Add a dynamically-resized background image to the page.txt Sayed Hafez (sayedhafez948@gmail.com) جارٍ عرض Add a dynamically-resized background image to the page.txt.

أدخل كلمة للبحث

الزائرون

Flag Counter

زوارنا

Flag Counter

الزائرون

آخر التعليقات

الخميس، 17 نوفمبر 2016

"قهوة سادة" للسيد حافظ من سلطة العنوان إلى حكايا شهرزاد الدكتورة جميلة رحماني

"قهوة سادة"  للسيد حافظ
من سلطة العنوان إلى حكايا شهرزاد
الدكتورة جميلة رحماني
المملكة المغربية
في البدء كانت الحكاية
ظل حبر الروائي السيد حافظ – الذي تنوع قطافه الإبداعي بين الرواية والمسرح- يخفق شغبا بانِيا لجوهر الجمال الناطق والحقيقي، سخِيا في طرح القضايا الساخنة؛ يطرقُ بابَ التمرد على الأوضاع الاجتماعية والسياسية والثقافية، مشعلا فتيل ضياء السرد. كاتب مشهود له بجرأته وشجاعته المعرفية والثقافية، يعلن موقفه دون مواربة أو خفاء وهو يحدثنا عن كوة ضوء، عبر احتراف هتك الحجب واستنطاق المساحات المسكوت عنها، وكشف المعاني الإنسانية الثاوية في أعماقها. يصيخ السمع لنبضات نصوصه بغية الوصول إلى عمق بوح إنساني قائم على تنوع كوني وشمولي، ممتد إلى تطلعات الإنسانية الرحبة التواقة إلى باحة سلم وقت انبلاج فجر الحرية.
يسألونك عن "قهوة سادة" قل هي:
رواية مصنوعة بذكاء، تحمل بين طياتها حبكة مثيرة ومشوقة. أصر السيد حافظ بإصدارها ضخ دماء جديدة في صلب الكتابة السردية، محاولا تشييد جسور إبداع رجل في جعبته ما يبشر بمستقبل سردي به عمق، وروح، وحياة. فعندما تكون الحروف تائهة على الشفاه، فيعقد معها الكلام؛ ينبثق السرد ويتغلغل الدفْء إلى الأعماق؛ ليتسرب من ثقوب الأيام مزيج من عطر الحكايا.
رواية وأنت تقرأها تطالعك باقات نرجسية فواحة من خلجات النفس والروح والذاكرة؛ ونبض الوجدان، يعطر أريجها دنيا الحب الصوفي. حاملة في ثناياها الشعور الوطني المدثر برداء المعاناة، والمزمل بوشاح الاغتراب، المستعر بلظى نار الألم.  حتى أضحت صرخة في وجه الظلم والفقد، حیث حاول  الروائي السيد حافظ رسم بدقة معاناة الشعب المصري والإنسان العربي ليكتسب حيويته، فيساعد نهر السرد على شق مجراه. مخترقا التراث اختراقا معرفيا، ومستنطقا إياه استنطاقا فنيا. متكئا في ذلك على التراث والتاريخ والأسطورة. وهو ما أشار إليه في روايته بقوله: "أحبت سهر الجغرافيا والتاريخ ... ذاكرة التاريخ تغذيها بالوهج والخيال" . استلهم التاريخ ليشيد فوقه معمارا من خياله الوثاب، فتمتد معها مخيلته لصوغ التاريخ صياغة جديدة لتمنحه قراءة جديدة بل حياة جديدة. ومنح هذا التضافر بينهما –أي بين الخيال والتارخ- الرواية حيوية ونبضا وحرارة. كما كان بارعا في توظيفه أسطورة شهرزاد اقتباسا وتضمينا؛ دون أن يُخلّ ذلك بإيقاع سرده ولا بنبض كلماته أو بصمات تعبيره، وهي ميزة المتمرسين بالكتابة الراسخين في الإبداع. وهو عنوان ثراء مخزون الأدبي الكاتب وغناه، الذي تمثّـله واستوْعبه، ثم أجراه متدفقا منسابا عصيا على التقليد.
هل أتاك حديث السيد حافظ المسرحي والروائي
الذي ظل لعقود طويلة يبحث عن دائرة ضوء يخرجه من ظلمة العتمة الذي دثرته لفترة طويلة. ليتحوّل السرد على لسانه، وتحت قلمه، إلى أداة بوح يلملم جراحاته فيصوغها في قالب حكائي يروي عبره عنف المتناقضات داخل مجتمعه؛ فأضحى والسرد متلازمين كالظل منذ بدء الحكاية إلى سدرةِ منتهاها. يقول السيد حافظ:" اكتشفت أن حب الوطن والكتابة عناء ألقيت أشواقي على أحرف اسمك يا وطني .. فتحولت على الورق إلى ثلاث زهرات ذابلة" . فاقتراف فعل الكتابة هو فعل إثبات الذات والوجود، وتفجير منابع الإبداع ليجري نهرا من الأحاسيس والانفعالات حتى تروي ظمأ وجودها. وتعبير لصيق بالحياة، ورفض معلن للتبدد والإقصاء. يقول السيد حافظ: "وأبعث في الكلمات ورد الحياة" .
فلا مناص من أن الكتابة لم تعد عنده سردا للتسلية بل هي اختراق لعقل الإنسان، وسحبه من غيابات جب الواقع، ودفعه للاندماج بالنص، لأن: "الروائي كالشاعر يعذبه وعي حاد بالواقع، وإدراك مرير لتناقضاته المخيفة، لذلك ليست الكتابة بالنسبة له مجرد اشتراك مع اللغة أو مغامرة بريئة مع شطحاتها الصافية، بل كانت صورة لوعيه المعذب، وتجسيد لمواقفه الفاعلة في الحياة، مراجعة ضغوطها" . إنها صرخة موجعة ومدوية نكاد نسمعها على جدار الرواية؛ للكشف عما يمور في النفس الانسانية من معاناة، وألم، وقلق، وخوف. ما يؤكده قوله: "أحب البحث عن المجانين في الكتابة لأشبع عطشي للمستحيل" . فعلى طاولة الزمن الجريح ثمة حكايات تستنشق عبق الأمل؛ وهي تبحث عن فسحة من التفاؤل عبر نافذة الحلم المؤجل، يقول السارد: "كلما حاصرني حب الوطن بنيرانه .. وأسهم حقده .. وحاول قتلي .. هربت منه تحت جلد النساء حتى أضمد جروحي قررت أن أكتب مذكرات شاب في العشرين رواية .. ولم لا" . يخرج الروائي كلماته ليبعثرها فوق بياض صفحات حياته، وهو يداعب حرف السرد الذي جمع الكل حوله كأم رؤوم توزع حنانها على كل من سوّل له قلمه أن يدخل غمارها، لتأخذه في حضنها الدافئ كأنها تريد أن تعيده طفولته الأولى وهو متأبط أحلامه وآماله. وما إن صار على بعد حضن دفعته إلى تقمص شخصيات مختلفة، ومعايشة أحداث متعددة في لحظة واحدة. فيلقى ما بيمينه ليعبر عن درامية اللحظة وقساوتها؛ فلا "بديل للكتابة إلا الكتابة" . ففي حضرتها يصمت اللسان؛ ويطلق للقلم العنان ليعبر عن خفايا النفس ومكنوناتها، فتهب نسمات الكتابة محملة برائحة حروف رقيقة اقتلعت من أرض الواقع. يقول: "وجدتني بلا حيلة أمام نور الكلمة وأمام ورقة بيضاء" .
فعندما يختلط حبر السيد حافظ السردي بمشاعره وإحساساته، تنهمر شلالات من البوح  والرغبات المتصاعدة في ترسيخ الحضور. ووسيلة لتحرير أحاسيسه؛ والتعبير عن أحزانه وأفراحه، وعن عاطفته المتأججة وعنفوانه المعطّر بمعاني الحب. يقول السارد: "لمن أكتب؟ لمن؟ أكتب لك أنت .. يا من تراني بقلب الأولياء والشعراء والزاهدين والمترفين بنور العشق وللعشق يقين" . فالكتابة عنده بمثابة الرئة التي يتنفس بها، والهواء الذي يتنسم منه. فهي التي ستعوضه بعض ما ضاع منه قهرا؛ ولم يستطع حينها إداركه، يقول: "يا ناهد الكتابة تعوض لي بعض أيام من عمري الذي سرقه الوطن مني" .
جمالية العتبات وشعرية العنوان
شكلت العتبات النصیة حقلا معرفیا قائما بذاته باعتباره مكنونا جوهريا؛ فهي: "ذات سياقات توظيفية، تاريخية ونصية، ووظائف تأليفية تختزل قسما من منطق الكتابة" . بفضلها يصبح من السهل على القارئ الولوج إلى عوالم النصوص وفهم معانيها، وأهم هذه العتبات "العنوان" فبواسطته تنكشف المعاني؛ وتتوضح الأفكار؛ ویتلاشى كل غموض. وهو بمثابة المفتاح الإجرائي المساعد على اقتحام أغوار النص؛ وفتح مغاليقه ومجاهيله؛ واستقراء جل أفكاره الخفیة، ومدى "ارتباط بنيته ومحدداته الذاتية بشروط السياق الثقافي والاجتماعي الذي أنتجه" .
"قهوة سادة" عنوان وَسَمَ به الروائي السيد حافظ روايته، وهو عبارة عن بنية مختزلة، شديدة الاقتصاد لغويا، حيث يلعب هذا الإيجاز في بنية العنوان اللغوية دوره في اختزاله للنص مبنى ومعنى، فإن ما تم تكثيفه وتركيزه سيتم توسيعه وتفصيله في النص الأكبر. وبذلك سيفتح العنوان أفقا توقعيا لدى المتلقي فتتكون لديه فرضيات، إذ لن يدخل فضاء القراءة صفحة بيضاء، وإنما لديه خبرة قبلا. فيصير ثريا ذات إشراق دائم في مساحات المتن. لأن اختيار السيد حافظ لعنوان روايته لم يكن اعتباطيا، بل اعتمده على رؤية فكرية ومرجعية.
"قهوة سادة" عنوان عبارة عن جملة اسمية دالة على ثبات الانتعاش الذي يصاحب شرب القهوة وديمومته. جملة اسمية ذات طابع وصفي إنشائي؛ يغيب عنها الفعل كبنية دالة على شرط الزمان. ومن ثم الإمساك بجوهر المدلول؛ دون العَرَضِ الذي يشي به الفعل. عنوان يلبس دثار القوة، لأن الروائي بحار يجيد اقتناص المعاني وامتلاك الخطاب. بحيث ستصبح "قهوة سادة" محور الكلام السردي؛ وقطب الرحّى في عملية الإبداع اللفظي. وأمارة قوية وعلامة ثابتة على نهل السيد حافظ من نكهتها؛ لينسج رواية حلوة المذاق عصية على النسيان.
فلا ريب من أن القهوة قد احتلت مكانة بارزة في وجدان البشرية كلها؛ ومكانة روحية مهمة في الحياة الاجتماعية والثقافية للإنسان العربي، وهي شراب شعبي لكل فئات المجتمع؛ وشراب أولياء الله الصالحين حيث اقترنت بجلساتهم وحلقات الذكر، وهي أول ما يستفتح الإنسان به تباشير يوم جديد من الشراب. يقول السارد: "الصباح بدون القهوة خطر" . كما كانت جلسات الحكي لا تحلى إلا في حضرة القهوة، "قالت شهرزاد وهي تشرب آخر رشفة من فنجان القهوة وتطفىء ركوة النار: الآن اذهبي إلى بيتك يا سهر تأخر الوقت اذهبي قبل الغروب.
قالت سهر: ونفر. قالت شهرزاد: غدا سنكمل الحكاية يا سهر." . فالقهوة والحكي متلازمان لا ينفصلان عن بعضهما؛ لأن الانتشاء بمذاق القهوة يجعل الحكايا تنساب ماء زلالا، فلا يمل سامعها بل يقول هل من مزيد. وقد ينتشي شاربها حدَّ السكر ولعا بمذاقها المميز يقول: "القهوة قبلات للروح كي تنهض" . مشروب ينبه العقل ويوقظ الروح، إنها ثنائية العلاقة بين القهوة والوجدان، بمثابة الحبل السري الذي يربط القهوة بالعشق، حتى أضحى الحديث عن أحدهما هو استدعاء للآخر. يقول "اشتاق لشرب قهوة سادة معك وارتشاف قبلة مع كل رشفة" . فثمة علاقة ذاتية ذات ارتباط خاص ينبع من حنين نوستالجي للعودة لسحر جنة العشق ودهشتها؛ حاضرة في وعي شاربها وفي وجدانه، وتوازٍ بين اللهفة لشرب قهوة وبين الارتماء في حضن أنثى يقول السارد: "آه في البرد أحتاج إلى قهوة سادة .. وإلى حضن أنثى وإلى سيجارة وإلى وردة وإلى لحم طري يغطيني يدفئني ينسيني أنثى ليس لها مكان إلا في جنة عشقي ولا يعرف قدرها إلا ملك على قلوب النساء مثلي أحتاج أنثاي في البرد والقهوة السادة قبل وبعد المضاجعة" . تأكيد كثافة الحالة الشعورية الطاغية؛ والنزوع لاختراق حدود المسافة بين شرب القهوة واللذة بحثا عما يبقي هذه العلاقة على قيد الاستمرارية.
"قهوة سادة" عنوان مفتوح غير مقيد؛ كما السرد لولبي أبوابه مشرعة، يبرز عناد السيد حافظ لاجتراح مغامرة حكايا أخرى. يقول في نهاية الرواية على لسان شهرزاد: "هي بنت جميلة عاشت في عهد النبي موسى؟ ما اسمها وحكايتها؟ قالت: اسمها نور غدا نبدأ الحكاية" .
ثلاثية الفقد والجرح والاغتراب
يُعَدُّ الروائي السيد حافظ من هؤلاء المبدعين، الذين فجروا منابع الإبداع ليجري نهرا من الأحاسيس والانفعالات حتى تروي ظمأ وجودها. روائي لا حول له سوى سحر حرفه، ولا قوة له سوى عبق كلماتها. طوَّع حرفه ليخرق جدار الصمت كمبدع يحس بالواجب المفروض عليه. يلامس هموم الواقع قصد تغيير كل ما من شأنه أن يسيء إلى إنسانيته، وكإنسان يحترم إنسانية غيره لم يتوانى في تعرية وضع لا يتماشى وحقوق الإنسان ، وفضح القبح وإحداث هزات داخلية ترج الذوات المتلقية. يسجل رؤيته حيال مجتمعه عبر بوابة السرد؛ لنرصد عبرها علاقة جدلية بين الإبداع وبين المجتمع، تلك العلاقة التي يبدو للوهلة الأولى أن المجتمع مفعول به موصوف؛ لكن الحقيقة أنه هو الفاعل لأنه هو الذي كون الكاتب وجعله يقتات منه .
"قهوة سادة" عمل سردي صادر عن وعي حقيقي؛ ونَفَس جديد غير معهود في الكتابة يتغلغل في أعماق الشعب مسجلا نبض الحياة اليومية، راسِما بكل أمانة معاناة المواطن المصري في حقبة تاريخية كانت فيه كل الدول العربية على صفيح من نار "أوقفوا ذبح الإنسان وتشريد الأطفال والنساء .. أعلنوا بقوتكم بأنفسكم: إننا لا نرغب في إنفاق الأموال على السلاح .. كفانا سلاح .. أنفقوا الأموال على الفقراء .. على العلم .. على النهوض بالإنسان في أحراش أفريقيا .. في صحراء آسيا .. أنفقوا الأموال على الأراضي غير القابلة للزراعة .. إن العالم يحتاج إلى الكثير" . يحاول أن يلامس حالة البؤس التي يعيشها المواطن في حقبة تاريخية، ولا سیما في فترة الحرب الكبرى التي طحنت الشعب المصري :" وجدتني حلما يمسح مؤخرة الوطن الذي يضاجعه الأثرياء من عسكر يوليو الذين سرقوا مجوهرات الملك فاروق وباشوات مصر وأصبحوا باشوات هذا الزمان .. وجدتني بسمة على شفاه أطفال لا تعرف الرياء .. وجدتني أعشق كل الأنبياء وأنه من الغباء ألا نشعر أن الإنسان خليفة الله على أرضه وتحت سمائه .. إذا مر قلبي على بابكم أخبروني فقد ذهب يبحث عن وطن ليتدفأ به في هذا الشتاء" . فنجده يسخر قلمه لفضح حالة الاغتراب الحادة؛ ومدى قساوة وقعها حين يعانيها المرء وهو في وطنه، وبين ذويه، إنها حالة نفسية يشعر فيها الإنسان بألم أشد وأصعب. ونجد مثل هذا الاحتدام في قول صاخب للسارد وهو يصف الحكومات العربية بأنها:" نجحت في جعل المواطن العربي يكره وطنه وأرضه ويبحث عن وطن آخر .. في أوربا أو أمريكا" . رسم بریشة دقیقة معاناة الشعب المصري، كما رسم تيه ذات تلوك قسوة الخذلان، وصور البيئة المصرية تصويرا دقيقا، حيث التقط أدق جزئياتها ترتيبا عضويا لتصبح الشخصية حية في الرواية. "نحن التلاميذ لم نكن نحمل فقط الكتب في حقائبنا التي كنا نحملها على أكتافنا .. بل نحمل معها هموم عائلاتنا وأحلامنا ومشاكل بيوتنا" .  وهذا لم يمنعه محاولة العثور على بعضه المتلاشي ليرمم كلا روحيا، والاستئناس بحلم يضج بالحياة، منسوج بدفء واستقرار.
جاء سرده طافحا بمرارة الغربة معبرا عنها بأصدق الأحاسيس، إنها غربة دائمة تهيمن بظلالها على هذا النص السردي، يقول: "منذ نشأة القاهرة في العهد الفاطمي وهي متسخة كما قال الجبرتي وحتى الآن .. إحنا شعب غلبان .. كيف نحارب ونحن لا نستطيع تنظيف شوارعنا من الزبالة .. ولا حتى صناعة كبريت صالح للتصدير" . شفاف في فضح القبيح والدنيء، "العربي لا يفلح إلا في مضاجعة النساء" . صارم في التنقيب عن عيون المرارة والمعاناة الإنسانية. يقول السارد: "قتل وحرق هتلر آلاف اليهود في المحرقة .. قتل الأمريكان آلاف الآلاف في هيروشيما باليابان بقنبلة ذرية .. قتل الفدائيون الفلسطينيون مئات اليهود .. قتل اليهود مئات وآلاف الفلسطينيين" . نتلمظ سفرا نُسج في غيابات الوجدان، ونقتفي أثر لواعج الكيان المُكتوية. فنتعثر خلف تنهيدات تعج انكسارا وحسرة، وشوقا دفينا مغلفا بنوبات العتاب، تذرف الروح هسيسا صاخبا يلف نذوبا لا تقبل الإنمحاء. يقول: "العالم والبشر حقراء يشربون دم بعضهم صبحا ومساء" . فبالرغم من أن القهر قد نال، وبالرغم من أن النغمة الرئيسة هي الحزن والفقد،  فإن الشعور بالاغتراب والضياع يمثل بعدا آخر قد يمتد إلى الصراع القائم بين الذات والوجود. لأن: "محور الشعور بالغربة والضياع هو في الحقيقة؛ تفريع عن المحور الأساسي العام؛ محور الذات والوجود؛ أو هما يتوازيان على مستويين مختلفين" . فحينما تصطدم الذات بالوجود؛ فإنها تعجز عن تحقيق تطلعاتها وأحلامها لأنها عندئذ تتحرك وتسير وحدها، وتظل محبوسة في إطارها الضيق مادامت تؤمن بمنطقها ونظرتها الخاصة في تقييم الوجود، وهذا ما نلمسه في  كلامه:" الفقراء ليسوا أبناء الله على الأرض .. بل أبناء الشيطان .. الفقر الذي وأد أحلامهم فصاروا أعداء بعضهم بلا سبب.. يكرهون بعضهم بلا سبب .. الفقراء أبناء الشيطان في كثير من الأحيان لأن الرجال الفقراء من كثرة التعب والهزال والمرض ..لا يضاجعون النساء .. فيضاجعهن الشيطان نيابة عنهم .. فيخرج أولاد الفقراء مجرمين عشوائيين .. سفهاء .. لا يعرفون الله إلا كلمة لا فعل .. أولاد الفقراء أبناء الشيطان إلا من رحم ربي واصطفى .. أما أولاد الأغنياء معظمهن أغبياء بسبب أكل اللحوم بكثرة .. إلا من وهب ربي وأعطى .. الفقر هو الذي قال للرب لا" .
  جعل الكاتب من إبداعه مرآة للنفس الضائعة والممزقة في متاهات الاغتراب؛ التي تلقي بظلاله الكئيبة على ذات السارد، وتشده إلى قاع الرتابة والإحساس بالضياع مثقلة بالآلام، مضمخة بالحزن على ما مضى؛ والتحسر على ما بات سائدا يقول: "أصبحت الحياة مظاهر .. الملابس والأناقة هما عنوان الإنسان أناقة لا ثقافة .. لا شيء يهم بعد ذلك" . حس الضياع والفقد والاغتراب دفعه أن يشعر بفقد الإنسان لقيمة إنسانيته؛ وعدم جدارته؛ أو قدرته على التكيف حتى صرخ بضياع اليقين.
والناظر في سرده يلفت نظره إحساس مريب بوقع الفقر على نفس المواطن، وشكوى صارخة من هوان منزلته الاجتماعية؛ وعدم تقدير المجتمع له، وعجزه عن الأخذ بنصيبه من الحياة. جاء على لسان السارد: "أنا ممن يصنعون ضوضاء أثناء صعودهم وهبوطهم .. دائما أريد أن أشعر أنني من الأحياء بضوضاء الحذاء. أو أثبت لنفسي أني شيء على الأرض" . فبين رفاث من أمنيات سحيقة تنقب الذات عن خلاص، عن فجوة صبح تسكب تباشير شمس وفية تداري اختناقا وثقلا قاسيين. فأخذ من الحياة فوضى ليخرجها نظاما، والاضطراب ليصوغه ترتيبا، والانطماس ليجلوه نورا.
وكمثقف واع بما يجري حوله؛ واع بما يحاك ضد الإنسانية؛ سواء عاش في ظل الاستعمار أو في ظل الأنظمة القمعية المصادرة لحرية الإنسان ؛ يعاني كل أنواع الضياع، إذ أصبح رقما من أرقام المدينة فقد فيها إنسانيته وشل فيها تفكيره، وأصبح عاجزا عن التواصل مع المجتمع ومع ذاته المعطلة. فحين يفقد الإنسان الرضا بما يريد؛ تجف الحياة تماما وتغشاه مسحة من الكآبة لأن الرضا يجلب السرور وفقد الرضا يفجر البكاء من العيون يقول متذمرا: "أنا أتلاشى .. أشعر بأنني غير موجود .. ربما أكون ذبت في الأشعة ورحت إلى السماء لكي أركع تحت أقدام الإله .. أخبره عن رغبتي في أن أكون شيئا. بدلا من كوني لا شيء" . تحول كل شيء إلى مرارة مخزنة حطمت الإحساس بالرضا والقبول؛ وغدت الأيام سجنا أبديا للإنسان، والأرض وجودا ملعونا، القادم إليها مفقود والذي يغادرها مفقود. فهي سجن مفتوح كل شيء فيها غامض، وسديمي يمشي فيها الإنسان كالأعمى لا يفرق بين الليل والنهار، ولا بين القبح والجمال. يقول: " الطغيان لا يعرف جنسية أو هوية .. الطغيان لا يعرف عنوانا أنا أكره الظلم والطغيان" .
لازال ذاك الإنسان الطامع في وقت انبلاج فجر الأمل؛ ينام في الحصباء ويلتحف الألم، يعيش في معمعة الواقع باختياره. وهو إحساس تام بالضياع تتساوى فيه الإرادة الدافعة؛ والإرادة المعطلة. فلا شيء يتغير؛ ولا أمل في التغيير. هو ذا اغتراب الإنسان الذي ضاق من قسر الواقع بعد انقلاب حاله لدرجة أصبح من الصعب – إن لم يكن من المستحيل- معها بوجود شيء يطلق عليه "إنسان". يقول في هذا الصدد :"يا أيها الإنسان.. ما أجمل هذه الكلمة عندما يصبح الإنسان إنسانا أو يوجد إنسان بالفعل في الوجود" . صارت الأيام للإنسان سجنا أحكم إغلاق أبوابه في ظل الهزيمة  والضياع، حتى عندما يفيق على صباح يوم جديد فإنه يعيش غربة عن نفسه مادام قد فَقَدَ القدرة على امتلاك ذاته وتحقيق إنسانيته فيها، يقول :" هبطت إلى أمريكا إلى الدمعة الحزينة في عينها إلى تمثال الحرية الذي يشكو لي مهزلة التقدم المادي" . حتى أضحت المدنية بصراعاتها المختلفة وضوضائها، بوتقة تذوب فيها إنسانية الإنسان، ويصبح قطعة من مكوناتها لا يملك القدرة على فرض وجوده وتحقيق ذاته؛ فيمضي في الأرض منقسما على نفس، وحيدا غريبا متلفعا بأحزانه.
وبمكر سردي تشويقي مقصود، من شأنه أن يجذب المتلقي المفترض نحو مشاركة السارد في حلمه، الذي يرجوه أن يتحقق، يقول: "نحن صعاليك الشوارع نملك الحلم والأحلام في بلدنا تداس بالأقدام" . ساعيا إلى التخلص من الاغتراب الذي يستبطنه، والتمرد على العصف النفسي الحاد الذي ينتابه، ويهز مشاعره وأحاسيسه، لأنه لا يستطيع أن يعزل نفسه عما يجري في عالمه فهو يتفاعل مع هذا العالم، ويتأثر به، ومن الممكن أن يؤثر فيه. يقول بإصرار الغيور على حال أمته: "اسمع يا راجل إنت انت ليه ما بتبطلش تتكلم عن مصر والعرب والتغيير.. إزاي بس أغير نفسي قوليلي .. نفسي أكون حمارا وغبيا زي كثير من الناس مش عارف .. يبدو أن نعمة الفهم والثقافة نقمة وعذاب" . فتجده يعتصر من السحاب رذاذا يروي ظمأ أفئدة مفعمة بعشق الجمال، هذا الفيض من العطاء ودفء المشاعر؛ لا يمكن أن ينبع إلا من روائي مرهف الإحساس؛ إنسان عشق قلما يموت في الكلمات ويذوب فيها. فكتب روايته "قهوة سادة" بحرقة وقلق، دون اغتصاب لحظة الكتابة بردة فعل رقيب وحسيب، فجاء عطاؤه متحررا، أبيضا ناصعا لا يخنقه سواد الأغلال. فهو مبدع بتركيبة معجونة بماء الجرأة في تعرية الخلل في المجتمع، وفي القيم، وفي الذات، وفي الإنسان.
الحكي فعل تحرري وانعتاق الذات من سجن الألم
استرفد السيد حافظ من الإرث الأسطوري؛ عبر استغلال الأصوات المندثرة في تعرجات شفهية عريقة في القدم؛ عاملا على تشكيل الواقع الأسطوري وفق رؤية جمالية، تكشف عن تناقضات الحياة. لا تروي أحداثا جرت في الماضي وانتهت، وإنما تصور صراعا أبديا تعرفه الحياة الإنسانية، وهو صراع موجود على الدوام ومظهر من المظاهر الحياتية التي قد تصيب الإنسان في أي وقت وحين.
إنها "شهرزاد" المرأة التي دخلت معبد الحكاية، لتدفع القتل عنها وعن بنات جنسها. المرأة الإنسان التي زرعت وردا لاقتلاع شوك الحقد من حديقة الإنسانية، شهرزاد التي كانت وما تزال قائمة، حكيها مستمر. لأنها لم تقل كل شيء، فحالة الصراع بين الخير والشر؛ الصراع الدائر بين السلطة والشعب في الماضي والحاضر لازال قائما لأجل البقاء والحياة.
"شهرزاد" الأسطورة التي ومنذ القديم نالت حيزا كبيرا من اهتمام كل من سوّلت له نفسه اختراق قلاع لياليها، فكانت تفكيره الذي يفكر به، ويده التي يبطش بها، وعينه التي يرى بها العالم، فلقد كانت سراجه المنير الذي يقتفي أثره. فكما شغلت ابتسامة الموناليزا الغامضة الكتّاب والأدباء والرّسامين والفلاسفة، وأسالت حبر العديد، ظلّت شهرزاد دون ابتسامة، لكن بدهائها وذكائها سلبت العقول، فكانت وستظل اللّغز الذي حيّر وسيحير الأدباء. فهي العنقاء التي تبعث مع مداد كل مبدع فنان.
فلا مناص وشهرزاد بهذه القوة أن يستلهم الروائي السيد حافظ هذه الأسطورة الشهرزادية، فيعيشها كإنسان وناقد لأوضاع اجتماعية وسياسية واقتصادية عاشتها وتعيشها مصر، وكل البلدان العربية بله الإنسانية جمعاء. فشهرزاد الأسطورة مثال للمرأة الذكية والفدائية التي ضحت بنفسها لأجل الحفاظ على بنات جنسها، ومن ثم الحفاظ على الحياة والاستمرارية، هو بعث من جديد يقول: "آه يا سهر لو تعلمين كم أحبك" . فعبر سلاح الحكي تراوغ ملكاً مدفوعاً بهوس الانتقام وتغويه بسلطة المعرفة. وبالحكاية المروية بسحر تقهر الموت؛ وتبعد أطيافه. إذ لم تكن تحكي وتتكلم، وتؤلف فحسب، لكنها كانت أيضا تواجه الرجل، ومعه تواجه الموت من جهة، يقول الدكتور عبد الله الغذّامي: "تدافع عن قيمتها الأخلاقية والمعنوية من جهة أخرى، كانت تتكلم والرجل ينصت، فإذا سكتت تعلق شهريار بصمتها يوما كاملا إلى أن تتكلم مرة أخرى لتمارس عليه سلطة اللغة وسلطان النص" . لتمثل هذا الانتصار العجيب للبريء والضعيف؛ الذي ينجح في تغيير مصيره بمداهنة جلاّده؛ محولاً الحقد إلى حبّ.
نافلة القول لم يحاول استدعاء شخصية شهرزاد التي حظيت بامتداد عبر الزمن للإمتاع، إنما بغرض تشكيل خيوط متينة في النسيج العام للبناء الروائي، وبلورة طرائق مستحدثة تضمّ خواص الأسطورة العجائبية لتؤلّف نسيجا سرديا تلتقي في رحمه أساليب وبنيات تعكس علامات التجريب بمختلف أنساقها، ومن ثم خلق نص سردي جديد. باعتبارها رؤية "مغايرة للأشياء .. ولذلك تكون الكتابة المتشبّعة بروح الفانتاستيك مغامرةً واستجلاءً للبقايا والهوامش والمقصي من كينونتنا المحاصرة بضغط القوانين والمحرّمات وشتى أنواع الرقابة" .  ولإماطة ستر طالما حجب شمس الحقيقة عن الأبصار، فهي ببنائها السردي ومضمونها الخرافي تعتبر هروبا من الأوضاع الواقعية المتردية، حدَّ يمكننا القول إن الكاتب يصنع أسطورته الخاصة.
هذه صورتها وذاك شأن الحكي
في النهار تولد الحكاية، وفي أول الليل نحكيها، وفي آخره ننام على وقعها. كان شهريار يسهر كل ليلة مستوحشا فصار سجين حكايا شهرزاد. هذه المرأة التي أوتيت "علم" الحكايا فتسللت لتروي للعالم دور امرأة ليست ككل النساء، أسطورة خلقتها الأزمات والمحن وتواتر الألم. "شهرزاد" أنموذج صقلته الصعاب فكانت أسوة في التحدي، والصبر، والذكاء، يقول السارد: "تلك المرأة الشامخة، أسطورة كل العصور. "قالوا عنها عرافة الجن  يمدها عشيقها الجني بالسر .. وأسرار كل البشر .. شهرزاد تحب سهر لأنها تذكرها بشبابها تذكرها بالجمال الذي فتن العقول في شجن .. وألهب خيال الرجال" . فهي لم تركن إلى سيل الدموع، وتخفي وجهها وراء غلالة الحزن وتتوقف عن الحياة. بل لملمت شمل حزنها، وابتدأت غدها بفكر مسؤول يعي حجم ما بانتظارها، وما يحمله من تحديات. متأهبة لتكون في عون كل من لجأ إليها وطلب مشورتها؛ فلا تبخل عليه؛ ولو بالقليل. يقول: "ذهبت أمها بها إلى "شهرزاد" وقالت لها: البنت صارت أنثى. زغردت "شهرزاد" العجوز .. نثرت عليها بخورا به حبهان وعين الشيطان حرقتها في النار" . راهنت شهرزاد/الحكيمة على أن إشاعة الفرح يأتي دوما بالغد المضيء؛ الذي يرتب الأحزان هنا وهناك، حتى لا يدع المستقبل يتوقف عبر زمن مظلم حاسرَ الرأس، مكلومَ الفؤاد. يقول السارد: "تؤمن بكلام شهرزاد العرافة التي تسكن في كوخ بعيد .. شهرزاد لم تتزوج ولكن سميت باسم شهرزاد لأنها أسعدت أناسا كثيرين بقراءة كفهم" .
حققت شخصية "شهرزاد" طموح انعتاق الذات الأنثوية فاستطاعت بالذكاء؛ والقدرة على الإبحار في دهاليز الحكي؛ أن تتغلغل في أعماق الذات الجماعية، وتعبر عن فضاءات الكائن والممكن. وهي في ذلك مسكونة بفكرة انعتاق الذات، وفي محاولة دؤوبة لمعانقة جماليات الكلمة في أقصى درجات اشتغالها وبوحها ومعاناتها. تقول الدكتورة فاطمة المرنيسي في كتابها "شهرزاد ليست مغربية": " السرد فن ننجح أو نخفق فيه لكننا نحتاجه لنحيا ونجعل الآخرين يحبوننا، يجب معرفة الآخر جيدا لإغوائه بشكل أفضل" . فليس خافيا أن شهرزاد جعلت من إنتاج الكلمة/ الخطاب الذي يحررها/ المرأة من بطش الآخر، حيث اعتمدت بدكائها لولبية السرد لإبقاء البطلة سهر على قيد التفاؤل بغد مشرق؛ ينقذها من قبضة كل رجل سولت له نفسه الارتباط بها؛ والاستمتاع بعطرها الساحر، يقول السارد: "لكن العرافة شهرزاد قالت لأبيها: لا .. ابنتك ستسافر إلى بلاد النفط  .. بلاد الذهب تتزوج من رجل ثري وتفتح لها المدن ألف نافذة نور.. وستتمرغ في الذهب .. الأب ينتظر أن يأتي هذا الفارس القادم الرحالة .. لترحل معه سهر على سفينته .. ويكون علمها شمس وقمر .. كما قالت العرافة العجوز" . تبدأ شهرزاد حكيها مع بداية اللّيالي متخذة من فكرة قطع الحكي/ السرد أداة إغراء تنال من البطلة سهر؛ فتجعل قلبها معلقا بحكاياها، فتنال منها حتى تصل حدَّ الإدمان فلا تستطيع أن تعيش دون حكي. "قالت شهرزاد: إلى هنا صاح الديك وغدا نكمل الحكاية يا سهر .. من باع باع .. ومن اشترى اشترى .. لقد باع أخته .. واشترى الكاهن نفر بثمن بخس .. لقد حول كي إلى غاسل للموتى .. غدا نكمل الحكاية أو بعد غد" . جعلت شهرزاد/الساردة حكيها مفتوحا، إذ تنهي كل ليلة قصتها بموقف شائق مفتوح، مردوف بعبارة "غدا أو بعد غد نكمل الحكاية"، وهذا ما يلزم على البطلة سهر إبقائها لسماع نهاية الحكاية، "مرت شهرزاد على بيت سهر .. وبعد تناول القهوة والضيافة همست سهر ومن هي الروح الثانية يا خالتي شهرزاد؟ ضحكت شهرزاد وقالت: هي بنت جميلة عاشت في عهد النبي موسى؟ ما اسمها وحكايتها؟ قالت: اسمها نور غدا نبدأ الحكاية" .  نسيج حكاياها كنسيج عنكبوتي متداخل ومتشابك الخيوط، معلوم المركز. فمركز الليالي ومحور دورانها هو القصة الإطار؛ التي لخصت دوافع السرد؛ تتبع حيوات الروح الأولى التي تنحدر منها سهر البطلة، ومن ثم معرفة سر عطرها الساحر الذي سلب لب كل من استنشقه ولم يعرف سره، هذا السر الذي بات لغزا لا يفقه كنهه سوى شهرزاد التي أوتيت من العلم دون سواها. فالحكاية الأم لها قدرة على توليد حكايات مرتبطة ببعضها البعض، بسمات مشتركة، "قالت شهرزاد وهي تشرب آخر رشفة من فنجان القهوة وتطفئ ركوة النار: الآن اذهبي إلى بيتك يا سهر تأخر الوقت اذهبي قبل الغروب. قالت سهر: ونفر. قالت شهرزاد: غدا سنكمل الحكاية يا سهر." . فبين عبارتي " بلغني يا أجمل بنات الجبل" و" إلى هنا صاح الديك وغدا نكمل الحكاية يا سهر " ترسم شهرزاد عالمها بفضاء معماري وهيكل لولبي يرتكز إلى رؤية شمولية. إذ تكمن وظيفة الليالي في كونها تجسد تقطيعًا يبعث على إغراء المتابعة والترقب، ويحث على التتبع والاستمرار، وبدون هذا الفصل السردي ستبدو حكايات شهرزاد تراكمًا لا حضور له، حتى تمر البطلة "سهر" بمحطتي توقف لا غنى له عنهما؛ نهاية الحكاية ونهاية الليلة، وبين هاتين المحطتين تتزايد متعة السرد وبهجته.
لا ريب أن شهرزاد التي أنقذت حياتها وبنات جنسها من الموت بـ"القصة المحكية" عندما قبلت التحدي لتحطم الجبروت والظلم، كانت لها "خزانة مفترضة" وإلا فمن أين لها هذه الذخيرة النصية، يقول السارد: "شهرزاد قد ورثت من أبيها مكتبة بها كتب الشيخ الإمام جلال الدين السيوطي وكتاب ابن حزم  طوق الحمامة في فن النكاح .. لم تقل سر علمها بالعشق والغرام" . فشهرزاد كانت على قدر كبير من العلم والمعرفة وهذا ما أكده كل من اخترق حصنها. تقول الدكتورة فاطمة المرنيسي: "أعود إلى ذي بدء: علم المرأة وثقافتها. إن مأثرة شهرزاد ما كانت لتتم لو لم تختزن كمّا هائلا من الأخبار التي استخدمتها لتبني قصصها حيث التفاصيل الواقعية المدهشة تنم عن معرفة استثنائية وإلمام عميق بالعالم والكائنات" . الأمر الذي سيمكن شهرزاد من تصريف المعرفة لممارسة سلطتها على كل من دق باب حكاياها، إذ ستشكل مصدر قوتها لإحداث التغيير المرغوب، ونقل معرفة ما بالعالم، إلى معرفة أوسع وأشمل لتحقيق التجاوز وفرض البديل الممكن لإعادة الحياة لمجراها الطبيعي والإنساني جاء على لسان السارد قوله: "تجلس النساء تحت ركبتها يشكين من ضعف الرجال الجنسي وجهلهم بالتعامل معهن. فقط هي شهرزاد التي تعرف .. وتنصح بعض النساء بعمل فنجان قهوة على الريحة قبل الجماع بنصف ساعة حتى ينجبن ذكرا .. وتعرف للنكاح مائة اسما فتجلس النساء أمامها في ذهول .. تقول إن النكاح له أسماء كثيرة" . فشهرزاد السيد حافظ تشبه شهرزاد ألف ليلة وليلة؛ في سعة علمها وتنوع ثقافتها فأضحت لغزا حيّر عقول المفكرين وسلبه، فهي وحدها قادرة على تفسير نفسها. يقول السارد: "والنساء يجلسن في ذهول أمام علمها قالوا إنها قديسة وقلن عنها لعوبا قلن تزوجت من ألف رجل .. قلن وقلن والناس دوما تقول " .
حملت شهرزاد العالمة على جلب انتباه الآخرين؛ وحملهم على الشهادة لها بقدرتها على الإمتاع في السرد؛ والمعرفة التي هي في الأصل حصيلة ذهنية لتراكم التجارب الإنسانية في بعدها الكوني، وقيمتها في تكسير النظم القاهرة المؤطرة لوجودها. فأضحت قبلة العارفين السالكين طريق البحث عن كينونتهم يقول: "خرجت سهر من المدرسة مبكرا .. ذهبت إلى بيت شهرزاد ..لم تجدها جلست سهر أمام بيت شهرزاد .. الروح تعطش لحكايا المعرفة كأنها طفل يعطش لثدي الأم" . وقّفت سلطة اللغة لتجعل من المستمع/البطلة سهر بعد كل ليلة من الحكي والسرد طفلا متعلقا بالصمت.
  حرص الروائي السيد حافظ على استلهام ذلك التلقي الإيجابي الذي حظي به كتاب "ألف ليلة"، وحضوره الفاعل لنص الليالي في الذاكرة. وشخصية شهرزاد المعجزة التي قاومت سلطة الرجل بسلطة الكلمة تقول الدكتورة فاطمة المرنيسي: "شهرزاد تتكلم والمعجزة تحدث" .
على سبيل الختم
هنا تنتهي رحلتنا مع روائي رسم بسرده وثقافته لوحة جمالية، طرزها بأدبه الأصيل، وزينها بدخيرته المعرفية. ولأن الزمن الإبداعي لا يقاس بالعمر البيولوجي، فسيظل هذا المبدع المتمرد القلق الحالم خالدا، سيتجلى مشرقا كلما أظلم ليل في وجه الإنسان. فما زال له حلم الكتابة والإنتاج طالما قلمه متوهج ينبئ بالإبداع والإمتاع.
هنيئا للروائي السيد حافظ المبدع الذي تيمم بتراب الوطن وتوضأ بنور الحرف وصلى في محراب الكلمة


لائحة المراجع
 الرواية: قهوة سادة، السيد حافظ، 2012، الهيئة المصرية العامة للكتاب.
 أرض الأبدية قراءات في تجربة الشاعر سيف الرحبي، مفيد نجم، الطبعة الأولى، 2007، منشورات الجمل.
 سوسيولوجيا الأدب، روبير إسكارييت، ترجمة آمال عرموني، 1999، دار عويدات، بيروت.
 الشعر والتلقي، علي جعفر العلاق، الطبعة الأولى، 1997، دار الشروق، الأردن.
 الشعر العربي المعاصر قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية، عز الدين إسماعيل، الطبعة الثالثة، دار الفكر العربي.
 شهرزاد ليست مغربية، فاطمة المرنيسي، المترجمة ماري طوق، الطبعة العربية الثانية، 2003.
 عتبات النص بحث في التراث العربي والخطاب النقدي المعاصر، يوسف الإدريسي، الطبعة الأولى، 2008، الناشر مقاربات.
 مدخل إلى الأدب العجائبي، تودوروف، ترجمة الصديق بوعلام، الطبعة الأولى، 1993.
 المرأة واللغة، عبد الله الغذامي، الطبعة الثالثة، 2006، المركز الثقافي العربي.

الأربعاء، 16 نوفمبر 2016

نون النسوة برواية "كل من عليها خان" كنه العنوان ونون النسوة... دكتوره جميلة مصطفى زكاى الجزائر

نون النسوة برواية "كل من عليها خان"
كنه العنوان ونون النسوة...
دكتوره جميلة مصطفى زكاى الجزائر
  يشكل العنوان في الإبداعات الأدبية والفنية النافذة التي تفسح المجال أمام القارئ ليلج معالم النص مستكشفا مضامينه وأفكاره ومكامن الجمالية التي يحفل بها، كما ييسر معرفة نمط النص ونوعه بغية وضعه بمكانه المنوط به، كذا لتيسير إقبال المتلقي على المجال أو الجنس الإبداعي الذي يود الاطلاع عليه والإلمام بمكنوناته.
  يؤدي العنوان دورا جوهريا في فهم المعاني العميقة بالعمل الإبداعي والأدبي لكونه العتبة الأولى التي يدرج بها القارئ طلبا لاستكناه معالمه وعوالمه. وقد يتسلح برؤية أو منهج في مقاربة ودراسة هذا العنوان ونقده والعمل على تشريح مضامينه متى أحسن اختياره وفق ما يتطلبه مضمون العمل ويوائم أغواره.
وعليه، شغل العنوان في ثنايا المنهج السيميائي مساحة واسعة؛ فكان محل نقد وتأويل لفك طلاسمه واستجلاء مواءمته لمعاني النص ومضامينه. وهذا ما كفل له ان يكون أول درج بسلم النص لما بينه وبين النص من علاقة تكاملية...
  وعنوان "كل من عليها خان" عبارة عن جملة إسمية تستهل ب"كل" التي توحي بالجمع والشمولية المطلقة، فيأتي بعدها "من" الاسم الموصول المشترك الذي يؤكد معنى سابقه، لكنه يحدد مساحة الإطلاق بدلالته على العاقل الذي قد يكون المرسل أو المرسل إليه الذي احتفى به النص الروائي من بداية السرد إلى نهايته. وقد أصرّ المرسل سرد واقع أليم جمع فيه بين الماضي والحاضر وبينهما تشابه وتماه..
    وإذا كان المرسل إليه كيّسا حويطا متفقها حكيما سيتقبل هذا الواقع بعلاته، فيعايشه من الاستهلال إلى النهاية، فتبقى عينه حريصة على متابعة السرد وتقصيه في تداخله عن طريق الحكاية في الحكاية والواحدة منها أشد تشويقا وإمتاعا وإيلاما أو حتى إيذانا بالوجع والألم والتقزز إلى جانب الانبهار والدهشة والرعشة..
  قد يدل الاسم "من" على عموم العقلاء وحتى المجانين الذين يملاون المعمورة إيجابا وسلبا، بخاصة إذا تم فحص الجار والمجرور الذين ذيلا "من" والضمير "ها" الذي يعود فيه على الفضاء الجغرافي الانساني الذي يتحمل ما يقترفه هؤلاء بصبر وسعة صدر، بينما يقابل هذا الشعور الانساني وهذا العطاء اللامتناهي بالخيانة والجحود والنكران وقد تجسد ذلك بالفعل الماضي الذي ينهي صياغة العنوان " خان". وعلى الرغم من ماضوية الفعل إلا أنه يتماهى بالحاضر دلالة وإيحاء، إضافة إلى ما يحويه من استفزاز وإثارة وجرأة وعصيان...
  يبدو هذا العنوان ظاهريا متجافيا مع نون النسوة لكن الجفاء والخيانة نسبيتان.. إذا كانت نون النسوة تعول على التأنيث فهي ضمن هذا الكل الذي تشكلنه وتتحكم فيه ببراعة وراحت تمسك بزمام بنائه حكاية حكاية وحدثا حدثا. ..
  وإذا تعود المرسل إليه المقهور قبل الآن على عنوان واحد، فإن كل من عليها خان جاء مرفوقا بست عناوين أُخر تكفل له الحرية في الانتقاء وهي على النحو الآتي:
فنجان شاي العصر – الرائي- العصفور والبنفسج –كل من عليها جبان – كل من عليها هان – كل من عليها بان
  يبقى السؤال مطروحا متى سيتم اختيار القارئ للعنوان؛ وهو تاج العمل، أببداية القراءة أم حين يدرك منتهاها؟؟ لا يغبط القارئ أبدا على دلاله ومساحة حريته لأنها عناوين مفصلية لمضامين هذا العمل السردي الذي يعلن العصيان على المضامين والأشكال...وسيحتار المرسل إليه في الاختيار نزولا عند رغبة المرسل الذي عده صديقا وشريكا بهذه المؤامرة السردية فكريا ودلاليا:
صديقي القارئ يمكنك الآن أن تختار عنوانا من السبعة  وتبدأ في قراءة الرواية بالعنوان الذي إخترته أنت..
دعك من اختياري فأنت الآن شريكي....
  وطالما التذكير بالعرف العربي يحوي التأنيث فلا شك أن الاختيار مُقترح لنون النسوة أيضا، ومالا يؤنث لا يعول عليه... ؟؟؟!!!! وعلى الرغم من أسلوب التعدد بالعنوان لكن "كل من عليها خان" تصدر وأوحى وعبر ودل ولا يُظن بأي مرسل إليه أنه له ناكر وعنه ملتفت...
مخادنة سهر وشهرزاد
  تتربع "سهر" بعرش حكاية الروح الرابعة وهي زوجة منقذ وعشيقة فتحي الصحفي المصري؛ سر خطير لا تعرف به غير سهر وصديقتها شهرزاد القناة الأصلية للبناء الروائي التي يعول عليها في تحمل السرد الحكائي ذي الحلقات المتكاتلة فيما بينها. شهرزاد هذا الاسم الذي يوحي على الفور بالذكاء والدهاء والحيلة والقدرة على الفتك والنيل من متلقيها، كما أنها الأنثى التي تلت ثلة من النساء قبلها لتوقف سلطة الرجل، وتتمكن من دحض جبروته وكسر شوكة تعنته. هي التي أوقفت جرم شهريار وجسدت رغبتها في البقاء، مصدر فتنة واستجابة وسعة صدر وصبر وأناة وتحكم... فانصاع الرجل لحلاوة لسانها وصنعتها الحكائية التي لم تنل من شهريار فحسب بل سيطرت على أعداد من المتلقين لا تحصى ولا تعد...
    شهرزاد "كل من عليها خان" تضارعها حنكة في كسب الزوج وخدمته..وهي زوجة حامد الصقر كما كانت لسهر صديقة وأمّا وخالة تحفظ سرها وتنصحها محاولة تفهمها، وهي العجوز(كما أشارت تهاني لزوجها فتحي) والحكيمة التي استطاعت تشريح نفسية فتحي من خلال مقالاته عن سهر.
    ومن ناحية أخرى فهي الرائية التي استشرفت ما سيحدث لها عن طريق عطرها فحدثت النبوءة. كما تمتلك شهرزاد مفاتيح الروح والقلب، بل أكثر من ذلك فهي عمدة دبي المتحكمة بنبض شوارعها وأزقتها وأحاسيسها وانفعالاتها" إن شهرزاد هي التى تعرف مفاتيح الروح والقلب.. وحين سكتت شهرزاد سكتت شوارع دبي ..وحين تحزن شهرزاد تحزن دبي..المدن نساء والنساء مدن...وتعود شهرزاد إلى دور الأم النصوح التي تخاف على سعادة بنتها من بلاعة العشق المجنون وتشور عليها بترك حب فتحي وتعويضه بالإدمان على العمل ليل نهار لتتخلص من قوى الهوى القاتل بخاصة وهي خيانة زوجية.

   أما سهر فهي المقصودة أكثر من شهرزاد في هذا العمل، إذ تتحول من المذنبة إلى الضحية وتجعل الآخر يتعاطف معها، مع أن علاقتها بالصحفي المصري خيانة زوجية لا تقر بها ولا تقبلها أية ديانة سماوية أو عرف من الأعراف...هي الفاتنة التي سلبت عقول عشرات الرجال قبل منقذ زوجها. وتبدو ظاهريا "أبرأ من براءة الملائكة والندى والأطفال"لكنها تقتل بفتنتها يوميا عشرات الرجال والشباب...هكذا يصور السيد حافظ صورة المرأة فيعتبرها وطنا ومدينة ومسكنا ومرفأ، لكن عشرات النساء تسللن من ثقب روحه فلم يعد يتذكرهن"  وقد كانت مدن النساء تحاصره "وتحاصرني مدن نساء متآكلة الأحلام والرغبة والجنون.."
    لكن الوطن على الرغم من خيانته له لا يزال يعشقه؛ فهو العشق المنزه عن النسيان والإقصاء والانتقام فيستنكر التوبة والعدول عن عشقه" كيف أتوب عن عشق وطن زنت به كل الحضارات واحتُل 7 آلاف عاما .."عقد الكاتب مقابلة بين عشقين سكناه فيرجح في كل مرة كفة الوطن... ونسيت أسماء نساء كثيرات مررن من ثقب الروح والقلب المجروح والعشق المفضوح ..ولم أنس أن هذا البلد ذو الجورب المثقوب العطن أهانني طوال العمر...وفي موضع آخر يجيب فتحي عن سؤال زوجته تهاني -هذه الغائبة الحاضرة بقوة التي تحس وتداري إحساسها نظرا لحبها المستميت لزوجها- إن كان لا يزال يحب مصر فيجيبها وقد غالبتها العبرات قدري أن أحب تلك الخائنة ..
وانفجرت الدموع من عينه وهو يمضغ الطعام ببطء شديد ..
    يحدث أن ييأس الكاتب من حب الوطن فيستبدله بحب النساء الذي يسهل عليه الظفر به لانه ملك راحتيه وعنفوانه وعطره، بينما الوطن بأياد أخرى تدنس أكثر مما تنظف وتطهر ولذلك يستسلم لسلطة الحب حيث الدفء والحنان "بينما الأوطان بمثابة أكفان "أنت وطني يا سهر وانا وطنك فهذه ليست أوطان بل أكفان ونخدع أنفسنا ونكذب ..الحب أحلى وطن للانسان وليس المكان. الحب يبدأ بالنساء ..وينتهى بحب الألوان." ولا مرفأ للأنا الساردة متى جفا الوطن إلا نون النسوة التي تعوضه عن الجفاء والحرمان..

وجد وفجر؛ كينونة افتتان عجائبية
-          وجد المرأة الأسطورية جمالا ورقة وعنادا وإصرارا يفوق التصور، وهي الروح الرابعة لسهر أي أنها نجمت عن سهر.. "كان يا ما كان روحك الرابعة في جسد بنت تسمى وجد .." وهي بنت جارية تركية ببيت أحد الأثرياء الذي أعتقها وزوّجها من حلاق مصري إسمه عمار ظفر بها على إثر حلقه لياقوتي التاجر الثري بمهارة واحترافية فحرر جارية وزوجه إياها. فبقي على حب جميلة وهو يدرك أنها تستحق رجلا أفضل منه لجمالها الانثوي الصارخ "لا تكمل كلامك أنت تستحقني لأنك رجل طيب.. وأنا أستحقك لأن الله أراد أن يسترني ويحفظني وأظل جارية من بيت ثري لبيت ثري.. ومن قصر إلى قصر.. لقد خطفني تجار الرقيق وأنا في بستان خالي في تركيا.. كنا نذهب للبستان كلما أردنا شيئا.. في ذاك اليوم لم يكن خالي هناك ولا العمال وظهر رجلان معهما شبكة وغطاء وأمسكوا بي.

          بزغ نجم وجد من هذه العلاقة اللا متوقعة ووجهها يشع نورا، كما ينبعث من جسمها عطر له دخان خفي يثير الرجال ويضرم غيرة النساء فهي أعجوبة أقرتها القابلة يوم ميلادها "وجد.. كانت أعجوبة زمنها، فعطر جسدها دخان خفي يلهب جسد الرجال، ويشعل غيرة النساء..ففي لحظة ولادتها قالت القابلة (الداية) عندما رأت النور الذى يشع من وجهها ورائحة جسدها المعطرة وجمالها : البنت دي غريبة  فيها سر, وريحة جسمها مسك .." لطالما يلجأ الكاتب إلى هذه التفاصيل الحجاجية التي تسهم في بناء الشخصية من جهة وتبرر مواقفها فيما بعد، إضافة إلى تهييء القارئ لقبول تصرفاتها وأفعالها حفاظا على التكنيك الروائي. ولذا نجدها فيما بعد يطلق عليها اسم "مسك" عوضا عن "وجد" ويفيد الكاتب على لسان شهرزاد باعتبارها قناة سردية أنها خُطبت منذ سن السابعة وكأن عطرها كان يلفح من يمر بجوارها، لكن أباها كان يرفض.
   ركز الكاتب على بعض جوانب المرأتين سهر ووجد ولم يجعل الثانية روحا للأولى هباء، لكنه يركز على جمالهما الأخاذ وعلى استمالتهما للرجال بعطرهما، وكلاهما تثيران غيرة النساء. ويدل ذلك على أن السيد حافظ يعتني عناية خاصة بحبك العلاقات فيما بين الشخصيات حتى تبدو وكأنها نسيج حدثي موحد محبوك بعناية على الرغم من الروافد الحكائية الاخطبوطية.
  وإذا تعلق الأمر بفجر وهي زوجة شهبندر التجار؛ فهي تحمل الكثير من القيم الدلالية التي قلما تجتمع بامرأة، فهي فجر الجمال والغنى والدلال، لكنها في الوقت نفسه تملك قلبا من ذهب في معاملتها لوجد وحبها لها وعطفها عليها ومحاولتها مساعدتها بكل ما يتاح لها، ولذلك نلفيها تقول لجميلة وقد أدرك قلقها على وجد منتهاه "إسمعي يا امرأة..  وجد ليست ابنتك بل هي ابنتي واختي وحبيبتى...وبموضع سردي آخر تقول: "خذي الإذن من نيروزى زوجها.. حتى لا تحرجى نفسك أو تحرجيها واعطيها الآمان..  إني احبها مثل بنتي.. مثل اختي.. مثل صديقتي.

قوة السرد تجعلك في حيرة وأنت تفكك ثنايا هذه الشخصية إن كانت تساعد وجد لإبعادها عن زوجها أم فقط نتيجة حبها لها وسكنها بمكمن أسرارها؟؟؟ أم أنها البنت التي كانت ترغب في إنجابها؟؟ لكنها حرمت نعمة الأمومة، ومع ذلك بقيت كالطود الأشم تدافع عن وجودها كأنثى وكامرأة.. 
يجمع السرد فيما بين المرأتين بفضاء متخيل ومشتهى بمركب النيل العتيد فتندمج وتتماوج شعرية جمال السيدتين "وجد وفجر"وجمال المكان الذي حنّ لتواجدهما به: ... سيدتين جميلتين كل واحدة تجذب القمر إلى كاحل قدميها.. .كانت ضحكات فجر تداعب السكوت والليل والقمر والنيل.. ضحكة بين المجون والسرور.. كانت تقاوم حزنها الداخلي بعدم الإنجاب بضحكات وتوزيع الفرح على كل من حولها, وتشتري بشراهة الذهب والمجوهرات..وما شحذ جمالية هذا الاحتواء هي نظرات الصعيدي المراكبي الذي تتلذذ عيناه بسحر اللوحة الأنثوية الصارخة دون أن يدرك المبتغى والمشتهى" لم يرفع عينه في كل ضربة مجداف عن فجر وجمالها وشعرها المنساب على كتفيها و (وجد). شدته كثيرا. ربما يكون عطرها.الأخاذ. ربما يكون..نفسها..ربما يكون رأى القمر يداعب شعرها..أو شاهد النيل..
  وما يحسب لتكنيك بناء الشخصية ب"كل من عليها خان" تلك الحنكة في متابعة فجر المدللة والغنية التي لا يتوقع متابعها تصرفاتها بعد مقتل زوجها؛ إذ تبدو ثابتة الجأش لم تتأثر بهول فاجعتها، فتصدت لجشع المحيط ولم تتراجع عند أول نكسة، كانت تتصرف بحكمة ولين جانب، فمنحت العبيد الحرية التي رفضوها بسبب العجز والفاقة. لم تستسلم لمصابها الجلل بل واصلت إلى أن قادت الثورة ببنات جنسها ضد الظلم والجبروت والقهر والاستغلال البشع...ولذلك لها نصيب كبير من دلالة إسمها؛ فهي الفجر الجديد الذي يأمله الكاتب المتيم بعشق وطنه مصر المكافحة عبر أزمنة التاريخ !!!!! وفي الحقيقة شخصية فجر إثنتان قبل مقتل زوجها وبعد ذلك وثورة النساء هي أيضا ثورتان تجادبتا الواقع والخيال بأريحية...

المتنافرات الضدية لدى نساء حكاية الحكايات
  ومن توالد الحكايا التي كانت عبارة عن متواليات سردية تشد الواحدة منها برقبة أختها فلا تزيدها إلى إيحاء وظلالا تذكي وتيرة الحدث الروائي الذي توأم بين التلذذ بالحمولة التاريخية التي عرت حميمية صفحات السرد الروائي وبين تباين الأجناس التي طوعها الكاتب لتصير من روح "كل من عليها خان" ومن بنائها المصمم بذكاء.
  ومن خلال هذا التفاعل التواصلي الحكائي انبثقت شخصية "سكينة" وهي كما وسمها الحارس ضمن الحكاية المثخنة بالفضائح التي أثقلت كاهل تاريخ مصر " "مولاتى سكينه سيدة مصر الأولى وأم مولانا المستنصر بالله" ويستدرك الكاتب التعريف بها ليخبر لاحقا أنها (امرأة زنجية) هي التي تجمع بين طبقتين لا تجمعهما إلا زلة غريزية إنسانية. فهي الجارية الزنجية التي أضحت سيدة القصر بإنجابها لولي العهد الذي حاولت "ست مصر" حرمانها منه خوفا على تربيته ومستقبله، لكنها لم تنصع لرغبتها.
    وعلى الرغم من الصراع البادي بين سكينة وست مصر إلا أنهما تكتملان لاشعوريا الزنجية وسيدتها والرعونة والدهاء...تعكس المرآتان ذاك الصراع الأزلي بين طبقتين تتعايشان إلزاما وضرورة وأحيانا قهرا وكرها دون أن تتنازل إحداهما عن طبائعها وسلوكها الملتصق بأناها، يُختزل ذلك على لسان سكينة "وإنت مالك.. مش ح تبطلي جواسيسك.. في كل مكان جواسيس.. على كل بيت في مصر جواسيس..  حتى إبني الخليفة المستنصر بالله"
  لكن كفة العقل والحكمة ترجح لصالح ست مصر التي تشور على المستنصر بتبصر وتفهم المستبصر السياسي الحكيم الخبير المحنك حنكة الأولين...التي قابلها المستنصر بالنكران وبمناصرته للحرية الخرقاء التي أتت على الأخضر واليابس بعهده. وبقيت ست مصر متشبثة بموقفها إلى أن شاركت بثورة النساء التي جاءت بدلا عن سكوت الرجال...مع أن الظهور الأول لست مصر أبداها بغير ما ظهرت به بنهاية هذا السرد الولود ذهابا وإيابا. فكان التنافر الضدي حتى على مستوى الشخصية الواحدة حفاظا على تعلق القارئ بها وبخطابها الذي بقي متأججا، فلم يعرف الهوادة في المطالبة بالحق المشروع حتى بأقرب المقربين...
  لقد حفلت "كل من عليها خان" ببورتريهات" للمرأة المصرية آية في التنوع، فكانت بالضبط مثلما صرحت بذلك الأنا الساردة " قلوب النساء في مصر هي التاريخ السري للمحن وما خفي كان أعظم.." أدمن السرد بنسيجه على المرأة بصفتها محركا لأحداثه عبر حكاياه التي تفاجئ القارئ في كل مرة بنوع جديد وبطراز متفرد لم يكن بحسبانه البتة؛ فمن سليمة العرافة اللعينة التي أشارت على شهبندر بالزواج من وجد، وجعلت النوم يجافي عمار إلى حورية سليلة الحكاية الرابعة إلى جانبها بنتها شحاتة إلى صباح وهنية بنتي الحكاية الثامنة... وكلهن أطلقن العنان لذواتهن وتاء تأنيثهن في كل الاتجات فبحن وصرحن بلا زاجر عقيدي أو سياسي، عولن على البوح والإفصاح وتعرية الذات أمام تعنت السلطة والرقابة أيا تكن فصيلتها ...
  المراة ب"كل من عليها خان" خائنة للعرف والعادات والمتعود والمسأنس بالظاهر المثالي الذي يريده لها المجتمع، خائنة لدورها الذي قد يكون ببعض الروايات ثانويا باهتا فهي صاحبة السلطة والقرار حتى وإن بيعت مقابل حفنة قمح "يا تجار مصر..يا رجالها..يا كبارها..مين يشتري بنتي بعشرين كيله قمح..فهي المكافحة والمضحية والجريئة. وناهيك عن صفاتها الخلقية والجسدية التي كانت في منتهى الخيانة الجمالية...وهي الحاملة للسرد شكلا ومضمونا، وصانعة لحكاياه فصلا ووصلا وتيسيرا وتعقيدا إلى أن تصل ببوق السرد وقناته إلى بر النهاية.
     وإذا كانت "النساء كالمدن لكل منها سر وأسرار" فإن المرسل هتك حجاب أسرارها ليخرج مكامن درر عملن على تخزينها بالكبت والدهاء والحيلة فقوضن جميعا تلك الحكمة المثخنة بتضعيف المرأة وكسر جناحها كونها لا سلاح بحوزتها غير الدموع...نون نسوة "كل من عليها خان" مفعمة بالسحر والفتنة والعهر والزهد والتدين والعفة والطهر والانفة والكبرياء...فهي الصهصليق التي عرت التاريخ والأنا المصرية حبا وشبقا وخوفا على غد مهبط الأنبياء والرسل تحت نير الصمت الموبوء، فقادت ثورة تاريخية وفنية قلبت موازين المتعارف عليه كتابة سردية تطفح بالجدة والأصالة والتمرد...
 

الثلاثاء، 8 نوفمبر 2016

كل من عليها خان بنادي القصة بالقاهرة

أقام نادي القصة بالقاهرة أمس ندوته الأسبوعية لمناقشة رواية (كل من عليها خان ) للكاتب الكبير / السيد حافظ .. والتي صدرت عن دار رؤيا للنشر .. وذلك في حضور نخبة من الأدباء والمثقفين ، حيث شهدت الندوة مداخلات نقدية لكلا مم الدكتورة فايزة سعد أستاذ النقد بكلية الألسن ، والأديب أحمد محمد الشريف والناقد أمل سالم والأديب الناقد محمد قطب ، أدار الندوة الأديب حسان الجوخ سكرتير عام نادي القصة .

الجمعة، 4 نوفمبر 2016

ندوة حول(كل من عليها خان ) بنادي القصة الإثنين القادم

يقيم نادي القصة بالقاهرة ندوة لمناقشة رواية (كل من عليها خان ) للكاتب الروائي والمسرحي / السيد حافظ .. بحضور العديد من كبار النقاد والأدباء وذلك في يوم الإثنين الموافق السابع من نوفمبر بمقر النادي 28 شارع القصر العيني في تمام الساسة  والنصف مساء . والدعوة عامة لجميع الأدباء والمثقفين لمناقشة الرواية .

مناقشةالتمرد والتلقائية فى مسرح السيد حافظ


مناقشة
التمرد والتلقائية فى مسرح السيد حافظ
بقلم : سميرة أوبلهى – مكناس - المغرب
مجلة الشراع – 3 نوفمبر 1986 العدد 242
سميرة اوبلهى باحثة مغربية اشرف علي بحثها الناقد الكبير عبد الرحمن بن زيدان 
مازال مسرح السيد حافظ يحتل مكان الصدارة فى كتاب النقد العربى المعاصر. وكنا تطرقنا لهذه الظاهرة وتناولنا خصائص الخطاب المسرحى عند السيد حافظ فى غير عدد من أعداد "الشراع"
ونعود إلى مسرح السيد حافظ عبر دراسة وردتنا من المغرب بقلم الصديقة سميرة أوبلهى، ألقت فيها الكاتبة الضوء على اثنتين من مسرحيات السيد حافظ، هما " مدينة الزعفران" و"ست رجال فى معتقل 500 شمال حيفا".
استهلت الناقدة أوبلهى دراستها المقتضبة بقولها :
إن الفلك الذى تدور فيه المسرحية الأولى يتجذر فى أعماق الإنسانية ويكتنه أغوارها، مما يجعل رؤية الكاتب شمولية تطل عبرها لتشمل المحيط "الانساونى" عامة، بينما المسرحية الثانية يمكن القول أنها تدخل فى إطار شوفينى، فهى تخص بلداً بعينه هو الشعب المصرى أثر هزيمة 67، وإن كانت القضية تدخل فى إطار أشمل هو الصراع العربى الإسرائيلى غير أن المواقف التى تثار على لسان الشخصيات يبرز من خلالها هذا الطابع المحدود فى طموحات الإنسان المصرى المقيدة بين جدران تلك النفوس المصدومة. وكما ينظر الاستاذ سعد أردش لهاتين المسرحيتين بأنهما محاكمة مزدوجة لكل من المؤسستين العسكرية والمدنية الأولى تحاكم المؤسسة المدنية والثانية تحاكم المؤسسة العسكرية.
إن أهم ملاحظة توصلت اليها من خلال قراءتى لهذه النصوص هى أن السيد حافظ يكثف من الحيز المكانى المغلق . "فمدينة الزعفران" و"6 رجال فى معتقل 500 شمال حيفا" و"الفلاح عبد المطيع" "علمونا أن نموت وتعلمنا أن نحيا" كل هذه المسرحيات تعتمد على فضاءات مغلقة وهى السجن. فهل يا ترى هذا التكثيف من الانغلاق له ما يعلله عند السيد حافظ؟
ربما يكون ذلك تعبيراً عن المحاصرة النوعية لهذا الجيل "المحاصرة الداخلية : الانعزال والاغتراب عن هذا العالم(1)، و"محاصرة خارجية" داخل هذه القوقعة الجهنمية المسماة بالعالم الذى يخضع بموجب قواعدها لأساليب من القمع والخنق، يقول الدكتور السعيد الورقى: "والمحصور هنا هو انسان العصر الذى يمارس حياته بمشاعر متوترة تثيرها آلاف الأشياء المحيطة التى تحاصر الوجود الإنسانى فى الزمان والمكان"(2).
إن هذا النوع من المحاصرة يؤسس داخل إنسان السيد حافظ تمرداً تلقائياً ويحفزه على التساؤل.
وبداية التساؤل تفجير للشحنة المكبوته وزعزعة القيم السائدة، وبالتالى فرض حدود لهذه الذات واستنبات لمعالم الشخصية المتحررة من قيود هذا العالم. وكما قال البيركامو مستبدلاً الكوجيتو الديكارتى: "أنا أشك إذن أنا موجود" بـ "أنا أتمرد إذن أنا موجود" إنه كان يهدف إلى خلخلة المنظور السائد ليعلن بداية استقرار الذات بل والإحساس بالمسؤلية . وكما قال السعيد الوقى : "إن مسؤولية البطل الثائر كما يراها السيد حافظ مسؤولية نابعة أساساً من انتمائه إلى هذا الإنسان ومن وعيه لواقع عصره وإحساسه بمسؤليته تجاه هذا العصر بمحتواه المادى والفكرى"(3).
إن البطل عند السيد حافظ انطلاقاً من هذه التساؤلات يتولد لديه الوعى المأساوى كما يقول كولدمان هذا المنظور المأسوى يتوزعه محوران أساسيان ما السالب وما الايجاب، ما الصحيح وما الخطأ؟
فجميع الترسيمات الحوارية عند السيد حافظ تصطبغ بهذا المفهوم وتتنامى عبر هذه الوتيرة .
فإذا كان المستوى الحوارى لدى العوامل هو بمثابة مرحلة توسط لإظهار البنية الدلالية العميقة للنصوص، فإن السيد حافظ كمبدع لتلك الذوات يجسد النبة الدلالية للخط الدرامى الذى تبناه فى موقعة الإنسان داخل هذا العالم ، وبالتالى رسم الحدود التى تعيشها والمعاناة التى يكابدها، وفى نهاية المطاف طرح السؤال ماذا يمكن أن ينحقق وكيف السبيل إلى ذلك؟
ففى مسرحية "علمونا أن نموت وتعلمنا أن حيا" يتحقق هذا التساؤل يقول السجين الأول لقد مات أتسمعين ؟ لقد مات.
المرأة الخريفية : مات .. كيف ؟"(4)
واتساءل بدورى كيف يموت الوعى وتموت روح المقاومة، إن السؤال كما قلت سابقاً يكسر اجدار التراجع والخوف.
- السجين الأول : كيف يبوح ونحن نصغى .. ولم يكن يغضب من الطرق والاستفزازية ، قال إن القائد لا يستفز.
- المرأة الخريفية : الركود كان يصارع الركود.
- السجين الأول : نقص التطور هو المشكلة"(5)
يقول حسن عبد الهادى : "أما شخصيات السيد حافظ فإنها ضائعة فى خضم الحياة تبحث عن القيمة التى زيفتها أصابع الحضارة الحديثة، وتعيش وحشية رهيبة فى طريق سعيها إلى تلك القيم والمثل السامية سواء أكان ذلك على الصعيد الاجتماعى الإنسانى أم الأصعدة الأخرى كالدين والسياسة والإخلاق"(6).
وبالفعل إن هذه الترسيمات العاملية بمفهوم كريماس تظل غارقة فى سراديب هذا العالم الكابوسى بعلاقاته المتفسخة، والتحلل والفساد الذى بلغ حده الأقصى. كل هذه العوامل تؤسس حافزاً لهذه الشخصيات لتتحرك وتفعل.
السجين الأول : سألته مرة .. الدفاع الذاتى ؟ أم الكفاح العضوى؟ ابتسم لى وقال الأول تمهيد للثانى سألت الدفاع الذاتى أم حرب العصابات..؟
الدفاع الذاتى أم الحرب الشعبية؟ ابتسم وقال فى النهاية الدفاع ومات.
المراة الخريفية : مات اليوم أم الأمس؟.
السجين الأول : لا أظنهم قتلوه اليوم أو أمس. أظنهم قتلوا فيه الغد(7). والنغمة نفسها نجدها تسرى فى الحوار الذى يدور بين هادى وفؤادى من مسرحية الخلاص.
هادى : كل السويس يوم 5 يونيو كانت عايزة الفرح.
فؤاد : والفرح ليه ما تمش؟
هادى : ما تسألشى ليه؟
فؤاد : أمال أسال مين ؟(8)
الشاعرة  مازالت "فى معركة كبرى مع التاريخ – لم تحسم – لذلك قررت إن تحسمها لمصلحة بنات جنسها فهل وفقت؟
يبدو أن المعركة تراوح سجالاً

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More