حكاية مدينة الزعفران
مسرحية للسيد حافظ
بقلم: محمد السيد عيد
نشر هذا المقال في مجلة القاهرةرقم العدد: 74
تاريخ الإصدار: 15 أغسطس 1987
أصبحت مشكلة الحكم واحدة من أكثر المشكلات حدة في مسرحنا المصري منذ عام ١٩٦٧ وحتى الآن، ولو ألقينا نظرة سريعة على تاريخنا الأدبي منذ النكسة حتى الآن لوجدنا الأميرة تنتظر، وبعد أن يموت عشرات من المسرحيات التي تدور حول هذا الموضوع، مثل: أوديب لعلي سالم، المخططين ليوسف إدريس، مسافر ليل لصلاح عبد الصبور، احذروا لمحفوظ عبد الرحمن، رجل في القلعة لمحمد أبو العلا السلاموني، وغير ذلك من الأعمال الجادة التي حاول أصحابها أن يضعوا أيدينا على الضوء، وعلى الطريقة المثلى لفهم الحكم وأسباب الهزيمة، أو يلقوا لنا رؤية للمستقبل.
ومسرحية حكاية مدينة الزعفران للسيد حافظ واحدة من هذه الأعمال الجادة التي يناقش فيها صاحبها، هو الآخر، قضية الحكم، ويبرز من خلالها كيف تعمل جبهة المستفيدين من الحكم على عزل الحاكم عن شعبه، وتسخير مفردات النظام لصالحها مهما كان الحاكم مؤمنًا بالشعب وراغبًا في الحكم لصالحه.
وقد جسد الكاتب هذه الفكرة من خلال حدث بسيط للغاية، يبدأ بسجن الثائر مقبول عبد الشاق، دون أن يحرك الشعب ساكنًا، ذلك الشعب الذي ناضل مقبول من أجله.
وتفرج السلطان بعد فترة عن البطل الثائر، ويلتف الشعب حوله مرة ثانية، وحين يشعر الوالي والوزير بخطورة مقبول يقرران ضربه جماهيريًا، لكن كيف؟
لقد توصلا إلى طريقة غير تقليدية، بعيدة تمامًا عن التصفية الجسدية، أو التشهير الشخصي، أو غير ذلك من الأساليب التي عرفها الناس وفقدت تأثيرها فيهم. لقد توصلا إلى أن ضربه يجب أن يكون من خلال ضمه إلى صفوف السلطة، وتقليده أرفع المناصب، ثم تنفيذ أغراضها من خلاله، فإذا ثار الشعب واحتج ضحّوا بمقبول وكسبوا مرتين: مرة بالتخلص من مقبول إلى الأبد، ومرة باسترضاء الشعب الساخط على الظلم.
وبالفعل ينتظر الرجلان، الوالي والوزير، حتى تثور الجماهير على خادم العامة (نصر الدين محسوب)، فيعلنون عزله من هذا المنصب وتولية الثائر مقبول عبد الشافي بدلاً منه. ويفر مقبول من البلدة هاربًا إلى الجبل كي يتخلص من المأزق، إلا أن الشعب يبحث عنه ويعيده إلى المدينة، ويذهب به إلى القصر ليصبح حاكمه الجديد. ويصاب مقبول بالذعر من المنصب والقصر وأهله، إلا أن هذا لا يغير من الأمر شيئًا، فالخطة لا بد أن تكتمل.
تلتف زوجة الوزير بشكل ثعباني حول زوجة مقبول، وتغريها بالهدايا وفاخر الثياب والأطعمة حتى تقطع عليها خط الرجعة نحو الفقر، وتجعل منها قوة ضاغطة على زوجها الرافض لحياة البذخ التي فُرضت عليه. ويصل الأمر إلى حد تدخل زوجة الوزير شخصيًا في شؤون قصر مقبول، فإذا كان هو يريد أن يأكل أطعمة شعبية، فأوامر زوجة الوزير للطهاة تمنع ذلك، وإذا كان يريد أن يأكل مع خدمه على منضدة واحدة، فإنها تهدد هؤلاء الخدم بالقتل إذا استجابوا له، وهكذا يصبح مقبول في النهاية مجرد دمية لا يستطيع أن يتحكم حتى في قصره.
وباسم مقبول يتم كل شيء: العفو عن المسجونين إذا رأى الوالي والوزير ذلك، أو سجنهم إذا تغيّر رأيهما. ولكي تتم الخطة فإنهما يعزلان مقبول تمامًا عن شعبه حتى يصل الظلم بالناس إلى نقطة الانفجار. فإذا بهم يطالبون بعزل مقبول، حينئذ يتنبه الثائر القديم إلى ما وصل إليه، ويقرر أن يصلح خطأه، فيخلع ثوب السلطة وينضم للشعب، إلا أن الشعب يرفضه. وهنا تتم حلقات اللعبة، إذ يعزل الوالي البطل السابق عن منصبه، ويلقى به في السجن لامتصاص غضب الجماهير.
ولا يلبث مقبول أن يصاب بالذهول، وحين يصبح خارج القضبان فإنه يدور في المدن يروي قصته لعل الناس تعي الدرس. وتنتهي المسرحية بالكورس وهو يقرر:
"يا أمة ضحكت من جهلها الأمم
من خدم الناس صار فوق الأعناق
ومن خدع الناس صار تحت الأقدام"
هذا هو موجز أحداث مسرحيتنا، والسؤال الآن هو: كيف حول الكاتب هذه الأحداث إلى بناء فني؟
لقد اعتمد سيد حافظ في هذا على العديد من الأساليب الفنية المألوفة وغير المألوفة في المسرح، وأولها: أسلوب المشاهد القصيرة السريعة الذي نراه في السيناريو السينمائي.
وقد ترتب على هذا أنه لم يعتمد على المنظر المسرحي الثابت، بل استبدله بالاستخدام الرمزي للخيال، بمعنى أن الشخصيات هي التي تحدد مكان الحدث دون الحاجة إلى المناظر. وقد أتاح هذا للكاتب أن يدير أحداثه دون توقف، مما حقق للمسرحية إيقاعًا سريعًا.
وقد استلزم هذا التكتيك وجود الراوي الذي يربط بين الأحداث، ويعلّق عليها، ويمهد للنقلات الزمانية والمكانية عند اللزوم، بما يبرز الرؤية التي يريد الكاتب توصيلها.
ولم يكتفِ السيد حافظ براوٍ واحد، بل استعان بكورس كامل، وكي لا يجعله مجرد عين على المسرحية فقد جعله يشارك في الأحداث بدلاً من أن يكون محايدًا كما نراه كثيرًا. فرئيس الكورس هو عبد العاطي، صديق مقبول أيام الفقر، ورسول الناس إليه أيام الغنى، وأعضاؤه هم أبناء المدينة الذين يوالون مقبول ويعزلونه.
ويذكرنا استخدام الكورس هنا باستخدام نجيب سرور له في آه ياليل يا قمر، وهو استخدام جيد بلا شك، لأنه جعلنا نتعاطف مع الكورس بدلاً من أن ننظر إليه كشيء بارد مفروض علينا، كما أنه أسهم في كسر الإيهام، وهو أمر هام في هذه المسرحية، إذ يذكرنا دائمًا بأننا أمام لعبة مسرحية علينا أن نفكر فيها ونعرف مغزاها.
ولا يعيب الكورس سوى الوقوع في الخطابية، وعدم تناسب مستوى الأداء اللغوي مع المستوى الثقافي لبعض الشخصيات، وهذان أمران سنشير إليهما فيما بعد.
واستخدم الكاتب أيضًا أسلوب الاسترجاع Flash back أكثر من مرة لإضافة أبعاد جديدة لبعض الأحداث والشخصيات. وعلى سبيل المثال: فحين يطلب مقبول من زوجته أن تبتعد عن الترف الذي انغمست فيه، تذكره – من خلال أسلوب الاسترجاع – بما قامت به أيام الشدة لتبرر له أن من حقها أن تعيش وتستمتع بالنِّعَم. ولا شك أن هذا الاسترجاع منطقي، كما أنه لسان حال الزوجة الأمينة الباحثة عن الأمان بما حولها. وهذا يدل على قدرة الكاتب على توظيف أسلوب الاسترجاع في ثنايا العمل الفني.
ومن الأساليب التي اعتمدها الكاتب أيضًا أسلوب الحلم، غير أنه لم يكن حلم نوم كما هو شائع، بل حلم يقظة، رأت فيه زوجة مقبول زوجها الغائب، وحدثته، وسمعت منه الألم وشكواه من عدم تحرك الناس من أجله بعد أن سُجن في سبيلهم. غير أن هذا الحلم لم يخدم المسرحية من الناحية البنائية، بل كان عبئًا عليها، لأنه قدم لنا شخصية البطل في صورة مهزوزة فاقدة الثقة بالناس. وكان هذا عدم توفيق من الكاتب، لأن الشخصية المهزوزة حين تسقط لا تصنع مأساة، بل تصنع المأساة شخصية البطل المتمسك بمبادئه. ومن هنا فقد كان من الأفضل لو حذف الكاتب هذا الحلم، وحذف معه المشهد الذي يدور بين شقيق زوجة مقبول ومقبول نفسه بعد خروجه من السجن مباشرة، لأنه يؤكد الفكرة نفسها (اهتزاز صورة البطل). ولعل من المناسب أن نورد جزءًا من هذا المشهد للتدليل على رأينا:
الشاب: أنت إنسان عظيم.
مقبول: لماذا؟
الشاب: لقد قلت الحقيقة.
مقبول: أقول الحقيقة أو لا أقول.. لا يهم.
الشاب: ماذا تقول؟
مقبول: أفكر أم أعمل؟ لا أعرف.
الشاب: ماذا جرى لك؟
مقبول: أعيش أم أموت؟ ليس لي شأن.
إن تصوير مقبول بهذه الصورة يفقدنا التعاطف معه حين يسقط، لأنه فاقد للبطولة، ولا أظن أن المؤلف كان يريد أن يصل بنا إلى هذا.
وآخر الأساليب التي استخدمها السيد حافظ في بناء مسرحيته هو أسلوب التوازي، بمعنى أن أكثر من شخصية تتحدث في الوقت نفسه، لكن الحديث لا يلتقي مع بعضه البعض، بل يسير متوازيًا. وهذا نموذج تطبيقي لأسلوب التوازي أطرافه: مقبول، والشاب، وأحد الفلاحين:
مقبول: عامان.. لا أرى إلا وجه الشرطي مغطى بشاربيه، شارباه كسكين الجزار.
الشاب: الآن اتفقوا مع الأعداء.
مقبول: وأسناه التي تلمع كأسنان الغانية.
الفلاح: قطعوا أصابع الأطفال التي تكتب حتى لا يقرأ الناس ولا يكتبوا.
مقبول: وكنت أحلم أنني مسافر، وأنني عجوز أسير في طريق ميناء عتيق.
الشاب: إذا تركت الناس ستأكلهم الثيران.
مقبول: ميناء مليء بالتجار والسماسرة... إلخ.
إن حديث مقبول هنا يدور في وادٍ، بينما حديث الفلاح والشاب يدور في وادٍ آخر. الأول يتحدث حديثًا ذاتيًا عن معاناته في السجن، والثاني والثالث يتحدثان عن معاناة المدينة من وطأة الاتفاق مع الأعداء ومحاولات التجهيل. أي أن كل طرف يدور في دائرة مستقلة عن الآخر، يمضي في خط مستقل يتوازى مع الخط الآخر دون أن يلتقي معه ليكوّن حوارًا بين الأطراف المختلفة.
والحقيقة أن هذا التوازي قد أسهم في إبراز المضمون الذي رمى إليه الكاتب، لأنه صوّر لنا في الوقت نفسه بشاعة السلطة التي تسجن الثوار وتبيع الوطن.
إن هذا التنوع في الأساليب قد أفاد المسرحية ولا شك، وكسر أي إحساس بالرتابة، وأعطى مؤشرًا واضحًا على سعة ثقافة المؤلف، ومحاولته الجادة للخروج من دوائر التقليد.
ومعظم الشخصيات في المسرحية مجردة، وقد تعمد سيد حافظ ليعطيها طابع العمومية، فجعلها جميعًا لا تحمل سوى اسمها الأول فقط (مقبول – عبد العاطي)، أو وظيفتها (الوالي – الوزير – الفلاح)، أو جنسها (رجل – امرأة).
وقد أسهمت تسمية الوالي والوزير بالتحديد في إضفاء لمسة تراثية شعبية على المسرحية، إذ درج الخيال الشعبي في حكاياته على أن يسمي أصحاب المناصب بمناصبهم، ويقدمهم كشخصيات جاهزة لها مواصفات محددة ومستقرة في الأذهان.
ومع أن الكاتب لم يكن موفقًا في تقديم شخصية مقبول في بداية المسرحية – كما أوضحنا – إلا أنه استطاع بعد هذا أن يحدد ملامح الشخصية جيدًا. فرأينا مقبول الثائر الذي يريد الإصلاح، المؤمن بالعمل مهما كان كوسيلة للحصول على الرزق، ثم رأيناه رافضًا للمنصب إيمانًا منه بأن على الأمة ألا تسلّم كل شيء لشخص مهما كان، ثم رأيناه خائفًا من الكرسي، ثم منساقًا للوضع، ثم متمردًا على نفسه. وكل هذه التحولات كانت في حاجة إلى مهارة في الصنعة لكي يقنعنا بها المؤلف، وأعتقد أنه نجح في إقناعنا. وما قلناه عن مقبول ينطبق أيضًا على زوجته، لذا لن نقف عندها حتى لا نقع في التكرار. إلا أننا قبل أن نترك الحديث عن الشخصيات نحب أن نشير إلى أن الكاتب جانبه التوفيق أيضًا في تقديم شخصية هامة من شخصيات المسرحية، وأعني بها زيدان، زميل مقبول في السجن، ثم مستشاره بعد توليه منصب خادم العامة.
لقد كان هذا الرجل لصًا يأخذ من الأغنياء ليعطي الفقراء (تمامًا مثل لص بغداد في ألف ليلة وليلة). فما الذي دفعه إلى احتراف السرقة؟ هل هي النقمة على الأثرياء الظالمين؟ لا، بل هي أسباب أخرى لا تجعله يرقى إلى مرتبة الثائر الذي يأخذ من الغني ليعطي الفقير، وإليك هذه الأسباب:
عمل مزارعًا وزرع القمح فأكلت العصافير القمح.
عمل تاجرًا فاشترى منه رجل بعض البضاعة ولم يدفع ثمنها.
أليست هذه الأسباب أوهى من أن تخلق ثائرًا يحاول تحقيق العدالة الاجتماعية بطريقته؟
وأخيرًا يجب أن نشير إلى مسألة شكلية لاحظناها في النص المقروء، وهي تعدد الأسماء والصفات التي يطلقها الكاتب على زوجة مقبول، إذ يسميها مرة: المرأة، وأخرى: زوجة مقبول، وثالثة: أم معتر. إن هذا يسبب نوعًا من الضبابية غير المرغوبة، وكان على الكاتب أن يتلافاه.
ثم نصل إلى اللغة. استخدم السيد حافظ في مسرحيته لغة بين العامية والفصحى (اللغة الثالثة). وهذه اللغة قد تصلح للقراءة، لكن التجربة أثبتت أنها لا تصلح كلغة للعروض المسرحية، ومسرحية الورطة للحكيم دليل على ذلك، إذ اضطر المخرج عند عرضها إلى تكليف أحد الكُتّاب بإعدادها باللغة العامية. أضف إلى هذا أن الكاتب اضطر في بعض الأحيان إلى أن ينساق وراء النطق العامي فأغفل الإعراب، مثلما نرى فيما يلي:
· تخاطب المرأة زوجها قائلة: و قولها .. قولها، والمفروض أنها فعل أمر، وفعل الأمر مجزوم، وبالتالي فالصحيح أن تقول له: و قلها، لا و قولها.
· يقول مقبول عن فترة سجنه: "تركوني في جب، يوم، يومين، شهر، شهرين، عامين"، والمفروض أن كلمات "يوم، شهر، عام" منصوبة، أي "يومًا، شهرًا، عامًا"، لكن الكاتب انساق وراء النطق العامي.
كما أنه اضطر في أحيان أخرى إلى التعبير بمستوى عالٍ من اللغة الفصحى لا يمكن أن تحتمله اللغة الثالثة أو العامية، وهذه أمثلة أخرى على ذلك:
· يقول الفلاح: "خلعوا رؤوسنا، وقطفوا الثمار، وكبلوا أرجلنا بأقدامنا فزحفنا على بطوننا جياعًا".
· يقول مقبول: "صارحتك بكل شيء. بكل شيء. هاجر قلبي مني وذهب الوعي إلى الساحات والطرقات والأكواخ، وحاولت أن أستعير من عقلي حوار الناس، حب الناس، صداقة الناس. لكنني لم أجد إلا الصمت. هبط وجهي إلى السوق، وغنّت عيوني أغاني الفقراء، وعلّمت البلابل أن تنشد الأناشيد البيضاء... إلخ".
إن هذين المثالين وغيرهما كثير في المسرحية لا يمكن أن يكونا وسطًا بين الفصحى والعامية. وهذه الأمثلة تشير إلى أن اللغة الثالثة ليست هي اللغة المناسبة، لعدم وحدة مستوى الأداء اللغوي من جهة، ولأن اختلاف اللغة المكتوبة عن الواقعية في مثل هذا العمل يمكن أن يوحي بعدم الصدق من جهة أخرى، وهذا ما أظن أن المؤلف لا يريده.
ويُعيب اللغة في حكاية مدينة الزعفران ارتفاع النبرة الخطابية والمباشرة، وهذه أمثلة على ذلك:
· تقول زوجة مقبول عن زوجها: "يا رجلًا في عصر الرجولة فيه تنقرض".
· يقول مقبول: "وما معنى الإنسان إذا صار عبدًا وصارت الأمة نعاجًا...".
· يقول مقبول: "ودائمًا تترك الناس وعيها وتعتمد على وعي رجل واحد.. أليس هذا قتلًا للوعي العام...".
· يقول الكورس: "يا أمة ضحكت من جهلها الأمم، من خدم الناس صار فوق الأعناق، ومن خدع الناس صار تحت الأقدام...".
وهذه الأمثلة في الحقيقة قليل من كثير. وعموماً يبدو أن طبيعة الموضوع فرضت حرارتها على الكاتب وجرّته إلى هذه المباشرة والصوت العالي، وكان عليه أن ينتبه لهذا لينقذ مسرحيته من عيب خطير يهددها طوال الوقت.
وإلى جوار الخطابية والمباشرة، توجد بعض أخطاء أخرى بسيطة مثل: عدم التوفيق في اختيار بعض المفردات، والغموض الذي يشوب بعض الجمل... ومن أمثلة عدم التوفيق في اختيار المفردات ما يلي:
· يقول مقبول عن مدة غيابه في السجن، التي انتهزها الحكام وغيّروا فيها كل شيء: "عامان يكفيان لتغيّر أمة، وليس لتغيّر فرد". وأظن أن كلمة تغيّر هنا ليست الكلمة المناسبة، لأنها توحي بأن التحوّل يتم بشكل تلقائي، بينما التغيير الذي تم هنا كان بفعل فاعل، والكلمة الأدق في التعبير عنه هنا هي التغيير.
· يقول المنادي: ".... قرر الوالي تغيير خادم العامة نصر الدين محرب وعزله من كل ممتلكاته". وتعبير: عزله من ممتلكاته ليس مألوفًا، والأدق أن يقال: تجريده بدلاً من عزله.
· يقول أحد أبناء الشعب مظهرًا مدى فقر الشعب: "ولقد ارتفعت الأسعار، والأطفال لا تعرف طعم البرتقال". ولا أظن أن البرتقال من الضروريات ليصبح حرمان الأطفال منه شيئًا لا يُغتفر، ولو استبدل الكاتب هذه الكلمة بكلمة أخرى مثل القوت لكان أفضل.
ومن أمثلة العبارات والصور الغامضة ما يلي:
· وردت في المسرحية عبارة تقول: "وهل صوتك ينشق في الجبل فيثور؟".
· وتقول زوجة مقبول لزوجها: "ويا قرصان تاج الفضيلة المدلل".
· وتصف المرأة نفسها الحرية بأنها: "وحروف الخوف".
والأسئلة التي تطرحها هنا: كيف ينشق الصوت في الجبل فيثور؟ وكيف يوصف الشاعر بأنه قرصان؟ وكيف ألّف الكاتب بين القرصنة وبين تاج الفضيلة وبين التدليل؟ ثم إن الحرية لا يمكن أن تكون حروف الخوف، لأن حروف الخوف هي مكوناته، ومفهومها لا يدل على الشجاعة أو حرية الإرادة أو شيء من هذا القبيل، فكيف ركّب مؤلفنا هذه الصورة؟
وليست هذه الصور هي أغرب ما في المسرحية، فهناك عبارات أخرى مثل: "كبلوا أرجلنا بأقدامنا"، وغيرها، لكننا نكتفي بهذا القدر.
على أية حال نحن أمام محاولة جادة، طرح فيها المؤلف قضية هامة، واستخدم فيها عدة أساليب فنية في محاولة للخروج من دوائر التقليد، وقدم أكثر من شخصية جيدة، واجتهد مع اللغة بما رأى أنه يجسد رؤياه الفنية، وقد أصاب حينًا، وجانبه التوفيق حينًا، لكنه في النهاية يستحق التقدير لصدق محاولته في التعبير عن قضية شريفة واجتهاده الطيب مع الشكل الفني.