دلا لات وجمالية المكان عند السيد حافظ
نموذجا شط الاسكندرية
دكتورة نجاة صادق الجشعمى
تمهيد
فى البدء أحب أن اشير إلى انه من الظلم أن تحمل الجلسة العلمية اليوم عنوان الاسكندرية والتاريخ فى رواية شط اسكندرية ..خبرونى بالله عليكم اى رواية من روايات السيد حافظ لم تحكى عن الاسكندرية وشوارعها واهلها الاسكندرية القديمة والجديدة ..لذلك فلنعتبر لقاء اليوم الأدبى العلمى هو مدخل لدراسة الاسكندرية فى ادب السيد حافظ عموما وليكن اول الغيص قطرة شكرا اكو تلك الجمعية الأدبية المحترمة التى تقوم بدور هام فى الحركة الادبية المصرية
سبق أن أشرت في كتابي التشظي للاجناس الأدبية أن الرواية جنس أدبي تميز بتماسك عناصره ومنها ( الزمان والمكان ) اللذان لايمكن الفصل بينهما فهما يتبادلان التأثر والتأثير فيكونان عنصران مهمان للكاتب وأيضا يمكن أن نشبهما بالعمود الفقري وكلما أجاد وأجتهد وقدم هذان العنصران أنعكس جمال الابداع والتماسك في السرد الروائي وأصبح منافساً بأسلوبه وجودة أختياره .....فهنا لابد من السؤال الآتي ؟؟؟
لماذا أخترت رواية ( شط أسكندرية ياشط الهوى ) دون غيرها ؟
وكيف تعامل الكاتب الروائي السيد حافظ مع المكان في الرواية ؟
أن سبب أختياري هذه الرواية بالذات دون غيرها ليس من باب الأفضل والاجمل والارقى وأنما السبب يرجع لي ذاتياً بأنني لن أتوقع في يوماً ما أن التقي أو أن اقرأ وأستمع وأعيش مع أبجدية المشروع الحافظي لسباعيته الروائية المكون من سبع روايات أبتدائاً من رواية ( نسكافية ، قهوة سادة ، كابتشينو ، شاي أخضر وشاي بالياسمين ، كل من عليها خان ، حتى يطمئن قلبي ، ما أنا بكاتب ،وقد يكون الجزء الاخير كل من عليها زان التي بدورها تشظت الى أربعة عشر جزء أما رواية ماأنا بكاتب فقد تشظت وأنشطرت وتمخضت وولدت ثلاث روايات من رواية ( ماأنا بكاتب ) هي ( كرسي على البحر ، شط اسكندرية ياشط الهوى ، وهمت به ) فمن أين أبدء من الغلاف وأختيار اللوحة ( للفنان ماهر جرجس ) والالوان أم من لذلك الطفل ولتلك الام التي طالما أنحنت لتحمل وليدها وترفع من شأنه وتمنحة الامان والاطمئنان وخوفها عليه من الغرق فأخذت عهدا على نفسها أنها سوف تعلمه السباحة والغوص في أعماق البحر أم أن اللوحة تعبر عن التعميد في الديانة المسيحية لطفل ولد حديثاً فالام سعت في اللوحة وسعى معها الكاتب السيد حافظ للابحارفي عالمه للتجديد وتفريغ الشحنات السلبية للواقع والخلاص من الحياة المستفزة والاقلام المتكسرة فنرى على سبيل المثال لا الحصر الابحار في عالم الكاتب الكبير السيد حافظ من حيث المكان والانتقالات مابين عذابات الذكريات وأيام الطفولة والاطفال ولعبهم في حواري الاسكندية في المساء ، وهو يحصد تلك اللقطات ويلتقي بالعامة والخاصة وزملاء العمل والمهنة في شوارع ومدن الاسكندرية وأزقتها وهو يقرأ لغة العيون وتلك الملامح المختلطة بشقاء الاحزان وأحياناً بالابتسامات المرسومة على وجوههم الباهته وهو يعلن حزنه وكظمه على الامة والوطن والاب والام والاخوان وتلك الزوجة المناضلة الداعمة له في مشواره الادبي وهي ترسم معه وتفترش الارض عشباً وتعطرها بالحب والمودة ،
فتفجرت الابجدية الحافظية من قاموسه الذي تغذى بالتاريخ والفلسفة وعلم الاجتماع والحب والصحافة والمسرح بكل أنواعه ( الطليعي ، التجريبي ، الاطفال ، الكبار ) والمسلسلات والبرامج الاذاعية والمجلات ثم تناول الرواية كمشروع سباعي وأبدع فالذي يتابع أعمال الكاتب السيد حافظ ينتابه الفضول أن يغوص ويغوص ويبحر في عالمه ليكتنز من فيض أبداعه الدر فتناولت أقلام الشرفاء من العالم والوطن العربي عامة ومصر خاصة فأضاءت بدراسات متعددة لتضيئ لنا وللدارسين والمهتمين الطريق الذي قررنا أن نسلكه وسلكناه لنتعرف على مدى أصالته لنحدد معا موقعة في قمة هرم خريطة الفكر الابداع الادبي والتكنيك والتجديد ومواصلة حركة الابداع للتجديد وأعادة نهوض وتنشيط النقد الادبي بعد سباته الطويل ...
لهذا السبب أقتصرت هنا على تناول هذه الرواية فقط لاننا لو اردنا أن نكتب فسوف نكتب مجلدات فالكاتب له مشاريع وليس رواية عابرة حير الباحثين والدارسين من خلال الثقافة واللغة والتكنيك والحداثة ومابعد الحداثة حداثة يلقي أضواء ساطعة كاشفة على التباين الذي كنا نعتبره حقائق تأريخية في كتب التأريخ والتراث العربي حيث كتب ويكتب مشاهد وأماكن الاحداث من خلال وعي معاصر وضمير وحس وطني وترميز وكل هذا من خلال مشاريع عمل كاملة وليس أشباه نصوص ملتقطة من هنا وهناك ..فيضع الكاتب السيد حافظ خطة العمل والمخطط والافكار بحيث يستغرق أشهر وسنوات حتى يصل للقارئ المثقف والبسيط الى أعمق مفهوم وتفسير يطرحه شكلاً ومضموناً هذا التوجه عنده لم يجرؤ أياً منا أن يعمل به هذا هو مايميز الكاتب المبدع ليس الكم بل النوع والوصول للهدف للتغير للاقتداء لذلك فجميع أعمال كاتبنا الكبير لا تحتاج أن تركن بالادراج بل أن تمنح لها حق اللجوء الى القارئ الواعي البسيط والمثقف الراقي والناقد الحاذق المتميز . فكان كاتبنا مضحياً دون أكتراث بالمال فارس الكلمة نبيل السخاء للثقافة والادب فيطبع على نفقته الخاصة وبدعم الاصدقاء الاوفياء دون أنتظار حصاد المال من منافذ البيع . الأهم هو نشر الفكر وهو يدرك أن أي مسوؤل لا ولن ولم يتبنى مشاريعه الادبية فلابد لنا ولانفسنا أولا التطهير والتنوير من كل ما يعيق أبداعنا الفكري وأن نأخذ من أستاذنا الكاتب الكبير السيد حافظ بدراً يولد في كل فجر بين أحضان الابداع والتألق والامل كاتبنا لا يعترف بالصدفة والمصادفة والحظ بل هو يستفز ذاكرته ويحركها ويهز ذكائها فتتساقط الكلمات والافكار ويأتي بالمفاهيم وتعود الروح لجسد الاجناس الادبية فتكون بمثابة الأنتماء والتكوين وذاكره الكترونية متنقلة من جنس الى جنس أخر من أجناس الادب العربي واذا كان البوح هو البنية المركزية حيث يمثل البوح والعشق والمراة والوطن طابع أتسم به كاتبنا لكنه رصد لنا المظاهر الحياتية والاجتماعية والاقتصادية والتراثية وكذلك طابع التمرد والمشاكسة والفلسفة الخاصة المحملة بالكثير من التساؤلات فالمفكر يعتبر من اسمى صور العمل الذهني لانه يرتبط الابداع بالفكر فهو مبدع مادام هو مفكر بتأملاته وخروجه من المألوف فأنه يرى ويرصد المواقف ما لايراه الاخرون فهو يتحمل أعباء الاستنهاض والاستيقاض والوعي والتوجيه والاتجاه بالعامة والخاصة الى طريق التقدم والتطوير والتجديد بأفكار جديدة لأفاق أرحب وأفضل وأشمل وأجدر فنرى كاتبنا يتنقل بنا من الفضاء الواسع وسماء دبي الى المنظم والبناء الهندسي ذات التشيد والبناء في المشفى حيث سهر في صالة الولادة وشهرزاد تحكي لها قصة الثلاث بنات وحكاية الروح السادسة ( سلمى وسارة وسيرين ) واصالة الكاتب الفذ الذي لم يتنصل الة من تبنى مشروعه الروائي فيهديهم ( الاهداءالى نقاد وأدباء الجزائر العظماء الذين تبنوا مشروعي الروائي بفاعلية عظيمة ) ولم ينسى كاتبنا أبنه أو زوج أبنته حيث يقول : ( الى إسلام السيد سلام ) زوج أبنتي الراقي والأنسان ) ويستمر بالتنقل والترحال ورسم الصور والحكايات مابين دبي والقاهرة ورشيد والاسكندرية وحارات اليهود وكنيسة الاقباط في المنشية
(( مصر وما أدراك ما مصر أرض سحر وسحرة وأرض خير ليس لها مثال عبقرية الأحتواء لكل الجنسيات ولكن العدل غائب والظلم فيها حاضر وأرض أمان وأستقرار وأرض جنون وأعراب وسرقة وأحتيال )) مصر بوتقة كل جنسيات الأرض وعبقرية الأنصهار والألتحام وتنوع فريد وجمالها عجيب وقبحها غريب ..هي الشئ ونقيضه ...
وما بين هموم الحياة وأنشغال المرأة في المنزل ونسيانها علبة البودرة وأتساخ ثيابها وذهاب الزوج للعمل وذلك السوق الذي تخيلناه من خلال وصف كاتبنا سوق الصاغة لصناعة الحلي من الفضة والذهاب بنا الى سوق العطارين وزيت الياسمين والكحل وتمرد سلمى على الحجاب بقولها : شعري لازم يشوف الشمس ..فشعرك وقع ياأمي لأنه لايرى الشمس ..يا أمي صرتي صلعاء ..
فكان أختياري لرواية (شط أسكندرية ياشط الهوى ) بالذات فيرجع الى انها أول عمل سردي قمت بالمشاركة مع الكاتب الروائي الكبير السيد حافظ بالاستماع لكل حرف خط فيها وأحياناً القراءة وغالباً ماتأثرت بكلماتها وجملها وأحداثها وبقيت أحداثها راسخة في ذاكرتي فكتبت هنا عنها محاولة مني أو قد يكون داهمني الفضول أو الشك فأردت أن أكتب عن دلالات النص السردي وجماليات المكان في الرواية عند السيد حافظ لحفظ العمل السردي الحافظي من الاندثار من قبل المتسلقين المتنافسين زوراً وبهتانا ولعل الله يوفقني بكسب قبول حروفي وبحثي المتواضع ومسبقاً أقدم أعتذاري لكاتبنا فيما أذا أخفقت أو قصرت
فكيف لنا أن نستدل على الجمال والابداع في هذا الفضاء الملوث بالافكار المتسممة بالحقد والانانية ووئد الابداع والمبدعين وكثرة المتشبقين والمتملقين وأشباه المثقفين وكثرة الكتاب وأنحدار جودة الكتابات هنا يجب علينا وعلى القارئ المثقف الواعي أن يميز بين هذا وذلك من حيث اللغة والجمال والموضوع أذاً
ماذا يعني المكان ...؟
المكان : كأسم هو أسم مشتق للدلالة على مكان وقوع الفعل وفي اللغة العربية يعتبر المكان ظرف ملازم للزمان أي ظرف الزمان وظرف المكان والزمان من المفاعيل منها المفعول فيه الذي يضم ( المكان والزمان ) فمعنى المكان ...أنني كنت عنده . أما الاستاذ الدكتور ( مصطفى عطية جمعة ) يقول :
يعتري مصطلح المكان أشكاليات في الدراسات النقدية وهي ناتجة عن الترجمة الغربية للمصطلح ) فلم يتعامل النقاد الغربيون مع مصطلح ( المكان ) إلا عرضا وقد ترجم بعض النقاد العرب المصطلح الأجنبي ب ( الفضاء ) وهو يعني في طياته الخواء والفراغ وأيضا يعني ( الخلاء المكاني ) والبعض يترجمه ب ( الحيز ) ويشمل معطيات المكان : النتوء والوزن والحجم والشكل وهو الشئ المبني في فضاء مكاني وهو أيضاً الأمتداد المتصور ويمكن أن يدرس من خلال وجهة نظر هندسية . فالفضاء بمثابة ٠الوعاء الضخم الذي يستوعب بداخله الأمكنة المختلفة ( الكون بمجراته ونجومه وكواكبه والأرض بما عليها
space:espace)
أما المكان والدلالة اللغوية في المعاجم العربية ..تشير الى المكان بمعان ودلالات متقاربة فيها إشارات واضحة وصريحة بأن المكان هو ( الموضع ) و ( المنزلة ) . كما جاء في لسان العرب ..مجلد 13 الطبعة الرابعة .. دار صادر ببيروت لبنان 2005 صفحة 112 ) أبي الفضل جمال الدين محمد بن مكرم أبن منظور ) .. (( المكانة المنزلة عند الملك ، وجمعها مكانات ولا يجمع جمع تكسير وقد مكن مكانة فهو مكين ، والجمع مكناء ، وتمكن كمكن )) ..(( المكان والمكانة واحد . التهذيب: الليث مكان في أصل تقدير الفعل مفعل ، لأنه موضع لكينونة الشئ فيه غير أنه لما كثر أجروه في التصريف مجرى الأفعال )) نفس المصدر السابق لابن منظور صفحة 113 .أما المنزلة فهي مكانة الشخص عند فلان فعندما أقول لفلان مكانة في قلبي أو له مكانة عند فلان نعني هنا المنزلة . ولقد أشارت أيات القرآن الكريم بنفس المعنى لهذه الألفاظ ( الموضع والمنزلة ) فجاءت بمعنى أخر هما ( الموضع أو المستقر ) وردت المكانه أي المنزلة في سورة يوسف ( الاية 53 ) (( وقال الملك أئتوني به أستخلصه لنفسي فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين )) .. و ( الاية 55 ) (( وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين )) ... وفي ( سورة مريم الاية 16) قوله تعالى (( وأذكر في الكتاب مريم إذ أنتبذت من أهلها مكاناً شرقياً )) ... أي أخذت مكاناً نحو الشرق هنا بمعنى ( الموضع ) .... وتعني التوسع المكاني وأحيانا تعني الأستقرار والوجود والثبات في مكان ما ...أما جمع مكان / أمكنة ..أو أماكن
أما بالنسبة الى أثر المكان في حياة الانسان بصورة عامة و للكاتب والاديب بصورة خاصة والنقاد والباحثين فهو أدراك وحس وصراع مباشر مع المكان وتأكيد للذات وتأصيل لهويته . فلا تكتسب الذات هويتها وأصالتهاوأهميتها ألا من خلال التفاعل مع المكان الذي تتواجد فيه . فالمكان يعتبر من أهم العناصر التي نوجه له مشاعرنا سواء كانت ألفة أو معادية وهناك أحتمال أن تكون المشاعر المعادية قد تعرضت وخضعت لوضعنا الفكري والنفسي الذي تعرضنا وتأثرنا وبعد ذلك عانيننا منه ..خلاصة القول لما تقدم أن المكان مفهوم أو أصطلاح أنشأه الأنسان وأطلقه لكي يحدد موضعه في الكون .. يعني موضع العيش والإقامة وموضع السفر والهجرة وهو الحيز الذي يحوي الإنسان وأنشطته ويتسع ليشمل الأرض بما عليها وبذلك نستطيع ربط المكان بالرؤية الأدبية و النقدية المتفق عليها وهناك علاقة مابين المكان والزمان وأن أختلفت الآراء حول المكان مادي والزمان غير مادي لكن اتفق العلماء وخاصة الرياضيات والفيزياء لانهم قالوا أن حركة الاجسام والاشارات الضوئية تكشف عن أن المكان والزمان ما هما في الواقع الا مظهران لبنية واحدة تسمى المكان / الزمان أو الزمكانية فعندما يتحدث هردوت عن مصر ويصفها ويطرب ويتغنى ويقدر تاريخ وشعب مصر بل صور لنا أماكن مصر بجمالها وطبيعتها وبحارها ونيلها وبحيراتها والملاحات فما سرني في قراءة ما كتب هردوت عدم تصديقه في كثير مما روى عن مصر والمصريين فيه وأختلفوا في أمره وكما أعتدنا في أي علم أو دراسة وفي أي موضوع هناك فريقين فريق مع وفريق ضد دراسة مؤيدة له ودراسة غير مؤيدة مع هذا لن ولم ينقص أبداً من شأنه وقدره فهو بين المثقفين والباحثين ( أبو التاريخ ) كذلك الكاتب المبدع السيد حافظ تكون كتابته أشبه بمدينة أو معرض للكلمة وصفحة مضيئة من قاموس الابجديات الرواية العربية الحديثة والكاتب الحاذق هو من يميز بين تجربته في هذا النص والنص السابق له وذلك من حيث اللغة الزاهرة وصياغتها وأختيار الاماكن والازمنة والمواضيع والحدث والشخصيات والتناسق بين الاحداث بحيث لايطغى حدث على حدث ولاشخصية على شخصية أخرى فيوءد هذه ويحي هذه مع أن للمكان ودلالاته الجمالية علاقة مؤثرة بين الفرد والمجتمع والفرد والعالم مع كل الظروف التي تحيط بنا سواء السياسية أو التأريخية فبعض النصوص الروائية للسيد حافظ تعتبر وسائل تعرف وقيمة معرفية في هذا العالم وذلك المجتمع فهناك وحدة جوهرية بين المكان والجمال ففي رواية شط أسكندرية تعددت ألاماكن بين الحارة والدكان والشارع والمسجد والكنيسة والاديان اتلسماوية التي أرتبطت على أرض مصر ( اليهودية ، المسيحية ، والاسلام ) فمن خلال هذه العلاقة الجوهرية بين المكان والجمال فمن هنا ولدت العلاقة ومن ثم التقاء مخيلة الكاتب والروائي في مخيلة القارئ ولا يمكن للروائي أن يكتب ويروي الرواية من غير المكان ففي أحيان كثيرة ممكن الأستغناء عن الزمن أو تجميده لكن لايمكن لأي روائي أن يتجاهل المكان لان له أثار فنية وجمالية تترسخ في مخيلة القارئ فممكن من خلال الرواية شط أسكندرية أن نتعرف على الصعوبات التي عانى منها المجتمع المصري في الزمن الماضي والفروقات بالحاضر وماذا يترتب من تطورات في المستقبل فمثل هذه الظروف التي عاشها المجتمع المصري وبالتالي المجتمع العربي والتي روتها لنا روايات السيد حافظ بفنية جمالية ودقة بالتعبير الحسي والوصفي للمكان كان له الاثر في تشكيل الذات لدى القارئ والحس وتولد الوجود الفكري كما ذكر عبد الملك مرتضى فقال : (( إذا كان للمكان حدود تحده ونهاية ينتهي إليها فإن الحيز لاحدود له ولا أنتهاء ، عند الكاتب )) . ( نظرية الرواية ، عبد الملك مرتضى ، ص 121 ) . لذلك يعتبر الحيز أوسع وأشمل من المكان فهو غير مقيد بحدود ولا نهايات من هنا ونتيجة لهذه التباينات في الآراء تجلت أهمية المكان في رواية شط أسكندرية وتلاحم المكان مع عناصر الرواية لان المكان لاينفصل عن باقي عناصر السرد الروائي أو النص الروائي عند السيد حافظ وأنما يدخل مع السرد في علاقات متعددة مع المكونات الحكائية فمن الطبيعي أن أي حدث لابد من أن يتصور الكاتب الروائي وقوعه لكن بشرط أن يتوفر للنص الروائي أطار مكاني معين لان الاماكن في رواية شط أسكندرية تخلق فضاء شبيه بالفضاء الواقعي لدمج السرد والحكي ورسم حركة الشخصيات ولكي يتم هذا لابد من المكان أو الفضاء لتنظيم حركة الشخصيات في المكان . وأكد ذلك الناقد العراقي ( ياسين نصير ) في ( الرواية والمكان ) الجزء الاول( ص 17 ،18 ) فقال : (( المكان في العمل الفني شخصية متماسكة [...] ولذا لا يصبح غطاءاً خارجياً أو شيئاً ثانوياً بل هو الوعاء الذي تزداد قيمته كلما كان متداخلاً بالعمل الفني [ ... ] المكان هو الجغرافية الخلاقة في العمل الفني ، وأذا كانت الرؤية السابقة له محدودة باحتوائه على الأحداث الجارية فهو جزء من الحدث وخاضع خضوعا كلياً له فهو وسيلة لا غاية تشكيلية ولكنها وسيلة فعالة في الحدث )) ...أذاً المكان يساهم في خلق معنى داخل الرواية ولا يكون تابعاً أو سلبياً دائماً فالموقف من المكان قد يتجاوز الاثر النفسي وكذلك يأتي من قيمته وما يثيره من أحاسيس ومشاعر فمثلاً بعض الأمكنة تكون محملة بدلالات فكرية تعطي معنى أو تكمل المعنى في الرواية عند الكاتب السيد حافظ في رواية شط أسكندرية ...وهذا ما أكده ( الدكتور حميد الحمداني ) في كتابه ( بنية النص السردي من منظور النقد الأدبي ، المركز الثقافي العربي ، الطبعة الاولى ، 1991 م ، ص 71 ) فقال : (( فإسقاط الحالة الفكرية أو النفسية للأبطال على المحيط الذي يوجدون فيه يجعل للمكان دلالة تفوق دوره المألوف كديكور أو وسيط يؤطر الأحداث إنه يتحول في هذه الحالة إلى محاور حقيقي ويقتحم عالم السرد محرراً نفسه هكذا من أغلال الوصف )) وهكذا غاصت النصوص الروائية في أعماق الحياة لتضئ النور وتنمي الحس الجمالي على سبيل المثال لا الحصر حينما نقرأ رواية من روايات الادباء المبدعين ( كنجيب محفوظ . حليم بركات . وعبد الرحمن منيف . السيد حافظ والكثير الكثير من المبدعين نكتشف من خلال النص هناك في باطن الرواية ذوات خفية علماَ أن هذا الأكتشاف يأتي من خلال المكان والذاكرة قد نتسأل . لماذا ؟ لان غالباً ماتحتفظ الذاكرة بالصور والحدث ومكان الحدث ..وهذا ما أستعرضته ( وجدان يعكوب محمود ، رسالة ماجستير ، كلية الآداب ، الجامعة العراقية ، الزمان والمكان في روايات نجيب الكيلاني ، 2011 ، ص 145 ) فكل مكان تشغله الشخصية أو تراه أو تحلم به يشكل أهمية في بنية السرد ، (( أما الراوي فله علاقة متعددة الجوانب بالمكان الروائي ، فهو الذي يأخذ على عاتقه تحديد الإطار الجغرافي الذي تدور فيه الأحداث وهو كذلك يقوم بمهمة الوصف ، الذي من ضمن مهامه وصف المكان ، وإذا كان الراوي يروي بصيغة المتكلم ، أي يكون الراوي أحد الشخصيات الروائية ، فيكون من مهامه الإضافية بيان الأثر النفسي للمكان الروائي )) وهكذا فأن العمل الأدبي يفقد خصوصيته وأصالته التي تعتبر من أساسيات النص الأدبي ومسوغات نجاحه حين يخلو من المكان لذلك فالمكان لايقل شأنا من باقي العناصر المكونة للنص الروائي ..
هذا ما وضحه وكتبه ( بوريس باسترناك ) فيقول : الأنسان بذاته أخرس . والصورة هي التي تتكلم لأن الصورة هي التي وحدها تستطيع أن تجاري الطبيعة ...( أسامة غانم ) في الأدب والفن بتاريخ 20/2 / 2014 ...حول التجربة الجمالية والمكان في الرواية العربية ...
فمن هنا تجلت القيمة المكانية لأهميتها بكونها تلعب دوراً مهماً في البناء السردي للروائي فيؤسس الروائي مع السرد للنص سرد مكاني فتكون علاقة تبادلية فالسرد بدون المكان لا يضفي واقعية ويخلو من الجمالية وخاصة أذا تعددت الاماكن مع بنية السرد وهنا يأتي دور الكاتب حيث يستخدم أبداعه وبلاغته الرمزية في أظهار جمالية الاماكن فيتمكن من أدخال التنقلات والابعاد والسرعة فيكون هنا المكان قد طغى على الشخصيات فأحياناً الكاتب يسمي ويطلق أسم المكان كعتبة لروايته مثل ( كرسي على البحر ) أو رواية خان الخليلي ) أو ( حارة المواردي ) فهنا يترسخ المكان والرواية كعنوان لدى القارئ من مبدأ الانطباعية المكانية وكما رسم لنا نجيب محفوظ القاهرة رسم لنا كاتبنا الروائي السيد حافظ الاسكندرية ببحرها وحاراتها ومقاهيهها ومجتمعها
0 التعليقات:
إرسال تعليق