عن التجريب والتأصيل في مسرح
السيد حافظ
قراءة في مسرحية "حكاية الفلاح عبد المطيع"
محمد السعيدي
لقد ظل المسرحيون العرب طيلة عقود من بداية ممارستهم المسرحية يلتزمون تطبيق القواعد الأرسطية للكتابة الدرامية. وهذا يعني التقيد بوحدة الحدث والزمان والمكان، فكان الخطاب المسرحي بذلك يسعى إلى تحقيق الإيهام بالواقع من خلال محاولة إنتاجه بطريقة شبه فوتوغرافية.
بيد أن اطراد التجارب وتراكمها وانفتاح المسرحيين العرب على التجارب الغربية الرائدة ساعد على بروز كتابات نصية وركحية تروم تجاوز النموذج التقليدي، عن طريق التجريب الذي ابتدأ في شكل محاولات فردية ثم لم يلبث أن أصبح "ظاهرة عامة تستهدف الخروج من قيود التقاليد المسرحية المألوفة في الدراما الواقعية لدى كتاب ركزوا إنتاجهم المسرحي داخل الأشكال التجريبية". وقد ارتبطت هذه الظاهرة بسنوات السبعين وبجيل جديد من المتقنين العرب الذين راموا ارتياد عوالم مجهولة وصياغة أشكال جديدة.
"وربما كان السيد حافظ هو أكثر كتاب هذا الجيل شغفا بالتجريب. وهو تجريب لا يقف عند حد ولا يتوقف، حتى ليبدو مسرحه مسرحا للتجريب بلا هدف، فعلى الرغم من غزارة إنتاجه –إلى حد ما- بالنسبة لكتاب جيله، إلا أنه لم يتوقف عند شكل بعينه".
منذ مسرحيته الأولى (1971م) بدت جرأته الإبداعية في اقتحام لغات جديدة لم يستسغها البعض وتساءل في استنكار : "وما الذي يمكن أن تفهمه الجماهير من مؤلف يسمى محاولته الأولى "كبرياء التفاهة في بلاد اللامعنى"؟".
مسرحياته التي تلتها لم تخرج عن هذا الخط، فهي تعلن انزياحها عن المألوف بدءا من العناوين : "حدث كما حدث ولكن لم يحدث أي حدث" 1972- "الطبول الخرساء في الأودية الزرقاء 1972- هم كما هم ولكن ليسوا هم الصعاليك 1977... إنها عناوين غريبة ومثيرة "تكشف عن رغبة دخيلة في التمرد والثورية كما تكشف عن شغف أثير بالتجريد والتجريب". وقد تقلب في هذه المسرحيات بين أغلب اتجاهات المسرح الطليعي من تعبيرية وعبثية وتجريدية وغيرها. لكن مسرحيته "حكاية الفلاح عبد المطيع"، فيما يبدو، كون آخر جديد، ربما كان حوصلة سنوات من الهدم والتمرد، وخلاصة عقد في خضم التجريب والبحث الدؤوب.
هذا ما تروم هذه القراءة، وهي تتأمل هذا الكون المسرحي، التأكد منه دون أن تغفل ما تحفل به هذه المسرحية من جوانب التجريب التي تربطها بسابقاتها من مسرحيات السيد حافظ.
I - مؤشرات البعد التغريبي (قراءة في العنوان والاستهلال)
أ- العنوان :
وضع السيد حافظ لهذه المسرحية، وكعادته في مسرحيات أخرى، عنوانين اثنين : العنوان الأول هو : "ممنوع أن تضحك، ممنوع أن تبكي" والثاني هو : "حكاية الفلاح عبد المطيع". يركز العنوان الأول على الحدث العام والمثير في المسرحية وهو منع الضحك ومنع البكاء، بينما يركز الثاني على اسم البطل المحكي عنه.
"_ممنوع أن تضحك ممنوع أن تبكي" : كل الألفاظ الأساسية في هذا العنوان تؤشر على الصراع : (ممنوع – تضحك – تبكي). والتركيب المزدوج للعنوان يؤشر من جانبه على تقابل يحمل بعد التنافر والصراع ويزيد من درامية الموقف. إنها أقصى درجات القمع الذي يطال حتى أخص خصوصيات الإنسان ونعني بذلك التعبير عن مشاعره، فمعلوم أن الضحك أو البكاء غالبا ما يكونان استجابة تلقائية لظروف أو مواقف محددة وعليه فلا يعقل أن يتم منعهما أو إخضاعهما للأوامر... وهكذا وظف السيد حافظ التوازي والتقابل لإبراز حدة المفارقات في المسرحية.
وعلى الرغم من أن هذا العنوان يبدو أكثر إثارة فإن المؤلف آثر العنوان الثاني أي "حكاية الفلاح عبد المطيع". فقد اختاره عنوانا لكتاب يضم، عددا من المسرحيات الأخرى، إضافة إلى هذه المسرحية طبعا، وبعض الدراسات لكتاباته. وبهذا العنوان ستشتهر المسرحية، ربما لطابعه المختصر الذي يسهل تداوله.. لكن الواضح أن هذا العنوان يزيل كل ما قد يمارسه العنوان الأول من إغراء أو تضليل للقارئ، إنه يسعى بطابعه المحدد إلى تحديد المضمون وتكسير الإيهام لدى المتلقي بهدف جعله يتخذ مسافة مما يعرض عليه تجنبا للتماهي المطلق مع أحداث المسرحية وحفاظا على المسافة الضرورية التي تمكنه من اتخاذ موقفه الخاص مما يقدم له.
ولا يعني هذا أن عنوان المسرحية قد أغلق أفق انتظار القارئ ولكنه حدده وعينه، ولعل لفظة "حكاية" الواردة فيه تؤكد قصدية المؤلف في تخليص المتلقي من أي توهم بواقعية ما يحدث في المسرحية.
فهذا العنوان بطابعه العام والمحدد في الوقت ذاته، يسعى إلى تكسير الإيهام وتنبيه المتلقي إلى أنه إزاء حكاية (مجرد حكاية) تقتضي منه اليقظة المستمرة لممارسة النقد والتقييم لمختلف عناصر هذا الكون الحكائي المسرحي.
ب- الاستهلال :
التأشير على الحكي :
في بداية المسرحية يظهر الراوي ويقول :
"سيداتي ... آنساتي...سادتي... هذه الليلة سنعود إلى الوراء، إلى زمن كان الإنسان مفقود القيمة، يهان، كان الإنسان الحيوان قوي النفوذ والسلطان، هذه الليلة نقدم لكم حكاية، وحكايتنا ليست عن هاملت أو هنري الرابع أو حتشبسوت أو نابليون أو أي ملك من ملوك الأرض".
قد تبدو هذه الإشارات من قبيل الزيادات لأنها لا تؤثر في الحدث المركزي ولا تضيف جديدا إليه، بيد أن أهم شيء تقوم به هو الإشارة إلى أننا بإزاء حكاية ومن ثم فهي تدعو المتلقي للمشاركة بغية تحقيق نوع من الفرجة النقدية التي يلح عليها بريخت.
الإطار الزمكاني وطابع اللاتحديد :
من جهة أخرى فهذا الاستهلال وإن كان يشير إلى زمن المسرحية (سنعود إلى الوراء)، أي الزمن الماضي، فهو لا يحدده بوقائع معينة لها ارتباط بمكان وعصر محدد... إنه "زمن كان الإنسان مفقود القيمة يهان، كان الإنسان الحيوان، قوي النفوذ والسلطان"، إن هذا الزمن روح قبل كل شيء وإحساس وظلال نفسية وفكرية.
لا شيء يحدد هذا الزمن سوى أن الإنسان فيه مفقود القيمة يهان، في حين أن الإنسان الحيوان يستبد بالسلطان، وهذه مؤشرات يضعنا من خلالها هذا الاستهلال في قلب الصورة، إن الأمر يتعلق بقضية العلاقة بين الحاكم (المستبد) والمحكوم (المقهور)...وهي إحدى القضايا التي لا تربط بزمن محدد.
أما المكان في المسرحية فهو مصر، حسب ما يتضح من خلال قول الراوي : "في كوخ". ويضيف الكورس : على شاطئ النيل".. وهو يبدو هنا محددا، إلا أن حرص السيد حافظ على ألا يكون الديكور واقعيا : "يفضل الديكور المتحرك البسيط المجرد وقطع الإكسسوار البسيطة"، يؤكد رغبته في تمكين المتلقي من ممارسة التأويل وعدم سجنه داخل بؤرة واحدة ضيقة.
بهذا تتجاوز المسرحية حدود الزمن والمكان المتعارف عليهما لتشكل إطارها الخاص الذي تعبر من خلاله عن قضية لا تخص زمانا ولا مكانا بعينه... إنما هي قضية كل عصر ومصر يسود فيه الاستبداد والقهر والتسلط... وللقارئ/المتفرج الحق في قراءتها وتأويلها باستحضار واقعه الخاص إن شاء.
"عبد المطيع" بطل أم لا بطل :
أمر آخر يشير إليه هذا الاستهلال، وهو "بطل" المسرحية : "حكايتنا ليست عن هاملت أو حتشبسوت أو نابليون.. أو أي من ملوك الأرض"، وهذا ما أثار استغراب الجوقة الذي يوحي به تساؤلها الاستفهامي : "عن أي شيء تحكي إذن؟"، وهو يعكس استغراب شرائح عديدة من متلقي المسرح الذين تتحكم فيهم الخلفية النصية التقليدية، فقد ارتبط البطل في المسرح الكلاسيكي "بشخصيات ذات قيمة عالية مختلفة عن عامة البشر وأحيانا خارقة في اتجاهين هما القيمة الاجتماعية والانتماء من جهة، والقيمة الذاتية أي الصفات والقدرات الشخصية من جهة ثانية".
هذا يوضح لنا مسوغ النفي الوارد في كلام الراوي فمن خلاله يؤكد المؤلف انزياح مفهوم البطل عنده عن المفهوم التقليدي.
وعندما يشير الراوي إلى أن عبد المطيع هو فلاح فقير، أجير.. نتأكد أن مفهوم الشخصية الرئيسية عند المؤلف يساير مفهومها في المسرح الحديث حيث تحولت في أحيان كثيرة لحالة معاكسة تماما لمفهوم البطل، وهذا هو اللابطل Anti-héros الذي نجده في المسرح التعبيري في ألمانيا ولاسيما مسرح الألماني برتولدبريخت.. الذي بلور شخصية الرجل الصغير أو العادي الذي لا يحمل أية صفة من صفات البطولة.
إن عبد المطيع شخصية هامشية ذلك ما تؤكده أحداث المسرحية، فهو إنسان واقعي يتصور الواقع كما هو ويعيشه كذلك، كسول لا يعمل، يقنع من الحياة بما تيسر، سلبي ومسالم، وهو شأنه شأن باقي أبطال السيد حافظ يبحث عن الممكن وليس عن المحال. يبحث عن مدينة يغيب فيها (ممارسة القهر على المواطن، وطمس كيانه ومسخه بتمريره على أجهزة القهر والعجز والتخلف). فإذا كان "سيزيف" البطل العبثي الوجودي قد تسرب إلى مسرح السيد حافظ من خلال مسرحيته (سيزيف القرن العشرين) وكان "أبو ذر الغفاري" الصحابي الجليل الممسك بسيف الحق القابض على الجمر رمز التمرد عنده، وهو تمرد يقرن الفعل النظري بالفعل العملي، فإن عبد المطيع شخصية واقعية بسيطة تعاني الفقر، إنه يعيش داخل آلة جهنمية اسمها المجتمع، وهو مطالب بالطاعة، كما يؤشر على ذلك اسمه، داخل البيت وخارجه... لكنه مع ذلك شخصية غريبة الأطوار، تجمع بين التفاهة و"العظمة"، السطحية والعمق، يلفها الغموض وإن بدت واضحة في الظاهر. فهل فعلا كان عدم امتثاله للأوامر عفويا وغير مقصود ؟ لنستمع إلى أول ما ينطلق به عبد المطيع في هذه المسرحية : "يومان بلا عمل، أنت أنا (ينهق الحمار) أعرف أنك غاضب، عندما تكون عاطلا تغضب مني من الدنيا من كل شيء.. السبب ليس مني.. لست مسؤولا عن شيء مما حدث أتفهم ؟.. أنت تفهم أكثر من أي شخص في هذه الضاحية، أنت تفهم أكثر من رئيس الشرطة وشهبندر التجار ومن أم بثينة.."
إن مثل هذا الكلام المثقل بحمولات فكرية وسياسية كبرى لا يرجح أن يصدر عن فلاح بسيط كعبد المطيع، وحتى لو افترضنا إمكانية حدوث ذلك، فإن الأسئلة التي يطرحها فيما بعد وهو يحاور صهره من قبيل : "من أتى بالمماليك إلينا ؟ ومن أتى بالسلاطين إلينا ؟". أسئلة حقيقة ومقلقة تؤكد غرابة شخصية البطل، وحضور المؤلف الذي يمرر خطابه من خلال شخصيات مسرحيته.
II – "حكاية الفلاح عبد المطيع" بين الواقعي والمتخيل :
تحكي المسرحية كما اتضح حكاية فلاح اسمه عبد المطيع، يعيش حالة فقر مدقع، تعاني معه زوجته وأبناؤه الضنك والشقاء، في حين ينعم سلطان المدينة بالغنى والثراء بمعية حاشية متملقة تخدمه وتخدم مصالحها ولو على حساب الناس. ومما يبرز استبداد الحاكم أنه يصدر فرمانا يتضمن أوامر بأن يرتدي كل فرد ملابس سوداء تعبيرا عن حزنه على مرض عين السلطان، إلا أن عبد المطيع لم يسمع بالأوامر لذلك يعاقب بالسجن. ويشفى السلطان فيصدر فرمانا آخر يأمر فيه بارتداء اللباس الأبيض تعبيرا عن الفرح، ومرة أخرى لا يسمع عبد المطيع، الذي كان طريح الفراش، الأوامر فيعاقب لأنه أبقى على لباسه الأسود. ويضيق ذرعا بهذا الحال. فيحاول السلطان إغراءه وذلك بتعيينه قاضي القضاة لإسكاته ربما، بيد أنه يرفض لأنه يفضل، كما يصرح في نهاية المسرحية أن يكون من العراة.
لقد استطاع السيد حافظ أن يلتقط هذا الحدث ويصوغه في قالب درامي مسرحي ويشحنه بدلالات وأبعاد رمزية وفكرية تثير فينا النقمة والكراهية لكل نظام مستبد يحاول قهر الإنسان وسلبه إرادته وحريته.
إن هذه المسرحية وإن كانت ممتعة في بعض جوانبها فهي لا تبعث على السرور، إنها تستثير الهمم، وتدعو ضمنيا ودون تقريرية مباشرة، إلى اتخاذ موقف إزاء الظلم والاستبداد... وعليه فقد استطاع السيد حافظ بفضل تجربته لهذه الحيلة الذكية أن يطعم النص بحدث تغريبي يجعل موضع الغفلة عند "عبد المطيع" مدعاة للمتلقي كي يتعامل مع هذه اللقطة بيقظة عقلية لا تستلم للعواطف، فغياب الفعل عند "عبد المطيع" يمارس حضورا خفيا لدى المتلقي كي يدرك حقائق السلطة.
من جهة أخرى فإن هذه المسحة الفنتازية التي أضفاها المؤلف على مسرحية قد وفرت لها عناصر التشويق والإثارة، فأن يعلن الحزن العام في البلاد ويرتدي الجميع ملابس سوداء ويدورون على أبواب المساجد ويصلون ركعتين عقب كل صلاة حتى تشفى عين الملك، وأن يلزموا بعد شفائه بإظهار الفرح بارتداء ملابس بيضاء... مثل هذا الأمر يبدو خياليا مستبعد التحقق في الواقع ولكنه غلف المسرحية بطابع شبه أسطوري مثير زاد من عوامل التغريب فيها. ولا يخفى ما فيه من مبالغات تروم إبراز المفارقات الصارخة التي تحكم علاقة الحاكم بالمحكومين داخل مجتمع القهر والاستبداد. ويسعى المؤلف من خلال ذلك إلى إثارة المتلقي ومواجهته بهذه الحقيقة المرة لتحفيزه على اتخاذ الموقف المناسب أي رفض هذا الواقع الفوضوي غير العادل...
ولقد استطاعت هذه المسرحية، برغم ما فيها من حضور للخيالي (شبه الأسطوري) أن تقنعنا بوجودها وارتباطها بالواقع بفضل ما وفره لها المؤلف الذي استطاع أن يحملها آهات أبناء الشعب ومعاناتهم وآمالهم، بل إن هذا المزج بين الواقعي والمتخيل هو الذي يفسح المجال للمتلقي لتوظيف مخزونه الثقافي الذي يكون من خلاله نصا مسرحيا آخر هو غير نص المؤلف، إنه نص المتلقي أو القطب الجمالي بتعبير أصحاب نظرية التلقي.
وربما تبادر للذهن أن التداخل بين الخيال والواقع قد يجعل المسرحية متفككة البناء لكن الواقع، أن هذا التداخل واحد مما يمنحها خصوصيتها، فمن خلاله برزت قدرة المؤلف على صهر "الخيالي" في إطار الواقعي. وتجاوز المألوف للتحليق في دنيا الخيال.
-III "حكاية الفلاح المطيع" بين تحيين التاريخ واستلهام الموروث الشعبي :
أ- تحيين التاريخ :
بموازاة انفتاحها على عوالم خيالية، ولو نسبيا، فقد عمدت المسرحية إلى استحضار لحظات تاريخية دالة تجسدت في عصر المماليك (وهو أحد عصور الاستبداد) الذي انتقى منه المؤلف حدثا تاريخيا عمل على مسرحيته من منظور عصري حداثي عن طريق الجمع بين الماضي والحاضر وهذا ما يعبر عنه عادة "بالتحيين".
ولان التاريخ "الرسمي" لا يحفل بالمهمشين كما يوحي بذلك كلام الجوقة : "أين التاريخ لينزل من عليائه ليرى الشوارع ليرى ماذا يفعل الملوك والسلاطين بالشعوب". فلا ينتظر أن يكون هذا الحدث المنتقى، وهو يرتبط بأحد النماذج المهمشة، موثقا, وإلى هذا يشير الراوي بقوله : "العاقل من يفهم أن اسم بطلنا ليس في سجلات التاريخ السلطاني أو المملوكي وشجرة عائلية ليست مسجلة في كتب التاريخ ولا تدرس حياته في المدارس".
لم تكن غاية المؤلف هي استنساخ التاريخ ولكن إعادة كتابته بمراعاة ذوق المتلقين والظروف المستجدة في المجتمع في محاولة لإمداد المسرحية بعناصر لا نهائية لا تحملها بالضرورة على التقيد بالواقع. وعليه فليس ضروريا أن يكون هذا الحدث قد وقع بحرفيته في فترة من فترات التاريخ.
ولعل أبرز شخصية تم استقدامها من التاريخ، فيما يبدو، هي شخصية "قنصوة الغوري" سلطان المدينة. وإذا ما استثنينا هذا الاسم الغريب وبعض جوانب غرابة الحدث وكذا طريقة إعلام الناس بالأخبار (الفرمان ودق الطبول).. فلا شيء يوحي بانتماء الشخصيات أو الأحداث إلى التاريخ (الماضي)، وهذا ما أشرنا إليه ونحن بصدد الحديث عن زمن المسرحية، فقد تعددت الأسماء، لكن المسميات واحدة، فلكل عصر "قنصوته" الذي يخضع الشعب بالقمع والإرهاب. وبهذا لم تداعب المسرحية خيال الفقراء المستضعفين بأحلام زائفة، شأن بعض المسرحيات الميلودرامية، ولكنها حاولت هزهم وصدمهم بالحقيقة المرة والواقع الجاثم على أنفاسهم، فالفقراء مضطهدون في كل زمان، فماذا هم فاعلون ؟
لقد أعاد السيد حافظ صياغة شخصية "قنصوة الغوري" وعلاقته بالرعية دراميا بما يتفق مع البعد الواقعي لها. وربما فسر هذا الأمر بكونه محاولة لتجنب الإشارة المباشرة لحاكم بعينه درءا للنقمة. لكن الواضح أن لهذا الإجراء بعدا جماليا بالأساس، فاستلهام هذا الجو التاريخي (شبه الأسطوري) أنقذ المسرحية من رتابة التعبير المألوف والمباشر عن الواقع، وأضفى عليها بعدا تخييليا يثير المتلقي ويحفزه على المشاركة في تشكيل المسرحية وتصور أحداثها ومحاولة الكشف عن العلاقات القائمة بين شخوصها والمساهمة في حدودها وأبعادها، وبذلك نقله من موقع المتلقي السلبي إلى موقع المتلقي المشارك.
إلى جانب هذا فقد أسهم استلهام التاريخ، في هذه المسرحية، في تجاوز الأسلوب السياسي المباشر لصالح إيحائية النص. وكان وسيلة خولت للسيد حافظ، وكغيره من الدراميين العرب، "التحرر من نثرية الواقع والتحليق في مدارات شعرية المتخيل عبر كتابة درامية جديدة تثير المتلقي وتخلخل أفق انتظاره".
ب- استلهام الموروث الشعبي :
توظيف التراث في العمل الإبداعي أصبح تقليدا رائجا في أغلب الأجناس الأدبية. وبالنسبة للمسرح العربي فقد استأثر هذا الموضوع باهتمام كبير، فإذا كانت غاية التأصيل هي البحث عن أشكال فرجوية جديدة، فإنه لم يكن بالإمكان تحقيق هذه الغاية.. إلا من خلال اللجوء إلى التراث الشعبي نظرا لما يختزنه من أدبيات وظواهر احتفالية يتمفصل في نطاقها النشاط الروحي والاجتماعي والفني للإنسان العربي".
في مسرحيته هذه، "حكاية الفلاح عبد المطيع"، لجأ السيد حافظ إلى التراث الشعبي الفرجوي فاستحضر أحد وجوهه وهو "الراوي" ذلك القاص الشعبي الذي "يعرض" على جمهوره سيرة عنترة وسيف بن ذي يزن وغيرهما من السير في فضاء تتألق فيه المرويات والشعريات والمرتجلات واللغات الجسدية..
يتدخل "الراوي" أكثر من ثمان مرات في المسرحية، يظهر في البداية للإعلان عن بداية الحكي، والتمهيد لأحداث المسرحية بتحديد زمانها ومكانها وبطلها وبدايتها.. في بداية الفصل الثاني تدخل للتأشير على انتقال أحداث المسرحية إلى مكان آخر ودخول شخصيات أخرى حلبة الصراع (السلطان والوزراء والمستشارين..) كما قد يعمل على الربط بين أحداث المسرحية المتفرقة، والإشارة إلى تحول شكل الصراع أو نموه.. ودائما يرد كلامه في إطار حوار مع الجوقة أو الكورس :
"الكورس : وارتدت كل المدينة السواد إلا هو عبد المطيع.
الراوي : دعونا نر ماذا حدث ؟"
في أحد تدخلاته عمل "الراوي" على التهيئ لنقلة فنية تتجلى في استعادة أحداث ماضية (تقنية الفلاش باك)، وذلك عندما هم "عبد المطيع" بسرد مشكلته مع زوجته على صديقه "مرسي".
ولم تقف وظيفة هذا الراوي والكورس والجوقة عند هذا الحد، وإنما تعدته إلى التعليق على الأحداث، بما يؤكد عدم حيادها :
"الراوي : أين المصابيح يا رجال لهذا الرجل.
المصابيح مفقودة.. خارج القصر الأبواب والنوافذ مغلقة.. هذه السكة أمامكم. إنه النفاق.. لم يدر الرجل أن الفرمان قد صدر بارتداء الملابس البيضاء من يحمل هموم عبد المطيع ؟ النجمة ؟ البحر ؟ السيف ؟ الزهور ؟
الجوقة : كل الأيام مطعونة، الشريف فينا مطعون.. هذا زمن رديء.."
هاهنا ومن جديد تبرز ذاتية المؤلف الذي يأبى إلا أن يمرر خطابه بهذه اللغة الشعرية الحزينة ويصر في موضع آخر، من خلال حوار الراوي مع الجوقة، على أن يحمل المسرحية بعض مفاهيمه عن المسرح، وقد تجلى ذلك من خلال جواب الراوي على الجوقة في بداية المسرحية : "الجوقة : انتظر... هذه المسرحية لابد لها من بداية ووسط ونهاية.
الراوي : لسنا في قاعة تدريس الدراما".
لا يخلو هذا الكلام من قصدية واضحة للتعبير صراحة عن تجاوز المنظور التقليدي للمسرح الذي يرتبط كما يومئ إلى ذلك كلام الراوي بقاعات التدريس فقط.
هكذا لجأ السيد حافظ إلى استلهام شخصية "الراوي" من الموروث الشعبي باعتباره أصلا عربيا يحقق بعد المشاركة والتغريب وتكسير الإيهام، وباعتباره محورا ينظم الحدث المسرحي وينسق أجزاء المسرحية وفق منظور خاص لا يخضع لمنظور المسرح الغربي.
ولا بأس من الإشارة إلى أن "الراوي" والموروث الشعبي بشكل عام يمثل جزءا من متخيل المتلقي العربي، وعليه فإن توظيفه من لدن السيد حافظ يعتبر بمثابة مراعاة لهذا البعد.
خـــاتمــــة
وتجدر الإشارة في ختام هذه القراءة إلى أن المسرحية غنية بمواطن التجريب إن على مستوى الحوار أو اللغة أو المكونات الدرامية أو المعينات الركحية (الإشارات المسرحية) التي تؤكد حضور هاجس العرض لحظة كتابة النص.. وما كان بالإمكان الإلمام بكل ذلك في عرض محدود الصفحات.
بيد أن أهم ما نود التأكيد عليه هو حضور هاجس الكتابة الضد (الجديدة) في هذه المسرحية بدءا من عنوانها مرورا باستهلالها وصولا إلى مختلف مكوناتها الجمالية والفنية التي انزاحت عن كثير من قواعد المسرح التقليدي.. وارتادت عوالم خيالية وتاريخية وتراثية كما اتضح.
وبذلك كانت مسرحية "حكاية الفلاح عبد المطيع"، فعلا، بداية مرحلة مسرحية جديدة في مسرح السيد حافظ، وهي مرحلة التأسيس التي تأتي عادة بعد فوضى الهدم والتجريب. ففي هذه المسرحية يعود السيد حافظ إلى التراث العربي وإلى الوجدان الشعبي وذلك من أجل صياغة لغة مسرحية، لغة تملك القدرة على التعبير عن هم العربي وعن فكره وعن روحه.
0 التعليقات:
إرسال تعليق