الخطاب النفسى فى مسرحية امرأتان*
للسيد حافظ
أ. د ليلى بن عائشة الجزائر
لم أجد لدراسة هذه المسرحية أفضل من التركيز على بنية الخطاب النفسى ، لأنها مسرحية مفعمة بلل وطافحة بهذا النوع من الخطاب ، الذى أراد الكاتب أن يقول من خلاله الكثير ، مما سنحاول الوقوف عليه عبر هذه القراءة المقتضبة ، وسأستعين فيها بكل ما من شأنه أن يبرز لنا قيمة و تأثير هذا النوع من الخطابات فى المتلقى قارئاً كان أم متفرجاً مستكنهة لب (امرأتان).
ولنبدأ من حيث يجب أن تكون البداية ، بمصطلح الخطاب الذى لا يختلف اثنان فى أنه " كل كلام تجاوز الجملة الواحدة سواء كان مكتوباً أو ملفوظاً "(1)
ويعرفه "بنفنست " بأنه " الملفوظ منظوراً إليه من وجهة آليات وعمليات اشتغاله فى التواصل .."(2). وبشكل أدق فالخطاب عنده هو " كل تلفظ يفترض متكلماً ومستمعاً وعند الأول هدف التأثير على الثانى"(3).
ولا شك أن " السيد حافظ " قد اختار الخطاب النفسى السيكولوجى وصبه ضمن القالب المسرحى ليكوّن مرسلة معينة لها بداية ولها نهاية كمتتالية لسانية ، ولكنها بالمقابل لا تنتهى لأنها تصل إلى عدد لا حصر له من المتلقين القرّاء ممن ستقع هذه المسرحية بين أيديهم ، وعدد آخر من المتلقين الذين ربما يعدون أكثر حظاً من حيث حصولهم على متعة القراءة للمسرحية من جهة ومتعة المشاهدة لها كعرض من جهة ثانية. وإذا ما عدنا إلى تعريف الخطاب من وجهة نظر السيكو-لسانيات فإنه عبارة عن " متتالية منسجمة من الملفوظات "(4) ، وهذا الانسجام لا يتأتى لنا هكذا ، وإنما بتضافر مجموعة من العناصر والتى يتحدد وفقها هذا التناسق ونجملها فيما يلى :
1- إن الخطاب يفترض تعالقاً يتم بواسطة الفعالية بين مجموعة من الملفوظات . هذه الملفوظات لا يجب اعتبارها مبنية سلفاً وأن علينا أن نربط بينه ، ....
2- لكن الطابع السابق ليس كافياً فالخطاب هو أيضاً عملية مستمرة : إنه يجرى فى الزمن بشكل موجه. وهذا الطابع الموجه ينعكس داخل الملفوظ ذاته من خلال البنية : علاقات الموضوع بالمحمول... وهكذا يتجلى الخطاب كتتابع تحويلات تتيح الانتقال من حالة إلى أخرى..
3- وأخيراً أن التتابع لا يتم بأى وجه ، إنه يأخذ طابع التصاعد فى اتجاه هدف ما. وتبعاً لذلك تغدو للخطاب فعلاً قصدية . ومن .. هذا العنصر الأخير يبدو المنطلق السيكولوجى ... ومن خلال ترابط هذه الملاحظات يتحقق الخطاب كفعل منسجم "(5).
وبما أننا بصدد تقديم قراءة فى مسرحية وجب أن نتسلح بما يسعفنا فى إنجاز ذلك، خاصة وأننا سنقدم قراءة فى مسرحية لكتاب لم نتعود منه كتابة أى كلام، بل إنه كاتب برهن من خلال أعماله بأنه ينتقى ما يكتب ، وعما يكتب بعناية شديدة ، بل إنه ينتقى أيضاً لمن يكتب " ألم يقل هنرى جيمس ، فى هذا المعنى ، بأن .. كل مؤلف يمكن أن .. يبتكر.. قارئه بنفس الطريقة التى يبتكر بها شخصياته"(6). كذلك هو " السيد حافظ " يبتكرنا ويثير بكتاباته فينا روح القراءة الفاعلة والمثمرة ، ثم إن استراتيجية الكتابة لديه تحفزنا عبر ناها على المساهمة الجادة والمتأنية فى بناء المعنى وإنتاجه.
إن القراءة الحقيقية هى تلك التى تسعى سعياً حثيثاً إلى الإفصاح عما يريد الكاتب قوله فـ "القراءة حرية لا تمنح الوجود ولا تأسره، وخاصة ملا يتعلق الأمر بوجود وعى الكاتب فى النص ، أى ما أراد أن يقوله ، لكن حرية القراءة أكثر شساعة من ذلك إنها تهتم بما لا يريد الكاتب قوله أيضاً ، هكذا تكون الراءة التحاقاً بنية الكاتب ، التحاقاً بعالم الكتابة كما هو مهيأ أصلاً لإعادة صوغ ولإعادة نسج ، وفق مشترطات التفاعل ، وفى أفق يجعل القارئ " لا مستهلكاً للنص بل منتجاً له" حيث تتجه القراءة صوف هدفها مسترشدة بأفقها النظرى والمعرفى ، مستندة إلى ذاتها المؤسسة "(7).
إن القارئ الفعال – فى رأيى – هو ذاك الذى يحاول أن يبنى علاقة متينة مع النص الذى هو بصدد قراءته ، بل إن " علاقة القارئ بالنص .. هى ع لاقة مزودجة : من النص إلى القارئ ومن القارئ إلى النص. هنا يتأسس الحوار والتبادل ، وتتبلور تلك الجدلية اللانهائية.. حيث يكون النص متوفراً – بالضرورة – على استراتيجية ينبغى للقارئ أن يستثمرها لا لفهم النص (فحسب) بل لبناء معناه المتعدد " (8). إننا إذ نورد هذه المفاهيم إنما لنسترشد بها ولتكون دليلنا إلى قراءة نتوسم أن تكون فاعلة ومنتجة.
تتكون مسرحية (امرأتان) " للسيد حافظ " من فصل واحد ، ومن عدد محدود من الشخصيات أبرزها وأهمها على وجه الخصوص :
- شخصية (سنية).
- شخصية (هدى) . وتضاف اليهما شخصية (سليمان) وهى أقل بروزاً منهما.
فإذا حاولنا فى البداية أن نحدد طبيعة التواصل بين الأطراف الفاعلة والمشاركة فى الخطاب المسرحى لـ(امرأتان) فبإمكاننا التمثيل لله بالشكل (1) – مع العلم أننى لم أشاعد عرض هذه المسرحية ، ولكن انطلاقاً من إطلاعى على بعض مما كتب عنها فى الجرائد التقطت على الأقل أسماء الممثلين الذين أدوا أدوار الشخصيات التى اقترحها الكاتب وسيتم التركيز فى هذا المخطط على كل الأطراف.
يتشكل المخطط من قطب الإرسال الذى يتمثل فى : المؤلف "السيد حافظ" من جهة، والمخرج "محمد سمير حسنى" من جهة أخرى، واللذان يرسلان إبداعهما عن طريق قطب آخر، فبالنسبة للمؤلف قطب إرساله يتمثل فى الشخصيات التى ابتكرها والتى أخذت على عاتقها عبء تطوير الأحداث وهى : سنية ، هدى ، وسليمان . وبالنسبة للمخرج فالقطب الذى يعتمد عليه فى الإرسال – بالإضافة إلى ميكانيزمات الإخراج المتنوعة إضاءة ، ديكور ، وغيرها – هم الممثلون : ماجدة منير، آمال رمزى ، ورضا عبد الحكيم . ويتمثل قطب التلقى فى الشخصيات نفسها باعتبار تبادل الحوار ، والممثلون أنفسهم لذات السبب هذا من جهة ، ومن جهة أخرى نجد الجزء الأهم فى قطب التلقى ، هو المتلقى الذى يتمثل فى القرّاء من ناحية ومن بين هؤلاء ليلى بن عائشة – وهذا النوع من المتلقين يخص الكاتب فقط أى أن علاقتهم تكون علاقة مباشرة مع الكاتب عن طريق المسرحية المكتوبة – والمتفرجون من ناحية ثانية وهؤلاء علاقتهم فى التلقى تكون مزدوجة مع الكاتب باعتباره مؤلف المسرحية ، ومع المخرج باعتباره المبدع فى مجال إخراج هذا العمل ، وإن كان هنالك عدد كبير ممن يساعدونه فى إنجاز هذه المهمة ، ويدخلون ضمن قطبى الإرسال والتلقى تبعاً لطبيعة العلاقة التى تجمعهم ع الآخرين ، وإن كان ذلك كله ضمناً (أى يستشف فقط).
قطب الإرسال قطب التلقى
المؤلف الشخصية الممثل (ة) الممثل(ة) الشخصية المتلقى
(السيد حافظ) سنية ماجدة منير ماجدة منير سنية القارئ
المخرج هدى آمال رمزى آمال رمزى هدى (ليلى بن عائشة)
محمد سمير حسنى سليمان رضا ع/الحكيم رضا ع/الحكيم سليمان المتفرج
تواصل تناظرى = ذوات حقيقية
تواصل لا تناظرى = ذوات غير حقيقية
تواصل تناظرى = ذوات حقيقية
شكل (1)
وسنحاول فيما يلى الوقوف على طبيعة هذا التواصل على الأقل بيننا كقرّاء وبين الكاتب " السيد حافظ " وتحديداً عبر عمله المسرح هذا لنكشف النقاب عنه.
إن السؤال الذى يطرح نسه بحدة هو لماذا (امرأتان) وليس (رجلان)؟ فى اعتقادى أن الكاتب أصاب فى اختياره للفئة التى سيسبر أغوارها ويكشف عن دخيلتها ، فالمرأة بدون شك مخلوق ضعيف مهما تظاهرت بالقوة ، ومهما توصلت إلى أن تكون فى مركز قوة ، فطبيعتها التى فطرت عليها هى جنوحها الكبير إلى العاطفة ، وتميزها بالرقة اللامتناهية ، والهشاشة التى تصل إلى حد الانكسار مع أول صدمة ، وإن كانت تستطيع أن تقف مجدداً وتستعيد الثقة بنفسها مرة وأخرى.. ولكن إذا توالت النكبات وإزدادت الخيبات وكثرت المآسى ، فإن أحسن حال تكون عليه هو الحياة بدون هدف محدد ، وغن توفر هذا الهدف فهو لا يعدو أن يكون حماية نفسها ، وأقرب الناس إليها ، وغالباً ما تلف حياتها غمامة من الاكتئاب الدائم وعدم الوثوق بأى شخص ، ولعل شخصية (سنية ) تعكس لنا ذلك بصدق ، بل إنها صورة لآلاف الفتيات اللاتى لم يسعفهن الحظ فى بناء أسرة ، فقد انكسرت أحلامها على عتبة باب الخطوبة التى لم تتم ، وإنكمشت على نفسها وانطوت بد توالى المآسى عليها ، ولم تعد تثق بأى شخص ، وتسعى جاهدة إلى نقل أحاسيسها إلى من حولها ، وأن ت قنع أختها (هدى) بأفكارها. إن (سنية) تحاول أن تمسح الحقيقة المرّة والفرحة التى لم تكتمل من ذاكرتها ، ولكن (هدى) تواجهها بالحقيقة وتعيدها إلى عالم الواقع ، داعية إياها ضمنياً إلى التخلص من تلك النظرة السوداوية التى تلف حياتها بأكملها ولكن دون جدوى.
" سنية : أنا أختك الكبيرة وأفهم الناس أحسن منك.
هدى : أوعى تكونى لسه شايلة من أخوها.
سنية : أخوها.. أخوها دا يطلع مين..
هدى : عندك.. ما تغلطيش.. لأن دا فى يوم من الأيام كان هيبقى جوزك.
سنية : أنا رفضته.
هدى : هو ما جاش يوم الخطوبة وأنا فاكرة .
سنية : أصلاً أنا كنت رفضاه.
هدى : لأ .. أنتى كنت مستنياه ولبستى الفستان الأزرق وحطيتى الوردة البيضا ورحتى الكوافير بالأمارة وفاكرة.. بالأمارة كعب الجزمة العالى انكسر ليلتها... اتشأمتى.
سنية : دى تفاصيل من خيالك أنا ما كنش عندى فستان أزرق ولا وردة بيضا ولا..." (المسرحية ص 9)
ورغم الضغوط النفسية التى تمارسها (سنية) على (هدى) إلا أن هذه الأخيرة تأبى أن تنقاد لها ...
سنية : الناس مصالح.. كويس أنك عرفتى الحقيقة دى.. كويس إنك كسرتى الصورة المثالية من ذهنك كويس أن كفهمتى أن العالم اللى حوالينا ما يبرحمش ولا بيجامل.
هدى : أد كده بتكرهى الناس.
سنية : من عمايلهم.
هدى : ليه.؟
سنية : تفتكرى الناس عملت ايه ساعة ما أبوكى مات.. طمعوا فى المصنع وسرقوه بأوراق مزورة شريك أبوكى أخذ المصنع وسابنا.. الفلوس يا دوبك اللى فى البنك بنعيش بيها.. والبيت.. الناس كلها عارفة إنه شريك أبوكى حرامى صرخ فى وشه وقاله أنت حرامى جاوبينى..
هدى : ...........
سنية : ليه.. لأن الناس تحب تشوف الدم وتشوف الإنسان وهو مصلوب وبينزف وهما بيبتسموا ويقزقزوا اللب؟؟.
هدى : والسماح فين؟؟.
سنية : السماح كان زمان.. كان زمان لما كان الواحد بيسأل عن جاره هو نام جعان والا شبعان فيه حد بيسأل عننا؟.
هدى : لأ..
سنية : لأ.. ليه؟
هدى : لأن ما لناش مصلحة مع حد دلوقت لا شركة ولا فلوس ولا مراكز.. الناس بتتصل بالناس علشان كده.
سنية : الناس يا حبيبتى مش ملائكة.
هدى : بس الخير لسه يا سنية فى الناس.
وتحاول (هدى) التعلق بأى قشة أمل ، ليزهر هذا الأمل بأشياء جميلة يكون لها وقعها فى حياتها، وإن كانت هذه الأشياء زائفة لا فرق بينها وبين السراب ، فالمرأة أحياناً وفى أحلك الظروف تسعى إلى خلق الحب والدفء فى حياتها حتى وإن كان ذلك عن طرق الحلم ، فحينما تنضب مشاعرنا من الحب وتجف مآقينا فى الدموع التى تغسل ذواتنا وتطهر أرواحنا من أدران كثيرة لطالما علقت بها ، حينما تضيق السبل بنا ، نسعى جاهدين لخلق الأشياء الجميلة والمشاعر الرقيقة التى نتعطش اليها فى حياتنا ، فبالحلم عاود الإنسان فى كثير من الأحيان بناء نفسه، واسترجاع ذاته الضائعة فى زخم الحياة وترهاتها المادية التى تقبض على أنفاسه ، وتحاول اغتيال ما تبقى من إنسانته العذبة بكل ما فيها من أخلام ومشاعر وعواطف ، وخيبات وانكسارات . هذا ما أدركته من خلال هذه المسرحية وربما هذا ما أراد "السيد حافظ" قوله ، ولقد نجح فى تصوير مشاعر (سنية) و(هدى) :
سنية : فيه إيه؟
هدى : ولا شئ أنا قلقانة وخايفة أنام مش عارفة ؟؟... أختى افرض خالك قال إنه جاى علشان يأخذنا معاه.
سنية سبق وقلت لك.. أنا مش حا أسافر معاه ولا مع حد خارج البلد دى...
هدى : يمكن أحنا محتاجين نشوف الدنيا.
سنية : الناس هما الناس.. أفعالهم واحدة.. شرهم واحد.. خيرهم واحد...
هدى : بس الدنيا هناك غير هنا ؟
سنية : كل شئ عندى متساوى.. الخير .. الشرف الشرف.. الخيانة.. الليل والنهار.
هدى : معقولة .. إيه اللى حصلك ؟؟
سنية : أنا لا أسمح لخالك ولا لأى راجل يتدخل فى حياتى مرة ثانية ويدمرنى... بس أحب أقولك شئ ميش حد حيخلى باله منك إلا أنا ومفيش حد حيخلى باله منى إلا أنتى. (المسرحية ص 22/23)
وإجدنى مستغربة إلى حد ما من دقة تصويره (الكاتب) لأننى اعتقد أن المرأة الأديبة ستكون ربما أكثر دقة فى وصف مشاعر امرأة مثلها ، لأن لكلتيهما التركيبة نفسها ، وإن لم تكن لهما التجربة ذاتها. لكن ينجلى هذا الغموض إلى حد ما ، حينما نستحضر معلومة تخص الكاتب وهى أنه حاصل على دبلوم دراسات فى علم النفس ، وهذا ما ساعده ربما على النفاذ إلى أعماق الشخصيات واختراق ذواتها ، حتى الأقل منها ظهوراً. ولكن مع هذا أضيف أن تصويراً بهذا العمق لا يتاح إلا لكاتب هو إنسان بالدرجة الأولى وملتحم بالناس إلى حد كبير بالدرجة الثانية ، وهذا الالتحام يصل إلى حد الذوبان وهذا ما تعودناه فى كتابات " السيد حافظ " ، فالإحساس بالآخرين سلعة نادرة فى هذا العصر ، وقد تجد الكثير من القارئات سلواهن فى قراءة حالة مشابهة لحالتهن ، فحينما يعجر الإنسان عن إيجاد من يصغى إليه فالعزاء الوحيد يكون فى إيجاد من يروى له مأساة مشابهة لمأساته ، فيسلى همومه بأشجان وأحزان غيره وإن كانت هى ذات الهموم وذات الأحزان.
إن شخصيات هذه المسرحية تعيش صراعاً نفسياً
" هدى : ممكن ندخل ننام.
سنية : ننام .. طول عمرنا بنام .. أخذنا إيه .. الليل مشكلة كل شئ بيختفى.
هدى : أنا عايزة أخرج من سجنك ... من إحباطك .. من ظنونك .. من قلقك .. من كابوسك..؟ ...... حتى أنت يا مصطفى طلعت متجوز.. أنت الراجل الوحيد اللى حبيته فى حياتى اللى حسيت إنى ممكن أعيش معاه تحت سقف واحد وبيت واحد.. طلعت متجوز.. مش دى خيبة... (المسرحية . ص 26/27).
هدى : انتى ليه بتشوهى كل حاجة حلوة ؟
سنية : كل حاجة اتشوهت من زمان بس إحنا ساعات نحب نجملها ونتفاءل بيها من غير سبب.
هدى : أنت إيه ؟!
سنية : اختك.
هدى : إنتى شريرة.
سنية : مفيش حد خالى من الشر فينا " (المسرحية ص 29)
وصراعاً اجتماعياً فرضته الظروف وتركيبة المجتمع وقيمه التى انهارت ، فى ظل التغيرات التى شهدها العالم ككل ، فالمجتمع العربى جزء لا يتجزأ من هذا العالم ، إذ الابتعاد عن العقيدة جعل مجتمعاتنا تتأثر بهذه التغيرات ، ليس من الناحسة الايجابية فحسب بل من الناحية السلبية أيضاً. فالمصلحة وحدها هى التى تجعل من الإنسان شخصاً ذا قيمة يحظى بالاهتمام من طرف الجميع ، فعلى قدر امتلاك الفرد للأموال والسلطة والجاه على قدر اهتمام الآخرين به. وهذا ما حدث مع (سنية) و(هدى) فبمجرد انتشار خبر عودة خالهما المليونير من الولايات المتحدة الأمريكية ، إلا وتغيرت معاملة الجميع لهما، فهاتفهما الذى ما كان يرن أبداً ، أصبح لا يتوقف عن الرنين من فرط المكالمات للسؤال عن حالهما وعن موعد قدوم خالهما ...
" سنية : عجبك كده .. التليفون ما بطلش . هدى : شفتى إزاى خالك خلى الناس يتصلوا بينا . سنية : ناس منافقين ؟ هدى : ليه ؟ سنية : فاكرين إنه هيحقق أحلامهم " (المسرح ص 19/20)"
وما أسوأ حال المرأة التى تجد نفسها بدون مال ، وبدون أب أو أخ أو زوج يحميها من غدر الزمان، فـ (سنية ) امرأة منسية ولم يعد لها ى وجود سوى فى حياة (هدى) و(العم سليمان) هذا الأخير الذى يتحمل منها الكثير من العناء ، وكأن كل الوجوه الغائبة فى حياتها حاضرة فيه ، وقد عبرت (هدى) عن ذلك صراحة بقولها بأنه الرجل الوحيد فى حياتها بحكم انطوائها وانعزالها كلية عن المجتمع فلا علاقات اجتماعية لها ، إنها تنظر بعدائية شديدة إلى المجتمع وتحمله كل خيباتها وانكساراتها.
هدى : ساعات أحس أنك بتعاملى عم سليمان كأنه جوزك.
سنية : أخرسى يا بنت.. !
هدى : وساعات أحس إنك بتعامليه كأنه أبوكى.
سنية : دا أبويا !
هدى : ما هو يا أبوكى يا جوزك .. اختارى.
سنية : ما اسمحلكيش.. زودتيها .
هدى : وساعات أحس إنك بتعامليه كانه الإنسان اللى بيحميكى من العالم – لا بيخليكى تروحى السوق ولا تتعبى وكل حاجة تعوزيها يجيبها لك. (المسرحية ص15)
وإذا كانت (سنية) ترى فى البيت الحماية الكاملة ، فإن (هدى) ترى فيه سجناً يحد من حريتها وأحلامها وطموحاتها .
هدى : سجن .
سنية : بيت أبوكى سجن.. البيت اللى اتربينا فيه .. البيت اللى حمانا من اللى يسوى وما يسواش.. سجن.
هدى : أيوه سجن.. أنا بسميه سجن.
سنية : البيت الواسع دا سجن.. الفيلا دى كلها سجن.. دا فيه ناس تتمنى تسكن فى ربعه.
هدى : السجن مش لازم يكون سغير والا كبير.. السجن يعنى الحياة.. ما يبقاش لها طعم ولا معنى.
سنية : البيت دا سجن ! كل جدار فيه حمانا من ألف عين بتبص علينا.. كل ليلة قضيناها فيه كانت لها طعم ولها ريحة طيبة .
هدى : أنا بطلت أحلم من يوم أبوكى وأمك ما ماتوا.. أول مرة أحلم امبارح من ساعة ما جه التلغراف عارفه يعنى إيه ..؟ يعنى خالك .. لس عارفنا.. لسه احنا جواه.. يعنى جاى لينا ياخذنا.
(المسرحية ص 16 - 17)
فبينما تجتهد (سنية) فى النأى والابتعاد عن الآخرين تسعى (هدى) إلى الاندماج فى المجتمع حتى وإن كانت مدركة لحقيقة كل ما تقوله (سنية).
سنية : ..... ساعات احس أنك غبية.
هدى : (وهى منفعلة) أنا مش غبية.. أنا فهمة كل حاجة.
سنية : فاهمة ايه؟
هدى : فاهمة أن مصطفى كان بيمثل علىَّ أنه فرحان.. وفاهمة أنه طمعان فى فلوس خالى.. اهمه إنه فاكر أن ورايا.. فاكر أننا معانا كنز وأنه ممكن يستولى عليه.. فاكر إنه يقدر يضحك علينا بشكله الحلو.
سنية : أما ليه مستمرة معاه عايزة أفهم.!؟
هدى : لو ما حلمناش كنا نموت كنا ننتحر يا أختى احنا فى زمن ردئ.
(المسرحية ص 33)
إلا أنها تغض الطرف عمداً لتحيا على الأمل وإن كان زائفاً ، على الحب وإن كان كاذباً ، تضحك رغم إدراكها أن عمرها الحقيقى غير ما تصرح به للآخرين.
هدى : ... عندى 29 سنة يا عمى سليمان وبقول 19 واختى 39 وبتقول 29 وبنضحك على بعض وبنكدب وبنصدق كدبنا!!" (المسرحية ص36)
تستلذ الحياة بالكذب الذى تلف نفسها به ، وإن كانت فى قرارة نفسها تؤمن بالعكس ، وتدرك الحقيقة بكل تجلياتها إنها بكل بساطة تخلق عالماً يمتزج فيه الزيف بالحقيقة، والكذب بالصدق فى واقع ملئ بهذا وذاك، لا شئ إلا لتحيا الحياة بكل تفاصيلها.
وما أروع الخاتمة التى ختم بها الكاتب هذه المسرحية ، فبعد طول انتظار ، وأيام قليلة تترقب فيها الاختان قدوم الخال كانت دهراً بالنسبة لهما – وإن كان ذلك بادياً بوضوح على (هدى) من خلال تصرفاتها ولهفتها على استقبال الخال والذهاب إلى المطار قبل موعد وصول الطائرة بساعات ، ولم يكن يظهر على تصرفات (سنية) إلا أننا نحس وبطريقة خفية نتلمسها من لغة الكاتب أنها راغبة فى أن يصبح الحلم حققة ، ويكمن الاختلاف بينهما فى أن (هدى) شفافة ، ومشاعرها تلقائية ، لا تحرم نفسها ولا الآخرين من إبداء هذه المشاعر ، بينما (سنية) تقف على الطرف النقيض هى مبهمة وغامضة فى أحاسيسها دائماً - ولعى أفتح قوساً هنا لأقول (بأن اختيار الكاتب لشخصيتين تعيشان تحت سقف واحد وتختلفان فى الكثير من الأمور على المستوى النفسى والاجتماعى جعل العمل يبدو أكثر توازناً ، هذا التوازن أسهم بشكل كبير فى نجاح المسرحية ووصول الكاتب إلى المبتغى).
أعود إلى النهاية التى أرادها الكاتب – كما أرى – مفتاحاً للأمل الذى بنى على أنقاض أمل سرعان ما دفن كما دفن الحال الذى تنتظره الشخصيتان منذ سنوات ، ليكون باب الأمل والفرح مفتوحاً على مصراعيه بعد حضور (العم سليمان) لأخذهما معه إلى عرس ابنه ، فبابتسامة ربما ساخرة من حلم زائف بنيت علي أحلام وأحلام، رافقت (هدى) و(سنية) (العم سليمان) الحاضر بقوة فى حياتهما، أو ربما هى ابتسامة مشرقة أو ضحكة تتغلب من خلالها كل واحدة منهما على هذه الخيبة الجديدة التى تضاف وستضاف اليها خيبات أخرى طالما أن الحياة مستمرة ، فكل شئ سيستمر ولن تتوقف الرحى عن الدوران .
عم سليمان : غصب عنكم .. أنا جيت أخدكم ومعايا أم العريس برة مستنياكم اتضلوا ..
سنية : حنا جايين معاك يا عم سليمان ما دام أنت جيت بنفسك يا أبو العريس. (موسيقى الفرح مع خروجهم يضحكون) (المسرحية ص 42).
وفى الختام أجدنى قد قرأت هذه المسرحية مراراً ، ولكن مع كل قراءة جديدة كنت اكتشف فيها الكثير ، ولى أن أقول بكل صدق أن هذه المسرحية وثيقة هامة ، على طلبة علم النفس اعتمادها لاكتشاف وجه بل وجوه من مشاعر المرأة وأحاسيسها قالها الكاتب ، ولم تقو ربما المرأة على قولها بهذا الصدق وهذه الدقة.
الهوامش :
• إمرأتان :مع مجموعة مسرحيات من فصل واحد . السيد حافظ .
1- خطاب النهضة والتقدم فى الرواية العربية المعاصرة : رزان محمود إبراهيم دار الشروق للنشر والتوزيع – عمان / الأردن – ط1 – 2003 ص 17.
2- تحليل الخطاب الروائى : سعيد يقطين – المركز الثقافى العربى – الدار البيضاء – ط1 – 1989 ص 19.
3- م. ن . ص. ن
4- م. ن. ص 24.
5- م. ن. ص. ن.
6- شعرية الفضاء السردى : حسن نجمى – المركز الثقافى العربى – الدار البيضاء ط1 . 2000. ص 78.
7- م. ن. ص. ن.
8- م. ن. ص. 79.
0 التعليقات:
إرسال تعليق