"قهوة سادة" للسيد حافظ
من سلطة العنوان إلى حكايا شهرزاد
الدكتورة جميلة رحماني
المملكة المغربية
في البدء كانت الحكاية
ظل حبر الروائي السيد حافظ – الذي تنوع قطافه الإبداعي بين الرواية والمسرح- يخفق شغبا بانِيا لجوهر الجمال الناطق والحقيقي، سخِيا في طرح القضايا الساخنة؛ يطرقُ بابَ التمرد على الأوضاع الاجتماعية والسياسية والثقافية، مشعلا فتيل ضياء السرد. كاتب مشهود له بجرأته وشجاعته المعرفية والثقافية، يعلن موقفه دون مواربة أو خفاء وهو يحدثنا عن كوة ضوء، عبر احتراف هتك الحجب واستنطاق المساحات المسكوت عنها، وكشف المعاني الإنسانية الثاوية في أعماقها. يصيخ السمع لنبضات نصوصه بغية الوصول إلى عمق بوح إنساني قائم على تنوع كوني وشمولي، ممتد إلى تطلعات الإنسانية الرحبة التواقة إلى باحة سلم وقت انبلاج فجر الحرية.
يسألونك عن "قهوة سادة" قل هي:
رواية مصنوعة بذكاء، تحمل بين طياتها حبكة مثيرة ومشوقة. أصر السيد حافظ بإصدارها ضخ دماء جديدة في صلب الكتابة السردية، محاولا تشييد جسور إبداع رجل في جعبته ما يبشر بمستقبل سردي به عمق، وروح، وحياة. فعندما تكون الحروف تائهة على الشفاه، فيعقد معها الكلام؛ ينبثق السرد ويتغلغل الدفْء إلى الأعماق؛ ليتسرب من ثقوب الأيام مزيج من عطر الحكايا.
رواية وأنت تقرأها تطالعك باقات نرجسية فواحة من خلجات النفس والروح والذاكرة؛ ونبض الوجدان، يعطر أريجها دنيا الحب الصوفي. حاملة في ثناياها الشعور الوطني المدثر برداء المعاناة، والمزمل بوشاح الاغتراب، المستعر بلظى نار الألم. حتى أضحت صرخة في وجه الظلم والفقد، حیث حاول الروائي السيد حافظ رسم بدقة معاناة الشعب المصري والإنسان العربي ليكتسب حيويته، فيساعد نهر السرد على شق مجراه. مخترقا التراث اختراقا معرفيا، ومستنطقا إياه استنطاقا فنيا. متكئا في ذلك على التراث والتاريخ والأسطورة. وهو ما أشار إليه في روايته بقوله: "أحبت سهر الجغرافيا والتاريخ ... ذاكرة التاريخ تغذيها بالوهج والخيال" . استلهم التاريخ ليشيد فوقه معمارا من خياله الوثاب، فتمتد معها مخيلته لصوغ التاريخ صياغة جديدة لتمنحه قراءة جديدة بل حياة جديدة. ومنح هذا التضافر بينهما –أي بين الخيال والتارخ- الرواية حيوية ونبضا وحرارة. كما كان بارعا في توظيفه أسطورة شهرزاد اقتباسا وتضمينا؛ دون أن يُخلّ ذلك بإيقاع سرده ولا بنبض كلماته أو بصمات تعبيره، وهي ميزة المتمرسين بالكتابة الراسخين في الإبداع. وهو عنوان ثراء مخزون الأدبي الكاتب وغناه، الذي تمثّـله واستوْعبه، ثم أجراه متدفقا منسابا عصيا على التقليد.
هل أتاك حديث السيد حافظ المسرحي والروائي
الذي ظل لعقود طويلة يبحث عن دائرة ضوء يخرجه من ظلمة العتمة الذي دثرته لفترة طويلة. ليتحوّل السرد على لسانه، وتحت قلمه، إلى أداة بوح يلملم جراحاته فيصوغها في قالب حكائي يروي عبره عنف المتناقضات داخل مجتمعه؛ فأضحى والسرد متلازمين كالظل منذ بدء الحكاية إلى سدرةِ منتهاها. يقول السيد حافظ:" اكتشفت أن حب الوطن والكتابة عناء ألقيت أشواقي على أحرف اسمك يا وطني .. فتحولت على الورق إلى ثلاث زهرات ذابلة" . فاقتراف فعل الكتابة هو فعل إثبات الذات والوجود، وتفجير منابع الإبداع ليجري نهرا من الأحاسيس والانفعالات حتى تروي ظمأ وجودها. وتعبير لصيق بالحياة، ورفض معلن للتبدد والإقصاء. يقول السيد حافظ: "وأبعث في الكلمات ورد الحياة" .
فلا مناص من أن الكتابة لم تعد عنده سردا للتسلية بل هي اختراق لعقل الإنسان، وسحبه من غيابات جب الواقع، ودفعه للاندماج بالنص، لأن: "الروائي كالشاعر يعذبه وعي حاد بالواقع، وإدراك مرير لتناقضاته المخيفة، لذلك ليست الكتابة بالنسبة له مجرد اشتراك مع اللغة أو مغامرة بريئة مع شطحاتها الصافية، بل كانت صورة لوعيه المعذب، وتجسيد لمواقفه الفاعلة في الحياة، مراجعة ضغوطها" . إنها صرخة موجعة ومدوية نكاد نسمعها على جدار الرواية؛ للكشف عما يمور في النفس الانسانية من معاناة، وألم، وقلق، وخوف. ما يؤكده قوله: "أحب البحث عن المجانين في الكتابة لأشبع عطشي للمستحيل" . فعلى طاولة الزمن الجريح ثمة حكايات تستنشق عبق الأمل؛ وهي تبحث عن فسحة من التفاؤل عبر نافذة الحلم المؤجل، يقول السارد: "كلما حاصرني حب الوطن بنيرانه .. وأسهم حقده .. وحاول قتلي .. هربت منه تحت جلد النساء حتى أضمد جروحي قررت أن أكتب مذكرات شاب في العشرين رواية .. ولم لا" . يخرج الروائي كلماته ليبعثرها فوق بياض صفحات حياته، وهو يداعب حرف السرد الذي جمع الكل حوله كأم رؤوم توزع حنانها على كل من سوّل له قلمه أن يدخل غمارها، لتأخذه في حضنها الدافئ كأنها تريد أن تعيده طفولته الأولى وهو متأبط أحلامه وآماله. وما إن صار على بعد حضن دفعته إلى تقمص شخصيات مختلفة، ومعايشة أحداث متعددة في لحظة واحدة. فيلقى ما بيمينه ليعبر عن درامية اللحظة وقساوتها؛ فلا "بديل للكتابة إلا الكتابة" . ففي حضرتها يصمت اللسان؛ ويطلق للقلم العنان ليعبر عن خفايا النفس ومكنوناتها، فتهب نسمات الكتابة محملة برائحة حروف رقيقة اقتلعت من أرض الواقع. يقول: "وجدتني بلا حيلة أمام نور الكلمة وأمام ورقة بيضاء" .
فعندما يختلط حبر السيد حافظ السردي بمشاعره وإحساساته، تنهمر شلالات من البوح والرغبات المتصاعدة في ترسيخ الحضور. ووسيلة لتحرير أحاسيسه؛ والتعبير عن أحزانه وأفراحه، وعن عاطفته المتأججة وعنفوانه المعطّر بمعاني الحب. يقول السارد: "لمن أكتب؟ لمن؟ أكتب لك أنت .. يا من تراني بقلب الأولياء والشعراء والزاهدين والمترفين بنور العشق وللعشق يقين" . فالكتابة عنده بمثابة الرئة التي يتنفس بها، والهواء الذي يتنسم منه. فهي التي ستعوضه بعض ما ضاع منه قهرا؛ ولم يستطع حينها إداركه، يقول: "يا ناهد الكتابة تعوض لي بعض أيام من عمري الذي سرقه الوطن مني" .
جمالية العتبات وشعرية العنوان
شكلت العتبات النصیة حقلا معرفیا قائما بذاته باعتباره مكنونا جوهريا؛ فهي: "ذات سياقات توظيفية، تاريخية ونصية، ووظائف تأليفية تختزل قسما من منطق الكتابة" . بفضلها يصبح من السهل على القارئ الولوج إلى عوالم النصوص وفهم معانيها، وأهم هذه العتبات "العنوان" فبواسطته تنكشف المعاني؛ وتتوضح الأفكار؛ ویتلاشى كل غموض. وهو بمثابة المفتاح الإجرائي المساعد على اقتحام أغوار النص؛ وفتح مغاليقه ومجاهيله؛ واستقراء جل أفكاره الخفیة، ومدى "ارتباط بنيته ومحدداته الذاتية بشروط السياق الثقافي والاجتماعي الذي أنتجه" .
"قهوة سادة" عنوان وَسَمَ به الروائي السيد حافظ روايته، وهو عبارة عن بنية مختزلة، شديدة الاقتصاد لغويا، حيث يلعب هذا الإيجاز في بنية العنوان اللغوية دوره في اختزاله للنص مبنى ومعنى، فإن ما تم تكثيفه وتركيزه سيتم توسيعه وتفصيله في النص الأكبر. وبذلك سيفتح العنوان أفقا توقعيا لدى المتلقي فتتكون لديه فرضيات، إذ لن يدخل فضاء القراءة صفحة بيضاء، وإنما لديه خبرة قبلا. فيصير ثريا ذات إشراق دائم في مساحات المتن. لأن اختيار السيد حافظ لعنوان روايته لم يكن اعتباطيا، بل اعتمده على رؤية فكرية ومرجعية.
"قهوة سادة" عنوان عبارة عن جملة اسمية دالة على ثبات الانتعاش الذي يصاحب شرب القهوة وديمومته. جملة اسمية ذات طابع وصفي إنشائي؛ يغيب عنها الفعل كبنية دالة على شرط الزمان. ومن ثم الإمساك بجوهر المدلول؛ دون العَرَضِ الذي يشي به الفعل. عنوان يلبس دثار القوة، لأن الروائي بحار يجيد اقتناص المعاني وامتلاك الخطاب. بحيث ستصبح "قهوة سادة" محور الكلام السردي؛ وقطب الرحّى في عملية الإبداع اللفظي. وأمارة قوية وعلامة ثابتة على نهل السيد حافظ من نكهتها؛ لينسج رواية حلوة المذاق عصية على النسيان.
فلا ريب من أن القهوة قد احتلت مكانة بارزة في وجدان البشرية كلها؛ ومكانة روحية مهمة في الحياة الاجتماعية والثقافية للإنسان العربي، وهي شراب شعبي لكل فئات المجتمع؛ وشراب أولياء الله الصالحين حيث اقترنت بجلساتهم وحلقات الذكر، وهي أول ما يستفتح الإنسان به تباشير يوم جديد من الشراب. يقول السارد: "الصباح بدون القهوة خطر" . كما كانت جلسات الحكي لا تحلى إلا في حضرة القهوة، "قالت شهرزاد وهي تشرب آخر رشفة من فنجان القهوة وتطفىء ركوة النار: الآن اذهبي إلى بيتك يا سهر تأخر الوقت اذهبي قبل الغروب.
قالت سهر: ونفر. قالت شهرزاد: غدا سنكمل الحكاية يا سهر." . فالقهوة والحكي متلازمان لا ينفصلان عن بعضهما؛ لأن الانتشاء بمذاق القهوة يجعل الحكايا تنساب ماء زلالا، فلا يمل سامعها بل يقول هل من مزيد. وقد ينتشي شاربها حدَّ السكر ولعا بمذاقها المميز يقول: "القهوة قبلات للروح كي تنهض" . مشروب ينبه العقل ويوقظ الروح، إنها ثنائية العلاقة بين القهوة والوجدان، بمثابة الحبل السري الذي يربط القهوة بالعشق، حتى أضحى الحديث عن أحدهما هو استدعاء للآخر. يقول "اشتاق لشرب قهوة سادة معك وارتشاف قبلة مع كل رشفة" . فثمة علاقة ذاتية ذات ارتباط خاص ينبع من حنين نوستالجي للعودة لسحر جنة العشق ودهشتها؛ حاضرة في وعي شاربها وفي وجدانه، وتوازٍ بين اللهفة لشرب قهوة وبين الارتماء في حضن أنثى يقول السارد: "آه في البرد أحتاج إلى قهوة سادة .. وإلى حضن أنثى وإلى سيجارة وإلى وردة وإلى لحم طري يغطيني يدفئني ينسيني أنثى ليس لها مكان إلا في جنة عشقي ولا يعرف قدرها إلا ملك على قلوب النساء مثلي أحتاج أنثاي في البرد والقهوة السادة قبل وبعد المضاجعة" . تأكيد كثافة الحالة الشعورية الطاغية؛ والنزوع لاختراق حدود المسافة بين شرب القهوة واللذة بحثا عما يبقي هذه العلاقة على قيد الاستمرارية.
"قهوة سادة" عنوان مفتوح غير مقيد؛ كما السرد لولبي أبوابه مشرعة، يبرز عناد السيد حافظ لاجتراح مغامرة حكايا أخرى. يقول في نهاية الرواية على لسان شهرزاد: "هي بنت جميلة عاشت في عهد النبي موسى؟ ما اسمها وحكايتها؟ قالت: اسمها نور غدا نبدأ الحكاية" .
ثلاثية الفقد والجرح والاغتراب
يُعَدُّ الروائي السيد حافظ من هؤلاء المبدعين، الذين فجروا منابع الإبداع ليجري نهرا من الأحاسيس والانفعالات حتى تروي ظمأ وجودها. روائي لا حول له سوى سحر حرفه، ولا قوة له سوى عبق كلماتها. طوَّع حرفه ليخرق جدار الصمت كمبدع يحس بالواجب المفروض عليه. يلامس هموم الواقع قصد تغيير كل ما من شأنه أن يسيء إلى إنسانيته، وكإنسان يحترم إنسانية غيره لم يتوانى في تعرية وضع لا يتماشى وحقوق الإنسان ، وفضح القبح وإحداث هزات داخلية ترج الذوات المتلقية. يسجل رؤيته حيال مجتمعه عبر بوابة السرد؛ لنرصد عبرها علاقة جدلية بين الإبداع وبين المجتمع، تلك العلاقة التي يبدو للوهلة الأولى أن المجتمع مفعول به موصوف؛ لكن الحقيقة أنه هو الفاعل لأنه هو الذي كون الكاتب وجعله يقتات منه .
"قهوة سادة" عمل سردي صادر عن وعي حقيقي؛ ونَفَس جديد غير معهود في الكتابة يتغلغل في أعماق الشعب مسجلا نبض الحياة اليومية، راسِما بكل أمانة معاناة المواطن المصري في حقبة تاريخية كانت فيه كل الدول العربية على صفيح من نار "أوقفوا ذبح الإنسان وتشريد الأطفال والنساء .. أعلنوا بقوتكم بأنفسكم: إننا لا نرغب في إنفاق الأموال على السلاح .. كفانا سلاح .. أنفقوا الأموال على الفقراء .. على العلم .. على النهوض بالإنسان في أحراش أفريقيا .. في صحراء آسيا .. أنفقوا الأموال على الأراضي غير القابلة للزراعة .. إن العالم يحتاج إلى الكثير" . يحاول أن يلامس حالة البؤس التي يعيشها المواطن في حقبة تاريخية، ولا سیما في فترة الحرب الكبرى التي طحنت الشعب المصري :" وجدتني حلما يمسح مؤخرة الوطن الذي يضاجعه الأثرياء من عسكر يوليو الذين سرقوا مجوهرات الملك فاروق وباشوات مصر وأصبحوا باشوات هذا الزمان .. وجدتني بسمة على شفاه أطفال لا تعرف الرياء .. وجدتني أعشق كل الأنبياء وأنه من الغباء ألا نشعر أن الإنسان خليفة الله على أرضه وتحت سمائه .. إذا مر قلبي على بابكم أخبروني فقد ذهب يبحث عن وطن ليتدفأ به في هذا الشتاء" . فنجده يسخر قلمه لفضح حالة الاغتراب الحادة؛ ومدى قساوة وقعها حين يعانيها المرء وهو في وطنه، وبين ذويه، إنها حالة نفسية يشعر فيها الإنسان بألم أشد وأصعب. ونجد مثل هذا الاحتدام في قول صاخب للسارد وهو يصف الحكومات العربية بأنها:" نجحت في جعل المواطن العربي يكره وطنه وأرضه ويبحث عن وطن آخر .. في أوربا أو أمريكا" . رسم بریشة دقیقة معاناة الشعب المصري، كما رسم تيه ذات تلوك قسوة الخذلان، وصور البيئة المصرية تصويرا دقيقا، حيث التقط أدق جزئياتها ترتيبا عضويا لتصبح الشخصية حية في الرواية. "نحن التلاميذ لم نكن نحمل فقط الكتب في حقائبنا التي كنا نحملها على أكتافنا .. بل نحمل معها هموم عائلاتنا وأحلامنا ومشاكل بيوتنا" . وهذا لم يمنعه محاولة العثور على بعضه المتلاشي ليرمم كلا روحيا، والاستئناس بحلم يضج بالحياة، منسوج بدفء واستقرار.
جاء سرده طافحا بمرارة الغربة معبرا عنها بأصدق الأحاسيس، إنها غربة دائمة تهيمن بظلالها على هذا النص السردي، يقول: "منذ نشأة القاهرة في العهد الفاطمي وهي متسخة كما قال الجبرتي وحتى الآن .. إحنا شعب غلبان .. كيف نحارب ونحن لا نستطيع تنظيف شوارعنا من الزبالة .. ولا حتى صناعة كبريت صالح للتصدير" . شفاف في فضح القبيح والدنيء، "العربي لا يفلح إلا في مضاجعة النساء" . صارم في التنقيب عن عيون المرارة والمعاناة الإنسانية. يقول السارد: "قتل وحرق هتلر آلاف اليهود في المحرقة .. قتل الأمريكان آلاف الآلاف في هيروشيما باليابان بقنبلة ذرية .. قتل الفدائيون الفلسطينيون مئات اليهود .. قتل اليهود مئات وآلاف الفلسطينيين" . نتلمظ سفرا نُسج في غيابات الوجدان، ونقتفي أثر لواعج الكيان المُكتوية. فنتعثر خلف تنهيدات تعج انكسارا وحسرة، وشوقا دفينا مغلفا بنوبات العتاب، تذرف الروح هسيسا صاخبا يلف نذوبا لا تقبل الإنمحاء. يقول: "العالم والبشر حقراء يشربون دم بعضهم صبحا ومساء" . فبالرغم من أن القهر قد نال، وبالرغم من أن النغمة الرئيسة هي الحزن والفقد، فإن الشعور بالاغتراب والضياع يمثل بعدا آخر قد يمتد إلى الصراع القائم بين الذات والوجود. لأن: "محور الشعور بالغربة والضياع هو في الحقيقة؛ تفريع عن المحور الأساسي العام؛ محور الذات والوجود؛ أو هما يتوازيان على مستويين مختلفين" . فحينما تصطدم الذات بالوجود؛ فإنها تعجز عن تحقيق تطلعاتها وأحلامها لأنها عندئذ تتحرك وتسير وحدها، وتظل محبوسة في إطارها الضيق مادامت تؤمن بمنطقها ونظرتها الخاصة في تقييم الوجود، وهذا ما نلمسه في كلامه:" الفقراء ليسوا أبناء الله على الأرض .. بل أبناء الشيطان .. الفقر الذي وأد أحلامهم فصاروا أعداء بعضهم بلا سبب.. يكرهون بعضهم بلا سبب .. الفقراء أبناء الشيطان في كثير من الأحيان لأن الرجال الفقراء من كثرة التعب والهزال والمرض ..لا يضاجعون النساء .. فيضاجعهن الشيطان نيابة عنهم .. فيخرج أولاد الفقراء مجرمين عشوائيين .. سفهاء .. لا يعرفون الله إلا كلمة لا فعل .. أولاد الفقراء أبناء الشيطان إلا من رحم ربي واصطفى .. أما أولاد الأغنياء معظمهن أغبياء بسبب أكل اللحوم بكثرة .. إلا من وهب ربي وأعطى .. الفقر هو الذي قال للرب لا" .
جعل الكاتب من إبداعه مرآة للنفس الضائعة والممزقة في متاهات الاغتراب؛ التي تلقي بظلاله الكئيبة على ذات السارد، وتشده إلى قاع الرتابة والإحساس بالضياع مثقلة بالآلام، مضمخة بالحزن على ما مضى؛ والتحسر على ما بات سائدا يقول: "أصبحت الحياة مظاهر .. الملابس والأناقة هما عنوان الإنسان أناقة لا ثقافة .. لا شيء يهم بعد ذلك" . حس الضياع والفقد والاغتراب دفعه أن يشعر بفقد الإنسان لقيمة إنسانيته؛ وعدم جدارته؛ أو قدرته على التكيف حتى صرخ بضياع اليقين.
والناظر في سرده يلفت نظره إحساس مريب بوقع الفقر على نفس المواطن، وشكوى صارخة من هوان منزلته الاجتماعية؛ وعدم تقدير المجتمع له، وعجزه عن الأخذ بنصيبه من الحياة. جاء على لسان السارد: "أنا ممن يصنعون ضوضاء أثناء صعودهم وهبوطهم .. دائما أريد أن أشعر أنني من الأحياء بضوضاء الحذاء. أو أثبت لنفسي أني شيء على الأرض" . فبين رفاث من أمنيات سحيقة تنقب الذات عن خلاص، عن فجوة صبح تسكب تباشير شمس وفية تداري اختناقا وثقلا قاسيين. فأخذ من الحياة فوضى ليخرجها نظاما، والاضطراب ليصوغه ترتيبا، والانطماس ليجلوه نورا.
وكمثقف واع بما يجري حوله؛ واع بما يحاك ضد الإنسانية؛ سواء عاش في ظل الاستعمار أو في ظل الأنظمة القمعية المصادرة لحرية الإنسان ؛ يعاني كل أنواع الضياع، إذ أصبح رقما من أرقام المدينة فقد فيها إنسانيته وشل فيها تفكيره، وأصبح عاجزا عن التواصل مع المجتمع ومع ذاته المعطلة. فحين يفقد الإنسان الرضا بما يريد؛ تجف الحياة تماما وتغشاه مسحة من الكآبة لأن الرضا يجلب السرور وفقد الرضا يفجر البكاء من العيون يقول متذمرا: "أنا أتلاشى .. أشعر بأنني غير موجود .. ربما أكون ذبت في الأشعة ورحت إلى السماء لكي أركع تحت أقدام الإله .. أخبره عن رغبتي في أن أكون شيئا. بدلا من كوني لا شيء" . تحول كل شيء إلى مرارة مخزنة حطمت الإحساس بالرضا والقبول؛ وغدت الأيام سجنا أبديا للإنسان، والأرض وجودا ملعونا، القادم إليها مفقود والذي يغادرها مفقود. فهي سجن مفتوح كل شيء فيها غامض، وسديمي يمشي فيها الإنسان كالأعمى لا يفرق بين الليل والنهار، ولا بين القبح والجمال. يقول: " الطغيان لا يعرف جنسية أو هوية .. الطغيان لا يعرف عنوانا أنا أكره الظلم والطغيان" .
لازال ذاك الإنسان الطامع في وقت انبلاج فجر الأمل؛ ينام في الحصباء ويلتحف الألم، يعيش في معمعة الواقع باختياره. وهو إحساس تام بالضياع تتساوى فيه الإرادة الدافعة؛ والإرادة المعطلة. فلا شيء يتغير؛ ولا أمل في التغيير. هو ذا اغتراب الإنسان الذي ضاق من قسر الواقع بعد انقلاب حاله لدرجة أصبح من الصعب – إن لم يكن من المستحيل- معها بوجود شيء يطلق عليه "إنسان". يقول في هذا الصدد :"يا أيها الإنسان.. ما أجمل هذه الكلمة عندما يصبح الإنسان إنسانا أو يوجد إنسان بالفعل في الوجود" . صارت الأيام للإنسان سجنا أحكم إغلاق أبوابه في ظل الهزيمة والضياع، حتى عندما يفيق على صباح يوم جديد فإنه يعيش غربة عن نفسه مادام قد فَقَدَ القدرة على امتلاك ذاته وتحقيق إنسانيته فيها، يقول :" هبطت إلى أمريكا إلى الدمعة الحزينة في عينها إلى تمثال الحرية الذي يشكو لي مهزلة التقدم المادي" . حتى أضحت المدنية بصراعاتها المختلفة وضوضائها، بوتقة تذوب فيها إنسانية الإنسان، ويصبح قطعة من مكوناتها لا يملك القدرة على فرض وجوده وتحقيق ذاته؛ فيمضي في الأرض منقسما على نفس، وحيدا غريبا متلفعا بأحزانه.
وبمكر سردي تشويقي مقصود، من شأنه أن يجذب المتلقي المفترض نحو مشاركة السارد في حلمه، الذي يرجوه أن يتحقق، يقول: "نحن صعاليك الشوارع نملك الحلم والأحلام في بلدنا تداس بالأقدام" . ساعيا إلى التخلص من الاغتراب الذي يستبطنه، والتمرد على العصف النفسي الحاد الذي ينتابه، ويهز مشاعره وأحاسيسه، لأنه لا يستطيع أن يعزل نفسه عما يجري في عالمه فهو يتفاعل مع هذا العالم، ويتأثر به، ومن الممكن أن يؤثر فيه. يقول بإصرار الغيور على حال أمته: "اسمع يا راجل إنت انت ليه ما بتبطلش تتكلم عن مصر والعرب والتغيير.. إزاي بس أغير نفسي قوليلي .. نفسي أكون حمارا وغبيا زي كثير من الناس مش عارف .. يبدو أن نعمة الفهم والثقافة نقمة وعذاب" . فتجده يعتصر من السحاب رذاذا يروي ظمأ أفئدة مفعمة بعشق الجمال، هذا الفيض من العطاء ودفء المشاعر؛ لا يمكن أن ينبع إلا من روائي مرهف الإحساس؛ إنسان عشق قلما يموت في الكلمات ويذوب فيها. فكتب روايته "قهوة سادة" بحرقة وقلق، دون اغتصاب لحظة الكتابة بردة فعل رقيب وحسيب، فجاء عطاؤه متحررا، أبيضا ناصعا لا يخنقه سواد الأغلال. فهو مبدع بتركيبة معجونة بماء الجرأة في تعرية الخلل في المجتمع، وفي القيم، وفي الذات، وفي الإنسان.
الحكي فعل تحرري وانعتاق الذات من سجن الألم
استرفد السيد حافظ من الإرث الأسطوري؛ عبر استغلال الأصوات المندثرة في تعرجات شفهية عريقة في القدم؛ عاملا على تشكيل الواقع الأسطوري وفق رؤية جمالية، تكشف عن تناقضات الحياة. لا تروي أحداثا جرت في الماضي وانتهت، وإنما تصور صراعا أبديا تعرفه الحياة الإنسانية، وهو صراع موجود على الدوام ومظهر من المظاهر الحياتية التي قد تصيب الإنسان في أي وقت وحين.
إنها "شهرزاد" المرأة التي دخلت معبد الحكاية، لتدفع القتل عنها وعن بنات جنسها. المرأة الإنسان التي زرعت وردا لاقتلاع شوك الحقد من حديقة الإنسانية، شهرزاد التي كانت وما تزال قائمة، حكيها مستمر. لأنها لم تقل كل شيء، فحالة الصراع بين الخير والشر؛ الصراع الدائر بين السلطة والشعب في الماضي والحاضر لازال قائما لأجل البقاء والحياة.
"شهرزاد" الأسطورة التي ومنذ القديم نالت حيزا كبيرا من اهتمام كل من سوّلت له نفسه اختراق قلاع لياليها، فكانت تفكيره الذي يفكر به، ويده التي يبطش بها، وعينه التي يرى بها العالم، فلقد كانت سراجه المنير الذي يقتفي أثره. فكما شغلت ابتسامة الموناليزا الغامضة الكتّاب والأدباء والرّسامين والفلاسفة، وأسالت حبر العديد، ظلّت شهرزاد دون ابتسامة، لكن بدهائها وذكائها سلبت العقول، فكانت وستظل اللّغز الذي حيّر وسيحير الأدباء. فهي العنقاء التي تبعث مع مداد كل مبدع فنان.
فلا مناص وشهرزاد بهذه القوة أن يستلهم الروائي السيد حافظ هذه الأسطورة الشهرزادية، فيعيشها كإنسان وناقد لأوضاع اجتماعية وسياسية واقتصادية عاشتها وتعيشها مصر، وكل البلدان العربية بله الإنسانية جمعاء. فشهرزاد الأسطورة مثال للمرأة الذكية والفدائية التي ضحت بنفسها لأجل الحفاظ على بنات جنسها، ومن ثم الحفاظ على الحياة والاستمرارية، هو بعث من جديد يقول: "آه يا سهر لو تعلمين كم أحبك" . فعبر سلاح الحكي تراوغ ملكاً مدفوعاً بهوس الانتقام وتغويه بسلطة المعرفة. وبالحكاية المروية بسحر تقهر الموت؛ وتبعد أطيافه. إذ لم تكن تحكي وتتكلم، وتؤلف فحسب، لكنها كانت أيضا تواجه الرجل، ومعه تواجه الموت من جهة، يقول الدكتور عبد الله الغذّامي: "تدافع عن قيمتها الأخلاقية والمعنوية من جهة أخرى، كانت تتكلم والرجل ينصت، فإذا سكتت تعلق شهريار بصمتها يوما كاملا إلى أن تتكلم مرة أخرى لتمارس عليه سلطة اللغة وسلطان النص" . لتمثل هذا الانتصار العجيب للبريء والضعيف؛ الذي ينجح في تغيير مصيره بمداهنة جلاّده؛ محولاً الحقد إلى حبّ.
نافلة القول لم يحاول استدعاء شخصية شهرزاد التي حظيت بامتداد عبر الزمن للإمتاع، إنما بغرض تشكيل خيوط متينة في النسيج العام للبناء الروائي، وبلورة طرائق مستحدثة تضمّ خواص الأسطورة العجائبية لتؤلّف نسيجا سرديا تلتقي في رحمه أساليب وبنيات تعكس علامات التجريب بمختلف أنساقها، ومن ثم خلق نص سردي جديد. باعتبارها رؤية "مغايرة للأشياء .. ولذلك تكون الكتابة المتشبّعة بروح الفانتاستيك مغامرةً واستجلاءً للبقايا والهوامش والمقصي من كينونتنا المحاصرة بضغط القوانين والمحرّمات وشتى أنواع الرقابة" . ولإماطة ستر طالما حجب شمس الحقيقة عن الأبصار، فهي ببنائها السردي ومضمونها الخرافي تعتبر هروبا من الأوضاع الواقعية المتردية، حدَّ يمكننا القول إن الكاتب يصنع أسطورته الخاصة.
هذه صورتها وذاك شأن الحكي
في النهار تولد الحكاية، وفي أول الليل نحكيها، وفي آخره ننام على وقعها. كان شهريار يسهر كل ليلة مستوحشا فصار سجين حكايا شهرزاد. هذه المرأة التي أوتيت "علم" الحكايا فتسللت لتروي للعالم دور امرأة ليست ككل النساء، أسطورة خلقتها الأزمات والمحن وتواتر الألم. "شهرزاد" أنموذج صقلته الصعاب فكانت أسوة في التحدي، والصبر، والذكاء، يقول السارد: "تلك المرأة الشامخة، أسطورة كل العصور. "قالوا عنها عرافة الجن يمدها عشيقها الجني بالسر .. وأسرار كل البشر .. شهرزاد تحب سهر لأنها تذكرها بشبابها تذكرها بالجمال الذي فتن العقول في شجن .. وألهب خيال الرجال" . فهي لم تركن إلى سيل الدموع، وتخفي وجهها وراء غلالة الحزن وتتوقف عن الحياة. بل لملمت شمل حزنها، وابتدأت غدها بفكر مسؤول يعي حجم ما بانتظارها، وما يحمله من تحديات. متأهبة لتكون في عون كل من لجأ إليها وطلب مشورتها؛ فلا تبخل عليه؛ ولو بالقليل. يقول: "ذهبت أمها بها إلى "شهرزاد" وقالت لها: البنت صارت أنثى. زغردت "شهرزاد" العجوز .. نثرت عليها بخورا به حبهان وعين الشيطان حرقتها في النار" . راهنت شهرزاد/الحكيمة على أن إشاعة الفرح يأتي دوما بالغد المضيء؛ الذي يرتب الأحزان هنا وهناك، حتى لا يدع المستقبل يتوقف عبر زمن مظلم حاسرَ الرأس، مكلومَ الفؤاد. يقول السارد: "تؤمن بكلام شهرزاد العرافة التي تسكن في كوخ بعيد .. شهرزاد لم تتزوج ولكن سميت باسم شهرزاد لأنها أسعدت أناسا كثيرين بقراءة كفهم" .
حققت شخصية "شهرزاد" طموح انعتاق الذات الأنثوية فاستطاعت بالذكاء؛ والقدرة على الإبحار في دهاليز الحكي؛ أن تتغلغل في أعماق الذات الجماعية، وتعبر عن فضاءات الكائن والممكن. وهي في ذلك مسكونة بفكرة انعتاق الذات، وفي محاولة دؤوبة لمعانقة جماليات الكلمة في أقصى درجات اشتغالها وبوحها ومعاناتها. تقول الدكتورة فاطمة المرنيسي في كتابها "شهرزاد ليست مغربية": " السرد فن ننجح أو نخفق فيه لكننا نحتاجه لنحيا ونجعل الآخرين يحبوننا، يجب معرفة الآخر جيدا لإغوائه بشكل أفضل" . فليس خافيا أن شهرزاد جعلت من إنتاج الكلمة/ الخطاب الذي يحررها/ المرأة من بطش الآخر، حيث اعتمدت بدكائها لولبية السرد لإبقاء البطلة سهر على قيد التفاؤل بغد مشرق؛ ينقذها من قبضة كل رجل سولت له نفسه الارتباط بها؛ والاستمتاع بعطرها الساحر، يقول السارد: "لكن العرافة شهرزاد قالت لأبيها: لا .. ابنتك ستسافر إلى بلاد النفط .. بلاد الذهب تتزوج من رجل ثري وتفتح لها المدن ألف نافذة نور.. وستتمرغ في الذهب .. الأب ينتظر أن يأتي هذا الفارس القادم الرحالة .. لترحل معه سهر على سفينته .. ويكون علمها شمس وقمر .. كما قالت العرافة العجوز" . تبدأ شهرزاد حكيها مع بداية اللّيالي متخذة من فكرة قطع الحكي/ السرد أداة إغراء تنال من البطلة سهر؛ فتجعل قلبها معلقا بحكاياها، فتنال منها حتى تصل حدَّ الإدمان فلا تستطيع أن تعيش دون حكي. "قالت شهرزاد: إلى هنا صاح الديك وغدا نكمل الحكاية يا سهر .. من باع باع .. ومن اشترى اشترى .. لقد باع أخته .. واشترى الكاهن نفر بثمن بخس .. لقد حول كي إلى غاسل للموتى .. غدا نكمل الحكاية أو بعد غد" . جعلت شهرزاد/الساردة حكيها مفتوحا، إذ تنهي كل ليلة قصتها بموقف شائق مفتوح، مردوف بعبارة "غدا أو بعد غد نكمل الحكاية"، وهذا ما يلزم على البطلة سهر إبقائها لسماع نهاية الحكاية، "مرت شهرزاد على بيت سهر .. وبعد تناول القهوة والضيافة همست سهر ومن هي الروح الثانية يا خالتي شهرزاد؟ ضحكت شهرزاد وقالت: هي بنت جميلة عاشت في عهد النبي موسى؟ ما اسمها وحكايتها؟ قالت: اسمها نور غدا نبدأ الحكاية" . نسيج حكاياها كنسيج عنكبوتي متداخل ومتشابك الخيوط، معلوم المركز. فمركز الليالي ومحور دورانها هو القصة الإطار؛ التي لخصت دوافع السرد؛ تتبع حيوات الروح الأولى التي تنحدر منها سهر البطلة، ومن ثم معرفة سر عطرها الساحر الذي سلب لب كل من استنشقه ولم يعرف سره، هذا السر الذي بات لغزا لا يفقه كنهه سوى شهرزاد التي أوتيت من العلم دون سواها. فالحكاية الأم لها قدرة على توليد حكايات مرتبطة ببعضها البعض، بسمات مشتركة، "قالت شهرزاد وهي تشرب آخر رشفة من فنجان القهوة وتطفئ ركوة النار: الآن اذهبي إلى بيتك يا سهر تأخر الوقت اذهبي قبل الغروب. قالت سهر: ونفر. قالت شهرزاد: غدا سنكمل الحكاية يا سهر." . فبين عبارتي " بلغني يا أجمل بنات الجبل" و" إلى هنا صاح الديك وغدا نكمل الحكاية يا سهر " ترسم شهرزاد عالمها بفضاء معماري وهيكل لولبي يرتكز إلى رؤية شمولية. إذ تكمن وظيفة الليالي في كونها تجسد تقطيعًا يبعث على إغراء المتابعة والترقب، ويحث على التتبع والاستمرار، وبدون هذا الفصل السردي ستبدو حكايات شهرزاد تراكمًا لا حضور له، حتى تمر البطلة "سهر" بمحطتي توقف لا غنى له عنهما؛ نهاية الحكاية ونهاية الليلة، وبين هاتين المحطتين تتزايد متعة السرد وبهجته.
لا ريب أن شهرزاد التي أنقذت حياتها وبنات جنسها من الموت بـ"القصة المحكية" عندما قبلت التحدي لتحطم الجبروت والظلم، كانت لها "خزانة مفترضة" وإلا فمن أين لها هذه الذخيرة النصية، يقول السارد: "شهرزاد قد ورثت من أبيها مكتبة بها كتب الشيخ الإمام جلال الدين السيوطي وكتاب ابن حزم طوق الحمامة في فن النكاح .. لم تقل سر علمها بالعشق والغرام" . فشهرزاد كانت على قدر كبير من العلم والمعرفة وهذا ما أكده كل من اخترق حصنها. تقول الدكتورة فاطمة المرنيسي: "أعود إلى ذي بدء: علم المرأة وثقافتها. إن مأثرة شهرزاد ما كانت لتتم لو لم تختزن كمّا هائلا من الأخبار التي استخدمتها لتبني قصصها حيث التفاصيل الواقعية المدهشة تنم عن معرفة استثنائية وإلمام عميق بالعالم والكائنات" . الأمر الذي سيمكن شهرزاد من تصريف المعرفة لممارسة سلطتها على كل من دق باب حكاياها، إذ ستشكل مصدر قوتها لإحداث التغيير المرغوب، ونقل معرفة ما بالعالم، إلى معرفة أوسع وأشمل لتحقيق التجاوز وفرض البديل الممكن لإعادة الحياة لمجراها الطبيعي والإنساني جاء على لسان السارد قوله: "تجلس النساء تحت ركبتها يشكين من ضعف الرجال الجنسي وجهلهم بالتعامل معهن. فقط هي شهرزاد التي تعرف .. وتنصح بعض النساء بعمل فنجان قهوة على الريحة قبل الجماع بنصف ساعة حتى ينجبن ذكرا .. وتعرف للنكاح مائة اسما فتجلس النساء أمامها في ذهول .. تقول إن النكاح له أسماء كثيرة" . فشهرزاد السيد حافظ تشبه شهرزاد ألف ليلة وليلة؛ في سعة علمها وتنوع ثقافتها فأضحت لغزا حيّر عقول المفكرين وسلبه، فهي وحدها قادرة على تفسير نفسها. يقول السارد: "والنساء يجلسن في ذهول أمام علمها قالوا إنها قديسة وقلن عنها لعوبا قلن تزوجت من ألف رجل .. قلن وقلن والناس دوما تقول " .
حملت شهرزاد العالمة على جلب انتباه الآخرين؛ وحملهم على الشهادة لها بقدرتها على الإمتاع في السرد؛ والمعرفة التي هي في الأصل حصيلة ذهنية لتراكم التجارب الإنسانية في بعدها الكوني، وقيمتها في تكسير النظم القاهرة المؤطرة لوجودها. فأضحت قبلة العارفين السالكين طريق البحث عن كينونتهم يقول: "خرجت سهر من المدرسة مبكرا .. ذهبت إلى بيت شهرزاد ..لم تجدها جلست سهر أمام بيت شهرزاد .. الروح تعطش لحكايا المعرفة كأنها طفل يعطش لثدي الأم" . وقّفت سلطة اللغة لتجعل من المستمع/البطلة سهر بعد كل ليلة من الحكي والسرد طفلا متعلقا بالصمت.
حرص الروائي السيد حافظ على استلهام ذلك التلقي الإيجابي الذي حظي به كتاب "ألف ليلة"، وحضوره الفاعل لنص الليالي في الذاكرة. وشخصية شهرزاد المعجزة التي قاومت سلطة الرجل بسلطة الكلمة تقول الدكتورة فاطمة المرنيسي: "شهرزاد تتكلم والمعجزة تحدث" .
على سبيل الختم
هنا تنتهي رحلتنا مع روائي رسم بسرده وثقافته لوحة جمالية، طرزها بأدبه الأصيل، وزينها بدخيرته المعرفية. ولأن الزمن الإبداعي لا يقاس بالعمر البيولوجي، فسيظل هذا المبدع المتمرد القلق الحالم خالدا، سيتجلى مشرقا كلما أظلم ليل في وجه الإنسان. فما زال له حلم الكتابة والإنتاج طالما قلمه متوهج ينبئ بالإبداع والإمتاع.
هنيئا للروائي السيد حافظ المبدع الذي تيمم بتراب الوطن وتوضأ بنور الحرف وصلى في محراب الكلمة
لائحة المراجع
الرواية: قهوة سادة، السيد حافظ، 2012، الهيئة المصرية العامة للكتاب.
أرض الأبدية قراءات في تجربة الشاعر سيف الرحبي، مفيد نجم، الطبعة الأولى، 2007، منشورات الجمل.
سوسيولوجيا الأدب، روبير إسكارييت، ترجمة آمال عرموني، 1999، دار عويدات، بيروت.
الشعر والتلقي، علي جعفر العلاق، الطبعة الأولى، 1997، دار الشروق، الأردن.
الشعر العربي المعاصر قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية، عز الدين إسماعيل، الطبعة الثالثة، دار الفكر العربي.
شهرزاد ليست مغربية، فاطمة المرنيسي، المترجمة ماري طوق، الطبعة العربية الثانية، 2003.
عتبات النص بحث في التراث العربي والخطاب النقدي المعاصر، يوسف الإدريسي، الطبعة الأولى، 2008، الناشر مقاربات.
مدخل إلى الأدب العجائبي، تودوروف، ترجمة الصديق بوعلام، الطبعة الأولى، 1993.
المرأة واللغة، عبد الله الغذامي، الطبعة الثالثة، 2006، المركز الثقافي العربي.
0 التعليقات:
إرسال تعليق