قراءة في مسرحية عبد الله
النديم
للسيد حافظ
أحمد مرزاق
تمهـيد
ما فتئ نقاد العرب المحدثون في الآونة الأخيرة، يركزون على القراءة المزدوجة للمسرح: قراءة نصية وقراءة ركحية، ويرون أنه "بغير هذه القراءة المزدوجة فإن المسرح لا يكون أبدا"(). لكن في غياب النص الركحي/ العرض، فلا مفر من القراءة النصية رغم الإيمان بعدم كفايته، من هذا المنطلق حاولنا قراءة مسرحية "عبد الله النديم" لصاحبها السيد حافظ() متبعين الخطة التالية:
1- ملخص المسرحية.
2- أهم القضايا والمواضيع التي عالجها النص.
3- المكونات الجمالية.
1- ملخص المسرحية:
رغم إيماننا بأن التلخيص خيانة للنص عامة، والإبداعي خاصة، فلا مفر من إعطاء ملخص موجز عن مسرحية « عبد الله النديم » لصاحبها الكاتب المسرحي والمخرج التيلفزيوني السيد حافظ.
تتكون المسرحية من فصلين متقاربين من حيث عدد الصفحات، واختيار فصلين لمعالجة سيرة عبد الله النديم معالجة فنية، أملته إلى حد بعيد سيرته التاريخية. فأول مشهد يفاجؤنا هو مشهد البحث عن عبد الله النديم، هذا البحث، الذي جندت له السلطات الإنجليزية كل قواها من إعلام ومخبرين وإغراءات مالية، يمثل المفصل الرابط بين لحظتين متمايزتين في حياة عبد الله النديم. فبعد موقعة "التل الكبير" الفاصلة 13/09/1882، واستسلام القاهرة والقبض على القادة جميعا، "تبدأ مرحلة جديدة من حياة النديم تدل على نوع جديد من النبوغ والعبقرية بعيدا عن الزعامة والخطابة والكتابة والآداب()، وقد "خضع" الكاتب إلى هذا التقسيم، فعالج في الفصل الأول أهم الأحداث التي عاشها عبد الله النديم منذ ولادته عام 1845 إلى وقعة "التل الكبير" 1882، فحدثنا عن ميلاده ودراسته الأولى وعمله في مكتب تليغرافي ملحق "بالقصر العالي"، قصر أم الخديوي الأميرة خوشيار خانم، وتردده على مجالس العلم والأدب وتعرفه على كل من جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وعرابي. وكتاباته النارية في جريدة "التنكيت والتبكيت" وتأسيسه للجمعية الخيرية الإسلامية، لينضم في الأخير إلى ثورة عرابي مساهما بآرائه وأفكاره ولاعبا دور الخطيب المحرض.
أما الفصل الثاني فيبدأ بعد فشل الثورة وتسليم جميع القيادات إلا عبد الله النديم الذي فضل أن يعيش تسع سنوات من المغامرة والمخاطرة الغريبة، فظل مختفيا عن أعين النظام، والبوليس يجد في أثره ويقدم الإغراءات المالية لمن يبلغ عنه. وقد قدم لنا الكاتب من هذه المرحلة الثانية أهم الأحداث، منها اختفاؤه واتصاله بالفلاحين الذين آووه وتعاطفوا معه، ومنها حادث التبليغ عنه من لدن رجل دولة متقاعد "حسن الفرارجي" ونفيه إلى يافا ثم عودته بعد وفاة الخديوي توفيق 1892، وتأسيسه لجريدة "الأستاذّ" ونفيه ثانية إلى يافا ومنها إلى الأستانة ليلتقي برفيق الدرب جمال الدين الافغاني، ثم وفاته عام 1896.
2- أهم القضايا والمواضيع التي عالجها النص:
هذه المسرحية إعادة كتابة تاريخ شخصية مصرية فارقت عالمنا منذ قرن تقريبا، وكتابة التاريخ فنيا تخلق مشاكل كثيرة، فكيف يمكن للمبدع أن يذعن للحقيقة التاريخية من جهة، وكيف يمكنه أن يطلق الخيال لنفسه من جهة ثانية؟
الملاحظ أن التاريخ في العمل الإبداعي يظهر كمادة صماء، يمكن للقارئ أن يتعامل معها بانتقاء ويقارن كل المعلومات الواردة في المسرحية بالمراجع التاريخية، لكن قراءة مسرحية أو أي عمل إبداعي لا تعني أننا نقرأ تاريخا بالمعنى العلمي، فالكاتب المسرحي يأخذ موقفا داخل المادة التاريخية ويعيد بناءها فنيا وفق منظوره، فيقع أولا الحذف والإقصاء لمجموعة من المعلومات التي يراها المبدع بحدسه غير مجدية، ثم ثانيا يعمل المسرحي على قراءة وتأويل الحدث التاريخي، فيقدم لنا نموذجا للشخصية التاريخية يستجيب لرؤيته، وهذا الأمر لا يعني أن المؤرخ محايد بل نرى أنه أقل تحيزا من المسرحي، فالشخصية التاريخية التي يجتهد المؤرخ لتقديمها هي شخصية واقعية تاريخية لكن الشخصية المسحرية، على حد تعبير محمد مسكين، على عكس ذلك "فهي أكثر من ذاتها، إنها فرد بصيغة الجماعة إنها أنا بدلالة النحن"().
فما هي أهم القضايا التي حبلت بها مسرحية "عبد الله النديم"؟
سنحاول التركيز على قضيتين رأيناهما أساسيتين:
أ- قضية الفن:
ارتبط الفن عامة والتمثيل خاصة في ذهن عامة الناس إما بالتسلية أو بالمحرم. ودار جدل واسع حول المسرح، حتى وصل إلى حد التحريم بالمغرب()، وقد تعرض رجالات النهضة العربية في بدايتها للتهميش والنفي بسبب تعاطيهم لهذا الفن "المستورد"().
والمسرحية مسكونة بهذا الهاجس، فعبد الله النديم يحضر في هذه المسرحية باعتباره يمثل فكر قطاع عريض من المثقفين العرب الذين حاولوا الدفاع عن الفن عامة والمسرح خاصة وبشتى الوسائل. فإذا كان الأب مصباح، وهو يمثل الثقافة السائدة الملتزمة بما هو موجود من القيم، يرفض اشتغال الإبن بالفن، فإن الولد يخرج عن هذه القيم ويحاول تأسيس قيم جديدة سواء على المستوى السياسي أو الإجتماعي، ويحاول بناء مفهوم جديد للفن، فهو عنده: "مش تسلية وكلام فاضي"() كما اعتقد عفان، بل هو "...زي السكين يا تستخدمه في الخير يا تستخدمه في الشر سلاح ذو حدين"(). لهذا اختار الطريق الصعب حين خيره الوالد مصباح بين "الأدبياتية"() "والعلم"، فالتمثيل عند النديم "...فن عظيم .. ألف واحده من الفنانات والممثلات في القصر.. لو عندي البنات دول أعمل بيهم تمثيليات أغرق بر مصر تمثيل ... تمثيلي يعلم الناس ويفوق الناس ويربي الناس .. التمثيل تربية يا عفان فاهم .. مش تسلية وكلام فاضي"(). وهذه الأمنية التي خامرت عقل النديم وهو في قصر خوشيار خانم يحققها بعدما أكد له رفيق الدرب جمال الدين الأفغاني رسالة الأدب:
- النديم: ... ما دور الأدب يا شيخ جمال الدين الأفغاني؟
- الأفغاني: الأدب لابد وأن يخدم الشعب.. ويطالب بحقوق الشعب ويدفع عنها الظلم و...().
فيؤسس النديم مدرسة يأمل أن يدرس فيها: العلوم والأخلاق والأدب والتمثيل والخطابة()، ولما يتآمر عليه مجلس الإدارة مفتعلين الأسباب ومعبرين عن الموقف المضاد من الفن: "قال إيه النديم بيعلم الأولاد التمثيل وخطابة.. تمثيل وتقليد وخطابة والله حرام"()، يقدم استقالته مرددا العبارة التي طالما رددها كل منافح عن الفن الجاد: "الفن مش حرام والتمثيل مش حرام مادام بيصحي الناس.. وأنا نفسي الناس تصحى بالطبلة والزمارة والضحكة.. الناس لازم تفهم"().
فقضية الفن كما يظهر من خلال مقاطع من المسرحية قضية قطب رغم مرور قرن على ميلادها، لهذا أولاها الكاتب اهتماما، بل عبر بلسان النديم عما يختلج في صدره موجها خطابه إلى الذين جعلوا من الفن وسيلة للتسلية أو جعلوه فعلا محرما.
ب- رد الإعتبار لما هو شعبي أو التأريخ للبطل الشعبي:
بدأت في الآونة الأخيرة تنداح الفوارق بين الثقافة "العالمة" والثقافة "الشعبية"، وبدأ يبرز الإهتمام المكثف بالثقافة الشعبية دراسة وتوظيفا، وكان المسرح سباقا إلى الإهتمام بالشعبي في إبداعاته وتنظيراته، ومسرحية "عبد الله النديم" تحفل بهذا الشعبي، بأشكال مختلفة ففي الكلمة الأولى يصف الكاتب عبد الله النديم بـ"الصعلوك" وهذه الكلمة لها دلالتها في معجمنا الثقافي، وفي الختام يخرج كل الممثلين عن المسرح مرددين بصوت واحد:
"...ونسيتوا تعملوا لزعماء الشعب ميادين وتماثيل تصحي ذاكرة الإنسان وتعلم الولاد الجايين أن فيه زعماء شعبيين زي عمر مكرم.. وعبد الله النديم وأحمد عرابي.. صحيح هما مش بشاوات ولا من طبقة البهوات.. لكنهم هما اللي عبروا بالشعب بحر الظلمات"().
والانحياز لكل ما هو شعبي يظهر في مواطن كثيرة، بدءا من اختيار التاريخ لشخصية شعبية درجت في "حي المنشية الشعبي المكتض بصغار الحرفيين والكسبة"()، وتشكلت خطوط أفكارها الأولى داخل جو عابق بالفقر وخشونة العيش. وانتهاءا بالإهتمام بكل ما هو شعبي: أغان ومكان وأحداث، فعبد الله النديم، كما تروي أمه فلاح ابن فلاح، ينحاز للفقراء ويرى أن المقتدر يدفع مصاريف المدرسة و"الفقير ما يدفعش وابنه يتعلم"()، فهو على حد تعبير أحد شخصيات المسرحية: "عايز أولاد العامة والسوقة تتعلم"().
وأخلاق الأبطال الشعبيين تلف هذا البطل الأسطوري، فهو يدافع عن "ابن البلد" عبد الرحمن في قصر خوشيار ويرفض الإهانة لما يطلب منه تقبيل اليد، بل ينتفض لما تداس كرامة "ابن حارته"، فيصرخ في وجه التركي خليل آغا ويشتمه: "مطرود مطرود.. طز.. رزقي على الله.. وبعدين أنا مش كلب.. الكلب هو اللي بيبوس الأيادي.. أنا الوحيد اللي مش كلب في المكان ده"().
فعبد الله النديم نموذج للزعيم الذي يخرج من صلب الشعب وقد تشرب روحه ومبادءه وقيمه وعرف مواطن قوته وضعفه بل ومأساته، فيحاول المساهمة في تغيير وضعه، فإذا كان أبوه مصباح يقدم الغذاء المادي لهذا الشعب فإن عبد الله النديم يقدم له الغذاء الفكري، يقول لأبيه، بعد أن رجع من تجواله وطلب منه أن يبقى معه في الفرن، :"يا با مش حنرجع للحكاية دي تاني أنا اخترت طريقي.. وأنت طريقك تعجن قلبك رغيف.. وأنا بعجن كلمتي رغيف"().
والكاتب السيد حافظ لا ينسى أن يرسم لنا ملامح الطرف الثاني في العلاقة، فإذا كان عبد الله النديم زعيما شعبيا فإن هذا الشعب لا يتخلى عن زعيمه في وقت المحنة، يقول أحد أبناء حارته: "يا أم عبد الله صحيح أنا في احتياج لألف مليم.. لكن مش عايز حاجة.. ولو جه عبد الله النديم حا أخبيه.. في رمشي حا أخبيه.. في قلبي ولادي حا أخبيه"). ويرد الجميع: "أيوه.. كلنا حا نخبيه"()، وقد خبأه هذا الشعب مدة تسع سنين فقدم له العون واعترف له بالفضل يقول محمد الهمشري، العمدة الذي وراه عن أعين البوليس، :"أنت عطفت على مصر كلها.. لو مصر كلها عطتك بناتها وفلوسها ما توفيكش حقك يا أستاذ.. وحنا عملنا الواجب يا أستاذ"()، أو يطلب منه قاسم أمين وكيل النيابة: "اسمح لي أبوس جبينك وأبوس أيديك"(). لأن عبد الله النديم أدرك جوهر هذا الشعب فقال: "إن المصري زي الجوهرة اللي عليها تراب.. تنفضه .. يطير التراب وتفضل الجوهرة"(). فعلم:
"صالح": "ده أنت علمتني وفهمتني إزاي ما أعيش حمار وأن البلد دي بلدنا بالوحدة يا عم عبد الله"()،
و"فاطمة": "يعني إيه وطن يا أستاذ..؟
"كلامك حلو يا أستاذ. احكي لي عن أحمد عرابي"()،
و "الزمارة": "مش حا سلمه يا أم عبد الله ما تخفيش.. ده هو اللي علمني القراية وشغلني في بيع الجرايد..."().
يظهر من خلال النصوص المستشهد بها أعلاه، ومن خلال المسرحية عامة، أن الكاتب السيد حافظ يعيد الإعتبار لما هو شعبي سواء باختياره الشخصية الرئيسية لكتابة سيرتها فهي شخصية هامشية ليست لها أصول نبيلة أو إلهية كما عودنا المسرح اليوناني، أم الأغاني المبثوثة داخل المسرحية، أم اللغة التي تمتح منها الشخصيات.
3- المكونات الجمالية:
أ- البناء المعماري:
يلاحظ أن الكاتب لم يأت على كل الأحداث التي تزخر بها سيرة عبد الله النديم، بل ركز على الأحداث التي تلائم طرحه الفكري، وهذا لا ينال من إبداعية الكاتب وإنما هي سمة الكتابة الإبداعية، كما يلاحظ عليه من جهة ثانية محافظته على الترتيب التصاعدي المألوف للأحداث محاولا تجاوز صرامة هذا الترتيب بتقنية "فلاش باك".
فالفصل الأول يتكون من :
1- البدء من الحدث المفصلي في حياة النديم: فعبد الله النديم مختف بعد موقعة التل 1882 وفشل الثورة، والشرطة الإنجليزية تبحث عنه في حارته الشعبية، وتستنطق والده الذي يقدم للقارئ /المتفرج معلومات تاريخية تخص ميلاده ومدرسته الأولى.
- النهاية: عبد الله النديم وهو هارب من حارته يقابل مصطفى كامل.
فالمشد الأول من حيث التاريخ يأتي بعد هروب النديم من الحارة بعد فشل الثروة وتسليم القيادة، لكن الكاتب ابتدأ به مسرحيته، أي ابتدأ من حيث انتهت المرحلة الأولى من حياة النديم، ليعود عبر مجموعة من المشاهد ليؤرخ لحياة النديم مستغلا تقنية "فلاش باك"، مثلا: عندما يكون الضابط يستنطق الأب مصباح عن ابنه النديم ينتقل المشهد إلى طفل في تسع سنوات لتغطية مساحة فارغة من تاريخ النديم لم يعرفها القارئ بعد، كذلك عندما يسأل المخبران صديقه عبد الرحمن، صاحب دكان حارته، عنه ينتقل عبر "فلاش باك" ليحدثنا عن مرحلة مهمة من حياة النديم وهي عمله في مكتب تليغرافي ملحق "بالقصر العالي" قصر خوشيار خانم، وكذلك عمله عند العمدة "البداوي". أما بعد ذلك فالأحداث تتصاعد إلى أن تصل إلى فشل الثورة والهروب من السلطات الإنجليزية.
أما الفصل الثاني فيشكل مرحلة جديدة من حياة النديم ويظهر الترتيب التصاعدي في هذا الفصل جليا، فمن مشهد التحقيق مع الأب مصباح إلى وفاة النديم تتلاحق المشاهد لترسم خطا تصاعديا مفضيا إلى النهاية.
ب- الصراع الدرامي:
يمثل الصراع الدرامي "ركنا أساسيا في الخطاب المسرحي"()، بل يعتبر غيابه سندا في تعليل غياب المسرح عند العربي كما يذهب عند ذلك محمد عزيزة. والصراع يعبر عن ذاته عبر مجموعة من الأشكال: تعارض الشخصيات والأفكار والمواقف والأحداث، كما يتخذ أشكالا عدة: برز منها في مسرحية عبد الله النديم الصراع الأفقي، والذي يواجه فيه الفرد "قوانين المجموعة والكيان الاجتماعي المفروض"()، فالنديم يقف في جبهة مواجها كل القيم المفروضة ويحاول طرح قيم بديلة وبوسائل تناهض وسائل الخصم، فعدوه واحد وإن تجلى في أشكال مختلفة.
فالنديم يطمح إلى العدالة بكل أشكالها وعلى كل المستويات لكن تقف في وجهه قوى رجعية كثيرة، أولها وأشدها ضراوة المستعمر الإنجليزي، المتحالف مع القوى الداخلية. فعلى المستوى السياسي يقف في وجهه:
1- المستعمر الإنجليزي: الذي جاء إلى مصر يردد المقولة المسكوكة المعروفة: "إحنا جايين على شان استقرار مصر ونطعم الجيعانين.. إنجلترا العظمى جاي مصر على شان تطعم الناس الغلابة المصريين"()، والذي يقف في وجهها يتهم بالتحريض على أمن الدولة وإثارة الفتن والقلاقل كما عودنا التاريخ.
2- القوى الداخلية المتمثلة في النظام التركي والمتعاونين معهم من المصريين، مثل حمزة فتح الله صاحب جريدة "الاعتدال" التي تولت نشر خبر القبض على النديم والمكافأة المالية التي حددتها الدولة، وهي جريدة كما وصفها النديم: "بتشوه في عقول الناس.. وبتفسد أفكار الخلق"()، والذي يقف في وجهها ينعت بالكفر يقول فتح الله: "إبنك كفر.. كاتب يجب إصلاح الأزهر.."()، وهي التهمة نفسها التي وسمت بها إنجلترا النديم إلا أن تهمتها سياسية "التحريض" وهذه دينية "الكفر".
وهذا الصراع مع هذه الأطراف يلخصه الزمارة في قوله: "وعثمانلية عايزينه وإنجليز.. وخونة مصريين أفندية.. مطلوب النديم.. مطلوب لسانه يقطعوه.. تلت دول كبار الأستانة والخليفة العثماني وملكة الأنجليز والخديوي واقفين قدام لسان النديم"().
أما على المستوى الاجتماعي: فتقف في وجهه مجموعة من القيم البالية المتوارثة، التي تؤمن بقدرية الوضع الاجتماعي وبالقيم الفردية وتلتزم الحياد أو تختار طريق المدارات، فهذا أبوه مصباح اختار أن يكون فرانا وألا يهتم بأمور الناس يقول: "أنت مين وصاك بالناس.. إحنا يا بني مش من الكبار"()، ثم: "إنت مالك ومال الوطن.. إنت فاكر نفسك عرابي وللا البارودي؟"().
وهؤلاء مجلس الإدارة يقف في وجه إصلاحات النديم: "طول عمرنا نعرف أن التعلم يكون دين وتفسير وحساب" و"قال إيه النديم بيعلم الأولاد تمثيل وخطابة.. تمثيل وتقليد وخطابة والله حرام"(). فيتهمونه ويشككون في ذمته.
فيحاول النديم خلخلة هذه التراتبية الاجتماعية التي سارت قدرا مفروضا بإثارته للسؤال يقول: "مين هما الكبار ومين الصغار.. ليه الصغير صغير والكبير كبير.. وصحيح أن الكبير كبير وللا هو صغير ومتخفي جو الريش.. وساعات بيدهن وشه للناس ورنيش..."().
لكن الفساد في مصر أقوى من قدرات النديم يقول لزوجته: « الفساد في مصر أقوى مني يا خديجة.. الفساد في مصر له نياب زي الدياب"().
و"الحرب الجوانية كبيرة يا خديجة.. جوه مصر فيه حرب كبيرة.. حرب على الفساد"().
وهذا لا يعني الاستسلام وإنما هو اعتراف بالواقع، فالنديم حاول مواجهة كل الأوضاع وبطرق مختلفة تناسب العدو فأسس جريدة التنكيت والتبكيت وجريدة الأستاذ بعد عودته من المنفى من يافا، وأسس الجمعية الخيرية الإسلامية، وانضم إلى حزب الإصلاح وشارك في الثورة العرابية... فصراع النديم كما يظهر من خلال المسرحية صراع أفقي يواجه فيه قوى معلومة لها قدراتها المادية والفكرية وليس صراعا ميتافيزيقيا مثل الذي يواجهه البطل اليوناني.
ج- الشخصيات:
يقول محمد مسكين: "إن الشخصية المسرحية ... هي المحور الدال الذي تتحرك حوله الكتابة المسرحية ككل بل هي أساس العملية المسرحية بأكملها"()، ثم يضيف "إن الكتابة المسرحية تضيف بعدا جديدا للشخصية الإنسانية... إن الإنسان يشخص دوره بطريقة فردية في الحياة... إن الشخصية المسرحية على عكس هذا هي أكثر من ذات إنها فرد بصيغة الجماعة إنها أنا بدلالة النحن"(). فعلاقة الإنسان الفردي العياني بالشخصية الإبداعية هي علاقة جزء بالكل كما يعبر عنها في المنطق، فالشخصية المسرحية تكون جنسا يندرج تحته مجموعة من أفراد الواقع، وهذا الأمر كنا قد أشرنا إليه من قبل حين تحدثنا عنه في الكتابة التاريخية والكتابة الإبداعية، ومنه فالشخصية في المسرح تمثل كلا له أبعاده النفسية والفكرية الإجتماعية، فيغدو عبد الله النديم التاريخي في المسرحية شخصية كلية وقد عبر عن هذه الفكرة حين قال: "أنا مصر بن بنصر بن حام بن نوح عليه السلام.. أنا اللي شلت الأمانة والبد خدت.. أنا مصر يا فاطمة"(). فهو يمثل تاريخ المقهورين والفقراء لهذا يمكن تحديد ملامح هذه الشخصية فهي تنتمي إلى أصول فلاحية وتتحيز إلى الفقراء وتقيم في حارة شعبية وتتواصل مع الناس في فضاءاتها يقول النديم: "أنا حياتي كلها مصر.. أعرفها ببيوتها حواريها قهاويها.. شوارعها غناويها"(). وهذه الشخصية تقاطع الفضاءات التي تجلب لها الشبهة، يقول النديم: "ده راجل سيرته بطالة وأنا ما عنديش استعداد أبقى شبهة.. أنا رايح طنطا أحضر المولد.. وآجي الصبح أحضر المدرسة"()، وهو يقصد امتناعه عن الذهاب إلى قصر الخديوي الذي طلب منه الزيارة، كما تتبنى هذه الشخصية مفاهيم محددة وواضحة للقضايا المطروحة، فالكتابة -مثلا- عندها قضية فـ"مش كل من مسك القلم كاتب ولا كل من كتب كاتب.. ولا كل من ركب الحصان فارس.. وأنا فارس كلمة يا فاطمة.. ما أقدرش أبقى كاتب زي بردعة الحمار.. وما أقدرش أبقى من الخصيان"()، فهي حين تكتب تعري الوضع وتكشف النقاب عن المستو، يقرأ لنا أحد محرري جريدة الاعتدال، لصاحبها حمزة فتح الله، مقطعا من كلام عبد الله النديم وارد في جريدة التنكيت والتبكيت: "شوف كاتب إيه على الخديوي.. ما جدوى الأبيرا التي بناها والشعب جائع.. ما جدوى..."().
والتمثيل عندها رسالة شريفة ونبيلة: "مش تسلية وكلام فاضي"() كما اعتقد عفان.
فالنديم إذن شخصية بصيغة الجمع تلخص "رؤية للعالم" وهي تتكامل وشخصيات أخرى داخل المسرحية كما تتنافى مع شخصيات أخرى.
د- التناص:
إن النص في نهاية الأمر علاقة حضور وغياب، فهو فضاء تتداخل فيه مجموعة من المرجعايات والأفكار والقضايا وبقايا نصوص، ومنه لا يمكن الحديث في وقتنا الراهن إلا عن النص الهجنة، ولا وجود لنص أصيل يقطع مع النصوص الأخرى، ونص عبد الله النديم لا يشذ عن هذه القاعدة، فالمسرحية تتناص أولا مع جنسها، فهي مسرحية استعراضية غنائية، تخضع لمكونات هذا الجنس، ثم هي تعتمد ثانيا التاريخ بكل مكوناته: الشخصية والحدث والزمان والمكان.
أما التناص الجزئي فيمكن الحديث عن استحضار نصوص بشكل من الأشكال، فهناك الأغنية: "سالمة يا سلامة رحت وجيت بالسلامة"(). ثم هناك كلام أحمد أمين وقد وضعه الكاتب بين مزدوجتين، وهناك شهادات أحمد تيمور وجرجي زيدان والأفغاني في نهاية المسرحية.
للسيد حافظ
أحمد مرزاق
تمهـيد
ما فتئ نقاد العرب المحدثون في الآونة الأخيرة، يركزون على القراءة المزدوجة للمسرح: قراءة نصية وقراءة ركحية، ويرون أنه "بغير هذه القراءة المزدوجة فإن المسرح لا يكون أبدا"(). لكن في غياب النص الركحي/ العرض، فلا مفر من القراءة النصية رغم الإيمان بعدم كفايته، من هذا المنطلق حاولنا قراءة مسرحية "عبد الله النديم" لصاحبها السيد حافظ() متبعين الخطة التالية:
1- ملخص المسرحية.
2- أهم القضايا والمواضيع التي عالجها النص.
3- المكونات الجمالية.
1- ملخص المسرحية:
رغم إيماننا بأن التلخيص خيانة للنص عامة، والإبداعي خاصة، فلا مفر من إعطاء ملخص موجز عن مسرحية « عبد الله النديم » لصاحبها الكاتب المسرحي والمخرج التيلفزيوني السيد حافظ.
تتكون المسرحية من فصلين متقاربين من حيث عدد الصفحات، واختيار فصلين لمعالجة سيرة عبد الله النديم معالجة فنية، أملته إلى حد بعيد سيرته التاريخية. فأول مشهد يفاجؤنا هو مشهد البحث عن عبد الله النديم، هذا البحث، الذي جندت له السلطات الإنجليزية كل قواها من إعلام ومخبرين وإغراءات مالية، يمثل المفصل الرابط بين لحظتين متمايزتين في حياة عبد الله النديم. فبعد موقعة "التل الكبير" الفاصلة 13/09/1882، واستسلام القاهرة والقبض على القادة جميعا، "تبدأ مرحلة جديدة من حياة النديم تدل على نوع جديد من النبوغ والعبقرية بعيدا عن الزعامة والخطابة والكتابة والآداب()، وقد "خضع" الكاتب إلى هذا التقسيم، فعالج في الفصل الأول أهم الأحداث التي عاشها عبد الله النديم منذ ولادته عام 1845 إلى وقعة "التل الكبير" 1882، فحدثنا عن ميلاده ودراسته الأولى وعمله في مكتب تليغرافي ملحق "بالقصر العالي"، قصر أم الخديوي الأميرة خوشيار خانم، وتردده على مجالس العلم والأدب وتعرفه على كل من جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وعرابي. وكتاباته النارية في جريدة "التنكيت والتبكيت" وتأسيسه للجمعية الخيرية الإسلامية، لينضم في الأخير إلى ثورة عرابي مساهما بآرائه وأفكاره ولاعبا دور الخطيب المحرض.
أما الفصل الثاني فيبدأ بعد فشل الثورة وتسليم جميع القيادات إلا عبد الله النديم الذي فضل أن يعيش تسع سنوات من المغامرة والمخاطرة الغريبة، فظل مختفيا عن أعين النظام، والبوليس يجد في أثره ويقدم الإغراءات المالية لمن يبلغ عنه. وقد قدم لنا الكاتب من هذه المرحلة الثانية أهم الأحداث، منها اختفاؤه واتصاله بالفلاحين الذين آووه وتعاطفوا معه، ومنها حادث التبليغ عنه من لدن رجل دولة متقاعد "حسن الفرارجي" ونفيه إلى يافا ثم عودته بعد وفاة الخديوي توفيق 1892، وتأسيسه لجريدة "الأستاذّ" ونفيه ثانية إلى يافا ومنها إلى الأستانة ليلتقي برفيق الدرب جمال الدين الافغاني، ثم وفاته عام 1896.
2- أهم القضايا والمواضيع التي عالجها النص:
هذه المسرحية إعادة كتابة تاريخ شخصية مصرية فارقت عالمنا منذ قرن تقريبا، وكتابة التاريخ فنيا تخلق مشاكل كثيرة، فكيف يمكن للمبدع أن يذعن للحقيقة التاريخية من جهة، وكيف يمكنه أن يطلق الخيال لنفسه من جهة ثانية؟
الملاحظ أن التاريخ في العمل الإبداعي يظهر كمادة صماء، يمكن للقارئ أن يتعامل معها بانتقاء ويقارن كل المعلومات الواردة في المسرحية بالمراجع التاريخية، لكن قراءة مسرحية أو أي عمل إبداعي لا تعني أننا نقرأ تاريخا بالمعنى العلمي، فالكاتب المسرحي يأخذ موقفا داخل المادة التاريخية ويعيد بناءها فنيا وفق منظوره، فيقع أولا الحذف والإقصاء لمجموعة من المعلومات التي يراها المبدع بحدسه غير مجدية، ثم ثانيا يعمل المسرحي على قراءة وتأويل الحدث التاريخي، فيقدم لنا نموذجا للشخصية التاريخية يستجيب لرؤيته، وهذا الأمر لا يعني أن المؤرخ محايد بل نرى أنه أقل تحيزا من المسرحي، فالشخصية التاريخية التي يجتهد المؤرخ لتقديمها هي شخصية واقعية تاريخية لكن الشخصية المسحرية، على حد تعبير محمد مسكين، على عكس ذلك "فهي أكثر من ذاتها، إنها فرد بصيغة الجماعة إنها أنا بدلالة النحن"().
فما هي أهم القضايا التي حبلت بها مسرحية "عبد الله النديم"؟
سنحاول التركيز على قضيتين رأيناهما أساسيتين:
أ- قضية الفن:
ارتبط الفن عامة والتمثيل خاصة في ذهن عامة الناس إما بالتسلية أو بالمحرم. ودار جدل واسع حول المسرح، حتى وصل إلى حد التحريم بالمغرب()، وقد تعرض رجالات النهضة العربية في بدايتها للتهميش والنفي بسبب تعاطيهم لهذا الفن "المستورد"().
والمسرحية مسكونة بهذا الهاجس، فعبد الله النديم يحضر في هذه المسرحية باعتباره يمثل فكر قطاع عريض من المثقفين العرب الذين حاولوا الدفاع عن الفن عامة والمسرح خاصة وبشتى الوسائل. فإذا كان الأب مصباح، وهو يمثل الثقافة السائدة الملتزمة بما هو موجود من القيم، يرفض اشتغال الإبن بالفن، فإن الولد يخرج عن هذه القيم ويحاول تأسيس قيم جديدة سواء على المستوى السياسي أو الإجتماعي، ويحاول بناء مفهوم جديد للفن، فهو عنده: "مش تسلية وكلام فاضي"() كما اعتقد عفان، بل هو "...زي السكين يا تستخدمه في الخير يا تستخدمه في الشر سلاح ذو حدين"(). لهذا اختار الطريق الصعب حين خيره الوالد مصباح بين "الأدبياتية"() "والعلم"، فالتمثيل عند النديم "...فن عظيم .. ألف واحده من الفنانات والممثلات في القصر.. لو عندي البنات دول أعمل بيهم تمثيليات أغرق بر مصر تمثيل ... تمثيلي يعلم الناس ويفوق الناس ويربي الناس .. التمثيل تربية يا عفان فاهم .. مش تسلية وكلام فاضي"(). وهذه الأمنية التي خامرت عقل النديم وهو في قصر خوشيار خانم يحققها بعدما أكد له رفيق الدرب جمال الدين الأفغاني رسالة الأدب:
- النديم: ... ما دور الأدب يا شيخ جمال الدين الأفغاني؟
- الأفغاني: الأدب لابد وأن يخدم الشعب.. ويطالب بحقوق الشعب ويدفع عنها الظلم و...().
فيؤسس النديم مدرسة يأمل أن يدرس فيها: العلوم والأخلاق والأدب والتمثيل والخطابة()، ولما يتآمر عليه مجلس الإدارة مفتعلين الأسباب ومعبرين عن الموقف المضاد من الفن: "قال إيه النديم بيعلم الأولاد التمثيل وخطابة.. تمثيل وتقليد وخطابة والله حرام"()، يقدم استقالته مرددا العبارة التي طالما رددها كل منافح عن الفن الجاد: "الفن مش حرام والتمثيل مش حرام مادام بيصحي الناس.. وأنا نفسي الناس تصحى بالطبلة والزمارة والضحكة.. الناس لازم تفهم"().
فقضية الفن كما يظهر من خلال مقاطع من المسرحية قضية قطب رغم مرور قرن على ميلادها، لهذا أولاها الكاتب اهتماما، بل عبر بلسان النديم عما يختلج في صدره موجها خطابه إلى الذين جعلوا من الفن وسيلة للتسلية أو جعلوه فعلا محرما.
ب- رد الإعتبار لما هو شعبي أو التأريخ للبطل الشعبي:
بدأت في الآونة الأخيرة تنداح الفوارق بين الثقافة "العالمة" والثقافة "الشعبية"، وبدأ يبرز الإهتمام المكثف بالثقافة الشعبية دراسة وتوظيفا، وكان المسرح سباقا إلى الإهتمام بالشعبي في إبداعاته وتنظيراته، ومسرحية "عبد الله النديم" تحفل بهذا الشعبي، بأشكال مختلفة ففي الكلمة الأولى يصف الكاتب عبد الله النديم بـ"الصعلوك" وهذه الكلمة لها دلالتها في معجمنا الثقافي، وفي الختام يخرج كل الممثلين عن المسرح مرددين بصوت واحد:
"...ونسيتوا تعملوا لزعماء الشعب ميادين وتماثيل تصحي ذاكرة الإنسان وتعلم الولاد الجايين أن فيه زعماء شعبيين زي عمر مكرم.. وعبد الله النديم وأحمد عرابي.. صحيح هما مش بشاوات ولا من طبقة البهوات.. لكنهم هما اللي عبروا بالشعب بحر الظلمات"().
والانحياز لكل ما هو شعبي يظهر في مواطن كثيرة، بدءا من اختيار التاريخ لشخصية شعبية درجت في "حي المنشية الشعبي المكتض بصغار الحرفيين والكسبة"()، وتشكلت خطوط أفكارها الأولى داخل جو عابق بالفقر وخشونة العيش. وانتهاءا بالإهتمام بكل ما هو شعبي: أغان ومكان وأحداث، فعبد الله النديم، كما تروي أمه فلاح ابن فلاح، ينحاز للفقراء ويرى أن المقتدر يدفع مصاريف المدرسة و"الفقير ما يدفعش وابنه يتعلم"()، فهو على حد تعبير أحد شخصيات المسرحية: "عايز أولاد العامة والسوقة تتعلم"().
وأخلاق الأبطال الشعبيين تلف هذا البطل الأسطوري، فهو يدافع عن "ابن البلد" عبد الرحمن في قصر خوشيار ويرفض الإهانة لما يطلب منه تقبيل اليد، بل ينتفض لما تداس كرامة "ابن حارته"، فيصرخ في وجه التركي خليل آغا ويشتمه: "مطرود مطرود.. طز.. رزقي على الله.. وبعدين أنا مش كلب.. الكلب هو اللي بيبوس الأيادي.. أنا الوحيد اللي مش كلب في المكان ده"().
فعبد الله النديم نموذج للزعيم الذي يخرج من صلب الشعب وقد تشرب روحه ومبادءه وقيمه وعرف مواطن قوته وضعفه بل ومأساته، فيحاول المساهمة في تغيير وضعه، فإذا كان أبوه مصباح يقدم الغذاء المادي لهذا الشعب فإن عبد الله النديم يقدم له الغذاء الفكري، يقول لأبيه، بعد أن رجع من تجواله وطلب منه أن يبقى معه في الفرن، :"يا با مش حنرجع للحكاية دي تاني أنا اخترت طريقي.. وأنت طريقك تعجن قلبك رغيف.. وأنا بعجن كلمتي رغيف"().
والكاتب السيد حافظ لا ينسى أن يرسم لنا ملامح الطرف الثاني في العلاقة، فإذا كان عبد الله النديم زعيما شعبيا فإن هذا الشعب لا يتخلى عن زعيمه في وقت المحنة، يقول أحد أبناء حارته: "يا أم عبد الله صحيح أنا في احتياج لألف مليم.. لكن مش عايز حاجة.. ولو جه عبد الله النديم حا أخبيه.. في رمشي حا أخبيه.. في قلبي ولادي حا أخبيه"). ويرد الجميع: "أيوه.. كلنا حا نخبيه"()، وقد خبأه هذا الشعب مدة تسع سنين فقدم له العون واعترف له بالفضل يقول محمد الهمشري، العمدة الذي وراه عن أعين البوليس، :"أنت عطفت على مصر كلها.. لو مصر كلها عطتك بناتها وفلوسها ما توفيكش حقك يا أستاذ.. وحنا عملنا الواجب يا أستاذ"()، أو يطلب منه قاسم أمين وكيل النيابة: "اسمح لي أبوس جبينك وأبوس أيديك"(). لأن عبد الله النديم أدرك جوهر هذا الشعب فقال: "إن المصري زي الجوهرة اللي عليها تراب.. تنفضه .. يطير التراب وتفضل الجوهرة"(). فعلم:
"صالح": "ده أنت علمتني وفهمتني إزاي ما أعيش حمار وأن البلد دي بلدنا بالوحدة يا عم عبد الله"()،
و"فاطمة": "يعني إيه وطن يا أستاذ..؟
"كلامك حلو يا أستاذ. احكي لي عن أحمد عرابي"()،
و "الزمارة": "مش حا سلمه يا أم عبد الله ما تخفيش.. ده هو اللي علمني القراية وشغلني في بيع الجرايد..."().
يظهر من خلال النصوص المستشهد بها أعلاه، ومن خلال المسرحية عامة، أن الكاتب السيد حافظ يعيد الإعتبار لما هو شعبي سواء باختياره الشخصية الرئيسية لكتابة سيرتها فهي شخصية هامشية ليست لها أصول نبيلة أو إلهية كما عودنا المسرح اليوناني، أم الأغاني المبثوثة داخل المسرحية، أم اللغة التي تمتح منها الشخصيات.
3- المكونات الجمالية:
أ- البناء المعماري:
يلاحظ أن الكاتب لم يأت على كل الأحداث التي تزخر بها سيرة عبد الله النديم، بل ركز على الأحداث التي تلائم طرحه الفكري، وهذا لا ينال من إبداعية الكاتب وإنما هي سمة الكتابة الإبداعية، كما يلاحظ عليه من جهة ثانية محافظته على الترتيب التصاعدي المألوف للأحداث محاولا تجاوز صرامة هذا الترتيب بتقنية "فلاش باك".
فالفصل الأول يتكون من :
1- البدء من الحدث المفصلي في حياة النديم: فعبد الله النديم مختف بعد موقعة التل 1882 وفشل الثورة، والشرطة الإنجليزية تبحث عنه في حارته الشعبية، وتستنطق والده الذي يقدم للقارئ /المتفرج معلومات تاريخية تخص ميلاده ومدرسته الأولى.
- النهاية: عبد الله النديم وهو هارب من حارته يقابل مصطفى كامل.
فالمشد الأول من حيث التاريخ يأتي بعد هروب النديم من الحارة بعد فشل الثروة وتسليم القيادة، لكن الكاتب ابتدأ به مسرحيته، أي ابتدأ من حيث انتهت المرحلة الأولى من حياة النديم، ليعود عبر مجموعة من المشاهد ليؤرخ لحياة النديم مستغلا تقنية "فلاش باك"، مثلا: عندما يكون الضابط يستنطق الأب مصباح عن ابنه النديم ينتقل المشهد إلى طفل في تسع سنوات لتغطية مساحة فارغة من تاريخ النديم لم يعرفها القارئ بعد، كذلك عندما يسأل المخبران صديقه عبد الرحمن، صاحب دكان حارته، عنه ينتقل عبر "فلاش باك" ليحدثنا عن مرحلة مهمة من حياة النديم وهي عمله في مكتب تليغرافي ملحق "بالقصر العالي" قصر خوشيار خانم، وكذلك عمله عند العمدة "البداوي". أما بعد ذلك فالأحداث تتصاعد إلى أن تصل إلى فشل الثورة والهروب من السلطات الإنجليزية.
أما الفصل الثاني فيشكل مرحلة جديدة من حياة النديم ويظهر الترتيب التصاعدي في هذا الفصل جليا، فمن مشهد التحقيق مع الأب مصباح إلى وفاة النديم تتلاحق المشاهد لترسم خطا تصاعديا مفضيا إلى النهاية.
ب- الصراع الدرامي:
يمثل الصراع الدرامي "ركنا أساسيا في الخطاب المسرحي"()، بل يعتبر غيابه سندا في تعليل غياب المسرح عند العربي كما يذهب عند ذلك محمد عزيزة. والصراع يعبر عن ذاته عبر مجموعة من الأشكال: تعارض الشخصيات والأفكار والمواقف والأحداث، كما يتخذ أشكالا عدة: برز منها في مسرحية عبد الله النديم الصراع الأفقي، والذي يواجه فيه الفرد "قوانين المجموعة والكيان الاجتماعي المفروض"()، فالنديم يقف في جبهة مواجها كل القيم المفروضة ويحاول طرح قيم بديلة وبوسائل تناهض وسائل الخصم، فعدوه واحد وإن تجلى في أشكال مختلفة.
فالنديم يطمح إلى العدالة بكل أشكالها وعلى كل المستويات لكن تقف في وجهه قوى رجعية كثيرة، أولها وأشدها ضراوة المستعمر الإنجليزي، المتحالف مع القوى الداخلية. فعلى المستوى السياسي يقف في وجهه:
1- المستعمر الإنجليزي: الذي جاء إلى مصر يردد المقولة المسكوكة المعروفة: "إحنا جايين على شان استقرار مصر ونطعم الجيعانين.. إنجلترا العظمى جاي مصر على شان تطعم الناس الغلابة المصريين"()، والذي يقف في وجهها يتهم بالتحريض على أمن الدولة وإثارة الفتن والقلاقل كما عودنا التاريخ.
2- القوى الداخلية المتمثلة في النظام التركي والمتعاونين معهم من المصريين، مثل حمزة فتح الله صاحب جريدة "الاعتدال" التي تولت نشر خبر القبض على النديم والمكافأة المالية التي حددتها الدولة، وهي جريدة كما وصفها النديم: "بتشوه في عقول الناس.. وبتفسد أفكار الخلق"()، والذي يقف في وجهها ينعت بالكفر يقول فتح الله: "إبنك كفر.. كاتب يجب إصلاح الأزهر.."()، وهي التهمة نفسها التي وسمت بها إنجلترا النديم إلا أن تهمتها سياسية "التحريض" وهذه دينية "الكفر".
وهذا الصراع مع هذه الأطراف يلخصه الزمارة في قوله: "وعثمانلية عايزينه وإنجليز.. وخونة مصريين أفندية.. مطلوب النديم.. مطلوب لسانه يقطعوه.. تلت دول كبار الأستانة والخليفة العثماني وملكة الأنجليز والخديوي واقفين قدام لسان النديم"().
أما على المستوى الاجتماعي: فتقف في وجهه مجموعة من القيم البالية المتوارثة، التي تؤمن بقدرية الوضع الاجتماعي وبالقيم الفردية وتلتزم الحياد أو تختار طريق المدارات، فهذا أبوه مصباح اختار أن يكون فرانا وألا يهتم بأمور الناس يقول: "أنت مين وصاك بالناس.. إحنا يا بني مش من الكبار"()، ثم: "إنت مالك ومال الوطن.. إنت فاكر نفسك عرابي وللا البارودي؟"().
وهؤلاء مجلس الإدارة يقف في وجه إصلاحات النديم: "طول عمرنا نعرف أن التعلم يكون دين وتفسير وحساب" و"قال إيه النديم بيعلم الأولاد تمثيل وخطابة.. تمثيل وتقليد وخطابة والله حرام"(). فيتهمونه ويشككون في ذمته.
فيحاول النديم خلخلة هذه التراتبية الاجتماعية التي سارت قدرا مفروضا بإثارته للسؤال يقول: "مين هما الكبار ومين الصغار.. ليه الصغير صغير والكبير كبير.. وصحيح أن الكبير كبير وللا هو صغير ومتخفي جو الريش.. وساعات بيدهن وشه للناس ورنيش..."().
لكن الفساد في مصر أقوى من قدرات النديم يقول لزوجته: « الفساد في مصر أقوى مني يا خديجة.. الفساد في مصر له نياب زي الدياب"().
و"الحرب الجوانية كبيرة يا خديجة.. جوه مصر فيه حرب كبيرة.. حرب على الفساد"().
وهذا لا يعني الاستسلام وإنما هو اعتراف بالواقع، فالنديم حاول مواجهة كل الأوضاع وبطرق مختلفة تناسب العدو فأسس جريدة التنكيت والتبكيت وجريدة الأستاذ بعد عودته من المنفى من يافا، وأسس الجمعية الخيرية الإسلامية، وانضم إلى حزب الإصلاح وشارك في الثورة العرابية... فصراع النديم كما يظهر من خلال المسرحية صراع أفقي يواجه فيه قوى معلومة لها قدراتها المادية والفكرية وليس صراعا ميتافيزيقيا مثل الذي يواجهه البطل اليوناني.
ج- الشخصيات:
يقول محمد مسكين: "إن الشخصية المسرحية ... هي المحور الدال الذي تتحرك حوله الكتابة المسرحية ككل بل هي أساس العملية المسرحية بأكملها"()، ثم يضيف "إن الكتابة المسرحية تضيف بعدا جديدا للشخصية الإنسانية... إن الإنسان يشخص دوره بطريقة فردية في الحياة... إن الشخصية المسرحية على عكس هذا هي أكثر من ذات إنها فرد بصيغة الجماعة إنها أنا بدلالة النحن"(). فعلاقة الإنسان الفردي العياني بالشخصية الإبداعية هي علاقة جزء بالكل كما يعبر عنها في المنطق، فالشخصية المسرحية تكون جنسا يندرج تحته مجموعة من أفراد الواقع، وهذا الأمر كنا قد أشرنا إليه من قبل حين تحدثنا عنه في الكتابة التاريخية والكتابة الإبداعية، ومنه فالشخصية في المسرح تمثل كلا له أبعاده النفسية والفكرية الإجتماعية، فيغدو عبد الله النديم التاريخي في المسرحية شخصية كلية وقد عبر عن هذه الفكرة حين قال: "أنا مصر بن بنصر بن حام بن نوح عليه السلام.. أنا اللي شلت الأمانة والبد خدت.. أنا مصر يا فاطمة"(). فهو يمثل تاريخ المقهورين والفقراء لهذا يمكن تحديد ملامح هذه الشخصية فهي تنتمي إلى أصول فلاحية وتتحيز إلى الفقراء وتقيم في حارة شعبية وتتواصل مع الناس في فضاءاتها يقول النديم: "أنا حياتي كلها مصر.. أعرفها ببيوتها حواريها قهاويها.. شوارعها غناويها"(). وهذه الشخصية تقاطع الفضاءات التي تجلب لها الشبهة، يقول النديم: "ده راجل سيرته بطالة وأنا ما عنديش استعداد أبقى شبهة.. أنا رايح طنطا أحضر المولد.. وآجي الصبح أحضر المدرسة"()، وهو يقصد امتناعه عن الذهاب إلى قصر الخديوي الذي طلب منه الزيارة، كما تتبنى هذه الشخصية مفاهيم محددة وواضحة للقضايا المطروحة، فالكتابة -مثلا- عندها قضية فـ"مش كل من مسك القلم كاتب ولا كل من كتب كاتب.. ولا كل من ركب الحصان فارس.. وأنا فارس كلمة يا فاطمة.. ما أقدرش أبقى كاتب زي بردعة الحمار.. وما أقدرش أبقى من الخصيان"()، فهي حين تكتب تعري الوضع وتكشف النقاب عن المستو، يقرأ لنا أحد محرري جريدة الاعتدال، لصاحبها حمزة فتح الله، مقطعا من كلام عبد الله النديم وارد في جريدة التنكيت والتبكيت: "شوف كاتب إيه على الخديوي.. ما جدوى الأبيرا التي بناها والشعب جائع.. ما جدوى..."().
والتمثيل عندها رسالة شريفة ونبيلة: "مش تسلية وكلام فاضي"() كما اعتقد عفان.
فالنديم إذن شخصية بصيغة الجمع تلخص "رؤية للعالم" وهي تتكامل وشخصيات أخرى داخل المسرحية كما تتنافى مع شخصيات أخرى.
د- التناص:
إن النص في نهاية الأمر علاقة حضور وغياب، فهو فضاء تتداخل فيه مجموعة من المرجعايات والأفكار والقضايا وبقايا نصوص، ومنه لا يمكن الحديث في وقتنا الراهن إلا عن النص الهجنة، ولا وجود لنص أصيل يقطع مع النصوص الأخرى، ونص عبد الله النديم لا يشذ عن هذه القاعدة، فالمسرحية تتناص أولا مع جنسها، فهي مسرحية استعراضية غنائية، تخضع لمكونات هذا الجنس، ثم هي تعتمد ثانيا التاريخ بكل مكوناته: الشخصية والحدث والزمان والمكان.
أما التناص الجزئي فيمكن الحديث عن استحضار نصوص بشكل من الأشكال، فهناك الأغنية: "سالمة يا سلامة رحت وجيت بالسلامة"(). ثم هناك كلام أحمد أمين وقد وضعه الكاتب بين مزدوجتين، وهناك شهادات أحمد تيمور وجرجي زيدان والأفغاني في نهاية المسرحية.
0 التعليقات:
إرسال تعليق