عرفت السيد حافظ عندما توهجت رؤوسنا وهى تصطدم – بمستطيل – النكسة وهو مستطيل أسود مستن يخالف فى الشكل والمضمون مستطيل كيوبرسك (أوديسا الفضاء) لقد دشن ميلادنا فى لحظة الذبح، والتقينا فى ابهاء وأزوقة دار العلوم الخشبية، كطيور النورس المذبوحة، كان السيد حافظ طالباً يتمتع بتمرده ، وكان الوقت – بالنسبة إليه – هو الفصل الختامى فى رحلة قلقة الجامعى بين كليات التربية اسكندرية و... و... وكنت فى العام 1969 مشرفاً فنياً للنشاط التشكيلى بالكلية. وكان اللقاء حميماً بين خريج كلية فنية ممثلى – الطلاب أقرب إليه من حبل الوريد – وبعد أن مارسوا – الذبح الوظيفى – عليه ، يتمرد ع لى طقوس الوظيفة فى مدينة النكسة التى ينخرها السوس. كنت هذا الذى هو إنسان أولاً وفنان ثانياً ولا موظف ثلثاً.
فقد كنت أقول – إننى موظف فى اللاوظيفة أو – إنها وظائف اعتمدت فى الوقت الضائع البوار من الأمة – كان السيد حافظ ابناً لمدينة ونبتاً للأسكندرية وشقيقاً لقاص سريالى رائع – محمد حافظ رجب – اصطدم رأسه – الكرة – بالجدار المسنن ، وصار رأسه رأسين وثلاثة وزيادة. وكنت ابناً للريف (مسقط رأسى البحيرة ) وزرعاً لمدينة ريفية صناعية (المحلة الكبرى) .
كانت المدينة الكوزموبولاتانية بالنسبة إلى متاهة تحتاج حلاً. وكانت المدينة بالنسبة إليه أوراقاً كرتونية بل أوراق – نرجسية - بائسة سافرة كان تمردى تمرداً استيطانياً طويلا، ومحاورات مع صديق اختزلت فيه العمر والأمة (فاروق عبد العزيز) وكان تمرده صراخاً ومبالغة محببة. وكان – وكأنه – لابد وأن نلتقى النفى جيلنا على مقولة شهيرة – نحن جيل بلا أساتذة – وبدأ جيلنا يكتب وهو أعجب الأجيال فى تاريخ الأمة المصرية (وهذا ما أوكد أن الأيام يتثبته) فجيلنا ليس ابناً محضاً لثورة 23 يوليو. لقد تشمم جيلنا رائحة أساتذة الأربعينات كان أحدنا أو الأخر قد تأثر بعمق بالآثار الأدبية الرائعة لطه حسين أو توفيق الحكيم أو عباس محمود العقاد أو سلامة موسى.
غير أن التيار وهو يجذر بنا ويمد ويجزر قد أخذنا إلى بعيد،، كانت التحديات الفوارة أكثر ضراوة من ضراوة طروادة هذه الذكرى.
ولقد ولد جيلنا فى عاصفة فصرخته الأولى كانت قنبلة هيروشيما، وقسمة كان – النكبة – وحجلة كان ثورة 23 يوليو وفى لحظة الميلاد الحقيقة لأى جيل (التخرج) اكتشفنا أننا أوراق خريف تخرقها البرودة وتذروها الرياح.
نحن الأحلام الطائلة لجيلين (الرواد / وجيل الوسط) وقالوا : صرح بدون صوت، فالحبل والمشنقة فى رقبتك، احكمت دائرة الحبل على العنق باسم الثورة والنكسة والمعتقلات ونضال الأمة، وامتد الحبل طويلاً باسم – النفط – وبدأ المسلسل الأوسد : مسلسل الكآبة: نفط بطعم الحنظل، ومدائن يحكمها العسكر ويتركون أبوابها ومرانعها ورمالها تحت نجمة اسرائيل التى تتسيد النجوم الأمريكية.
وبدأنا نكتب ونرسم، وكأننا نمارس الطقوس الوثنية للحرية، وجاءت كتابتنا – شفرية – الأدب والخيال والتاريخ البعيد واللاوعى. تقرأ فيصيبك الدوار أو الخبال. المهم أن تكتب لغة لا يدركها قلم الرقيب ومقصه. وهكذا ولد الغموض شرعياًتحت مقارع النكسة.
كان كل شئ فضفاضاً واسعاً، غامضاً ووهمياً : التاريخ والذكر والفاجعة والأنا والمستقبل : ما تعلمناه وما لم نتعلمه. وما لن نتعلمه. كان السيد حافظ يملك تلك الجرأة التى يملكها ابن المدن الكبيرة، والذى تعلم مع الحجل كيف يتشعبط على أبواب الترام والتروللى والباص. يلج مكاتب – الكبار – بركلة من قدمه. وكنت كريفى يحيا ليلته الأولى فى مدينة لا تحسن استقبال أحد.. ويتساءل: لماذا ؟ وكيف؟ والى أين؟؟ وتشكل جيلنا بين جزئيتى ذرته (السالب/ والموجب) بين جبال الاستبطان الشامخة وبين قعقعة الأحجار المتصايحة وهى تدك أشياء المدن. بين الحزن والسخرية. وكانت الدائرة، وبدأ الجوهر واحداً وواعداً. والنقطة المركيزة للحدث واضحة. والتقى الفريقان على لغة رومانسية ثورية : لغة هياج مصطرخ كان يكتب إلينا السيد حافظ اسم أوزوريس اهداءات كتبه هكذا : إلى الأخضر، إلى النورس ، إلى ضياء الماء، وماء الضوء، إلى البنفسج، إلى الطاقة .
واقتحم السيد حافظ مع الطلب والطالبات مخزناً مغلقاً به الكراسى والمناضد والدواليب التى نريدها لمرسمنا، وأقمناه فى الدور الأول الذى قيل أنه آيل للسقوط ولم يخش – أحدنا – شيئاً من سقوط المبانى، كانت ألفتنا عجيبة لهذا المبنى وكنا حجرة وحيدة، تطل على صحن دار العلوم حيث يلمع تمثال نصفى أبيض لمؤسسها – على مبارك – باشا وكنا نشعر بالألفة العميقة مع هذه الأعمد من الأخشاب النابتة من قلب قرن مضى، وحيث يتساقط دهانها وكأنه لحاء لأشجار عجوز – مع الأطلال – أن نستمع إلى ترددات أصوات المحاضرين عبر مائة عام والى سكون الليل، والى شقشق الضوء فى رواق إسلامى والى جابة الطلاب بين الأعمد، والى مرائى المظاهرات الوطنية التى خرجت من دار العلوم إلى قلب القاهرة عبر السنين.
وحاول السيد حافظ أن يمارس الرسم، ولجأت إلى الرسم به. فلوحتى – الخوذة والشهيد – تحمل بصمات قدمه وبيده كنا رمزيين وتجريديين ، رافضين وباحثين عن واقع آخر، وكنا تعبيريين وحوشيين ووحشيين ومجربين. وكنا نمضى الوقت فى هذه الأنحاء إلى منتصف الليل. وكانوا فى الصباح يسألوننى عن تأخير خمس دقائق من الحضور الوظيفى.
كنت أمارس فى قلب الدوام رحلتين مقدستين إحداها باتجاه الجنوب – عابراً الحى الراقى جاردن سيتى النيل ، اسكب العيون فى أبها، أمواهه وأصواءه، ثانيها إننى أعتلى ظهر مقعد حجرى رطب وثانيتهما باتجاه الشمال إلى قلب ميدان التحرير إلى شارع شمبليون اسمع الموسيقى الكلاسيكية مع رفقة أخرى منهيا العرض دائماً – بالدانوب الأزرق.
وكان السيد حافظ يختفى فى نفس الوقت باتجاه الجنوب إلى روز اليوسف وباتجاه الشمال إلى دار الهلال يقرع أذان- الأسماء 0 بصراخه المشروخ روعة.
وبدأت رحلتى مع مسرحية – حدث كما لم يحدث أى حدث – ولم يكن هناك أوضح – فى لغتنا – من هذا العنوان، فالذى حدث هو أنه لم يحدث أى حدث ، وهذا وحده يكفى تبيانا لموقف .. كنت فى هذه السنوات قادراً على أن اتناول هذه اللامعقولية فى الفن كصرخة احتجاج جيل. وكان فى هذا السيد حافظ لا يبارى. ولقد اتممنا دراسة هذا العمل واحتشدنا لديكور مسرحى فيه لوحة مصممة فى أن نرسم بالقلم الجاف الأسود على مساحة 2,5متر. (ولك أن تقدر حجم هذه الطاقة الانفعالية التى كنت نمتلكها)
فلم نكن نلعب . ووقت البيروقراطية كانت نكبة فى جيل كامل بكل فرقة (الموظفين والعسكر والبيروقراطية والدكاترة ضدنا) وكلهم ينظر إلينا وكأننا نتاج كوكب منفصل لا أحد يريد لنا المشاركة بشئ.
تحول السيد حافظ إلى الاسكندرية وبدأت مراسلاتنا ما بين – عزبة دومور – التى بالكاد أدركت فيها شقة متواضعة من ثلاث غرف فى حجم علبة السردين (الغرفة 2,5 × 2,5 متر)وكان الحصول عليها معجزة بمقدم ومؤخر وصداق ونفقة متع ونفقة حضانة وفى النهاية دخلنا فى طاعتها، وما بين مكسنه الذى لم أراه حتى اليوم ، وكان عنوان، أيضاً بالنسبة إلينا عنوناً شفوياً : محرم بك خلف نمره 16.
أخذتنا سفينة الرخ إلى مدينة الكويت وحتى تكون القاهرة ومصر كبيضة فى راحة اليد على استقامتها. وكانت البيضة ما تزال تفرخ أفراخها المذبوحين. وانقطعت أخبار السيد حافظ عنا. واكتشفت المرء عند لحظة الاصطدام الأولى: كم هى وهمية تلك المدن الذهبية. وأننا أخطأنا العنوان : خلف نمرة مدينة الذهب – لقد غلبتنا شقاوتنا وبدأ فى الكويت لنا تحصيل ثقافى فذ وكبير، ونعتز به تلك كانت طبيعتنا: أن نفرخ ثقافة ولا نفرخ دنانير.. وتذكرت أننى فى مشاهداتى الضحاوية (نسبة إلى الضحى) قد امتلأت بدنانير النيل، وحيث تلمع أضواء الأسماء الفضية على سطحه الأزلى. وكان فضل الكويت علينا أن أدركنا الإدراك الكلى صحوباً بإدراك جزئى. هنا كانت رحلة تطبيق الدنانير. لماذا ؟ والتعليم : لماذا؟ والطباعة : لماذا ؟ ومصر : لماذا ؟ والفلسطينيون: لماذا ؟ وعرب النفط: لماذا؟ والسينما : لماذا ؟ والتصميم : لماذا ؟ والسياسة : لماذا ؟ والعسكر : لماذا ؟ والفرد : لماذا ؟ والجماع : لماذا ؟ وآه من هذه اللماذا ؟
بدأنا رحلة التخصص والتطبيق الميدانى الشاق ، الوعر، هنا.. هنا إمكانية ما لتطبيق ما. ومعمل اختبار للأمة العربية كلها. وفى مصر إذا كانوا قد استولدوك ابناً لهم بخساً، فإنهم هنا قد اشتروك بخساً وتظل قيمتك حائرة. هذا الجيل الراحل بلا نظرية ابداً لن يعود إلى ثكناته الريفية إلا بنظري . والنظرية معرفة بالأصول والفروع ، بالكليات والتفاصيل . والفلاح يعرف لا يكف يزرع الطين بل كيف يزرع الرمل والماء بل الأفكار والأحلام والمشاعر. الفلاح الحقيقى هو المثقف الذى عاد يدرك أن الأرض كلها ليست سوى تربته الداخلية: قلبه. وفى قلبك يتكون العالم – خلال رحلة المتاهة العربية – لا لا هالة وهمية بل جداراً جداراً ولبنة فلبنة.
وفى ذات ضحى صيفى صحراوى قائظ، قابلنا (أنا وفاروق) السيد حافظ فى مدينة الذهب. كان فى أعناقنا طوق عمل لـ22 ساعة يومياً. وفاءاً بوعد لصاحب شركة اعلانية. لكنه خلع بعد تمام العمل صوت الرجل إلى صوت الذئاب وكان للسيد حافظ يبحث ظامئاً عن قطرة ماء. كان كلانا مقيداً – وما يزال – إلى عجلة النار والتجربة. ولم نملك أن نعطيه سوى أعمق الأمنية والسلام.. كان القلب منا يتقطع وهو يسكن فى حرجة 6 × 6 متر بها اثنتى عشر سريراً صعيدياً . وكان قد أتى ومعه لفائف نشرة ورسائله وبعض أعماله ، وفى لحظة إنسانية – أقدرها – لحظة امتعاض مزق خطابات – منطقة دولار – إلى منطقة خلف نمرة 16 – وبهدوء سحبت منه عدة خطابات كان آسفاً وكنت مشرفاً على هذا الأسف بعشق لاضحياتنا القاهرية والنفطية.
ومن مجلة – صوت الخليج – إلى المجلس الوطنى للأداب والفنون – بدأ السيد حافظ يتعيث طريقه ويتوازن وكنت فى هذه الفترة أحمل ما بين القاهرة – الكويت وبالعكس الكتب والرسوم الثقيلة، لا أدرى كيف أو أين تسكن، وبدأ عذاباً كعذاب سيزيف وصرحته. قمة الجبل تنكر عليك الصعود . وبطنه ينكر عليك النزول والعود ليس بأحمد. وامتلأ جسدنا، وتضخم الصوت وعرفنا طعم الفاليوم، واتخذ السيد حافظ ثمة المهاجم فى حديثه يا أولاد كذا وكان فى هذا الصراخ – السبعينى أنقى قلباً وأصفى من الأطفال. هنا بدأ يتعلم الهجوم.. ليس على كتاب أرصفة القاهرة، بل على الجنس العربى كله.
وبدأنا – ننجح – والعارف لا يعرف . وظلت للسيد حافظ لغته المسرحية الفضفاة واكتشفت إننى صرت صاحب ذوق محافظ خاصة فى غير الفن الذى امتهته هل هى المعرفة بالتخصص والتفاصيل أم أن المعارك صارت على جبهات تخصصية شتى ؟
وفى العام 1983 طلبنى السيد حافظ لأصمم له ديكور أول مسرحية يكتبها للأطفال – سندريلا – والتى تعاقد عليها مع مؤسسة البدر . قرأت المسرحية فأسعدنى جمالها وإشراقها ، بساطتها ومغزاها.
وبدت النهاية فيها فى قوة وجمال – لحظة التنوير – فى القصر القصيرة . هل يأس ا لسيد حافظ من عالم الكبار فلجأ إلى الأطفال ؟ ! واكتشفت فيها أن ذلك الشاب الذى مازال يتحدث بلغة المطلقات والرموز. وهذا القلب الغوار بالمحبة قد وجد فى نهاية المطاف أين يضع موهبته؟ ولمن يقدمها ؟!
كنت سعيداً بهذا الاكتشاف واكراماً للسيد حافظ اعددت تصوراً للديكور. واعدت تدارك ما انكمش فى الذاكرة من المنظور المسرحى الخ... التقيت المخرج والمنتج وعرضت عليهم تصورى. وكنت ألمس فى شبح السيد حافظ حزناً لم أره فيه من قبل قط.. بلى وبأساً من المواجهة. لقد اختفى أمام ناظرى.. ولم أعد ألقاه.. وكانت مفاجأة لى أن المخرج والمنتج قد استبدلا – لحظة التنوير – بلحظة تعتيم لا تضفى على المسرحية ناراً بل تجعلها هشيماً . لقد أبدلا النهاية إبدالاً.. تحت دعوى إنها نهاية.. تراجيدية ، وأنهم قدموا من قبل ثلاث مسرحيات أو أربع بنهايات حزينة..!!!
فى نهاية مسرحية – سندريلا – السيد حافظ جعل الشرطى الذى يقيش حذاء سندريلا يصرخ : الحذاء ليس حذاؤها.
وسندريلا تصرخ : إنه حذائى . ومن يصدق سندريلا ؟! وبهذه النهاية – وهى إضافة لها قيمة – يكون هنالك مبرر درامى لفهم موقف الوزير الذى يرفض من البداية هذا الزواج ويكون هنالك إثارة حقيقية للأطفال نحو فهم العلاقات الاجتماعية فى عصرهم وصراعاتهم.
وبتغيير هذه النهاية إلى النهاية التقليدية صارت مسرحية السيد حافظ بلا معنى. ولقد حملت تصوراً رمزياً وتجريدياً وعملياً للديكور يخالف تصورات المخرج. فانسحبت من العمل.. ولم يكن السيد حافظ بقادر فى كآبة نفسه المفاجئة أن يصرخ.. ولأول مرة أرى السيد حافظ استبطانياً..
وفوجئت بالهجوم المنظم والمخطط والذى يستعدى العامة على السيد حافظ محملاً إياه ما قاله كاتب فى مصر أن السيد حافظ يطور مسرح الأطفال فى الكويت – وكأنها سبة أو جريمة يقتضى عقابها؟! وهذا السيد المحرر الذى كتب واستكتب غيره طعناً فى السيد حافظ ومسرحه لم يعتنى أن يشير إليه .. هذا الذى يأكل كلمة ابداعات أمثال السيد حافظ.. ويفرد ضد مسرحه الأعمد الطوال العراض لا يشير إلى من يطعنه ...
وهكذا تمت الدائرة، تولد فى أنظمة العروبة فى غفلة من التاريخ والزمن. تنسانا عند المواقف، تبتزنا بكل اسم، وتطعننا دون أن تشير إلى اسمنا.
المهزلة كاملة، هى رحلة السيد حافظ ولأن الناقد، والنقاد تخلوا عن دورهم الرشيد البناء. فقد تمزعت فى أنفس كآبة السيد حافظ الظلال كلها، فاتخذ من الأطفال فى مسرحيته التالية – الشاطر حسن – حفل اختبار للغته الفضفاضة الواسعة التائهة.. وكانت تلك جريمة النقاد بأكثر مما هى مسؤوليته. لقد خالفت تصوره المعذب المشتت .. المشتت هذا.. وارباً به أن يعود إلى سندريلا قاموساً له.. بكلام الأطفال بهذه اللغة البسيطة المشرقة ويعيد سرد حكاوينا القديمة بمرآته العصري البسيطة. لا استعراض فى الفن. ولا لغة فضفاضة ومتشتتة ستعيش للزمن. أملنا فى السيد حافظ أن يخاطب الطفل بحنو قلبه ببساطة الكلمة، وعمق مراييه وشروخات عصره. ستبرز من بين يديه كإشراقة يوم جديد.
ليس حديثى حديث ناقد.. فلست بناقد مسرحى.. إنما هو حديث نتاج رحلة واحدة. ركب فيها السيد حافظ بساط المسرح الذى هو ساحر وأنا مسحور به (هذا البساط) وركبت متون جبال المستحيل بين الضوء والطمى. ولا استطيع الحديث عن السيد حافظ دون أن اتحدث عن نفسى، فهذا الحوار بين أفراد جيلنا صلة لا نستطيه منها فكاكاً، نحن المقيدون فى عجلة النار العربية، نستطيه أن نتخاطب.. أن نتهاتف ، أن نتحاور، حتى ولو عددت الكلمات فى عصرنا العربى كل معانيها حتى ولو كان الصمت حبلاً وطرقاً وأنشوطة عذت.
احمد غانم
الكويت 5 مارس 1985
السيد حافظ مسرحى يلمع فى مصر
بقلم : شفيق العمروسى - الاسكندرية
مجلة : العصر والثقافة – صفحة مسرح
كل مدينة هى " مدينة الزعفران "
هنا الفكر كفر... وكل مواطن خائن !
السيد حافظ نجمه طالع فى مصر المسرحية، ماذا يقول السيد حافظ فى مسرحياته ؟
"أرغب أن أرى إنساناً جديداً فى كل شبر، سعيداً فى هذا الكون لن يبتلعه فرد، أحلم بالأمهات تنجبن طفلاً يبتسم ولا يبكى حين يهبط للعالم"
السيد حافظ (من مسرحية "الطبول الزرقاء")
الاسكندرية
من شفيق العمروسى
ما زال السيد حافظ يصر – رغم انتاجه الكثيف – على أن يجعل من كتاباته سلسلة من التجارب المستمرة بغية الوصول إلى "الكلمة الرغيف، الكلمة ، الكلمة التطهير ، الكلمة الشمول" كما صرح يوماً فى حديث صحافى.
ومسرحياته هى من تلك التى تثير فى ذلك قارئها التساؤلات أكثر مما تعطيه من اجابات.
ينتمى السيد حافظ إلى ذلك الجيل الذى عاش فترة من أكثر فترات تاريخنا الحديث تغيراً وتذبذباً، تلك الفترة التى بدأت بسقوط الملكية وقيام الجمهورية فى مصر عام 1952 ، والتى ما زالت ممتدة إلى يومناً.
ولم تكن تلك الفترة منفصلة عن عالم يمتد حولنا شرقاً وغرباً شهد – وما زال يعانى – من تغيرات ومتغيرات سريعة على المستويات كافة، مادية كانت أم معنوية.
تلك السمة الأساسية لعصرنا، ونعنى بها التحول والتغير السريع والمستمر والذى بدت تتحكم فيه تكنولوجيا متقدمة – سواء على المستوى المحلى أو المستوى العالمى – أدت إلى بروز عديد من المشكلات والأزمات، ابتداء من مشكلات الإدارة وأسلوب الحكم شرقاً أو غرباً ، إلى مشكلات العلاقات الأسرية.
وإذا كان هذا يشكل جانباً من معاناة كاتبنا، فلا شك أن مما يزيد من معاناته أنه ينتمى إلى تلك المنطقة من العالم التى سرعان ما اشتعلت فيها حروب وصراعات دموية لمجرد أن بدت بوادر استغلالها بعد عصور من الاستعمار والاستغلال.
وإنسان السيد حافظ خير بطبيعته، هو إنسان جان جاك روسو الفطرى، أو هو إنسان لوك الذى ولد وذهنه صفحة بيضاء، أو قل – بمعنى أوضح – هو ذلك الذى ولد على دين الفطرة. (فى "مدينة الزعفران" يقول مقبول : يا حبيبى يا رسول الله ما معنى الإنسان إذا صار عبداً وصارت الأمة نعاجاً ، اتلهف للقائك ... يا نبى الله.. يا حبيب الله، يا حبيبى .. ضمنى من هذا العالم ، خذنى إلى صدرك... خذنى بعيداً عن عالم غريب عنى غريب").
إذن فالخير يشكل الجوهر الأساسى للموجود الإنسان، أما الشر فهو شر جزئى، تماماً مثلما قال ابن سينا والمعتزلة، الخير موجود فى داخلنا بالفطرة، أما الشر فهو اختراع بشرى، ولذا فمهما كان انحراف الإنسان فى اتجاه الشر فإنه يبقى دائماً فى داله ذلك الحنين إلى "الخير الفطرى".
يتضح موقف كاتبنا هذا من خلال قراءة آخر ما صدر له "حبيبتى أميرة السينما" وهى مسرحية ضمن ثلاث مسرحيات ضمها مجند واحد، فالى جانب تلك المسرحية هناك مسرحيتان الأولى بعنوان "حكاية مدينة الزعفران" والثانية " 6 رجال فى معتقل ".
القديم الجديد
"حكاية مدينة الزعفران" تطرح قضية قديمة – جديدة، ونعنى بها قضية العلاقة بين الحاكم والمحكومين، إذ أنها الشغل الشاغل لمفكرى هذا العصر ولكل ما سبقه من عصور، فمنذ جمهورية أفلاطون وحتى ما يطلق عليه أزمة الديمقراطية فى عالمنا المعاصر، تظل تلك المشكلة قائمة رغم كل المحاولات التفسيرية ، سواء لدى أصحاب "العقد الاجتماعى" أو ديمقراطية الطبقة أو ديمقراطية التحال...الخ.
ومدينة الزعفران ليست مدينة يونانية قديمة حيث ديمقراطية الأحرار المثالية، بل هى مدينة هذا العصر ، ويكفى أن تغمض عينيك وتضع يدك على أى مدينة فوق خريطة العالم لتكتشف أنها مدينة الزعفران، حيث حاكم يمسك من يديه بكل خيوط اللعبة، وبكل السلطات، تعاونه الأجهزة التى عليها أن توجه الناس إلى حيث يكون الصمت – والصمت هنا مقابل للنطق وإن كان أرسطو قد عرف الإنسان بانه حيوان ناطق ، أى يفكر ويعقل، فالصمت هنا يعنى اللاتفكير، حيث أن التفكير فى مدينة الزعفران "الحاد وكفر وعصيان". وبالطبع حين تصبح مدينة الزعفران صورة لحضار العصر فالهروب منها لن يجدى وتصبح هناك مشكلة "ان تكون منفياً خارج الوطن أو يكون الوطن منفياً داخلك.
فى مواجهة هذا لا يجد المدينة حين يصبح الفكر جريمة وحين يصبح كل مواطن خائناً حتى تثبت براءته" سوى الهروب، ولكن أى هروب ؟ إنه هروب الذات وليس هروب الجسد، حيث "يلقون العقل والوعى فى سيجارة حشيش أو ثدى امرأة أو كأس أو نوم أو صمت".
هكذا يقدم لنا السيد حافظ مدينة الزعفران "مدينة يبحث فيها الأثرياء عن الكلاب المفقودة ويسجنون فيه االإنسان"، حيث الاستغلال فى أبشع صورة ، وهل أبشع بشاعة من أن يضطر الناس إلى جمع النقود لشراء كفن لبائعة طماطم متوفاة، وحيث "لا يترك الحراس أحداً يفكر إلا وقتلوه" .
ولا شك أن لتجربة نظام الحكم فى مصر قبل وبعد 1967 أثراً ورائحة داخل مدينة الزعفران، ولكن الأزمة حضارياً ما زالت مائلة.
ولابد للرفض وللتمرد أن يوجدا داخل المدينة، وهما يظهران فى شخص (مقبول عبد الشافى) فارس المدينة، أو فارس العصر المهزومة فيه القيمة ، أو هو المهدى المنتظر، فأهل المدينة جميعاً فى انتظار خروجه من السجن، بعضهم ليشكوا له آلامهم، والبعض لكى يقودهم إلى التغيير – مقبول هنا يمثل الخير الفطرى المسجون داخل كل فرد من أفراد المدينة فى مواجهة الفساد الذى استشرى نتيجة لخوفهم وصمتهم – أما مقبول فقد خرج وهو يعرف أنه لا يهم أن يقول الحقيقة أو لايقول ، يفكر أم يعمل، يعيش أم يموت، فلما لا يلتقى الضدان حينما تتلاشى المسافة الفاصلة بين الإنسان والحيوان والمعروفة بالوعى، وحين يرتبط الخير بالوعى – كما أوضح سقراط فى القرن الخامس قبل الميلاد – ولآن مدينة الزعفران فقدت الوعى فما على الخير المتمثل فى مقبول إلا أن يهجر المدينة وليذهب للعمل فى الجبل حطاباً أو مزارعاً.
ولكن المدينة لا تتركه، فحين ينادى الناس بسقوط خادم العالم – لقتله الفلاح عبد المطيع - لا يجد الوالى بمعاونة الوزير إلا أن يلعبا لعبة جديدة بأن يرغما ومعهم الناس مقبول لقبول منصب خادم العام... ولكن هل ينجح مقبول – بعدما أصبح خادماً للعامة – أن يترجم أفكاره إلى واقع . أو بمعنى آخر هل نجح الخير فى إزاحة الشر عن المدينة ؟
بالطبع احاطت به خيوط العنكبوت وتحول إلى رقم فى جهاز الدولة، واستطاعوا أن يجعلوا منه واحداً منهم، على الأقل أمام سكان المدينة .
وتدور الدائرة، وينادى العامة بسقوط خادمهمن وهو هذه المرة مقبول، مخلصهم السابق، بل ويرفضون حتى عودته إلى صفوفهم.
وحيث يختفى مقبول يصبح اختفاؤه علامة استفهام: هل يعنى هذا انتصار قوى الشر ؟ بالطبع يظل هناك دائماً فى أحلك الأوقات من يستمع إلى صوت فطرته باحثاً عن الخير، فحتى لاو "ظل الناس يحكون... مقبول مات " فإن هناك من يصر على "إنه حى فى مكان ما".
"حبيبتى أميرة السينما"
أزمة أخرى يعانى منها عصرنا، كل شئ مجرد موضة قابلة للاستهلاك فى مدينة لا تعرف سوى الصخب والضوضاء، فإنه لابد وأن يفكر، وإذا كان التفكير يعتبر جريمة يعاقب عليها فى مدينة الزعفران، فهو يصبح موضة مقرفة ومفزعة فى مدينة أميريكة – أخر تطورات حضارتنا.
هنا فى "حبيبتى أميرة السينما" نلتقى بخطين متوازيين – وبالرغم من ذلك فهما يلتقيان كدليل على لا معقولية هذا العصر – الخط الأول نعيش فيه مع أميرة السينما التى استطاعت أن تقفز من صفوف الفقراء لتحتل مكاناً مرموقاً وسط المجتمع، فهى "بحكم المولد والزمان والمكان" تنتمى إلى العمال أو إلى الفقراء المطحونين، ولكن حين نكتشف رأسمالها الممثل فى جمالها من خلال "العيون النهمة" التى تحيط بها تبدأ فى تغيير موقفها فتحب "تجار الجملة، أصحاب المصانع والسيارات والطائرات، أحب الثراء، أحب مصانع العطور، أحب أن أغرق فى بحر من العطور، أحب نيويورك". وحين يصبح بهذا المعنى فإنه يفقد كل معانيه ومضامينه الإنسانية، ولهذا فهى تعرف من خلال الإنسان الفطرى الكائن فى داخلها أن هذا التحول جعل ابتسامتها أكثر حزناً، وجعلها مجرد بضاعة تباع وتشترى فى سوق صحافة العصر الملونة الأنيقة.
وعلى الخط الموازى نجد الذى يحاول ممثلاً لكل هؤلاء الذين يحاولون الخروج من مأزق هذا العصر بالبحث عن معنى وماهية الإنسان، فهو ينقب داخل الأشياء ، ويفتش فى كل الموجودات بحثاً عن ذاته ، وبالتالى ذات الإنسان، ويكتشف أن الحياة مجرد "صخب وضوضاء" وإن محاولاته لم تجعل منه سوى تاجراً " فى سوق الكلمات "باحثاً" عن كلمة جديدة".
وعلى هذا فليس غريباً أن يتحول من الكتابة للمسرح إلى الكتابة للسينما حيث أنها موضة العصر وبما تقدمه من ربح أكثر وشهرة أوسع وعمل أسهل.
هذا التحول – الذى فرضه نمط العصر – على الذى يحاول هو الذى سهل عليه أن يلتقى بأميرة السينما، بالرغم من أن الأميرة لم تكن ترى فيه إلا "رجلاً تاه عن حقيقته" ومجرد "رجل مفزع".
ومع هذا يظل الإنسان الفطرى ويظل الخير كامناً فينا، فأميرة السينما رغم كل شئ تعرف أنه "رغم وجود الذئاب" فإن فى داخل كل منا "طفلاً ملائكياً" ، بل حتى وهى تخون زوجها فإن الذى يدفعها إلى ذلك هو الرجل الغريب، وهذا الغريب عن الطفل الملائكى الموجود فى داخلنا، هو نفسه الذى يقدم قانون العصر، "أعرف ممثلات كن نشيطات مع رجال السينما كلهم... حتى وصلن من أسفل إلى أعلى... وعندما تصلين إلى أعلى تأخذين لقب العذراء من جديد وماضيك يغطى بالفضيلة".
وبالرغم من موت الأميرة تحت تلال من خطابات المعجبين ، جمهور عصر الاستهلاك لا شك أن هذا الطفل الملائكى مازال حياً، على الأقل داخل كل من لم يمت من ضحايا هذا العصر.
وفى الاتجاه نفسه نجد المسرحية الثالثة (6 رجال فى معتقل) حيث يعرض السيد حافظ لمجموعة من العسكريين المصريين سقطوا فى أسر العدو الإسرائيلى أثر حرب 1967.
ومن خلال هذا العرض يقدم لنا نماذج من المؤسسة العسكرية المصرية تتعرض لمحاولات متعددة من العدو تبدأ من الكلام الهادئ لتصل إلى الإغراءات الجنسية والتهديد باستخدام العنف أو استخدامه فعلاً فى محاولة لتجنيدهم لحساب المخابرات الاسرائيلية أو للحصول على معلومات.
الهم الأساسى هنا هو هزيمة يونيو، يعالجها الكاتب محاولاً أن يفضح دور المؤسسة العسكرية، إلا أنه يجعل من تلك الهزيمة قضية هزيمة الإسنان، فى معركة أكثر شمولاً هى حرب الاستغلال فى كل مكان، ويبدو هذا واضحاً من خلال حوار ضياء (ضابط الطيران المصرى) وضابط المخابرات الإسرائيلية ، فهزيمة يونيو ترتبط بكل رصاصة أطلقها الإنسان بحثاً عن حريته عابراً كل الحدود المكانية والزمانية، مع باتريس لومومبا وثورته المجروحة، ونكروما، وثورات الزنوج ومواكب الفقر ، ومع هزيمة فريزر ومعركة رشيد، مطاردة أحمس للهكسوس ، وصلاح الدين ، وهيروشيما وهانوى وكوريا.
هنا وامام هذا الشر المتمثل فى استغلال الشعوب وبالقوة المسلحة لا يترك كاتبنا ذلك "الطفل الملائكى" قابعاً وهادئاً فى داخلنا ، هنا يتحول إلى قوة تواجه القوة، ولهذا لم يكن غريباً أن يخرج هذا الطفل ليصرخ فى المتفرجين سائلاً كلا منهم عن سلاحه.
امام غربة إنسان هذا العصر ، وأزماته المتعددة ، هل قدم السيد حافظ أى حلول للخروج من المأزق ؟ بالطبع كان من الممكن أن يجعل أحدى القوتين تنتصر فى ختام كل عمل، ولكنه لم يشأ وفضل أن يترك لك البحث عن حل مستثيراً فيه منطقة عالم لا إنسانى، ناحية أخرى لم يشا أن يسقط فى إطار مثالية تفاؤلية لا تفعل شيئاً سوى امتصاص غربتنا التى سرعان ما تحاصرنا مرة أخرى، أو يسقط فى عالم من التشاؤم لا يقدم شيئاً سوى أن يزيد من ظلمة مستقبل الجنس البشرى. ولم يكن موقف كاتبنا وسطياً ، بل هو موقف تحريض وإثارة ، يحضرك ويشيرك ويضحكك ويغضبك ويستفزك ، ثم يتركك لتواجه حايتك والعالم!.
شفيق العمروسى - الاسكندرية