Add a dynamically-resized background image to the page.txt Sayed Hafez (sayedhafez948@gmail.com) جارٍ عرض Add a dynamically-resized background image to the page.txt.

أدخل كلمة للبحث

الزائرون

Flag Counter

زوارنا

Flag Counter

الزائرون

آخر التعليقات

الاثنين، 13 سبتمبر 2021

13 التجريب والعبث فى مسرحية سيزيف بقلم : حليمة حقونى

 

 

دراسات من كتب د. نجاة صادق الجشعمي

(13)

 

التجريب والعبث فى مسرحية سيزيف
بقلم : حليمة حقونى

 

دراسة من كتاب

إشكالية الحداثة والرؤي النقدية فى المسرح التجريبى

الســيد حــافظ

نموذجاً


التجريب والعبث فى مسرحية سيزيف
بقلم
: حليمة حقونى

 


إعتمد السيد حافظ الأسطورة مادة ثرية استقى منها مضامنة الإنسانية فكانت منطقة الأساسى فى مجموعة من المسرحيات , لذلك لأن الأسطورة تتمتع بحركة وحيوية تجعل المؤلفين يتجهون إليها لنحت أشكالهم الدرامية من هذه المادة , وتوظيفها فى الكشف عن رؤيتهم والإطلال منها على قضايا عصرهم ومجتمعهم , وهم بذلك الإتجاه يحاولون تفسير الأسطورة تفسيراً جديداً يربط بنها وبين مشكلات عصرهم ويقربون بينها وبين الأطر الفنية السائدة فالأسطورة بمثابة المقالب الرمزى الذى تنصب داخله الأفكار البشرية ([1]).

وأسطورة سزيف تعتبر من أهم الأساطير ذات المضامين الإنسانية التى إتجه لها مجموعة عن المبدعين فصبوا فيها أفكارهم وتصوراتهم قاصدين بذلك التعبير عن عبثية هذه الحياة , ومهزلة الإنسان فيها فهو يعانى ألوان العذاب والضياع والإحتقار , دون أن يصل إلى نتيجة واضحة.

وهو فى ذلك مسيزيف الذى حكمت عليه الآلهة يحمل الصخرة إلى الجبل , وعاش حياته كلها معذباً مع الصخرة التى لم يمكن من أبطالها إلى القمة.

لكن , من هى هذه الشخصية الأسطورية التى أصبحت المصدر الأساسى الذى إستند إليه الروائيون والمسرحيون والشعراء والناس فى حياتهم العادية لضرب أمثلة من المأساة والعذاب غير المجدى ؟ لماذا حكم على سيزيف الصخرة إلى أعلى الجبل ؟ وكيف إستفاد حافظ من هذه الشخصية.

الأسطورة فى مسرحية " سيزيف " ؟

" سيزيف كلما سمعنا هذا المصطلح أو ذكرناه الا وتبادر إلى ذهننا شىء واحد وهوا لمتمثل فى كون الشخصية الأسطورية تعبر عن الشتاء والعذاب وتعانى عبثية الحياة , إلا أننا نغفل العديد من المصيراتا لتى التصقت بها , حسب ما بعدنا به المتخيل الأسطورى.. فسيزيف يعرف بذكائه الخارق الذى بواسطته إستطاع تأسيس مدينة " كورينشه " التى كانت تحمل من قبل إسم " إيفيرا " , وهى المدينة التى عرفت الهم والقهر فى عهد الحاكم يدعى كوريتوس هذا الأخير لم يوصى بوريث يرث الحاكم من بعده , فلما تخلصت منه الرعبة تولى " سيزيف " الحكم فأبهر الكل بذكائه وفطنته الكبيرة , هذا الذكاء وهذه الفطنة هما اللذان ساعداه على التخلص من الشخصية الأسطورية التى عرفت بالإختلاس وسرقة أملاك الآخرين. وكان يدعى "أوتومبكوس" الذى اشتهر بمقدرته العالية على التقلع والتمويه من أجل إستغفال ضحايا للسطو على ممتلكاتهم , وخاصة قطعان الماشية التى كان يتفنن فى تغيير ألوانها الأصلية , هذا اللص , قرر أن يفند فكرة الإجماع على الدهاء السيزيفى , فخطط بوسائله المحكمة لإختلاس قطيع كبير من ماشية سيزيف ثم أخفاه بين قطعانه بصورة لا تدع محلاً للشك , إلا أن نشوة إنتصاره ووهم إطمئنانه لم يدوما طويلاً , لأن سيزيف لم ييلبث أن باغته بتعرفه التلقائى على ماشيته التى كان قد وشم على طرف خفى من حوافرها حروف إسمه الكامل تحسباً لمثل هذه المفاجآت ([2]). وما كان من هذا اللص سوى ان إعتذار لسيزيف وعرض عليه إبنته انتيكلى عسى أن ترزق منه يولد يرث من أبيه فطلنته وذكائه...

كما يتجلى دهاء هذا البطل أيضاً فى فضحه أسرار الآلهة وإزاحة القناع عن عيوبهم التى لم يكن أحد يعبأ بها إعتبار أنهم آلهة معصومون من الأخطاء , ومن بين من كشف سيزيف عن فضائحهم تذكر كبير الآلهة زيوس الذى إختطف ابنه آلهة الأنهار وعندما مر بمدينة كورينشة , رآه سيزيف الذى كان يحرص المدينة فى الليل من اللصوص , وكشف سره لأله الأنهار , من هنا أخذ كبير الآلهة فى التخطيط للإنتقام من هذا المتمرد الذى شوه سمعه إله الألهة , فأمر " ابن الليل , وذاهبة الموت بالقبض على روح سيزيف والنزول به إلى ظلمات العالم السفلى ([3]).

فهل سيفرح الموت فى إيقاع هذا الداهية فى حباله ؟.

من المعروف أن الأساطير تتضمن جموعة من الخوارق التى لا يمكن للعقل السليم تصديقها , ومن بين هذه الخوارق ما تقوله أسطورة سيزيف من أنه تمكن من أسر الموت , فكان لهذا الخبر صدى طيباً فى المدينة التى سيحيى أفرادها دون ترقب شبح الموت على فك أسر الموت , وبهذا وقع فى حبالها , ألا أن سيزيف وهو فى قبضة الموت ل يفقده ذكاءه ففكر فى حيلة للهروب , فطلب من الهة الموت أنه يرخص لخ بالذهاب للإنتقام كم زوجته التى لم تحترم مراسم دفنه , وهو ما لا يليق بمقامه بإعتباره ملكاً كبيراً , فسمح له الآله بذلك , إلا أنه بمجرد خروجه من العالم السفلى, أنفجر ضحكة معبراً عن فرحة الإنتصار... ولما دبت الشيخوخة إليه حكم يلزمه يدفع صخرة كبيرة إلى قمة جبل الجحيم , حتى إذا تدحرجت إلى أسفل عاد ليرفعها من جديد تحت لهيب شمس الجحيم السوداء , إنتقام وحتى ومسعور يتحرق إلى إطفاء شعلة عقل مشاكس ومقلق , وتعطيل قدرات فكر متوهج بإرغامه على هدر طاقته فى دفع صخرة صماء نحو قمة شامخة ترفض إستقبالها , حتى لا ينشغل أبداً بفضح الآلهة أو الأندال من البشر([4]).

فالسيد حافظ أذن أنطلق من هذه الأسطورة الفنيو وحورها بشكل يستجيب لمنظورة الحياة الإنسانية فبعد مخاضى يزيد عن عشرين عاماً أنجب هذا المبدع تجربة جديدة كانت أعم وأشمل وأنضج من سابقاتها وهى المتمثلة فى مسرحية " سيزيف القرنالعشرين " وما بعد القرن العشرين أنها تجربة تضمن الإستمرارية عبر الزمن ويظهر ذلك من خلال العنوان : -

" سيزيف القرن 20 "

" سيزيف.......... 21 "

" القرن........... 22 "

" ق.............. 23 "

والمسرحية تأخذ بعداً إنسانياً ويظهر ذلك من خلال أسماء الشخصيات. فهناك ([5])"الإنسان " " الرجل " و" الفتاة " الفتاة 2 " الشرطى " " الرجل الكبير " , " الطفل " وهو بذلك يضفى على هذه المسرحية صفة الإنسانية المطلقة فلا يقيدها بإسم معين قد يربطها بلغة أو إقليم ما لأن الإبداع الأساسى الحق هو الإبداع الذى يجد فيه الإنسان – أينما كان – همومه ومعانته " ([6]) , فالمؤلف اذن يكشف النقاب عن معركة الإنسان الوجودية , وعما يقابله من صراعات مادية ونفسية وحصارية , فهو يقربنا من هذه القضايا الإنسانية العامة من خلال شخصيته " الإنسان " فى علاقته بالجنس الآخر المتمثل فى الفتاة الإستسلام والصمت , فى حين يرمز " الإنسان " للتدمير والقلق الإنسان : " يدخل يجلس بجوار الفتاة التى جلست القرضاء " الكرسى ".

( صمت دقيقة ). ما اسم الساعة. الساعة الآن ؟

الفتاة : ساعة الكون. السكون والصمت.

الإنسان : بل ساعة الفوضى والرفض :

الفتاة : ساعة الهروب............

الإنسان : إنها ساعة اللعنة اللتعنة ( تنظر له ) أعطينى سيجارة أمضغ فيها قلقى قلقى....... أضع فيها تمردى وأحرقه منتشياً ([7]).

كما يقدم لنا هذا الإنسان فى علاقته مع السلطة المتمثلة فى الشرطى الذى يحاصره بمجموعة من الأسئلة :

الشرطى : إلى أين تذهب.... عيناك إعلان هزيل هزيل.

الإنسان : أسافر...... أسافر.

الشرطى : حافى القدمين...القدمين... اين جواز سفرك عنوانك القادر على الثقة فيك

الإنسان : ليس لك شأن دعنى..... دعنى.

الشرطى : إلى أين... أعطينى جواز سفرك , أعطيك المرور والأمان.

الإنسان : لا تخف ( يقف ثلاثة فى وجهه – بالطبع أقصد الشرطى – يشعر الإنسان بالعجز ) ( أننى ذاهب إلى الجحيم... جوازى معى هنا ) يشير إلى جيبه يمد يده يخرج ( السجائر) خذ خذ اشرب سيجارة سيجارة.

الشرطى : لا ( يبتعد عنه مربعاً ) من أنت ؟ ما جنسيتك.... ما وظيفتك ؟

الشرطى : أين حقائبقك...... حقائبقك اللعينة ؟ ؟

الإنسان : حقائبى عيناى ويداى وقدماى.

الشرطى : إلى الموظف أمامى.... أمامى ([8]).

ف " الإنسان اذن قد يكون رمزاً إيحائياً لكل المتبوعين والمقهورين المتمردين الثائرين لكل إنسان تحاصره الشرطة وتفتش ممتلكاته وتطرح عليه أسئلة روتينية مملة حول الإسم والجنسية والسن. وما يقوم به وما ينوى به ومن ثم غلصاق مجموعة من التهك به , كالتجسس أو حمل المتفجرات أو الجنون... وهذا ما اتهم به " الإنسان " فى هذه المسرحية.

من هنا نجد البطل فى هذه المسرحية " الإنسان " شخصية ثورية متمردة على السلطة وهو لا يختلف كثيراً عن أبطال حافظ فى المسرحيات السابقة , لأن هناك مجموعة من الخصائص , يتسم بها كل أبطال المؤلف , ولعل ما قاله محمود قاسم فى مقال له بعنوان " ملامح البطل فى مسرح السيد حافظ " ينطبق على الشخصية المحمور فى هذه المسرحية , يقول : " والبطل فى أدب السيد حافظ.. هو هذا المتحرر الحالم العاشق الفنان المثالى الفنتازى , والمؤلف فى أكثر أعماله التى قرأتها له , يركز على بطله وحده دون كل الشخصيات الأخرى التى فى العمل الأدبى... فسوف نرى أن الإنسان الذى يتمرد عليه لا يتمتع إلا بصفات سطحية من صفات الشر او العنف... فهو لا يسيل الدماء , ولا يقتل أحداً , هو فقط " ظالم " لا اكثر , وعلى البطل أن يتمرد على هذا الظلم.

وإذا بدأنا بصفة التمرد على بطلنا الموجود فى كل هذه الأعمال , فهو كما أشرنا متمرد من نوع خاص يبحث عن المثالية غير قانع بالظروف التى تحيطه مهما كان يسعى إلى الأفضل.... ([9]) , والمقال ينطبق أيضاً على مسرحية " سيزيف " ففى هذه المسرجية تجد المؤلف يركز على شخصية " الإنسان " بشكل مثير للإنتباه , فى حين يسخر بقيةالشخصيات لخدمته ومساعدته , ثم أن هذا الإنسان المتمرد الثائر لا يخرج عن مواقفه السلبية فهو يكتفى بالكلمة فى مواجهة من يثور عليهم " بمعنى أن ثوريته لا تخرج كثيراً عن دائرته.... لا تصل إلى الطاغية إلا من خلال الكلمات ويتحول المسرح كله إلى هتافات أكثر من كونها حركة.

ويظهر هذا من خلال إستجواب كل من الشرطى والموظف الإنسان.الذى يجب أجوبة غامضة تافهة , وفى بعض الأحيان تعبر عن القلق والتدمير كما فى قوله مثلاً معبراً عن تضايقه بكثرة الأسئلة المملة :

" الإنسان " : إختنقت بالسؤال الساذج الهزيل.... حين ولدت ؟ ما إسمك ؟ ما العقيدة ؟ ما هدفك... ما الوسيلة.... فلننتهى فيضانات البحث الهزيل ومواسم السعادة وعرس الشتاء... يأخذنى الصمت والثرثرة فى عينيهما.

مللا وراحة ودمار فطرياً , رضعت من ثدى الوجود أعلية بربرية... دغدغت الفوضى , الفوضى , وعرفت الألوان تكرراراً منسجماً من كثرة التنافر , وركبت سفينة الأشواق فى بحر الرفض اللانهائى , اللانهائى.... رفضت أن تتنبانى السطور , إننى أختنق... دعينى.... ([10]).

إلا أن البطل فى هذه المسرحية وبعد سيل من الكلمات المعبرة عن الرفض المستمر والقلق والإختناق , وللتخلص من وضعه , يلجأ إلى الهروب الذى هو أيضاً نوع آخر من السلبية التى ترافق أبطال حافظ , فى أغلب مسرحياته. ف " الإنسان " يلجأ إلى الطائرة ولا يسمع إلا صوته الذى يقول ".... رسالة منى.... إللا محدود هدفى.... لأن الشيىء المحدود فقد معناه فى رحلة الإستمرار غئياناً من كثرة التكرار.

فهو قد يلجأ إلى هذه الطائرة " النادرة التى بلا قائد " للتخلص م المحدود الذى أصبح متجاوزاً , ومن التكرار الذى يؤدى إلى الغثيان , وفى هذا فض لعبئية الحياة وبحيث عن اللا محدود والمطلق.

ومباشرة بعد هذا الحديث – أى هروب الإنسان – يدخل المؤلف مجموعة من الشخصيات (الرجل الكبير). زوجته , الشاب الوسيم , فتاة ([11]), الطفل هؤلاء الذين إكتفوا بالتلفظ ببعض الكلمات أو الإنطباعات حول الحدث , أى هروب الإنسان من بين أيدى الشرطة , هذا الإنسان الذى أحس بنشوة الفرح بعدما تخلص من كل القيود , بما فى ذلك ملابسه , يقول : " الإنسان " ( وهو يخلع قميصه ).

لقد أصبحت الآن متحرراً متحرراً... انطلق من فزع اللحظة يأخذنى تيار النشوة , فلتغنوا معى... الشمس كلمة... القمر غنوة... الليل مدينة مستهلكة... الإنسان حجر ملقى فى قاع سفينة حربية... غنوا وارقصوا([12])

ف " الإنسان " بعد أن إبتعد عن الحياة اليومية , ونظر إليها من بعيد إستنتج بأن حياته لم تكن سوى عبئاً وإستمرار يتكرر بنفس الطريقة , وإن كل شىء مآله إلى الأندثار والزوال , يقول : " الإنسان " : آه. لقد حلمت فى الصيف بالخريف... وحلمت فى الخريف بالشتاء الشتاء , وحلمت فى الشتاء بالربيع الربيع... وحلمت فى الصباح بالظهيرة الظهيرة وحلمت فى الظهيرة بالغروب الغروب... وحلمت فى الغروب بالليل الليل وحلمت فى الليل بالفجر الفجر , وحلمت فى الفجر بالصباح الصباح , وحلمت فى الحلم بأن الحلم الذى أحلمه إنتهى (ظلام عليه)([13]).

وأخيراً بعد أن إستحضر المؤلف كل الشخصيات , قدم للقارىء مفتاحاً للعنوان الذى تحمله هذه التجربة – أى سيزيف – وذلك عندما أفصحت كل الشخصيات عن إسمها الخفى , ومما يثير غرابة القارىء أن كل هذه الشخصيات , تحمل إسم سيزيف , لما فى ذلك الفتاة التى تقول متهجة بكلامها إلى الإنسان : " أننى سيزيف حبيبتك " ([14])والشرطى الذى يفصح عن إسم إبنيه الأكبر والأصغر واللذان يحملان إسم سيزيف , ثم يشرع فى الصلاة وبعد إنهائها يقول : " عبدك الفقير ياإلهى , سيزيف , سيزيف سيزيف " ([15])ثم انالموظف وهو يوزع جوازات السفر على الحاضرين يناديهم بإسم " سيزيف " وأخيراً بفصح الرجل الذى فى الخلف عن إسمه إلا وهو " سيزيف " فيحضر الطفل وبيده ورقة إنها ورقة " الإنسان " وبها إسم " سيزيف " والطفل هو الوحيد الذى لا يحمل هذا الإسم , وربما لهذا نجد الكاتب يشير إلى أنه أخذ يجرى فى كل الإتجاهات , ويدور , مكرر كلمة " لا , لا , وهى ما يدل على رفضه لهذا الواقع السيزفى , فينهى المؤلف بكلمة الرفض : لا , وهذه الكلمة التى كتبت أيضاً على الستار , بل وتجاوزت قاعة العرض لتكتب بكل لغات العالم على لافتات توجد خارج البناية المسرحية , وهذا يدل على أن المؤلف لم يكن يريد حصر مسرحيته , بما تحمله من مضامين وأفكار داخل القاعة المسرحية الضيقة , بل جعل كلمة " لا " علامة الرفض والتمرد وعدم الإستكانة والخضوع تصاحب الجمهور إلى الخارج... وفى هذا , إصرار من المؤلف على مواصلة موافقة التجريبية الباحثة دائماً عن الجديد , والرافضة لكل القوالب الجاهزة المسبقة , والرافضة أيضاً لسلبية الإنسان فى الحياة وهو الذى ظل هم هذا الإنسان , فجاءت مضامينة مشحونة بعبارات توحى بالضياع والإضطراب ومشاعر التوتر والقلق , على إعتبار أنه يعيش فى عصر , كل شىء فيه يضاعف الإحساس بهذه المشاعر. ذلك أن فنان هذا العصر " فنان مثقل بتركة هائلة من الخبرات والمعارف البشرية المتصلة والمتداخلة , وهو أيضاً الوريث الشرعى لعصر الأسطرة , فى مقابل هذا العصر المادى الذى يحاول أن يقتضى على صوت الفنان إحلالاً لمفاهيم مادية آلية , تجعل من الإنسان رمزاً خالياً من المعنى وأصغر آلة فى عالم الآلات , وفى داخل هذا العصر الذى يموج بآلاف المتناقضات , يقف الفنان , شهادة إدانة على عصره من خلال تقديمه لصورة العصر السلبية , وما تنطوى عليه من توتر حاد هو أساس العلاقة بين الإنسان والإنسان , وبين الإنسان والعصر , ليس فهذا فحسب , بل أنه كثيراً ما يحاول فى موقف الإدانة أن يقوم بدور المبصر الباحث عن معنى الإنسان فى عصر ضاع فيه معنى الإنسان ([16]).

وفى هذه المسرحية يقدم لنا حافظ شخصية " الإنسان " – سيزيف – بإعتباره مضطهداً تساوم شخصيته بأشياء تافهة , فقد تساوم بجواز سفر , أو بطاقة تعريف , أو حقيبة....

الشرطى : إلى أين... أعطينى جواز سفرك , أعطيك المرور والأمان.

الإنسان : لا تخف.. إننى ذاهب إلى الجحيم... جوازى معى هنا...

الشرطى :... من أنت ؟ ما جنسيتك... ما وظيفتك.

الإنسان : لا تحلم بالمعنى الساذج فى تبصيرى ياسيدى ([17]).

الإنسان : حقائبى عيناى ويداى وقدماى.

الشرطى :... جريمة أرفع يدك إستلاماً (يرفع المسدس فى وجه الإنسان) لا تحاول أن تحدث صوتاً لزملائك ( يسير الانسان أمامه صامتاً ([18]) , فالمؤلف هذا يتحدث بلسان الإنسان المتدمر الذى يعشش بداخله الإحساس بالقمع والمتابعة والذى يملك روحاً عطشى للسفر والمغامرة , وفى ذلك تعبير عن الثورة ضد الإستبداد والقهر والمحاضرة المستمرة. فحافظ إذا كان يحاول من حثه نقل ما يعانيه الإنسان , بصفة عامة , فى حياته اليومية فإنه من وجهة أخرى يفصح عن تمرده على ما فى هذا الواقع من مظاهر العبث واللامعقولية , وتلمس ذلك فى حواراته الإنسانية الحقيقية الخالية من أى تنميق أو تصنيع فهو ينقلها كما تجرى فى الواقع بتفاهتها التى تحمل دلالة زاخرة بالمفارقات :

الفتاة : ما إسمك إسمك ؟

الإنسان : لا أعرف.

الفتاة : إسم أبيك.

الإنسان : ما زال مختفياً فى أسنان مشط قذر قذر.

الفتاة : أنجبتك أمك من رجل أو من كلب أو من حمار او من ملعقة.

الإنسان : ربما من هذا... ربما من ذلك... ربما من حفل جنسى " كوكتيل ".

الفتاة : لى أب سياسى... يجيد كل شىء , بكل شىء.

الإنسان : غنوة ملوثة من البحيرات.. صدرها من صدر الضفادع.. عيناها من عيون الناموس وهى خاصية نجدها فى كل المضامين التى تأخذ بعيداً كما رأينا ذلك عند يونيسكو وبيكيت...

فالمؤلف يكسر منطقية الحوار بإقحام كلمات تثير قلق القارىء أو المتفرج , ويتقزز لسماعها , وهو يهدف من وراء ذلك إلى التوصل إلى مفهوم التباعد فى المسرح لإخراج المتفرج أوا لقارىء من سكونيته أو ما كان يعرف فى المسرح الكلاسيكى بالإندماج , يقول الأستاذ مصطفى رمضانى " ومن المؤكد أن توظيف المؤلف لتقنية التباعد وسيلة لجعل القارىء يدرك المعادلات المنطقية المألوفة بشكل مركب وغريب , حتى يتسنى له إدراك غرابة الواقع ولا منطقية العلاقات السائدة فيه ([19]).

وسيزيف فى هذه المسرحية , يعانى الإغتراب والغموض , فهو إن كان محاصراً بالأسئلة من طرف الآخرين , فغن داخله يحتضن آلاف الأسئلة التى تقلق راحته , دون أن يجد لها جواباً.

" الإنسان " : ( يقع ضوء عليه ) كل يوم كل لحظة..كل ساعة.. كل طرفة عين.. يولد فى سؤالك.. ألف مليون إستفهام , تولد فى كل يوم.. إضافة إلى عالم الإستفهام الذى فى داخلى.. أرحل فى كل سؤال دهراً أو بحثاً أو محاولة.. أجد الإغتراب.. لأننى أجد إجابة لمائة وباقى المليون سؤال يسكن فى شريانى , حتى أن كل خلية أصبحت علامة إستفهام وإغتراب.. تفجرت ذات يوم للعالم شعاعاً إيجابياً منطلقاً إبداعاً ملفوظاً ( ظلام عليه ).

ف " الإنسان " – سيزيف – فى هذه المسرحية يعانى من غياب الأجوبة وغموض المعانى – فهو يطرح العديدة من الأسئلة لكنها تبقى معلقة , وتتضاعفت يوماً بعد يوم , يقول عبد الكريم يرشد فى إطار حديثه عن البطل فى مسرح السيد حافظ والأقنعة التى يحملها : ".. أما القناع الثانى , فيمثله ( سيزيف ) وسيزيف هو الواقع , هو رمز العبث الموجودى , أنه بلا بطولة , فعله المتكرر – إلى الأبد – يبقى بلا معنى , ما دام أنه لا يحقق معنى , ولا يصل عند حد ما , هذا البطل العبصى يتسرب إلى مسرح السيد حافظ , فنجده فى المسرحية التى تحمل إسم ( سيزيف القرن العشرين ) ونتساءل ونتساءل : لماذا سيزيف بالذات ؟ ولعل السؤا لالأكثر أهمية هو كيف قرأ المؤلف الجديد الأسطورة القديمة ؟ هل إستنسخها كما هى – أم أنه أعاد كتابتها من جديد ؟ لا شك أن السيد حافظ لا يقدر التملص التام من جاذبية الفكر الأدبى الغربى , خصوصاً وأنه , كان يعيش مرحلته الإبداعية ومع ذلك يمكن أن نقول بأن سيزيف الجديد جاء وهو يحمل على ظهره هموم الإنسان العربى , فهو لا يعانى من أزمة وجودية تتحدد فى حضور السؤال وغياب الجواب , وفى البحث عن معنى للوجود, وغياب هذا المعنى. سيزيف عند السيد حافظ يزاوج بين الهمين الوجودى والميتافيزيقى , والهم الإجتماعى المادى , حيث نلمس ( مقالب السلطة والبيرقراطية) إن التمرد على العبث الوجودى هو فى جوهرة عبث, لأنه (ثورة) على اللامتغير , أنه العبث الذى يواجه العبث , فى يثمر شيئاً غير العبث. أما مسرحية السيد حافظ فتختفى (بالإنسان المتمرد على المواصفات الإجتماعية والحضارية) أى أنها تتجاوز إلى ما هو نسبى وتركز على الإجتماعى المحسوس عوض أن تغوص فى الميتافيزيقا وفى المجردات الذهبية..([20]).

فهذه المسرحية بإعتمادها على المصدر الأسطورى لم تبتعد عن العلاقات الواقعية فى الحياة , فشخوصها لا يضربون عن طبيعتهم الإنسانية , فهم يعبرون عما قد يؤمنون فى هذه الحياة من معانى الإضطراب والفوضى واللامعقولية , وما يعتمل فى نفوسهم من شعور بالقلق ويرفض للقهر والظلم والمحاصرة , فشخصياته فى هذه المسرحية لا تنفصل عن واقعها الإجتماعى أى علاقتها بالآخرين وبالسلطة الحاكمة , فالمؤلف تأذن يركز على ما هو واقعى , ولا يتوغل فيما هو ميتافيزيقى فنتازى كما هو الشأن بالنسبة لسيزيف الأسطورة التى يتمرد على الآلهة ويفضح أسرارهم , أما سيزيف المسرحية فلا يتعدى تمرده الواقع الذى يعيشه , فى إطار علاقته الإجتماعية بالآخرين.

إن السيد حافظ قد إنطلق من الأسطورة القديمة , وإستفاد من الصراع المحتدم فيها بين الإنسان والقدر المتمثل فى الآلهة , فإعتبرها قالباًُ رمزياً قبلاً للتأويل والتحرير , وبهذا أعطاها تفسيراً جديداً يتماشى مع قضايا الإنسان المعاصر.

إن نزعة المؤلف التجريبية تقتضى منه دائماً البحث عن الجديد قصد إستيعاب معطيات الحياة المعاصرة , وقد كان لجؤه للأسطورة فى هذه المسرحية نتيجة لإنفتاحه على التراث الإنسانى الغنى وهو بذلك يكون قد أعطى لهذه التجربة بعداً إنسانياً عاماً. فكل إنسان يسكنه التناقض والإضطراب ويشعر بداخله بؤرة للتصادم والتوتر سيجد نفسه – لا – محالة فى هذه المسرحية التى تتناول التراجيديا الإنسانية المتكررة , فى عالم يسوده العبث والروتين , أنه يصور عالم الإنسانية عامة بحيث لا يمكن أن نخصه بهؤلاء دون أولئك , لأن المبدع يكشف عن الوضع الإنسانى فيحس كل شخص بأن ما يقال بحديث له هو أيضاً , أو يشكل همه الأساسى فى الحياة , أو هم إحدى النماذج التى يعايشها , ثم أنه حاول أن يطرح الإشكال الإنسانى بإعتباره من جهة واحدة من هؤلاء الذين يحسون بمهزلة الحياة وتفاهتها وسخفاء ومن جهة ثانية , يعتبر من الذين ذاقوا مرارة هذه الحياة وأكتووا بنار الهزيمة والإنتكاسة.. بقول حسن عبد الهادى فى مقاله له تحت عنوان :

قراءة نقدية لأعمال السيد حافظ المسرحية.. أقول ذلك تمشياً مع الإسلوب الذى إنتهجه حافظ من خلال غلبة الطابه الإنسانى الحضارى , لقد لجأ الا نبعث من الأساسية أوالقاعدة الإجتماعية متوسعاً فى شموليته ليتضمن أو يضمن كتابة معانى عامة وتصورات كثيرة تتكامل مع بعضها البعض , لتحقق وضوح الفكرة التى يريد طرحها ومعالجتها بأساليب متغايرة.. إنه بإختصار ينتقل من المعلوم إلى اللامعلوم ومن الجزء إلى الكل , معبراً عن قضايا تهم السواد الأعظم من الناس ولم يكن ذلك ليتأتى لولا أنه يحب الناس ويؤمن بهم وبقدراتهم الكامنة , ولذلك نراه بتمرد على سكوتهم وخمولهم إزاء المواقف الحياتية لإيمانه وثقته بأنهم يملكون القدرة على الحركة والفعل , وذلك الفعل القادر على تغيير الواقع المرير , أنه يطالبهم بالتحرك السريع المؤثر , ولكن دون أن يكون التحرك غامضاً مبهماً بل مخططاً مدروساً , إنه التمرد من أجل تحقيق الأفضل بعبر الرؤية التفاؤلية فى الوصول إلى شاطىء آخر أكثر أمناً وسلاماً. أنه يريد من الإنسان ألا يستكين وأن يتعهد بذرة التواصل الحضارى بالرى والنماء لتكبر فى داخله وتأتى أكلها ولو بعد حين.. ([21]).

ودعوته للتمرد على الوضع وعدم الإستكانة تظهر بوضوح من خلال تعاطفه المطلق مع " الإنسان " الذى يحمل أفكار ومبادىء المؤلف , ثم من خلال النهاية المفتوحة التى تحمل صرخة الطفل الراضة للوضع وهذه النهاية المفتوحة تؤدى مفهوم التغريب الذى يدفعنا إلى التساؤل مع الكاتب رشيد المؤمنى: إلى متى ستظل أبواب العالم السفلى , موصدة على سيزيف؟

- إلى متى ستظل معاناة سيزيف رمزاً لعبث الوجود ومأساويته ؟

- وهل ستطول شماتة آلهة الجحيم بجهد هذا الجسد المستنزف داخل دائرة مغلقة وثابتة ؟ !.

أكيد أن سيزيف سيسترجع سلطة ذكائه , ,وأكيد أنه سينجح فى تكسير الطوق وفك الحصار ليعود إلينا من جديد بدهائه العالى وخبرته المتفردة فى فضح مكر اللصوص ومحترفى خطف الأجساد البشرية وأرواحها فهذه الأسئلة تنطبق كلها على مصير سيزيف – الواقع – والأجوبة عنها تحملها النهاية التى إختارها المؤلف للمسرحية عن الأمل الذى يمكن أن يحمله المستقبل لكن شريطة أن تكون الإنطلاقة لهذا الحاضر

حليمة حقونى / المغرب

 


 

 



[1])) الدكتور سعيد أبو الرضى الكلمة والبناء الدرامى رؤية.

[2])) رشيد المؤمن سيزيف يتحدى صخره الا لم مجلة الجامعة العدد 19 (4) سنة 1991 صـ 1

[3])) نفس المرجع السابق.

[4])) نفس المرجع السابق

[5])) المسرحية - العنوان

[6])) الأستاذ مصطفى رمضانى جدلية الخفاء والتجلى , د. عزيز نظمى.

([7])المسرحية صـ 80 / الكتاب (8)

([8])المسرحية صـ 90 صـ 91.

[9])) محمود قاسم فى مسرحية السيد حافظ الجزء الأول مكتبة مدبولى (11) صـ 103 104 105.

([10])المسرحية صـ 101 , 102.

[11])) المسرحية -

[12])) المسرحية صـ 102 (13)

[13])) المسرحية صـ 14

[14])) المسرحية صـ 105

[15])) المسرحية صـ 108

[16])) د. سعيد الورقى / كتاب د. عزيز نظمى السيد حافظ بين المسرح التجريبى.

[17])) الدكتور سعيد الورقى مسرحيتان للسيد الحافظ بين المسرح التجريبى والمسرح الطليعى , د. عزيز نظمى مركز الوطن العربى للنشر والإعلام. رؤيا , ج.م.ع ص : 135 136.

[18])) المسرحية صـ 193

[19])) مصطفى رمضانى , جدلية الخفاء والتجلى فى مسرحية ظهور وإختفاء , أبى ذر , السيد حافظ بين المسرح التجريبى والمسرح الطليعى , د محمد عزيز نظمى رؤيا , ج. م. ع. ص : 182 183.

[20])) عبد الكريم رشيد, مسرح السيد حافظ بين التجريب والتأسيس , فى مسرح السيد حافظ ج 10 0 كتبه مدبولى , ص 83 84.

[21])) رشيد المرضى / سيزيف بتحدى صخرة الألم العدد 19 1991.





12السيد حافظ وجيلنا شهادة بقلم : أحمد غانم

 

دراسات من كتب د. نجاة صادق الجشعمي

(12)

 

السيد حافظ وجيلنا
شهادة

بقلم : أحمد غانم

دراسة من كتاب

إشكالية الحداثة والرؤي النقدية فى المسرح التجريبى

الســيد حــافظ

)نموذجاً)

(

 

السيد حافظ وجيلنا
شهادة

بقلم
:أحمدغانم

 

 

عرفت السيد حافظ عندما توهجت عندما توهجت رؤوسنا وهى تصطدم "بمستطيل" النكسة وهو مستطيل اسود مسنن يخالف فى الشكل والمضمون مستطيل كيونريك (أوديسا الفضاء – 2001).

ولقد دشن ميلادنا فى لحظة الذبح والتقينا فى آبهاء وأروقة دار العلوم الخشبية، كطيور النورس المذبوحة. كان السيد حافظ طالبا يتمتع بتمرده وكان الوقت – بالنسبة اليه – هو الفصل الختامى فى رحلة قلقة الجامعى بين كليات التربية إسكندرية و.......... و...... وكنت فى عام 1969 مشرفا فنيا للنشاط التشكيلى بالكلية وكان اللقاء حميما بين خريج كلية فنية مثلى الطلاب اقرب اليه من حبل الوريد، وبعد أن مارسوا : الذبح الوظيفى على بتمردى على طقوس الوظيفة فى مدينة النكسة التى ينحرها السوس. كنت هذا الذى هو انسان أولا وفنان ثانيا ولا موظف ثالثا. فقد كنت أقول، أننى موظف فى اللا وظيفية او أنها وظائف اعتمدت فى الوقت الضائع البوار من الأمة: كان السيد حافظ ابنا لمدينة ونبتا للأسكندرية وشقيقا لقاص سريالى رائع "محمد حافظ رجب" اصطدم راسه – الكرة – بالجدار المسنن وصار رأسه راسين وثلاثة وكنت ابنا للريف (مسقط راس البحيرة) وزرعا لمدينة ريفية صناعية (المحلة الكبرى). كانت المدينة (الكزموبلاتانية) بالنسبة الى متاهة تحتاج حلا. وكانت المدينة بالنسبة اليه أوراق كرتونية بل أوراق كوتشينة بائسة سافرة، كان تمردى تمردا طويلا، ومحاورات مع صديق اختزلت فيه العمر والأمة (فاروق عبد العزيز) وكان تمرده صراخا ومبالغة محببة. وكان – وكأنه – لابد وأن نلتقى. التقى جيلنا على مقولة شهيرة نحن جيل بلا اساتذة وبدأ جيلنا يكتب. وهو أعجب الأجيال فى تاريخ الامة المصرية(وهذا ما أؤكد أن الأيام ستثبته). فجيلنا ليس ابنا محصنا لثورة 23 يوليو. لقد تشمم جيلنا رائحة أساتذة الاربعينات كان احدانا أو الآخر قد تأثر بعمق الاثار الأدبية الرائعة لطه حسين أو توفيق الحكيم أو عباس محمود العقاد أو سلامة موسى، غير أن التيار وهو يجذر بنا ويمد ويجذر قد أخذنا الى بعيد.. كانت التحديات الفوارة أكثر ضراوة من ضراوة هذه الذكرى. ولقد ولد جيلنا فى عاصفة. فصرخته الاولى كانت قنبلة هيروشيما، وفطامته كان النكبة، وحجلة كان ثورة 23 يوليو.

وفى لحظة الميلاد الحقيقية لأى جيل (التخرج) اكتشفنا أننا لأوراق خريف تحرقها البرودة وتذروها الرياح، وأن ميلادنا موت.

وأن جاءونا نسيان، نحن الجيل المنسى الذى كبلت يديه وقدميه الاحلام الطائلة لجيلين (الرواد – وجيل الوسط) وقالوا: اصرخ بدون صوت فالحبل والمشنقة فى رقبتك، احكمت دائرة الحبل على العنق بأسم الثورة والنكسة والعسكريتاريا والمعتقلات ونضال الأمة، وامتد الحبل طويلا باسم(النفط) وبدأ المسلسل الأسود: مسلسل الكآبة: نفط بطعم الحنضل، ومدائن يحكمها العسكر ويتركون ابوابها ويتركون أبوابها ومرابضها ومراتعها ورمالها تحت نجمة اسرائيل التى تتسيد النجوم الامريكية


وبدأنا نكتب ونرسم، وكأننا نمارس الطقوس الوثنية للحرية.

وجاءت كتابتنا (شفرية). الأدب والخيال والتاريخ البعيد واللاوعى، تقرأ فيصيبك الدوار أو الخيال. المهم أن تكتب لغة لا يدركها قلم الرقيب ومقصه. وهكذا ولد الغموض شرعيا تحت مقارع النكسة. كان شئ فضفاضا وواسعا غامضا ووهميا : التاريخ والذكرى والفاجعة والأنا والمستقبل: ما تعلمناه وما لم نتعلمه وما لن نتعلمه كان السيد حافظ يملك بكل الجرأة التى يملكها ابن الدن الكبيرة، والذى تعلم مع الحجل كيف يتشعبط على أبواب الترام والتروللى والباص. يلح مكاتب(الكبار) بركلة من قدمه. وكنت كريفى يحيا لبلدته الاولى فى مدينة لا تحسن استقبال واحد.. ويتساءل : لماذا؟ وكيف ؟ والى أين؟؟ وتشكلجيلنا بين جزئيين ذرته (السالب – والمجب) بين جبال الاستبطان الشامخة وبين قعقعة الاحجار المتصايحة وهى تدك اشياء المدن. بين الحزن والسخرية كانت الدائرة. وبدأ الجوهر واحدا واعدا.

والنقطة المركزية للحدث واضحة. والتقا الفريقان على لغة رومانسية ثورية: لغة هياجل مصطرخ، كان يكتب الينا السيد حافظ تحت اسم اوزوريس إهداءات كتبة هكذا: الى الاخضر، الى النورس الى ضياء الماء وماء الضوء، الى البنفسج الى الطاقة.

اقتحم السيد حافظ مع الطلبة والطالبات مخزنا مغلقا به الكراسى والمناضد والدواليب التى نريدها لمرسمنا، واقمناه فى الدور الاول الذى قيل أنه آيل للسقوط، ولم يخش – أحدنا – شيئا من سقوط المبانى ،كانت الفتنا عجيبة لهذا المبنى، وكنا حجره وحيدة تطل على صحن دار العلوم حيث يلمع تمثال نصفى أبيض لمؤسسها (على مبارك باشا) وكنا نشعر بالألفة العميقة مع هذه الاعمدة من الاخشاب النابتة من قلب قرن مضى، وحيث يتساقط دهانها وكأنه لحاء الاشجار عجوز ترفض الموت. وامكن لنا فى هذه الخلوة – صنع الأطلال – أن نستمع الى تردادات أصوات المحاضرين عبر مائة عام والحى سكون الليل والى شقشفة الضوء فى رواق اسلامى والى جلبة الطلاب بين الاعمدة، والى مراثى المظاهرت الوطنية التى خرجت من دار العلوم الى قالب القاهرة عبر السنين.

وحاول السيد حافظ ان يمارس الرسم، ولجأت الى الرسم به (فلو) حتى(الخوذة والشهيد) تحمل بصمات قدميه ويه. كنا رمزين وتجر يدين، رافضين وباحثين عن واقع آخر.

وكنا تعبيرين وحوشيين ووحشيين ومجربين، وكنا نمضى الوقت فى هذه الانحاء الى منتصف الليل، وكانوا فى الصباح يسألوننى عن تأخير خمس دقائق من الحضور الوظيفى. كنت امارس فى قلب الدوام رحلتين مقدستين إحداهما باتجاه الجنوب – عابرا الحى الراقى جاردن سيتى الى النيل، اسكب العيون فى ابهاء امواجه واضواءه.. ناسيا اننى أعتلى ظهر مقعد حجرى رطب وثانيتهما باتجاه الشمال الى قلب ميدان التحرير الى شارع شمبليون اسمع الموسيقى الكلاسيك مع رفقه اخرى منهيا العرض الدائوب الأزرق.

وكان السيد حافظ يختفى فى نفس الوقت باتجاه الجنوب الى روز اليوسف وباتجاه الشمال الى دار الهلال يقرع آذان (الأسماء) بصراخه، المشروخ روعه.

وبدأت رحلتى مع مسرحية(حدث كما لم يحدث أى حدث) ولم يكن هنالك أوضح – فى لغتنا – من هذا العنوان.

فالذى حدث هو انه لم يحدث اى حدث، وهذا وحده يكفى تبيانا لموقف. كنت فى هذه السنوات قادرا على ان اتناول هذه اللامعقولية فى الفن كصرخة احتجاج جيل.

وكان فى هذا السيد حافظ لا يبارى ولقد اتمنا دراسة هذا العمل واحتشدنا لديكور مسرحى فيه لوحة مصممة على ان ترسم بالقلم الجاف الاسود على مساحة 2,5 متر ارتفاع فى 6,5 متر. (ولك ان تتخيل حجم هذه الطاقة الانفعالية التى كنا نملكها) فلم نكن نلعب ووقف البيروقراطية ممثلة فى جيل كامل بكل فرقة (الموظفين والعسكر والبيروقراطية والدكاترة ضدها وكلهم ينظر الينا وكأننا نتاج كوكب منفصل. لا احد يريد لنا المشاركة بشئ.

تحول السيد حافظ الى الاسكندرية وبدأت مراسلاتنا ما بين (عزبة دولار التى بالكاد ادركت فيها شقة متواضعة من ثلاث غرف فى حجم علبة السردين(الغرفة 2,5 × 2,5 متر) وكان الحصول عليها معجزة بمقدم ومؤخر وصداق ونفقة متعة ونفقةحضانة وفى النهاية دخلنا فى طاعتها... وما بين مسكنه الذى لم اره حتى اليوم، وكان عنوانه، ايضا بالنسبة الينا عنوانا شفريا: محرم بك خلف نمرة 16.

أخذتنا سفينة الرخ الى مدينة الكويت وحتى تكون القاهرة ومصر كبيضة فى راحة اليد على استقامتها، وكانت البيضة ما تزال تفرخ افراخها المذبوحين "وانقطعت اخبار السيدحافظ عنا. واكتشف المرء عند لحظة الاصطدام الاولى : كم هى وهمية تلك المدن الذهبية، واننا أخطأنا العنوان (خلف نمرة مدينة الذهب) لقد غلبتنا شقاوتنا وبدأ فى الكويت لنا تحصيل ثقافى فذ وكبير ،ونعتز به تلك كانت طبيعتنا اننفرخ ثقافة فذة وكبيرة ولا نفرخ دنانير. وتذكر أننى فى مشاهداتى الضحاوية(نسبة الى الضحى) قد امتلأت بدنانير النيل. وحيث تلمع اضواء السماء الفضية على سطح الأزلى، وكان فضل الكويت علينا أن أدركنا الادراك الكلى مصحوبا بإدراك جزئى. هناكانت رحلة تطبيق الدنانير :لماذا؟ والتعليم: لماذا؟ والطباعة: لماذا؟ والفلسطينون : لماذا؟ وعرب النفط : لماذا؟ والسينما : لماذا؟ والتصميم : لماذا؟ والسياسة : لماذا؟... والعسكر : لماذا؟ والفرد: : لماذا؟ والجاعة : لماذا؟... وآه من هذه اللماذا؟

بدأت رحلة التخصص والتطبيق الميدانى الشاق، الوعر، هنا هنا إمكانية ما التطبيق ما ،ومعمل إختبار للأمة العربية كلها ،وفى مصر أذا كانوا قد استولدوك ابنا لهم بخسا، فإنهم هنا قد إشتروك بخسا. وتظل قيمتك حائرة ،هذا الحيل الراحل بلا نظرية ابدا لن يعود الى ثكناته.. الريفية الا بنظرية. والنظرية معرفة بالأصول والفروع. بالكليات والتفاصيل. والفلاح يعرف لا كيف يزرع الطين بل كيف يزرع الرمل والماء والهواء بل الاكفار والاحلام والمشاعر. الفلاح الحقيقى هو المثقف الذى عاد يدرك ان الارض كلها ليست سوى تربته الداخلية : قلبه. وفى قلبك يتكون العالم – خلال رحلة المتاهة العربية – لا هالة وهمية بل جدارا جدارا ولبنة فلبنة

وفى ذات ضحى صيفى صحراوى قائظ، قابلنا (أنا وفاروق) السيد حافظ فى مدينة الذهب كان فى اعناقنا طوق عمل لـ 22 ساعة يوميا وفاءا بوعد لصاحب شركة إعلانية لكنه خلع بعدم تمام العمل صوت الرجاء الى صوت الذئاب # 12 وكان السيد حافظ يبحث ظامئا عن قطرة ماء. كان كلانا مقيدا – وما يزال – الى عجلة النار والتجربة. ولم نملط ان نعطيه سوى أعمق الامنية والسلام. كان القلب منا يتقطع وهو يسكن فى حجرة 6×6 متربها اثنتى عشرة سريرا صعيدا. وكان قد اتى ومعه لفائق نشره ورسائل وبعض اعماله وفى لحظة إنسانية – اقدرها – لحظة أمتعاض مزق خطابات (منطقة دولار) الى منطقة خلف 16 وبهدوء سحبت منه عدة خطابات كان اسفا وكنت مشرفا على هذا الاسف بعشق لاضحياتنا القاهرية والنفطية.

ومن مجلة (صوت الخليج) الى المجلس الوطنى للآداب والفنون بدأ السيد حافظ يتعيش طريقة ويتوازن وكنت فى هذه الفترة أحمل ما بين القاهرة – الكويت وبالعكس الكتب والرسوم الثقيلة، لا أدرى كيف أو تسكن، وبدا عذابا كعذاب سيزيف صخرته؟؟ قمة الجبل تنكر عليك الصعود. وبطنه ينكر عليك النزول، والعود ليس بأحمد، وأمتلأ فى حديثة : يا أولاد كذا وكان فى هذا الصراخ – السبعيني انقى قلبا واصفى من الاطفال. هنا بدأ يتعلم الهجوم ليس على كتاب أرصفة القاهرة، بل على الجنس العربى كله.

وبدأنا (ننجح) والعارف لا يعرف وظلت السيد حافظ لغته المسرحية الفضفاضة وأكتشف اننى صرت صاحب ذرق محافظ خاصة فى غير الفن الذى امتهنة. هل هذه المعرفة بالتخصص والتفاصيل أم أن المعارك صارت على جبهات تخصصية شتى ؟!

وفى العام 1983 م طلبنى السيد حافظ لأصمم له ديكور مؤسسة البدر. قرأت المسرحية فاسعدنى جمالها واشراقها، بساطتها ومغزالها. وبدت النهاية فيها فى قوة وجمال (لحظة التنوير) فى القصة القصيرة. هل ياس السيد حافظ من عالم الكبار فلجأ الى الاطفال؟! واكتشفت فيها أن ذلك الشاب الذى مازال يتحدث بلغة المطلقات والرموز هذا القلب الغور بالمحبة قد وجد فى نهاية المطاف اين يضع موهبته ؟ ولمن يقدمها؟!

كنت سعيدا بهذا الاكتشاف وإكراما السيد حافظ أعدات تصورا للديكور، وأعدت تدارك ما أنمكش فى الذاكرة من المنظور المسرحى الخ..... التقيت بالمخرج والمنتج وعرضت عليهما تصورى، وكنت المس فى شبح السيد حافظ حزنا لم أره فيه من قبل قط. بل وياسا من المواجهة. لقد اختفى امام ناظرى.. ولم أعد القاه.. وكان مفاجأة لى أن المخرج والمنتج قد استبدلا (لحظة التنوير) (بلحظة تعتيم) لا تطفئ على المسرحية نارابل تجعلها هشيما. لقد ابدلا النهاية إبدالات.. تحت دعوى انها نهاية... تراجيدية، وانهم قدموا من قبل ثلاث مسرحيات أو أربع بنهايات حزينة؟؟...

فى نهاية مسرحية (سندريلا) للسيد حافظ جعل الشرطى الذى يقيس حذاء سندريلا يصرح : الحذاء ليس حذاؤها وسندريلا تصرخ: انه حائى ومن يصدق سندريلا وبهذه النهاية – وهى اضافة لها قيمة – يكون هناك مبرر درامى لفهم موقف الوزير الذى يرفض من البداية هذا الزوج ويكون هنالك اشارة حقيقية للاطفال نحو فهم العلاقات الاجتماعية فى عصرهم وصراعاتهم.

وبتغيير هذه النهاية الى النهايات التقليدية صارت مسرحية السيد حافظ بلا معنى. لقد حملت تصورا رمزيا وتحويليا وعمليا للديكور يخالف تصورات المخرج. فأنسحبت من العمل. ولم يكن السيد حافظ بقادر فى كآبة نفسه المفاجئة ان يصرخ. ولأول مرة أرى السيد حافظ استبطانيا.

وفوجئت بالهجوم المنظم والمخطط والذى يستدعى العامة على السيد حافظ محملا اياه ما قاله كاتب فى مصر أن السيد حافظ يطور مسرح الاطفال فى الكويت وكأنها سبة أو جريمة يقتضى عقابها؟ وهذا السيد المحرر الذى كتب واستكتب غيره طعنا فى السيد حافظ ومسرحه لم يعتنىأن يشير اليه.. ذها الذى يأكل كلمة من ابداعات امثال السيد حافظ، ويفرد ضد مسرحة الاعمدة الطوال العراض ليشير الى من يطعنه...

وهكذا تمت الدائرة، تولد فى أنظمة العروبة فى غفلة من التاريخ والزمن، تنسانا عند المواقف، تبتزنا بكل اسم، وتطعننا دون ان نشير الى اسمنا.

المهزلة كاملة، هى رحلة السيد حافظ.

ولأن الناقد والنقاد تخلوا عن دورهم الرشيد البناء فقد تمزقت فى أنفس كآبة السيد حافظ الظلال لها، فإتخذ من الاطفال فى مسرحيته التالية(الشاطر حسن) حقل اختيار للغته الفضفاضة الواسعة التائهة. وكانت تلك الجريمة للنفاذ بأكثر مما هى مسؤوليته. لقد خالفت تصوره المعذب المشتت المشتت هذا. وأربأ به أن يعود الى سندريلا قاموسا له....

يكلم الأطفال بهذه اللغة البسيطة المشرقة ويعيد سرد حكاوينا القديمة بمرآته العصرية البسيطة. لاستعراض فى الفن. ولا لغة فضفاضة ومشتتة ستعيش الزمن. املنا فى السيد حافظ أن يخاطب الطفل يحنو قلبه ببساطة الكلمة، وعمق مرآيية وشروخات عصره ولعلها ستبرز من يديه كاشراقة يوم جديد. ثم اليس الاطفال هم الأمل؟!

ليس حديثى حديث ناقد. فلست بناقد مسرحى، انما هو حديث ذكرى رحلة واحدة، ركب فيها السيد حافظ بساط المسرح الذى هو ساحر وانا مسحور به (هذا البساط) وركبت متون جبال التشكيل بين الضوء والطمى. ولا استطيع الحديث عن السيد حافظ دون ان اتحدث عن نفسى، فهذا الحوار بين افرد جيلنا صلة لا نستطيع منها فكاكا ،نحن المقيدون فى عجلة النار العربية، نستطيع ان نتخاطب أن نتهاتف، ان نتجاوز، حتى ولو فقدت الكلمات فى عصرنا العربى كل معانيها حتى ولو كان الصمت حبلا وطرفا وانشودة عذابة.

احمد غانم – الكويت فى 15 مارس 1985م

 

 

 






Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More