ أبدا على دلاله ومساحة حريته لأنها عناوين مفصلية لمضامين هذا العمل السردي الذي يعلن العصيان على المضامين والأشكال...وسيحتار المرسل إليه في الاختيار نزولا عند رغبة المرسل الذي عده صديقا وشريكا بهذه المؤامرة السردية فكريا ودلاليا:
صديقي القارئ يمكنك الآن أن تختار عنوانا من السبعة وتبدأ في قراءة الرواية بالعنوان الذي إخترته أنت..
دعك من اختياري فأنت الآن شريكي....
وطالما التذكير بالعرف العربي يحوي التأنيث فلا شك أن الاختيار مُقترح لنون النسوة أيضا، ومالا يؤنث لا يعول عليه... ؟؟؟!!!! وعلى الرغم من أسلوب التعدد بالعنوان لكن "كل من عليها خان" تصدر وأوحى وعبر ودل ولا يُظن بأي مرسل إليه أنه له ناكر وعنه ملتفت...
مخادنة سهر وشهرزاد
تتربع "سهر" بعرش حكاية الروح الرابعة وهي زوجة منقذ وعشيقة فتحي الصحفي المصري؛ سر خطير لا تعرف به غير سهر وصديقتها شهرزاد القناة الأصلية للبناء الروائي التي يعول عليها في تحمل السرد الحكائي ذي الحلقات المتكاتلة فيما بينها. شهرزاد هذا الاسم الذي يوحي على الفور بالذكاء والدهاء والحيلة والقدرة على الفتك والنيل من متلقيها، كما أنها الأنثى التي تلت ثلة من النساء قبلها لتوقف سلطة الرجل، وتتمكن من دحض جبروته وكسر شوكة تعنته. هي التي أوقفت جرم شهريار وجسدت رغبتها في البقاء، مصدر فتنة واستجابة وسعة صدر وصبر وأناة وتحكم... فانصاع الرجل لحلاوة لسانها وصنعتها الحكائية التي لم تنل من شهريار فحسب بل سيطرت على أعداد من المتلقين لا تحصى ولا تعد...
شهرزاد "كل من عليها خان" تضارعها حنكة في كسب الزوج وخدمته..وهي زوجة حامد الصقر كما كانت لسهر صديقة وأمّا وخالة تحفظ سرها وتنصحها محاولة تفهمها، وهي العجوز(كما أشارت تهاني لزوجها فتحي) والحكيمة التي استطاعت تشريح نفسية فتحي من خلال مقالاته عن سهر.
ومن ناحية أخرى فهي الرائية التي استشرفت ما سيحدث لها عن طريق عطرها فحدثت النبوءة. كما تمتلك شهرزاد مفاتيح الروح والقلب، بل أكثر من ذلك فهي عمدة دبي المتحكمة بنبض شوارعها وأزقتها وأحاسيسها وانفعالاتها" إن شهرزاد هي التى تعرف مفاتيح الروح والقلب.. وحين سكتت شهرزاد سكتت شوارع دبي ..وحين تحزن شهرزاد تحزن دبي..المدن نساء والنساء مدن...وتعود شهرزاد إلى دور الأم النصوح التي تخاف على سعادة بنتها من بلاعة العشق المجنون وتشور عليها بترك حب فتحي وتعويضه بالإدمان على العمل ليل نهار لتتخلص من قوى الهوى القاتل بخاصة وهي خيانة زوجية.
أما سهر فهي المقصودة أكثر من شهرزاد في هذا العمل، إذ تتحول من المذنبة إلى الضحية وتجعل الآخر يتعاطف معها، مع أن علاقتها بالصحفي المصري خيانة زوجية لا تقر بها ولا تقبلها أية ديانة سماوية أو عرف من الأعراف...هي الفاتنة التي سلبت عقول عشرات الرجال قبل منقذ زوجها. وتبدو ظاهريا "أبرأ من براءة الملائكة والندى والأطفال"لكنها تقتل بفتنتها يوميا عشرات الرجال والشباب...هكذا يصور السيد حافظ صورة المرأة فيعتبرها وطنا ومدينة ومسكنا ومرفأ، لكن عشرات النساء تسللن من ثقب روحه فلم يعد يتذكرهن" وقد كانت مدن النساء تحاصره "وتحاصرني مدن نساء متآكلة الأحلام والرغبة والجنون.."
لكن الوطن على الرغم من خيانته له لا يزال يعشقه؛ فهو العشق المنزه عن النسيان والإقصاء والانتقام فيستنكر التوبة والعدول عن عشقه" كيف أتوب عن عشق وطن زنت به كل الحضارات واحتُل 7 آلاف عاما .."عقد الكاتب مقابلة بين عشقين سكناه فيرجح في كل مرة كفة الوطن... ونسيت أسماء نساء كثيرات مررن من ثقب الروح والقلب المجروح والعشق المفضوح ..ولم أنس أن هذا البلد ذو الجورب المثقوب العطن أهانني طوال العمر...وفي موضع آخر يجيب فتحي عن سؤال زوجته تهاني -هذه الغائبة الحاضرة بقوة التي تحس وتداري إحساسها نظرا لحبها المستميت لزوجها- إن كان لا يزال يحب مصر فيجيبها وقد غالبتها العبرات قدري أن أحب تلك الخائنة ..
وانفجرت الدموع من عينه وهو يمضغ الطعام ببطء شديد ..
يحدث أن ييأس الكاتب من حب الوطن فيستبدله بحب النساء الذي يسهل عليه الظفر به لانه ملك راحتيه وعنفوانه وعطره، بينما الوطن بأياد أخرى تدنس أكثر مما تنظف وتطهر ولذلك يستسلم لسلطة الحب حيث الدفء والحنان "بينما الأوطان بمثابة أكفان "أنت وطني يا سهر وانا وطنك فهذه ليست أوطان بل أكفان ونخدع أنفسنا ونكذب ..الحب أحلى وطن للانسان وليس المكان. الحب يبدأ بالنساء ..وينتهى بحب الألوان." ولا مرفأ للأنا الساردة متى جفا الوطن إلا نون النسوة التي تعوضه عن الجفاء والحرمان..
وجد وفجر؛ كينونة افتتان عجائبية
- وجد المرأة الأسطورية جمالا ورقة وعنادا وإصرارا يفوق التصور، وهي الروح الرابعة لسهر أي أنها نجمت عن سهر.. "كان يا ما كان روحك الرابعة في جسد بنت تسمى وجد .." وهي بنت جارية تركية ببيت أحد الأثرياء الذي أعتقها وزوّجها من حلاق مصري إسمه عمار ظفر بها على إثر حلقه لياقوتي التاجر الثري بمهارة واحترافية فحرر جارية وزوجه إياها. فبقي على حب جميلة وهو يدرك أنها تستحق رجلا أفضل منه لجمالها الانثوي الصارخ "لا تكمل كلامك أنت تستحقني لأنك رجل طيب.. وأنا أستحقك لأن الله أراد أن يسترني ويحفظني وأظل جارية من بيت ثري لبيت ثري.. ومن قصر إلى قصر.. لقد خطفني تجار الرقيق وأنا في بستان خالي في تركيا.. كنا نذهب للبستان كلما أردنا شيئا.. في ذاك اليوم لم يكن خالي هناك ولا العمال وظهر رجلان معهما شبكة وغطاء وأمسكوا بي.
بزغ نجم وجد من هذه العلاقة اللا متوقعة ووجهها يشع نورا، كما ينبعث من جسمها عطر له دخان خفي يثير الرجال ويضرم غيرة النساء فهي أعجوبة أقرتها القابلة يوم ميلادها "وجد.. كانت أعجوبة زمنها، فعطر جسدها دخان خفي يلهب جسد الرجال، ويشعل غيرة النساء..ففي لحظة ولادتها قالت القابلة (الداية) عندما رأت النور الذى يشع من وجهها ورائحة جسدها المعطرة وجمالها : البنت دي غريبة فيها سر, وريحة جسمها مسك .." لطالما يلجأ الكاتب إلى هذه التفاصيل الحجاجية التي تسهم في بناء الشخصية من جهة وتبرر مواقفها فيما بعد، إضافة إلى تهييء القارئ لقبول تصرفاتها وأفعالها حفاظا على التكنيك الروائي. ولذا نجدها فيما بعد يطلق عليها اسم "مسك" عوضا عن "وجد" ويفيد الكاتب على لسان شهرزاد باعتبارها قناة سردية أنها خُطبت منذ سن السابعة وكأن عطرها كان يلفح من يمر بجوارها، لكن أباها كان يرفض.
ركز الكاتب على بعض جوانب المرأتين سهر ووجد ولم يجعل الثانية روحا للأولى هباء، لكنه يركز على جمالهما الأخاذ وعلى استمالتهما للرجال بعطرهما، وكلاهما تثيران غيرة النساء. ويدل ذلك على أن السيد حافظ يعتني عناية خاصة بحبك العلاقات فيما بين الشخصيات حتى تبدو وكأنها نسيج حدثي موحد محبوك بعناية على الرغم من الروافد الحكائية الاخطبوطية.
وإذا تعلق الأمر بفجر وهي زوجة شهبندر التجار؛ فهي تحمل الكثير من القيم الدلالية التي قلما تجتمع بامرأة، فهي فجر الجمال والغنى والدلال، لكنها في الوقت نفسه تملك قلبا من ذهب في معاملتها لوجد وحبها لها وعطفها عليها ومحاولتها مساعدتها بكل ما يتاح لها، ولذلك نلفيها تقول لجميلة وقد أدرك قلقها على وجد منتهاه "إسمعي يا امرأة.. وجد ليست ابنتك بل هي ابنتي واختي وحبيبتى...وبموضع سردي آخر تقول: "خذي الإذن من نيروزى زوجها.. حتى لا تحرجى نفسك أو تحرجيها واعطيها الآمان.. إني احبها مثل بنتي.. مثل اختي.. مثل صديقتي.
قوة السرد تجعلك في حيرة وأنت تفكك ثنايا هذه الشخصية إن كانت تساعد وجد لإبعادها عن زوجها أم فقط نتيجة حبها لها وسكنها بمكمن أسرارها؟؟؟ أم أنها البنت التي كانت ترغب في إنجابها؟؟ لكنها حرمت نعمة الأمومة، ومع ذلك بقيت كالطود الأشم تدافع عن وجودها كأنثى وكامرأة..
يجمع السرد فيما بين المرأتين بفضاء متخيل ومشتهى بمركب النيل العتيد فتندمج وتتماوج شعرية جمال السيدتين "وجد وفجر"وجمال المكان الذي حنّ لتواجدهما به: ... سيدتين جميلتين كل واحدة تجذب القمر إلى كاحل قدميها.. .كانت ضحكات فجر تداعب السكوت والليل والقمر والنيل.. ضحكة بين المجون والسرور.. كانت تقاوم حزنها الداخلي بعدم الإنجاب بضحكات وتوزيع الفرح على كل من حولها, وتشتري بشراهة الذهب والمجوهرات..وما شحذ جمالية هذا الاحتواء هي نظرات الصعيدي المراكبي الذي تتلذذ عيناه بسحر اللوحة الأنثوية الصارخة دون أن يدرك المبتغى والمشتهى" لم يرفع عينه في كل ضربة مجداف عن فجر وجمالها وشعرها المنساب على كتفيها و (وجد). شدته كثيرا. ربما يكون عطرها.الأخاذ. ربما يكون..نفسها..ربما يكون رأى القمر يداعب شعرها..أو شاهد النيل..
وما يحسب لتكنيك بناء الشخصية ب"كل من عليها خان" تلك الحنكة في متابعة فجر المدللة والغنية التي لا يتوقع متابعها تصرفاتها بعد مقتل زوجها؛ إذ تبدو ثابتة الجأش لم تتأثر بهول فاجعتها، فتصدت لجشع المحيط ولم تتراجع عند أول نكسة، كانت تتصرف بحكمة ولين جانب، فمنحت العبيد الحرية التي رفضوها بسبب العجز والفاقة. لم تستسلم لمصابها الجلل بل واصلت إلى أن قادت الثورة ببنات جنسها ضد الظلم والجبروت والقهر والاستغلال البشع...ولذلك لها نصيب كبير من دلالة إسمها؛ فهي الفجر الجديد الذي يأمله الكاتب المتيم بعشق وطنه مصر المكافحة عبر أزمنة التاريخ !!!!! وفي الحقيقة شخصية فجر إثنتان قبل مقتل زوجها وبعد ذلك وثورة النساء هي أيضا ثورتان تجادبتا الواقع والخيال بأريحية...
المتنافرات الضدية لدى نساء حكاية الحكايات
ومن توالد الحكايا التي كانت عبارة عن متواليات سردية تشد الواحدة منها برقبة أختها فلا تزيدها إلى إيحاء وظلالا تذكي وتيرة الحدث الروائي الذي توأم بين التلذذ بالحمولة التاريخية التي عرت حميمية صفحات السرد الروائي وبين تباين الأجناس التي طوعها الكاتب لتصير من روح "كل من عليها خان" ومن بنائها المصمم بذكاء.
ومن خلال هذا التفاعل التواصلي الحكائي انبثقت شخصية "سكينة" وهي كما وسمها الحارس ضمن الحكاية المثخنة بالفضائح التي أثقلت كاهل تاريخ مصر " "مولاتى سكينه سيدة مصر الأولى وأم مولانا المستنصر بالله" ويستدرك الكاتب التعريف بها ليخبر لاحقا أنها (امرأة زنجية) هي التي تجمع بين طبقتين لا تجمعهما إلا زلة غريزية إنسانية. فهي الجارية الزنجية التي أضحت سيدة القصر بإنجابها لولي العهد الذي حاولت "ست مصر" حرمانها منه خوفا على تربيته ومستقبله، لكنها لم تنصع لرغبتها.
وعلى الرغم من الصراع البادي بين سكينة وست مصر إلا أنهما تكتملان لاشعوريا الزنجية وسيدتها والرعونة والدهاء...تعكس المرآتان ذاك الصراع الأزلي بين طبقتين تتعايشان إلزاما وضرورة وأحيانا قهرا وكرها دون أن تتنازل إحداهما عن طبائعها وسلوكها الملتصق بأناها، يُختزل ذلك على لسان سكينة "وإنت مالك.. مش ح تبطلي جواسيسك.. في كل مكان جواسيس.. على كل بيت في مصر جواسيس.. حتى إبني الخليفة المستنصر بالله"
لكن كفة العقل والحكمة ترجح لصالح ست مصر التي تشور على المستنصر بتبصر وتفهم المستبصر السياسي الحكيم الخبير المحنك حنكة الأولين...التي قابلها المستنصر بالنكران وبمناصرته للحرية الخرقاء التي أتت على الأخضر واليابس بعهده. وبقيت ست مصر متشبثة بموقفها إلى أن شاركت بثورة النساء التي جاءت بدلا عن سكوت الرجال...مع أن الظهور الأول لست مصر أبداها بغير ما ظهرت به بنهاية هذا السرد الولود ذهابا وإيابا. فكان التنافر الضدي حتى على مستوى الشخصية الواحدة حفاظا على تعلق القارئ بها وبخطابها الذي بقي متأججا، فلم يعرف الهوادة في المطالبة بالحق المشروع حتى بأقرب المقربين...
لقد حفلت "كل من عليها خان" ببورتريهات" للمرأة المصرية آية في التنوع، فكانت بالضبط مثلما صرحت بذلك الأنا الساردة " قلوب النساء في مصر هي التاريخ السري للمحن وما خفي كان أعظم.." أدمن السرد بنسيجه على المرأة بصفتها محركا لأحداثه عبر حكاياه التي تفاجئ القارئ في كل مرة بنوع جديد وبطراز متفرد لم يكن بحسبانه البتة؛ فمن سليمة العرافة اللعينة التي أشارت على شهبندر بالزواج من وجد، وجعلت النوم يجافي عمار إلى حورية سليلة الحكاية الرابعة إلى جانبها بنتها شحاتة إلى صباح وهنية بنتي الحكاية الثامنة... وكلهن أطلقن العنان لذواتهن وتاء تأنيثهن في كل الاتجات فبحن وصرحن بلا زاجر عقيدي أو سياسي، عولن على البوح والإفصاح وتعرية الذات أمام تعنت السلطة والرقابة أيا تكن فصيلتها ...
المراة ب"كل من عليها خان" خائنة للعرف والعادات والمتعود والمسأنس بالظاهر المثالي الذي يريده لها المجتمع، خائنة لدورها الذي قد يكون ببعض الروايات ثانويا باهتا فهي صاحبة السلطة والقرار حتى وإن بيعت مقابل حفنة قمح "يا تجار مصر..يا رجالها..يا كبارها..مين يشتري بنتي بعشرين كيله قمح..فهي المكافحة والمضحية والجريئة. وناهيك عن صفاتها الخلقية والجسدية التي كانت في منتهى الخيانة الجمالية...وهي الحاملة للسرد شكلا ومضمونا، وصانعة لحكاياه فصلا ووصلا وتيسيرا وتعقيدا إلى أن تصل ببوق السرد وقناته إلى بر النهاية.
وإذا كانت "النساء كالمدن لكل منها سر وأسرار" فإن المرسل هتك حجاب أسرارها ليخرج مكامن درر عملن على تخزينها بالكبت والدهاء والحيلة فقوضن جميعا تلك الحكمة المثخنة بتضعيف المرأة وكسر جناحها كونها لا سلاح بحوزتها غير الدموع...نون نسوة "كل من عليها خان" مفعمة بالسحر والفتنة والعهر والزهد والتدين والعفة والطهر والانفة والكبرياء...فهي الصهصليق التي عرت التاريخ والأنا المصرية حبا وشبقا وخوفا على غد مهبط الأنبياء والرسل تحت نير الصمت الموبوء، فقادت ثورة تاريخية وفنية قلبت موازين المتعارف عليه كتابة سردية تطفح بالجدة والأصالة والتمرد...
0 التعليقات:
إرسال تعليق