دراسات من كتب د. نجاة صادق الجشعمي
( 339)
شهادة بقلم
د . ياسر عبد الصاحب البراك
في عيون كتاب وفنانين ونقاد العراق
دراسات نقدية وشهادات
الطبعة الأولي 2021
جمع وإعداد
د. نـجـاة صـادق الجشـعمى
شهادة بقلم
د . ياسر عبد الصاحب البراك
مخرج وناقد مسرحي
السيد حافظ.. المثقف اللانسقي
يوفر
لنا حقل الدراسات الثقافية (Cultural Studies) فرصة
للإجتهاد حول إعادة فهم شخصية المثقف وطبيعة إنتاجه الثقافي وعلاقته بالبنية
الإجتماعية ، فإذا كانت الأيديولوجيا بوصفها مظهراً من مظاهر الثقافة تمثل نسقاً
يتمظهر في البنية الأساسية لأي مجتمع من المجتمعات الإنسانية، فإن المثقف الذي
يتبنَّى أيديولوجيا ما يكون بالضرورة مثقفاً نسقياً لأنه يخضع في إبداعه العام
لنسقية تلك الثقافة فضلاً عن دفاعه المستمر عنها ، وبالنتيجة فإن الذي لا يتبنى
تلك الأيديولوجيا لأنها تمثل نسق السلطة بأشكالها المتعددة (سياسية ، إجتماعية ،
دينية ، ثقافية ) فإنه يكون مثقفاً غير نسقي . وعلى هذا يكون (المثقف اللانسقي) هو
من يعمل خارج نسقية السلطة لأنه يؤمن بالتحرر من سلطة الأيديولوجيا وفكرة الهيمنة
(Hegemony) في خطابها على حدِّ تعبير غرامشي.
إن
المثقف اللانسقي يُعدُّ حالة إستثنائية في الثقافة العربية لأنه – وظيفياً – يكون
خارجاً عن نسق السلطة في إبداعه ، وحركته ، وفعله ، ومواقفه ، والى هذه الصورة
ينتمي الكاتب المسرحي المصري ( السيد حافظ ) الذي يغادر نسقية السلطة بدءاً من
إبداعه المسرحي ، ومروراً بفعله العضوي في المجتمع ، وإنتهاءاً بمواقفه الجريئة
والمعلنة في كل ما حوله.
تبدأ
لا نسقية السيد حافظ من مغامرة الكتابة لديه التي تتوزع على (المسرح، القصة،
الرواية، الدراما الإذاعية والتلفزيونية، المقالة الصحفية) ، فضلاً عن الممارسة
العملية في فعل الإخراج وتأسيس الجماعات المسرحية التجريبية المنفلتة من نسقية
المؤسسة المسرحية الرسمية . وهذه اللانسقية تذهب صوب التجريب experimentation الذي يوفر
له فرصة المغايرة مع خطابات السلطة القائمة، سواءاً كانت هذه السلطة ممثلة بسلطة
الثقافة نفسها عبر الشكل المسرحي القار الذي يمارس نسقية إجناسية تفرض على الكاتب
المسرحي إقتفائها ، أو كانت سلطة الأيديولوجيا التي تُروِّج لها المؤسسة المسرحية
الرسمية المرتبطة بخطاب الدولة بوصفها مالكة لوسائل الإنتاج الثقافي .
إن
تجريبية السيد حافظ ولا نسقيته يتعاضدان لينتجا للثقافة العربية نصوصاً إبداعية
ملغومة بالإشكاليات البنيو – رؤيوية لأنهما يفرضان وجودهما بدءاً من العتبات
النصيِّة الأولى أو ما يسمى في التصور السيميائي بالعناوين أو العنونة (titrologie) حيث تبدو اللانسقية في العنوان في معظم تلك
النصوص ( مثال : كبرياء التفاهة في بلاد اللامعنى ، هم كما هم ولكنهم ليس
هم الصعاليك ) وهذه الغرابة واللانسقية تمتد لكل مفاصل النص بوصفه
خطاباً خارجاً عن نسقية خطابات سلطة الجنس الأدبي والفني الذي هو – بالضرورة –
تمثيل لخطاب سلطة المؤسسة المسرحية الذي يتكئ على المرجعية النسقية لخطاب السلطة
السياسية أو الإجتماعية أو الثقافية أو الدينية بدءاً من إختياره لثيماته المميزة
التي تهدف إلى الكشف عن (القاع) بوصفه الحقيقة الهامشية والمُغيبة في خطابات
السلطة ، فالقاع هو الفضاء المسكوت عنه الذي يختزن الحقيقة الفعلية التي تغطيها
جماليات خطابات السلطة ، وبالتالي فإن السيد حافظ يشتغل في الأنساق المضمرة في تلك
الخطابات التي لا تُصرِّح بها خطابات السلطة ، ويبرز ذلك بشكل واضح في تعامله مع
التاريخ والتراث في نصوصه الإبداعية ، إذ أنه يغادر الرواية الرسمية للتاريخ أو
التراث التي يرويها مؤرخو السلطة ، ويشرع في الحفر الأركيولوجي في التاريخ المنسي
والمهمَّش الذي يقابل ذلك التاريخ الرسمي المزيف . فيعمل على إخراج الشخصية
التاريخية أو التراثية من الصورة النمطية ( stereotype ) التي رسمتها خطابات السلطة مانحاً إياها تصورات جديدة
مغايرة لتلك النسقية (مثال : شخصية الحاكم بأمر الله ، في مسرحية " حلاوة
زمان ") مُعرِّياً في الوقت ذاته التاريخ الرسمي . ولا يقتصر ذلك فقط على
الشخصية التاريخية أو التراثية ، بل يتعداه أيضاً إلى الشخصيات المعاصرة عبر فضح
نسقية خطابات المؤسسات السلطوية بتمظهراتها المتعددة ( الحكومة ، المجتمع ، رجال
الدين ، المثقفون ، الأثرياء ، العائلة ، المهنيون ، ... الخ ) .
يخرج السيد حافظ أيضاً من
نسقية اللغة بوصفها خطاباً سلطوياً ، فاللغة مؤسسة ثقافية لها نظامها القائم الذي
يفرض على المثقف التعامل معه على وفق شروط محددة تجعل من منطق الهيمنة هو السائد
في علاقة المثقف بلغة التعبير لديه ، وهذا الخروج من نسقية اللغة بوصفها أداة
التعبير الرئيسة يتخذ في نصوصه أشكالاً مختلفة تبدأ من إستعمال المحكي اليومي (
اللهجة العامية ) في العديد من تلك النصوص ، وتمر بفعل المزاوجة بين العامية
واللغة الفصيحة ، وتنتهي بإستعماله للغة الفصيحة الخالصة . وفي كل مرحلة من تلك
المراحل تعتمد نصوصه على آليات لغوية تتجنب الوقوع في نسقية اللغة بوصفها سلطة ،
فاللجوء إلى العامية في نصوص الصغار والكبار على حدٍّ سواء إنما لإيمانه أن
العامية تمثل اللغة غير الرسمية للناس غير الرسميين ( عامة الشعب ) بإزاء اللغة
الرسمية للناس الرسميين ( الحكومة ومن يرتبط بمؤسساتها )، وهو يلجأ إلى المزاوجة
بينهما لأن شكل الصراع في بعض نصوصه يفرض عليه هذه المزاوجة بين الرسمي وغير
الرسمي لتحقيق ضرورات فنية وفكرية تدفع بذلك الصراع إلى التكشف والوضوح . وحتى في
إستخداماته للغة الفصيحة الخالصة في نصوص أخرى فهو يتجنب الوقوع في نسقية اللغة
وسطوتها عبر اللجوء إلى المزاوجة بين لغة الشعر والنثر والتعابر الأسلوبي والبلاغي
بينهما ليُكوِّنا لغة لا نسقية تنفرد بها خطابات السيد حافظ المسرحية . وهذا الحال
ينطبق على تعامله أيضاً مع العناصر الدراماتيكية الأخرى في نصوصه مثل الزمان
والمكان.
بقي أن نقول : أن لا نسقية السيد حافظ سعت إلى إيجاد مؤسسة بديلة للمؤسسة الرسمية عبر تأسيسه لعدد من الجماعات المسرحية التجريبية المستقلة التي هدفت في حركتها الإبداعية إلى إيجاد خطابات لا نسقية إنتاجاً وإبداعاً ، فضلاً عن تأسيسه مؤسسة ( رؤيا ) التي صرف عليها من ماله الخاص في سعي دونكيشوتي لتكوين سلطة ثقافية لا نسقية خارج سلطة الثقافة النسقية السائدة في بلاده ، الأمر الذي يدفعنا إلى القول : أن تجربة السيد حافظ في الانفلات من سلطة المؤسسة الرسمية وخطاباتها الأيديولوجية يفتح لنا الباب في تكرار التجربة لأنها أسفرت عن أنموذج للمثقف اللانسقي في البلاد العربية .
0 التعليقات:
إرسال تعليق