حكاية الفلاح عبد المطيع للسيد حافظ ومسرح التضامن
حكاية الفلاح عبد المطيع للسيد حافظ
ومسرح التضامن والمشاركة *
للدكتور السعيد الورقى
يبدأ العرض بمسرح يكاد أن يكون خالياً من الديكور، يوضح المؤلف خطوطه ويظف آلياته كما يفعل مؤلفو العرض الشامل.
فى بقعة مضيئة فى منتصف المسرح، يتحول الكورس اليونانى القديم إلى جوقة تقترب أكثر من الراوى فى القصص الشعبى. وتقوم الجوقة بتلخيص الموقف الذى يستدعى إلى الحضور بانتقال الضوء إلى مستويات أخرى تباعاً.
أما الموقف، فهو صراع الإنسان من خلال التفاوت الطبقى. وهو صراع قديم حديث، يقوم على الأستغلال فى صورة التى عرفتها البشرية فى أطوار حضاراتها الثلاث! حضارة الرق والعبودية، وحضارة الأقطاع، ثم الحضارة البرجوازية، حيث كان صراعاً بين طريقة العبيد Slaves والسادة فى حضارة الرق، وبين الأقنان Serfes والملاج فى حضارة الأقطاع، ثم كان صراعاً بين العمال Proletariat والبرجوازية فى الحضارة البرجوازية، وهو صراع. مع اختلاف صوره - يعكس الصلة بين المستغل بالفتح والمستغل بالكسر فى علاقة الانسان بالانسان. لهذا فهو صراع قديم حديث، يسعى فيه المستغل إلى مزيد من الضغط على الطبقات الأخرى.
هكذا يلخص الراوى فى بداية المسرحية الموقف كله بقوله "سنعود إلى الوراء، إلى زمن كان الانسان مفقود القيمة يهان. وكان الانسان الحيوان قوى النفوذ والسلطان"، موهماً أن ماحدث قد حدث فى الزمن الماضى، وتاركاً الاسقاطات والمقارنة لخيال المشاهد.
ويبدأ الحديث بعد تقديم الراوى والجوقة لشخصية البطل المأساوى، عبد المطيع - لاحظ الدلالة الرمزية فى الأسم، والكاتب مولع بمثل هذه الاستخدمات على هذا النحو "فلاح فقير أجير. عيناه مسجدان. وقلبه يشع حتى يحتوى العالم، ويداه صلبتان فى صلابة صخر النيل"[ص5].
وعن المطيع هذا الذى لا يعرف سوى الطاعة، والطاعة العمياء، يجازى حتى على طاعته هذه. يجازى بالسجن والضرب من السلطة وأعوانها، وهو فى حيرة من أمره لا عليك أى حق، ولا حتى حق الاعتراض.
ومشكلة عبد المطيع التى ارتكبها وهو طائع، أنه كان يعيش فى زمن مماليك مصر - ولا يعنينا هنا الواقع التاريخى بقدر ما يعنينا الواقع الذى جعله المؤلف اطاراً اجتماعياً لمسرحه.
الواقع الذى وضع فيه المؤلف عبد المطيع، واقع غير إنسانى. استهانت فيه السلطة بالشعب فى شراسة خنقت كل الحريات، وسيطرت على كل مقدرات الانسان، حتى على عواطفه. فأصبح الأنسان فيه ممنوعاً من الضحك أو البكاء إلا بفرمان حكومى يتحدد وفقاً لمزاج السلطة وأحوالها.
لقد مرضت عينا السلطان المملوكى، وصدر تبعاً لهذا فرمان حكومى باعلان الحداد والحزن العام حتى تشفى عينا السلطان.
ولأن عبد المطيع نموذج من الطبقة الكادحة، طبقة العبيد أو الحزم أو العمال - فهو مشغول بمتابعة قوت يومه عن التسمع لفرمانات الوزير أو السلطان، لذلك فلم يتمكن من عبد المطيع من سماع الفرمان، ولم يصبغ ثيابه - وبالتالى - باللون الأسود، فقبض عليه لهذه المخالفة الشريرة، وسجن وجلد، وأفرج عنه بعد أسبوع على أن يصبغ ثيابه.
وأنصاع عبد المطيع - فى سلبية - إلى الأمر، فصبغ ثوبه وحماره وبيته، وأنطوى على نفسه يعالج جروحه ويجتر آلامه فى حزن صامت لا يعرف الثورة.
ويتحول عبد المطيع إلى أسطورة - أجهضها المؤلف - لدى العامة، فيرون فيه زعيماً لحركة مناهضة تتحدى السلطة والسلطان.
ولا يلبث السلطان أن يشفى ويعلن الفرح فى البلاد بأمر سلطانى، وضرورة أن يرتدى الجميع الملابس البيضاء مع أقامة الزينات والأفراح، والغاء الجنازات، فالموت لابد أن يتم فى صمت.
ولم يعرف عبد المطيع فى غيبوبته بهذا النبأ الجديد. ومرة أخرى يقبض عليه لمخالفته أوامر السلطان، ويسجن من جديد ويجلد لمدة أسبوع آخر. وفى حيرة عبد المطيع، يخلع ثيابه - سبب بلواه - ويتساءل لأول مرة ماذا تريد منى أيها السلطان ؟ وأى الألوان تفضل أن أرتديها؟
مسرحية "حكاية الفلاح عبد المطيع" للسيد حافظ، كما هو واضح كوميديا بشرية ساخرة، تسعى إلى المزج بين مسرح المواقف والمسرح التسجيلى. ومن خلال هذا الإطار يقدم المؤلف شخصياته نماذج إنسانية تتحرك فى مجال إجتماعى وداخل إطارات عاطفية وعلاقات إجتماعية.
هكذا تبدأ الشخصية فى التحرك من الخاص نامية لتحقيق الموقف العام ذى النظرة الإنسانية الشاملة، وهو ما نراه مسيطراً بشكل واضح على المسرح الحديث والمعاصر خاصة عند ابن وسترندبرج وشو وبريشت ودورغات وتنسى ويليمز وميلر وأمثالهم.
حكاية الفلاح عبد المطيع كوميديا مأساوية، تطرح على مستوى الموقف الفكرى قضية إنسانية هامة، تتلخص فى السؤال التالى الذى جاء على لسان الكوران : ما معنى الإنسان إذا صار عبداً ؟
وقد اتجه السيد حافظ إلى بعض أساطير الهزيمة التى تطرح العديد من صور التعفن والامتلاك فى التاريخ المصرى، ليشكل منها اطار الحدث الدرامى، وذلك فى محاولة منه لإعادة تشكيل العالم وصياغته بعد أن أصابته الفوضى، وبعد أن أختل نظامه.
هكذا سعى المؤلف إلى تقديم هذا الجو من المثالية الزائفة، التى تتضمن فى الواقع تنبؤات أليمة، من خلال التركيز على الإنسان فى صراعه مع القوى المناهضة.
وقد تبدو شخصية عبد المطيع نموذجاً سلبياً فى جهله وبلادته، وفى ارتباطه بواقع اجتماعى متهرأ لا يمكن ايقاظه بسهولة، إلا أن هذا التكوين فى الواقع هو النظرة السلبية للحياة التى يتضمنها مسرح التضامن والمشاركة، الذى وإن حاول التركيز على التواصل الفعلى فى الصراع، إلا أن حرارة احتجاجه على مايكشف عنه الصراع من نفى وانكار وحشى تنتهى به إلى تلك النظرة السلبية التى ربما كانت تعويضاً عن مرارة الاحتجاج هذه.
وتكشف مسرحية "حكاية الفلاح عبد المطيع" بوضوح عن الخصائص البنائية المميزة لمسرح السيد حافظ. فهو مسرح تجريبى، أخص ما يميزه هو نوع التعامل مع الزمن.
يتعامل السيد حافظ مع الزمن فى عمله الدرامى بمفهوم متأثر كثيراً باتجاه تيار الوعى فى الكتابة القصصية وبأسلوب الفلاش باك فى السينما. فى الزمن هنا قد فقد منطقة العام وحدوده التقليدية، وأصبح زمناً متداخلاً يستدعى الأحداث والشخصيات بتوظيف بعض آليات المسرح وخاصة الاضاءة. وقد مكن المؤلف من إجادة هذا البناء وتوظيفه لخدمة عمله الدرامى، أنه كما قلنا من مؤلفى العرض الشامل.
وإذا كان السيد حافظ قد أجاد فى سبك معمار عمله المسرحى على نحو ما رأينا، فقد أخفق فى استعمال اللغة، حيث كان تركيزه الأكبر فيها على القيمة البلاغية.
وأعتقد أنه لو توافرت لهذا العمل لغة شعرية تنفعل بالموقف وتثير الأنفعال به، خاصة وأن المؤلف أثبت مقدرة لا بأس بها فى التعامل مع هذه اللغة الشعرية فى أعمال أخرى نذكر منها "عودة أبى ذر الغفارى" و "حكاية مدينة الزعفران"، اعتقد لو توافرت للعمل مثل هذه اللغة، لتحقق له تمام التواصل الفعلى الذى يستهدفه المؤلف وصولاً إلى مسرح التضامن والمشاركة.
0 التعليقات:
إرسال تعليق