دراسات من كتب د. نجاة صادق الجشعمي
(13)
التجريب والعبث فى مسرحية سيزيف
بقلم : حليمة حقونى
دراسة من كتاب
إشكالية الحداثة والرؤي النقدية فى المسرح التجريبى
الســيد حــافظ
نموذجاً
التجريب والعبث فى مسرحية سيزيف
بقلم: حليمة حقونى
إعتمد السيد حافظ الأسطورة مادة ثرية استقى منها مضامنة الإنسانية فكانت منطقة الأساسى فى مجموعة من المسرحيات , لذلك لأن الأسطورة تتمتع بحركة وحيوية تجعل المؤلفين يتجهون إليها لنحت أشكالهم الدرامية من هذه المادة , وتوظيفها فى الكشف عن رؤيتهم والإطلال منها على قضايا عصرهم ومجتمعهم , وهم بذلك الإتجاه يحاولون تفسير الأسطورة تفسيراً جديداً يربط بنها وبين مشكلات عصرهم ويقربون بينها وبين الأطر الفنية السائدة فالأسطورة بمثابة المقالب الرمزى الذى تنصب داخله الأفكار البشرية ([1]).
وأسطورة سزيف تعتبر من أهم الأساطير ذات المضامين الإنسانية التى إتجه لها مجموعة عن المبدعين فصبوا فيها أفكارهم وتصوراتهم قاصدين بذلك التعبير عن عبثية هذه الحياة , ومهزلة الإنسان فيها فهو يعانى ألوان العذاب والضياع والإحتقار , دون أن يصل إلى نتيجة واضحة.
وهو فى ذلك مسيزيف الذى حكمت عليه الآلهة يحمل الصخرة إلى الجبل , وعاش حياته كلها معذباً مع الصخرة التى لم يمكن من أبطالها إلى القمة.
لكن , من هى هذه الشخصية الأسطورية التى أصبحت المصدر الأساسى الذى إستند إليه الروائيون والمسرحيون والشعراء والناس فى حياتهم العادية لضرب أمثلة من المأساة والعذاب غير المجدى ؟ لماذا حكم على سيزيف الصخرة إلى أعلى الجبل ؟ وكيف إستفاد حافظ من هذه الشخصية.
الأسطورة فى مسرحية " سيزيف " ؟
" سيزيف كلما سمعنا هذا المصطلح أو ذكرناه الا وتبادر إلى ذهننا شىء واحد وهوا لمتمثل فى كون الشخصية الأسطورية تعبر عن الشتاء والعذاب وتعانى عبثية الحياة , إلا أننا نغفل العديد من المصيراتا لتى التصقت بها , حسب ما بعدنا به المتخيل الأسطورى.. فسيزيف يعرف بذكائه الخارق الذى بواسطته إستطاع تأسيس مدينة " كورينشه " التى كانت تحمل من قبل إسم " إيفيرا " , وهى المدينة التى عرفت الهم والقهر فى عهد الحاكم يدعى كوريتوس هذا الأخير لم يوصى بوريث يرث الحاكم من بعده , فلما تخلصت منه الرعبة تولى " سيزيف " الحكم فأبهر الكل بذكائه وفطنته الكبيرة , هذا الذكاء وهذه الفطنة هما اللذان ساعداه على التخلص من الشخصية الأسطورية التى عرفت بالإختلاس وسرقة أملاك الآخرين. وكان يدعى "أوتومبكوس" الذى اشتهر بمقدرته العالية على التقلع والتمويه من أجل إستغفال ضحايا للسطو على ممتلكاتهم , وخاصة قطعان الماشية التى كان يتفنن فى تغيير ألوانها الأصلية , هذا اللص , قرر أن يفند فكرة الإجماع على الدهاء السيزيفى , فخطط بوسائله المحكمة لإختلاس قطيع كبير من ماشية سيزيف ثم أخفاه بين قطعانه بصورة لا تدع محلاً للشك , إلا أن نشوة إنتصاره ووهم إطمئنانه لم يدوما طويلاً , لأن سيزيف لم ييلبث أن باغته بتعرفه التلقائى على ماشيته التى كان قد وشم على طرف خفى من حوافرها حروف إسمه الكامل تحسباً لمثل هذه المفاجآت ([2]). وما كان من هذا اللص سوى ان إعتذار لسيزيف وعرض عليه إبنته انتيكلى عسى أن ترزق منه يولد يرث من أبيه فطلنته وذكائه...
كما يتجلى دهاء هذا البطل أيضاً فى فضحه أسرار الآلهة وإزاحة القناع عن عيوبهم التى لم يكن أحد يعبأ بها إعتبار أنهم آلهة معصومون من الأخطاء , ومن بين من كشف سيزيف عن فضائحهم تذكر كبير الآلهة زيوس الذى إختطف ابنه آلهة الأنهار وعندما مر بمدينة كورينشة , رآه سيزيف الذى كان يحرص المدينة فى الليل من اللصوص , وكشف سره لأله الأنهار , من هنا أخذ كبير الآلهة فى التخطيط للإنتقام من هذا المتمرد الذى شوه سمعه إله الألهة , فأمر " ابن الليل , وذاهبة الموت بالقبض على روح سيزيف والنزول به إلى ظلمات العالم السفلى ([3]).
فهل سيفرح الموت فى إيقاع هذا الداهية فى حباله ؟.
من المعروف أن الأساطير تتضمن جموعة من الخوارق التى لا يمكن للعقل السليم تصديقها , ومن بين هذه الخوارق ما تقوله أسطورة سيزيف من أنه تمكن من أسر الموت , فكان لهذا الخبر صدى طيباً فى المدينة التى سيحيى أفرادها دون ترقب شبح الموت على فك أسر الموت , وبهذا وقع فى حبالها , ألا أن سيزيف وهو فى قبضة الموت ل يفقده ذكاءه ففكر فى حيلة للهروب , فطلب من الهة الموت أنه يرخص لخ بالذهاب للإنتقام كم زوجته التى لم تحترم مراسم دفنه , وهو ما لا يليق بمقامه بإعتباره ملكاً كبيراً , فسمح له الآله بذلك , إلا أنه بمجرد خروجه من العالم السفلى, أنفجر ضحكة معبراً عن فرحة الإنتصار... ولما دبت الشيخوخة إليه حكم يلزمه يدفع صخرة كبيرة إلى قمة جبل الجحيم , حتى إذا تدحرجت إلى أسفل عاد ليرفعها من جديد تحت لهيب شمس الجحيم السوداء , إنتقام وحتى ومسعور يتحرق إلى إطفاء شعلة عقل مشاكس ومقلق , وتعطيل قدرات فكر متوهج بإرغامه على هدر طاقته فى دفع صخرة صماء نحو قمة شامخة ترفض إستقبالها , حتى لا ينشغل أبداً بفضح الآلهة أو الأندال من البشر([4]).
فالسيد حافظ أذن أنطلق من هذه الأسطورة الفنيو وحورها بشكل يستجيب لمنظورة الحياة الإنسانية فبعد مخاضى يزيد عن عشرين عاماً أنجب هذا المبدع تجربة جديدة كانت أعم وأشمل وأنضج من سابقاتها وهى المتمثلة فى مسرحية " سيزيف القرنالعشرين " وما بعد القرن العشرين أنها تجربة تضمن الإستمرارية عبر الزمن ويظهر ذلك من خلال العنوان : -
" سيزيف القرن 20 "
" سيزيف.......... 21 "
" القرن........... 22 "
" ق.............. 23 "
والمسرحية تأخذ بعداً إنسانياً ويظهر ذلك من خلال أسماء الشخصيات. فهناك ([5])"الإنسان " " الرجل " و" الفتاة " الفتاة 2 " الشرطى " " الرجل الكبير " , " الطفل " وهو بذلك يضفى على هذه المسرحية صفة الإنسانية المطلقة فلا يقيدها بإسم معين قد يربطها بلغة أو إقليم ما لأن الإبداع الأساسى الحق هو الإبداع الذى يجد فيه الإنسان – أينما كان – همومه ومعانته " ([6]) , فالمؤلف اذن يكشف النقاب عن معركة الإنسان الوجودية , وعما يقابله من صراعات مادية ونفسية وحصارية , فهو يقربنا من هذه القضايا الإنسانية العامة من خلال شخصيته " الإنسان " فى علاقته بالجنس الآخر المتمثل فى الفتاة الإستسلام والصمت , فى حين يرمز " الإنسان " للتدمير والقلق الإنسان : " يدخل يجلس بجوار الفتاة التى جلست القرضاء " الكرسى ".
( صمت دقيقة ). ما اسم الساعة. الساعة الآن ؟
الفتاة : ساعة الكون. السكون والصمت.
الإنسان : بل ساعة الفوضى والرفض :
الفتاة : ساعة الهروب............
الإنسان : إنها ساعة اللعنة اللتعنة ( تنظر له ) أعطينى سيجارة أمضغ فيها قلقى قلقى....... أضع فيها تمردى وأحرقه منتشياً ([7]).
كما يقدم لنا هذا الإنسان فى علاقته مع السلطة المتمثلة فى الشرطى الذى يحاصره بمجموعة من الأسئلة :
الشرطى : إلى أين تذهب.... عيناك إعلان هزيل هزيل.
الإنسان : أسافر...... أسافر.
الشرطى : حافى القدمين...القدمين... اين جواز سفرك عنوانك القادر على الثقة فيك
الإنسان : ليس لك شأن دعنى..... دعنى.
الشرطى : إلى أين... أعطينى جواز سفرك , أعطيك المرور والأمان.
الإنسان : لا تخف ( يقف ثلاثة فى وجهه – بالطبع أقصد الشرطى – يشعر الإنسان بالعجز ) ( أننى ذاهب إلى الجحيم... جوازى معى هنا ) يشير إلى جيبه يمد يده يخرج ( السجائر) خذ خذ اشرب سيجارة سيجارة.
الشرطى : لا ( يبتعد عنه مربعاً ) من أنت ؟ ما جنسيتك.... ما وظيفتك ؟
الشرطى : أين حقائبقك...... حقائبقك اللعينة ؟ ؟
الإنسان : حقائبى عيناى ويداى وقدماى.
الشرطى : إلى الموظف أمامى.... أمامى ([8]).
ف " الإنسان اذن قد يكون رمزاً إيحائياً لكل المتبوعين والمقهورين المتمردين الثائرين لكل إنسان تحاصره الشرطة وتفتش ممتلكاته وتطرح عليه أسئلة روتينية مملة حول الإسم والجنسية والسن. وما يقوم به وما ينوى به ومن ثم غلصاق مجموعة من التهك به , كالتجسس أو حمل المتفجرات أو الجنون... وهذا ما اتهم به " الإنسان " فى هذه المسرحية.
من هنا نجد البطل فى هذه المسرحية " الإنسان " شخصية ثورية متمردة على السلطة وهو لا يختلف كثيراً عن أبطال حافظ فى المسرحيات السابقة , لأن هناك مجموعة من الخصائص , يتسم بها كل أبطال المؤلف , ولعل ما قاله محمود قاسم فى مقال له بعنوان " ملامح البطل فى مسرح السيد حافظ " ينطبق على الشخصية المحمور فى هذه المسرحية , يقول : " والبطل فى أدب السيد حافظ.. هو هذا المتحرر الحالم العاشق الفنان المثالى الفنتازى , والمؤلف فى أكثر أعماله التى قرأتها له , يركز على بطله وحده دون كل الشخصيات الأخرى التى فى العمل الأدبى... فسوف نرى أن الإنسان الذى يتمرد عليه لا يتمتع إلا بصفات سطحية من صفات الشر او العنف... فهو لا يسيل الدماء , ولا يقتل أحداً , هو فقط " ظالم " لا اكثر , وعلى البطل أن يتمرد على هذا الظلم.
وإذا بدأنا بصفة التمرد على بطلنا الموجود فى كل هذه الأعمال , فهو كما أشرنا متمرد من نوع خاص يبحث عن المثالية غير قانع بالظروف التى تحيطه مهما كان يسعى إلى الأفضل.... ([9]) , والمقال ينطبق أيضاً على مسرحية " سيزيف " ففى هذه المسرجية تجد المؤلف يركز على شخصية " الإنسان " بشكل مثير للإنتباه , فى حين يسخر بقيةالشخصيات لخدمته ومساعدته , ثم أن هذا الإنسان المتمرد الثائر لا يخرج عن مواقفه السلبية فهو يكتفى بالكلمة فى مواجهة من يثور عليهم " بمعنى أن ثوريته لا تخرج كثيراً عن دائرته.... لا تصل إلى الطاغية إلا من خلال الكلمات ويتحول المسرح كله إلى هتافات أكثر من كونها حركة.
ويظهر هذا من خلال إستجواب كل من الشرطى والموظف الإنسان.الذى يجب أجوبة غامضة تافهة , وفى بعض الأحيان تعبر عن القلق والتدمير كما فى قوله مثلاً معبراً عن تضايقه بكثرة الأسئلة المملة :
" الإنسان " : إختنقت بالسؤال الساذج الهزيل.... حين ولدت ؟ ما إسمك ؟ ما العقيدة ؟ ما هدفك... ما الوسيلة.... فلننتهى فيضانات البحث الهزيل ومواسم السعادة وعرس الشتاء... يأخذنى الصمت والثرثرة فى عينيهما.
مللا وراحة ودمار فطرياً , رضعت من ثدى الوجود أعلية بربرية... دغدغت الفوضى , الفوضى , وعرفت الألوان تكرراراً منسجماً من كثرة التنافر , وركبت سفينة الأشواق فى بحر الرفض اللانهائى , اللانهائى.... رفضت أن تتنبانى السطور , إننى أختنق... دعينى.... ([10]).
إلا أن البطل فى هذه المسرحية وبعد سيل من الكلمات المعبرة عن الرفض المستمر والقلق والإختناق , وللتخلص من وضعه , يلجأ إلى الهروب الذى هو أيضاً نوع آخر من السلبية التى ترافق أبطال حافظ , فى أغلب مسرحياته. ف " الإنسان " يلجأ إلى الطائرة ولا يسمع إلا صوته الذى يقول ".... رسالة منى.... إللا محدود هدفى.... لأن الشيىء المحدود فقد معناه فى رحلة الإستمرار غئياناً من كثرة التكرار.
فهو قد يلجأ إلى هذه الطائرة " النادرة التى بلا قائد " للتخلص م المحدود الذى أصبح متجاوزاً , ومن التكرار الذى يؤدى إلى الغثيان , وفى هذا فض لعبئية الحياة وبحيث عن اللا محدود والمطلق.
ومباشرة بعد هذا الحديث – أى هروب الإنسان – يدخل المؤلف مجموعة من الشخصيات (الرجل الكبير). زوجته , الشاب الوسيم , فتاة ([11]), الطفل هؤلاء الذين إكتفوا بالتلفظ ببعض الكلمات أو الإنطباعات حول الحدث , أى هروب الإنسان من بين أيدى الشرطة , هذا الإنسان الذى أحس بنشوة الفرح بعدما تخلص من كل القيود , بما فى ذلك ملابسه , يقول : " الإنسان " ( وهو يخلع قميصه ).
لقد أصبحت الآن متحرراً متحرراً... انطلق من فزع اللحظة يأخذنى تيار النشوة , فلتغنوا معى... الشمس كلمة... القمر غنوة... الليل مدينة مستهلكة... الإنسان حجر ملقى فى قاع سفينة حربية... غنوا وارقصوا([12])
ف " الإنسان " بعد أن إبتعد عن الحياة اليومية , ونظر إليها من بعيد إستنتج بأن حياته لم تكن سوى عبئاً وإستمرار يتكرر بنفس الطريقة , وإن كل شىء مآله إلى الأندثار والزوال , يقول : " الإنسان " : آه. لقد حلمت فى الصيف بالخريف... وحلمت فى الخريف بالشتاء الشتاء , وحلمت فى الشتاء بالربيع الربيع... وحلمت فى الصباح بالظهيرة الظهيرة وحلمت فى الظهيرة بالغروب الغروب... وحلمت فى الغروب بالليل الليل وحلمت فى الليل بالفجر الفجر , وحلمت فى الفجر بالصباح الصباح , وحلمت فى الحلم بأن الحلم الذى أحلمه إنتهى (ظلام عليه)([13]).
وأخيراً بعد أن إستحضر المؤلف كل الشخصيات , قدم للقارىء مفتاحاً للعنوان الذى تحمله هذه التجربة – أى سيزيف – وذلك عندما أفصحت كل الشخصيات عن إسمها الخفى , ومما يثير غرابة القارىء أن كل هذه الشخصيات , تحمل إسم سيزيف , لما فى ذلك الفتاة التى تقول متهجة بكلامها إلى الإنسان : " أننى سيزيف حبيبتك " ([14])والشرطى الذى يفصح عن إسم إبنيه الأكبر والأصغر واللذان يحملان إسم سيزيف , ثم يشرع فى الصلاة وبعد إنهائها يقول : " عبدك الفقير ياإلهى , سيزيف , سيزيف سيزيف " ([15])ثم انالموظف وهو يوزع جوازات السفر على الحاضرين يناديهم بإسم " سيزيف " وأخيراً بفصح الرجل الذى فى الخلف عن إسمه إلا وهو " سيزيف " فيحضر الطفل وبيده ورقة إنها ورقة " الإنسان " وبها إسم " سيزيف " والطفل هو الوحيد الذى لا يحمل هذا الإسم , وربما لهذا نجد الكاتب يشير إلى أنه أخذ يجرى فى كل الإتجاهات , ويدور , مكرر كلمة " لا , لا , وهى ما يدل على رفضه لهذا الواقع السيزفى , فينهى المؤلف بكلمة الرفض : لا , وهذه الكلمة التى كتبت أيضاً على الستار , بل وتجاوزت قاعة العرض لتكتب بكل لغات العالم على لافتات توجد خارج البناية المسرحية , وهذا يدل على أن المؤلف لم يكن يريد حصر مسرحيته , بما تحمله من مضامين وأفكار داخل القاعة المسرحية الضيقة , بل جعل كلمة " لا " علامة الرفض والتمرد وعدم الإستكانة والخضوع تصاحب الجمهور إلى الخارج... وفى هذا , إصرار من المؤلف على مواصلة موافقة التجريبية الباحثة دائماً عن الجديد , والرافضة لكل القوالب الجاهزة المسبقة , والرافضة أيضاً لسلبية الإنسان فى الحياة وهو الذى ظل هم هذا الإنسان , فجاءت مضامينة مشحونة بعبارات توحى بالضياع والإضطراب ومشاعر التوتر والقلق , على إعتبار أنه يعيش فى عصر , كل شىء فيه يضاعف الإحساس بهذه المشاعر. ذلك أن فنان هذا العصر " فنان مثقل بتركة هائلة من الخبرات والمعارف البشرية المتصلة والمتداخلة , وهو أيضاً الوريث الشرعى لعصر الأسطرة , فى مقابل هذا العصر المادى الذى يحاول أن يقتضى على صوت الفنان إحلالاً لمفاهيم مادية آلية , تجعل من الإنسان رمزاً خالياً من المعنى وأصغر آلة فى عالم الآلات , وفى داخل هذا العصر الذى يموج بآلاف المتناقضات , يقف الفنان , شهادة إدانة على عصره من خلال تقديمه لصورة العصر السلبية , وما تنطوى عليه من توتر حاد هو أساس العلاقة بين الإنسان والإنسان , وبين الإنسان والعصر , ليس فهذا فحسب , بل أنه كثيراً ما يحاول فى موقف الإدانة أن يقوم بدور المبصر الباحث عن معنى الإنسان فى عصر ضاع فيه معنى الإنسان ([16]).
وفى هذه المسرحية يقدم لنا حافظ شخصية " الإنسان " – سيزيف – بإعتباره مضطهداً تساوم شخصيته بأشياء تافهة , فقد تساوم بجواز سفر , أو بطاقة تعريف , أو حقيبة....
الشرطى : إلى أين... أعطينى جواز سفرك , أعطيك المرور والأمان.
الإنسان : لا تخف.. إننى ذاهب إلى الجحيم... جوازى معى هنا...
الشرطى :... من أنت ؟ ما جنسيتك... ما وظيفتك.
الإنسان : لا تحلم بالمعنى الساذج فى تبصيرى ياسيدى ([17]).
الإنسان : حقائبى عيناى ويداى وقدماى.
الشرطى :... جريمة أرفع يدك إستلاماً (يرفع المسدس فى وجه الإنسان) لا تحاول أن تحدث صوتاً لزملائك ( يسير الانسان أمامه صامتاً ([18]) , فالمؤلف هذا يتحدث بلسان الإنسان المتدمر الذى يعشش بداخله الإحساس بالقمع والمتابعة والذى يملك روحاً عطشى للسفر والمغامرة , وفى ذلك تعبير عن الثورة ضد الإستبداد والقهر والمحاضرة المستمرة. فحافظ إذا كان يحاول من حثه نقل ما يعانيه الإنسان , بصفة عامة , فى حياته اليومية فإنه من وجهة أخرى يفصح عن تمرده على ما فى هذا الواقع من مظاهر العبث واللامعقولية , وتلمس ذلك فى حواراته الإنسانية الحقيقية الخالية من أى تنميق أو تصنيع فهو ينقلها كما تجرى فى الواقع بتفاهتها التى تحمل دلالة زاخرة بالمفارقات :
الفتاة : ما إسمك إسمك ؟
الإنسان : لا أعرف.
الفتاة : إسم أبيك.
الإنسان : ما زال مختفياً فى أسنان مشط قذر قذر.
الفتاة : أنجبتك أمك من رجل أو من كلب أو من حمار او من ملعقة.
الإنسان : ربما من هذا... ربما من ذلك... ربما من حفل جنسى " كوكتيل ".
الفتاة : لى أب سياسى... يجيد كل شىء , بكل شىء.
الإنسان : غنوة ملوثة من البحيرات.. صدرها من صدر الضفادع.. عيناها من عيون الناموس وهى خاصية نجدها فى كل المضامين التى تأخذ بعيداً كما رأينا ذلك عند يونيسكو وبيكيت...
فالمؤلف يكسر منطقية الحوار بإقحام كلمات تثير قلق القارىء أو المتفرج , ويتقزز لسماعها , وهو يهدف من وراء ذلك إلى التوصل إلى مفهوم التباعد فى المسرح لإخراج المتفرج أوا لقارىء من سكونيته أو ما كان يعرف فى المسرح الكلاسيكى بالإندماج , يقول الأستاذ مصطفى رمضانى " ومن المؤكد أن توظيف المؤلف لتقنية التباعد وسيلة لجعل القارىء يدرك المعادلات المنطقية المألوفة بشكل مركب وغريب , حتى يتسنى له إدراك غرابة الواقع ولا منطقية العلاقات السائدة فيه ([19]).
وسيزيف فى هذه المسرحية , يعانى الإغتراب والغموض , فهو إن كان محاصراً بالأسئلة من طرف الآخرين , فغن داخله يحتضن آلاف الأسئلة التى تقلق راحته , دون أن يجد لها جواباً.
" الإنسان " : ( يقع ضوء عليه ) كل يوم كل لحظة..كل ساعة.. كل طرفة عين.. يولد فى سؤالك.. ألف مليون إستفهام , تولد فى كل يوم.. إضافة إلى عالم الإستفهام الذى فى داخلى.. أرحل فى كل سؤال دهراً أو بحثاً أو محاولة.. أجد الإغتراب.. لأننى أجد إجابة لمائة وباقى المليون سؤال يسكن فى شريانى , حتى أن كل خلية أصبحت علامة إستفهام وإغتراب.. تفجرت ذات يوم للعالم شعاعاً إيجابياً منطلقاً إبداعاً ملفوظاً ( ظلام عليه ).
ف " الإنسان " – سيزيف – فى هذه المسرحية يعانى من غياب الأجوبة وغموض المعانى – فهو يطرح العديدة من الأسئلة لكنها تبقى معلقة , وتتضاعفت يوماً بعد يوم , يقول عبد الكريم يرشد فى إطار حديثه عن البطل فى مسرح السيد حافظ والأقنعة التى يحملها : ".. أما القناع الثانى , فيمثله ( سيزيف ) وسيزيف هو الواقع , هو رمز العبث الموجودى , أنه بلا بطولة , فعله المتكرر – إلى الأبد – يبقى بلا معنى , ما دام أنه لا يحقق معنى , ولا يصل عند حد ما , هذا البطل العبصى يتسرب إلى مسرح السيد حافظ , فنجده فى المسرحية التى تحمل إسم ( سيزيف القرن العشرين ) ونتساءل ونتساءل : لماذا سيزيف بالذات ؟ ولعل السؤا لالأكثر أهمية هو كيف قرأ المؤلف الجديد الأسطورة القديمة ؟ هل إستنسخها كما هى – أم أنه أعاد كتابتها من جديد ؟ لا شك أن السيد حافظ لا يقدر التملص التام من جاذبية الفكر الأدبى الغربى , خصوصاً وأنه , كان يعيش مرحلته الإبداعية ومع ذلك يمكن أن نقول بأن سيزيف الجديد جاء وهو يحمل على ظهره هموم الإنسان العربى , فهو لا يعانى من أزمة وجودية تتحدد فى حضور السؤال وغياب الجواب , وفى البحث عن معنى للوجود, وغياب هذا المعنى. سيزيف عند السيد حافظ يزاوج بين الهمين الوجودى والميتافيزيقى , والهم الإجتماعى المادى , حيث نلمس ( مقالب السلطة والبيرقراطية) إن التمرد على العبث الوجودى هو فى جوهرة عبث, لأنه (ثورة) على اللامتغير , أنه العبث الذى يواجه العبث , فى يثمر شيئاً غير العبث. أما مسرحية السيد حافظ فتختفى (بالإنسان المتمرد على المواصفات الإجتماعية والحضارية) أى أنها تتجاوز إلى ما هو نسبى وتركز على الإجتماعى المحسوس عوض أن تغوص فى الميتافيزيقا وفى المجردات الذهبية..([20]).
فهذه المسرحية بإعتمادها على المصدر الأسطورى لم تبتعد عن العلاقات الواقعية فى الحياة , فشخوصها لا يضربون عن طبيعتهم الإنسانية , فهم يعبرون عما قد يؤمنون فى هذه الحياة من معانى الإضطراب والفوضى واللامعقولية , وما يعتمل فى نفوسهم من شعور بالقلق ويرفض للقهر والظلم والمحاصرة , فشخصياته فى هذه المسرحية لا تنفصل عن واقعها الإجتماعى أى علاقتها بالآخرين وبالسلطة الحاكمة , فالمؤلف تأذن يركز على ما هو واقعى , ولا يتوغل فيما هو ميتافيزيقى فنتازى كما هو الشأن بالنسبة لسيزيف الأسطورة التى يتمرد على الآلهة ويفضح أسرارهم , أما سيزيف المسرحية فلا يتعدى تمرده الواقع الذى يعيشه , فى إطار علاقته الإجتماعية بالآخرين.
إن السيد حافظ قد إنطلق من الأسطورة القديمة , وإستفاد من الصراع المحتدم فيها بين الإنسان والقدر المتمثل فى الآلهة , فإعتبرها قالباًُ رمزياً قبلاً للتأويل والتحرير , وبهذا أعطاها تفسيراً جديداً يتماشى مع قضايا الإنسان المعاصر.
إن نزعة المؤلف التجريبية تقتضى منه دائماً البحث عن الجديد قصد إستيعاب معطيات الحياة المعاصرة , وقد كان لجؤه للأسطورة فى هذه المسرحية نتيجة لإنفتاحه على التراث الإنسانى الغنى وهو بذلك يكون قد أعطى لهذه التجربة بعداً إنسانياً عاماً. فكل إنسان يسكنه التناقض والإضطراب ويشعر بداخله بؤرة للتصادم والتوتر سيجد نفسه – لا – محالة فى هذه المسرحية التى تتناول التراجيديا الإنسانية المتكررة , فى عالم يسوده العبث والروتين , أنه يصور عالم الإنسانية عامة بحيث لا يمكن أن نخصه بهؤلاء دون أولئك , لأن المبدع يكشف عن الوضع الإنسانى فيحس كل شخص بأن ما يقال بحديث له هو أيضاً , أو يشكل همه الأساسى فى الحياة , أو هم إحدى النماذج التى يعايشها , ثم أنه حاول أن يطرح الإشكال الإنسانى بإعتباره من جهة واحدة من هؤلاء الذين يحسون بمهزلة الحياة وتفاهتها وسخفاء ومن جهة ثانية , يعتبر من الذين ذاقوا مرارة هذه الحياة وأكتووا بنار الهزيمة والإنتكاسة.. بقول حسن عبد الهادى فى مقاله له تحت عنوان :
قراءة نقدية لأعمال السيد حافظ المسرحية.. أقول ذلك تمشياً مع الإسلوب الذى إنتهجه حافظ من خلال غلبة الطابه الإنسانى الحضارى , لقد لجأ الا نبعث من الأساسية أوالقاعدة الإجتماعية متوسعاً فى شموليته ليتضمن أو يضمن كتابة معانى عامة وتصورات كثيرة تتكامل مع بعضها البعض , لتحقق وضوح الفكرة التى يريد طرحها ومعالجتها بأساليب متغايرة.. إنه بإختصار ينتقل من المعلوم إلى اللامعلوم ومن الجزء إلى الكل , معبراً عن قضايا تهم السواد الأعظم من الناس ولم يكن ذلك ليتأتى لولا أنه يحب الناس ويؤمن بهم وبقدراتهم الكامنة , ولذلك نراه بتمرد على سكوتهم وخمولهم إزاء المواقف الحياتية لإيمانه وثقته بأنهم يملكون القدرة على الحركة والفعل , وذلك الفعل القادر على تغيير الواقع المرير , أنه يطالبهم بالتحرك السريع المؤثر , ولكن دون أن يكون التحرك غامضاً مبهماً بل مخططاً مدروساً , إنه التمرد من أجل تحقيق الأفضل بعبر الرؤية التفاؤلية فى الوصول إلى شاطىء آخر أكثر أمناً وسلاماً. أنه يريد من الإنسان ألا يستكين وأن يتعهد بذرة التواصل الحضارى بالرى والنماء لتكبر فى داخله وتأتى أكلها ولو بعد حين.. ([21]).
ودعوته للتمرد على الوضع وعدم الإستكانة تظهر بوضوح من خلال تعاطفه المطلق مع " الإنسان " الذى يحمل أفكار ومبادىء المؤلف , ثم من خلال النهاية المفتوحة التى تحمل صرخة الطفل الراضة للوضع وهذه النهاية المفتوحة تؤدى مفهوم التغريب الذى يدفعنا إلى التساؤل مع الكاتب رشيد المؤمنى: إلى متى ستظل أبواب العالم السفلى , موصدة على سيزيف؟
- إلى متى ستظل معاناة سيزيف رمزاً لعبث الوجود ومأساويته ؟
- وهل ستطول شماتة آلهة الجحيم بجهد هذا الجسد المستنزف داخل دائرة مغلقة وثابتة ؟ !.
أكيد أن سيزيف سيسترجع سلطة ذكائه , ,وأكيد أنه سينجح فى تكسير الطوق وفك الحصار ليعود إلينا من جديد بدهائه العالى وخبرته المتفردة فى فضح مكر اللصوص ومحترفى خطف الأجساد البشرية وأرواحها فهذه الأسئلة تنطبق كلها على مصير سيزيف – الواقع – والأجوبة عنها تحملها النهاية التى إختارها المؤلف للمسرحية عن الأمل الذى يمكن أن يحمله المستقبل لكن شريطة أن تكون الإنطلاقة لهذا الحاضر
حليمة حقونى / المغرب
[1])) الدكتور سعيد أبو الرضى – الكلمة والبناء الدرامى رؤية.
[2])) رشيد المؤمن – سيزيف يتحدى صخره الا لم – مجلة الجامعة العدد 19 – (4) سنة 1991 صـ 1
[3])) نفس المرجع السابق.
[4])) نفس المرجع السابق
[5])) المسرحية - العنوان
[6])) الأستاذ مصطفى رمضانى – جدلية الخفاء والتجلى , د. عزيز نظمى.
[9])) محمود قاسم فى مسرحية السيد حافظ – الجزء الأول مكتبة مدبولى (11) صـ 103 – 104 – 105.
[11])) المسرحية -
[12])) المسرحية صـ 102 (13)
[13])) المسرحية صـ 14
[14])) المسرحية صـ 105
[15])) المسرحية صـ 108
[16])) د. سعيد الورقى / كتاب د. عزيز نظمى السيد حافظ بين المسرح التجريبى.
[17])) الدكتور سعيد الورقى مسرحيتان للسيد الحافظ بين المسرح التجريبى والمسرح الطليعى , د. عزيز نظمى مركز الوطن العربى للنشر والإعلام. رؤيا , ج.م.ع ص : 135 – 136.
[18])) المسرحية صـ 193
[19])) مصطفى رمضانى , جدلية الخفاء والتجلى فى مسرحية ظهور وإختفاء , أبى ذر , السيد حافظ بين المسرح التجريبى والمسرح الطليعى , د محمد عزيز نظمى – رؤيا , ج. م. ع. ص : 182 – 183.
[20])) عبد الكريم رشيد, مسرح السيد حافظ بين التجريب والتأسيس , فى مسرح السيد حافظ ج 10 0 كتبه مدبولى , ص 83 – 84.
[21])) رشيد المرضى / سيزيف بتحدى صخرة الألم العدد 19 – 1991.
0 التعليقات:
إرسال تعليق