مفهوم الارشادات المسرحية
ومسألة التجريب فى المسرح العربى
السيد حافظ : نموذجاً من خلال مسرحية " طفل وقوقع وقزح "
بقلم : حميد حقون
قراءة تحليلية لمسرحية " طفل وقوقع وقزج " للسيد حافظ :
1- تجربة السيد حافظ : من هو السيد حافظ ؟
السيد حافظ من الشخصيات المسرحية البارزة فى العالم العربى الذى غطت عليه وسائل الاعلام فأقامت عليه حفراً، فلم يستطع أن يبث كلماته فى شراح مجتمعنا الأدبى. وانطلاقاً من هذا التضارب الذى يحدق بالثقافة والمعرفة الإنسانية لم ينتمكن من الحصول على ما يشفى الغليل من تجربته الممتعة والهادفة، ولم نتمكن من معرفة شخصيته كرجل وكمبدع وكفنان ينتمى إلى جيل النكسة، فقد ولد سنة 1948م بالاسكندرية، التحق بمركز الشباب على يد الفنان الكبير محمد فهمى متخطياً مرحلة جديدة فى حياته، يقول السيد حافظ عن هذه المرحلة " وهناك تعلمت أين أجد النصوص المسرحية وتاريخ المسرح وقرأت المسرح الاجتماعى لتوفيق الحكيم وشاهدت كل مسرحياته هيئة للمسرح وتعرفت على شكسبير ويوربيديس واسخيلوس والمسرح العالمى والمسرح الأمريكى والسوفياتى ، كان وقتى كله موزعاً بين القراءة والتمثيل والتثقيف الذاتى ونسخت فى العام الأول ملخصاً لـ (145) مسرحية عالمية ومائتى مسرحية عربية، وتعرفت على سعد الدين وهبه، ونعمان عاشور وميخائيل رومان وشوقى عبد الحكيم ويوسف ادريس وعبد الرحمن الشرقاوى والفريد فرج( ) هذه المرحلة كانت جديدة وإيجابية فى بلورة فكر السيد حافظ وتعميقه، فقد وقف كعلامة بارزة ونقطة وفاءه فى وسط الميدان المسرح وصاح بأعلى صوت " لا مسرح بدون تجريب" يقول عبد الله هاشم متحدثاً عن تجربة السيد حافظ : " إنه بدل أن نقيم التهليل لكل مستورد أفلا أجدى بنا أن نهتم بكاتب مصرى لا يقل جودة وتجديداً وثورة وغضباً الأوضاع المسرحية التى تحيط بالعالم العربى خصوصاً وأن مسرحياته نتاج طبيعى لـ(67) ومحاولة تجاوزها والثورة ضد الظروف التى خلفتها ومحاولة الاستمرار وقهر الظروف السلبية التى قدمت بعد ذلك لخلق إنسان عربى جديد قادر على الثورة والنجاح ضد أعتى الظروف يصادفها الوطن العربى". ( )
لقد كانت نكسة (67) من بين المؤثرات العامة التى أثرت وبشكل قوى على فكر السيد حافظ، الذى ثار على كل أشكال الظلم والاستبداد والقهر الذى كان يعانى منه العالم العربى أو " بعبارة أخرى أن هذه الفترة من التجريب والتلمس قد اقنعت السيد حافظ بضرورة زرع جذور أكثر عمقاً وبوضع حد لجمود هذا المجتمع ومحاولة تلخيصه من الاستيلاب إلى الايجاب أى التلخص من التبعية إلى مرحلة التأطير والخصوصية وقد كانت هذه الخطوة عنده أساسية وممهدة للوصول إلى كم الإشكالية ومحاولة خلخلتها وتحليلها من أجل تحقيق تحول جذرى فى بنية هذا المجتمع وتفكيكه ميكانيزاته العلائقية على ضوء، معطيات الحاضر والمستقبل".( )
فالسيد حافظ كاتب مسرحى سياسى ناضج جداً فى لغته الدرامية التى يمزج فيها بين النثر والشعر ومتمرداً على الأصول التقليدية البالية،/ فهو فنان ومثقف ومفكر وفيلسوف إن صح القول استفاد من دراسته العلمية فى الفلسفة والاجتماع وعلم النفس وحاول توظيفها فى دراسة حياة الأفراد وأصولهم الاجتماعية، حيث نجد معظم كتاباته تدور حول الإنسان المعاصر... الإنسان الكادح.. وعن مختلف الضغوطات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية الملقاة عليه، لذلك نجده فى كل مسرحية من مسرحياته يبذل مجهوداً جباراً وفعلياً فى البحث والكشف والتنقيب عن معاناة الإنسان المعاصر.
كتب السيد حافظ العديد من المسرحيات نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر (علمونا أن نموت وتعلمنا أن نحيا – مدينة الزعفران – أميرة السينما – حكاية الفلاح عبد المطيع – ظهور واختفاء أبى ذر الغفارى...) تتميز عناوين مسرحياته بالغرابة والغموض نتيجة رؤيته المأسوية للعالم، كما تتميز كتابته باسلوب واضح وبسيط. يقول عن مسرح السيد حافظ اسماعيل الامبابى : " تعد مسرحيات السيد حافظ من العالم البارزة فى أدبنا الحديث ذلك أنها تقف وحدها فى قمة الريادة فى ميدان المسرح التجريبى فى الساحة العربية. والسيد حافظ ليس مجرد كاتب مسرحى يحكى لنا حدثاً فى قالب درامى مسحرى، بل يعتبر بانتاجه الفكرى الناضج خالقاً مبدعاً.. له عالمه الخاص وفلسفته وهو يغوص فى أعماق النفس الانسانية محاولاً الكشف والوصول إلى أرض المثالية التى فقدناها فى القرن العشرين محاولاً الكشف عن كل ما يقابله إنسان ذلك العمر من صراعات مادية ونفسية وحضارية" ( ) إن مسرح السيد حافظ مسرح ثورى بامتياز يشعر سلاحه فى وجه كل أدوات القهر والاضطهاد والحرمان التى تحاول أن تنال أو تحطم من كرامة وانسانية الإنسان داخل هذا المجتمع.
2- محاولة قراءة النص المسرحى :
يحاول المؤلف أن يعلن من خلال النص المعلق، الذى يفصل بين العنوان كبوابة كبيرة أو فكرة أساسية تختزل النص الأصلى / المسرحى (طفل وقوقع وقزح) والمسرحية كموضوع للعرف والمشاهدة داخل زمان ومكان محددين من طرف المؤلف. أن ا لزمن العربى زمان سديمى بحيث يتداخل فيه النيئ بالمطبوخ والأصيل بالدخيل وهذا واضح من خلال مجموعة من التعابير المتباعدة على مستوى المدلول، وما يجمع بينها فى الحقيقة هو التشتت الذى يطبعها، يقول المؤلف وأنا وأنت – أنا وأنت – أنا أنت أنا أنت .. أنت أنا..."( ) كل هذه التعابير تبين بوضوح أن الزمن والعقل العربى يعرف تشويشاً يكاد يفضى إلى التمزق والانفلات من الهوية. والزمان الذى يشير إليه الكاتب ويعلن عنه صراحة هو الذى يبتدئ بالطفولة البشرية حيث التماسك بين أعضاء الشرائح الاجتماعية والقرن العشرين والممثل للزمن الفردى الذى يعتمد فيه الفرد على ذاته أى زمن التقنية ، ومن هنا سوف يكون الجمع بين زمانين متناقضين بحيث يضيع بينهما الأمل والرغبة فى التكون. والمقارنة التى نطمح بواسطتها الولوج إلى غياهب النص وسراديبه تسير بمحاذاة البحث عن الإرشادات المسرحية لأنها فيما نرى بمثابة المفتاح الذى يجعلنا على الطريق الأصوب فى معالجة النص المسرحى والتقرب من أعماقه وخباياه.
ومسرحية " الطفل وقوقع وقزح" لما حبها السيد حافظ هى التى نود التعامل معها، رغم أن للمسرحى (المؤلف) مجموعة من المسرحيات الأخرى وغيرها، ويأتى اختيارنا لهذه المسرحية بالذات هو ما تزخر به من ارشادات مسرحية – موضوع بحثنا – وكذلك اعتبارها تجربة متميزة فى المسرح العربى عامة والمسرح المصرى خاصة.
ومما يلفت الانتباه منذ البداية فى نصوص السيد حافظ هو احتواؤها على مقدمة تقنية تساعد فى إخراج النص حيث يختزل فيها كل الحيثيات التى يسير عليها الركح من بداية المسرحية حتى نهايتها، فيصف من خلالها الديكور بحيث يكون الركح منظم بطريقة نهائية لا يدخل عليه تغيير حتى نهاية المسرح ، وكذا توظيفه للإنارة التى تطبع بالاختلاف والتنوع بين الحمراء والصفراء والزرقاء.. وكلها تؤدى وظيفة التركيز على مشاهد معينة أو شخصيات أو أمكنة بعينها، ولا يقتصر على وصفه القضايا الغير المتحركة فى المسرحية بل يتعداها إلى وصف الشخصيات كما تكتسى هذه المقدمة التقنية وصفاً للملابس التى ترتديها هذه الشخصيات، والملابس ليست عملية مجانية بل أن دورها جسد دقيق ومحدد، فملابس الراهب ليست هى ملابس الفقيه ولا ملابس الغنى كملابس الفقير... وطبيعة الشخصيات التى تلعب الأدوار الرئيسية فى هذه المسرحية تختلف ملابس بعضها عن بعض. كما يشفع حديثه عن وصف الموسيقى التى تسود المسرحية والتى قال عنها بأنها صاخبة وأجنبية.
ومن خلال هذه المقدمة يتبين بوضوح أن السيد حافظ حينما يكتب يلتزم نوعية خاصة من الكتابة تربط ميكانيزم الحقل الثقافى بالمناخ السياسى والخلفيات الإيديولوجية السائدة فى مصر. فكتاباته بصفة عامة هى تجلية لنوعية العلائق القائمة بين أفراد المجتمع ومحاولة إعادة رسم حركة تغييرية لبنية هذا المجتمع وذلك بانتقاد عفواته ومحاولة تحطيم القوالب والسلوكيات البالية ... إنها بعبارة أخرى لحظة الرفض لكل تخاذل وتقاعس ودعوة إلى تطوير الحاضر والاستفادة من ثغرات الماضى من أجل دخول المستقبل، وهذا ما يجعل رؤية السيد حافظ متسمة بالعمق والتحدى لكونها تنظر إلى التاريخ فى حركته الديناميكية. ( )
يقول محمد مسكين فى هذا الصدد : " وبهذا تميز فى الكتابة المسرحية بين نوع على تكريس اللحظة وحصر التاريخ وهذه الكتابة تحكم على نفسها بالهامشية والاغتراب أى أنها تقصى ذاتها من التاريخ. أما النوع الثانى فهو الكتابة الساعية إلى التغيير وهى الكتابة المستقبلية المؤمنة بالتطور والتجاوز والتى تضمن لنفسها المشروعية التاريخية" ( )
إن مسرح السيد حافظ وثيقة من أهم سيماتها الرؤية التاريخية الموضحة على ضوء تحقيق رؤية شمولية متكاملة.
إن فى كل عمل إبداعى لابد من موضوعه تكون هى بؤرة التوتر التى ينطلق من خلالها المبدع ليلج إلى العالم الواقعى الذى يبغى التعامل معه فيؤثر فيه أو يتأثر به. والعمل الإبداعى من هذا المنطلق يكون فى اتصال رسمى وثابت مع الواقع حيث تتم المحاكاة كما يفسرها ارسطو، فالمبدع بهذا الاعتبار يحاكى أفعال الناس وليس الطبيعة بحذافيرها. ومن جهته فإن السيد حافظ حاول ومن خلال تجاربه الرائدة أن يدخل فى حوار جاد ومثمر مع المجتمع ليكشف همومه، آماله ، وآلامه... ويكون نموذجنا فى البحث التجربة رقم 7/1972 المعنونة بـ"طفل وقوقع وقزح".
هذه المسرحية التى تكون لب عمل السيد حافظ إذ كل الملامح الإنسانية التىتكلم عنها توجد فى هذه المسرحية بدون تحفظ. فقد اهتم فى هذه المسرحية بهموم الإنسان وإحباطاته وما يكابده من مشاق فى عالم الزيف والتهور وسلب الحقوق والحريات، كما تطلعنا المسرحية – موضوع الدرس – عن نوع الخطابات والمواقف التى تصدر عنها بعض الشرائح الاجتماعية. فالخطابات التى تسيج المستعمر وأدنابه تختلف تمام الاختلاف عن الخطابات التى يتحدث بها أهل البلد المقهورين منهم والمناضلين.
ثم أن المواقف تختلف باختلاف التوجهات لأن نوعية الخطاب تحدد نوعية الإيديولوجية، وعندما تظهر هذه الخاصية على الشخصيات المكونة لعالم المحكى.. فإن ذلك من سمات المؤلف البارع ، والذى يدخل ضمن ما أسماه " ميخائيل باختين " بالحوارية، فالبطل فى هذا النموذج من الحكى يتصرف بكامل الحرية بحيث لا يتقيد بوعى المؤلف ولا بأفكاره، بل يكون له وعيه الخاص وموقفه الخاص. أمام الموضوعة الرئيسية التى يحاول السيد حافظ أن يبلورها من خلال مسرحيته هى علاقة المناضل بالطبقة التى تسير فى ركب المستعمر الغاشم، وكذا رؤيته إلى الأرض ودفاعه المستميت عنها، ومحاولة رأب الصدع والانشقاق التى تحاول أن تحدث الطبقة المهيمنة فى قلوب الدهماء وعامة الناس.
ولكى يكون تحليلنا بعيداً عن السديمية والهلامية يبقى من اللازم أن نرصد بعض المقاطع من داخل المسرحية التى تبرز نموذج الوعى الذى يصدر عن كل مناضل مناضل وخاصة شخصية البطل / المصلوبة. وأدناب الاستعمار وبقية الشخصيات المدوخ بها والتى تمثل الفئات ذات الوعى الضحل، والتى استطاع المستعمر استقطابها وإدخالها فى برنامجه الاستعمارى. وحتى تكون هذه المحاولة التحليلية أكثر نضجاً وفعالية، نقسم فئات الشخصيات / إلى مجموعتين: المجموعة الأولى التى تحمل هموم الأمة وبالتالى الأرض التى يمثلها المجموعة الأولى التى تحمل هموم الأمة وبالتالى الأرض التى يمثلها بصفة خاصة البطل الذى هو المطلوب، حيث يسير فى ركبه كل من الفيلسوف والطفل والزنجية والزنجى والفتاة مارى....
أما الفئة الثانية فهى الشخصيات الأجنبية وكذا أهل البلد السائرون فى منحاها، ومنهم شيخ البلد وشيخ الغفر والعمدة... وكل الشخصيات المكونة للمجموعة (1، 2، 3) بما فيهم الرجال والنساء. إن أبطال السيد حافظ ليسوا أبطالاً إشكاليين بل هم رؤى مستقبلية للأمة العربية بصفة عامة ومن هنا يمكن القول أن السيد حافظ كان رائياً كبيراً متحكماً ومعبراً عن الأحداث التى يعيشها العالم العربى برمته " عندما نسأل عن أى شئ يبحث أبطال السيد حافظ فإن الجواب يأتينا كالتالى : أنهم يبحثون عن الممكن وليس عن المحال، يبحثون عن مدينة يغيب فيها (ممارسة القهر على المواطن وطمس كيانه ومسخه بتمريره على أجهزة القهر والعجز والتخلف).( ) يبدأ الحوار الجاد تدخلت مارى لتعلن أنه إذا دخل المقنعون يجب على باتريس أن يكون أكثر هدوءاً حتى لا يصدر فى الليلة ويجب أن تكون أكثر هدوءاً لتكن عاقلاً يجب ان نتحدث بهدوء.. " أنت هذه الليلة سخيف لن تموت آه لو احتوى العالم ما حتويه".( )
فى هذه الكلمات من طرف مارى وفرح تام وثابت على ما يمارسه المقنعون " فأجابوه فوراً" أهلاً ولدنا باتريس".( ) وصيغة الخطاب الذى واجه المقنعون بها باتريس تبين بما لا يدع مجالاً للشك أنهم راضون عليه تمام الرضى، لأنه جاء فى صفهم، وكل من عارضهم وخرج عن طاعتهم فإنهم يتحيلون اصطناع الفرض لقتله أو ذبحه أو شنقه لأن منهم المفتى ومنهم الذى ينفذ الحكم... وليس هناك من يعارض أو يجادل أو يتكلم وشخصية المصلوب / البطل دليل واضح على ذلك. فهذه الشخصية هى التى تمثل قطب الرحى والتى من خلالها يظهر صوت المؤلف بجلاء واضح وكذا رؤيته الشمولية للعامل، فمن خلال المصلوب يتبين أن السيد حافظ رجل يجمع بين الرؤية السياسية التحررية من أصفاد الاستغلال وبراثين الاستعمار، وبين الرؤية الإسلامية التى تكون وعى الأمة العربية والإسلامية كافة، ولولا هذه الرؤية لما جاء لنا بشخصيات مثل الواعظ التى تمثل الوعى الإسلامى وتعبر باسمه.
وجاء بكل هذا لأنه يعرف أن الشعب المصرى والعربى كافة شعب مسلم مسالم لا يمكن أن يرضى إلا بما يقضى به الإسلام. والى جانب هذا فإن شخصية الواعد فيها دليل واضح على الإيهام بالواقعية الذى ينشده كل عمل تخييل جاد وهادف. فهكذا نستطيع أن نقول بأن مسرحية " طفل وقوع وقزح" تدخل فى باب الأدب الواقعى وليس فى السريالى أو الرمزى اللذين يبعدان عن الواقعية بدرجتين. فشخصية المصلوب هى التى تريد أن ترد عن ادعاءاته المقنعين وكل الذين يسيرون فى ركبهم. وشخصية الواعظ هو الأول الذى يتحمل مسئولية القاء الظلم على المصلوب لكى يدينه أمام الملأ فينفذ فيه الحكم بصبغة شرعية لا يستطيع أحد بعده أن يستأنف فى الحكم ليدافع عليه، لأن الحكم كما يدعون أت من الشرع، وإذا جاء قضاء الله فلا مرد له، فهم – أى المقنعون – يستطيعون أن يدينوا من شاؤوا ويبرؤوا من شاؤوا يقول الواعظ " الحكاية دى ما يتسكتش عليها أبداً واللى ربنا قايلوا حانفذه عليه وعلينا"( ) فى خطاب الواعظ ثبات ويقينية تدعوا مستمعة إلى الإيمان بما يقوله بدرجة لا متناهية بحيث يظهر من خلاله العدل التام. وبمجرد أن يرد عليه المصلوب لأنه يعرف الينبوع الذى يصدر منه يتهمه بأخطر كلمة عندما فى مقدستنا العربية وهى "الكفر" ، فهذه الكلمة تحكم على ما حبها بالقتل طبقاً للحديث النبوى الذى يقول " اقتلوا التارك لدينه" فهى إدانة تامة لكل من خرج عن المنظومة العربية الإسلامية. وهكذا فاتهام المصلوب الكفر، يعنى قتله علناً وإدانته جاءت من كونه لم يدخل فى المسلسل الاستعمارى ولم يؤمن بطروحاته بل ظل متشبثاً بأرضه يحبها إلى حد الهوس ويدافع عنها رغم أنه يعرف أن ذلك يكلفه حياته، ولكى يؤكد لمن يريد أن يثنيه عن قضيته يقول : " الأن مكنش فيه حد يقدر يحوشها عنى ولا يحوشنى عنها".( ) هكذا يثبته فى أذهان المتآمرين على الأرض ومن فى صفهم أنه لم يتخل عن الأرض مهما بلغت التضحية. والظاهر أن القوة المعادية مؤمنة بصلابة رأيه وأنها فقط تصطنع الأكاذيب لكى ترده عن مبتغاه، وخاصة عند اعترافها التام والملحوظ بنسبة الأرض التى صاحبها. وذلك فى شكل رمزى حيث يقول الواعظ : " احنا غلطانين اللى جوزناها لك".( ) والارتكاز على الرمز من بين المقومات التخيلية ا لتى يرتكز عليها المؤلف ليبنى عالمه التخيلى، وهو ظاهر فى الخطابات الساحرة وكذا فى التعابير التى تستعمل فى غير محلها لكى يحيلنا بلغة إيحائية شعرية على فحوى ما يرمى إليه. ولكى يثبت عدم التمركز حول الذات وأن العنصر العربى هو الذى من حقه أن يدافع عن الأرض أضاف عنصر الزنجى والزنجية ليعلن بطريقة علنية أن المسألة هى المشاركة المكثفة والفعالة فى القضية (قضية الشعب) ، ولا يؤثر فى ذلك لا اللون ولا العرف ، وإنما الأصل هو الرؤية وتوحدها، فرغم كون الزنجى والزنجية ليسا من مصر إلا أنهما يناضلان بالشكل الذى يناضل به أهل البلد المقهورين وذلك انطلاقاً من القناعات الرؤيوية.
إن المؤلف يريد أن يحيلنا على قضية أشد تمركزاً فى الوعى الإنسانى التى هى الأممية أو الإنسانية مستشهداً ببعض الثورات العالمية تقول مارى لاوس... كوريا .. فيتنام.. شيلى.. بوليفيا.. كمبوديا.. الثورة هناك معرضة للطعن دائماً وانتهت الثورة وفلسطين محتلة.. والعرب متخاصمون والحال فى سوء والاتحاد السوفيتى يباع .. والزنوج يبكون."( ) كل هذا يبين بما لا يدع مجالاً للشك أن الوعى التحررى فى البلدان المستعمرة أو المستهدفة من طرفه القوى الاستعمارية وأدنابها طبقة " الكومبرادور" فى الوطن العربى مدعوة إلى الانخراط الفعلى فى نضالات الجماهير الشعبية بغية رد الاعتبار للعنصر العربى.
وهكذا يوضح المؤلف موقف الزنجى / الأسود من الإنسان فى علاقته بوطنه وبالآخر، وذلك من خلال مشهد بليغ ومؤثر دار فيه الحوار بين زنجى وزنجية، وكأنهما يتيمان الوضع الذى يوجد عليه، ليس فقط الوطن العربى بل العالم بأكمله. وقد قدم لنا هذا المشهد انطلاقاً من مجموعة من الأسئلة المتلاحقة التى تحاول أن تكشف عن الوضع السائد المتردى رؤية كل من الزنجى والزنجية للعالم، تقول الزنجية : " لا العنف يستخدمه الضعفاء ويخافه الخاملون.. نحن لسنا هكذا.. أما نضع كلمتنا فى مسرح الزنوج ولا يسمعها إلا من يعانى منها.. والظالم يسمعها أخباراً.. لنخرج فى الشوارع.. ولنغلق الطرقات ونخرج عراة.. وليقتلونا أو نموت على صدر الشوارعه.. جوعى.. وعراه.. عار على جبين بلدنا العظيم الكبيرة.."( ) هكذا يكون الصوت والموقف الذى تنطلق منه الزنجية إلى جانب الضعفاء الآخرين فى العالم، يقوى فيهم الحماس والنضال ويبعث فيهم نشوة الحلم والانتصار بالفجر القادم. لكن الوضع الذى يعانى منه الإنسان العربى الحر فى مصر يبقى على ما هو عليه ما دامت العقلية المتحجرة هى التى تحكم البلد، هذه العقلية التى ركبها الاستعمار بالشكل الذى يجعل منها أداة يسخرها كما يريد لمصالحه الخاصة.
فرغم الحوارات ورغم الدفاع عن النفس والكرامة الإنسانية، فإن شخصية العمدة تغضرب المصلوب حتى الموت على مرأى ومسمع من الخليفة والمجموعة المتآمرة. وعقليته المتحجرة والمتخلفة توهمه بأن الأمر لن يشيع ولا يجب أن يشاع ولذلك يؤكد على الحاضرين بقوله : " ماحدش يقول مين اللى قتله.. إزاى مات".( )
لكن الوضع الانفجارى الذى وصلت إليه الساحة بسبب تردى الأوضاع وسوء أحوال الرعية ترك الأمر على ما هو عليه فلم يستطع الجيل الجديد الممثل فى الطفل أن يقاوم وأن يتحدى، بل انسحب عبر كيس هلامى جامد لكى يستنجد الخلاص ويعبر عن مواقفه الرافض لكل أشكال القهر والاضطهاد ولو بطريقة سلبية.
من هذا المنطلق نجد أن السيد حافظ يكشف عبر بنية النص عدة قضايا وإشكالات كانت مطروحة على الساعة العربية ولازالت.. إنها قضية الظلم والاستبداد التى تتجدر فى عمق التاريخ.. إن السيد حافظ حافظ لا يكتفى بوصف عنف السلطة والممارسات القمعية فى علاقتها بالانسان المقهور فى شرط تاريخ معين ، بل يخوض فى أعماق التجربة الديمقراطية لفك ألغازها ومحاورة البنية العميقة القائمة على الثنائية الضد الأنا فى مقابل الجماعة الأمر فى مقابل التنفيذ.( )
3- مقاربة النص السينوغرافى :
بعد قراءة النص المسرحى، ننتقل الآن إلى استخراج بعض تقنيات النص السينوغرافى، التى سوف تساعدناعلى فهم واكتمال الفرجة المسرحية. من هذه التقنيات نذكر ما يلى :
- الإخراج :
لعب الإخراج فى المسرحية دوراً هاماً فى إثراء البعد التجريبى الذى تضمنه خطاب المؤلف (الكاتب) عبر تثنيات متعددة يمكن حصرها فى النقاط التالية :
• إعطاء فكرة أساسية تختزل النص الأصلى من خلال النص المعلق.
• إلغاء الستار الفاصل بين الممثلين والجمهور من بداية العرض المسرحى حتى نهايته، ليتابع الجمهور (المتلقى) المشاهد والمناظر حتى نهاية المسرحية حيث يسدل الستار.
• اعتماد مقطوعات غنائية جماعية مصحوبة بالرقص لمقاطعة جريان الأحداث بتلخيصها والتعليق عليها.
• تقسيم الركح المسرحى (خشبة المسرح) إلى ثلاث مستويات، كل جزء مقسم إلى عدة مستويات (اليمين ، اليساء، المنتصف).
• تكثيف الرمز وتكسير الإيهام المسرحى، قصد تذويب الممثل فى الجمهور والدفع بهذا الأخير إلى المشاركة بغية خلق جسر تواصل بين الجمهور وخشبة المسرح.
التمثيل :
عمل ممثلون على تلوين أدائهم بأساليب متنوعة ومختلفة منها (استعمال اللغة الفصحى، واللغة العامية (المصرية) استعمال الرقص والغناء، تكسير الجدار الوهمى ، تغيير الملابس...)
وقد اتخذ الأداء عندهم ثلاث مستويات :
1- مستوى سردى روائى يظهر فى البداية ويتحلى هذا المستوى فى المسرح الملحمى عند بروتولد بريشت.
2- مستوى تعبيرى ذو بعد رمزى يتصل بالشخصيات من حيث ملابسها وشكلها وطريقة أدائها.
3- مستوى حوارى يتجسد فى الحوار (بين المفكر والطفل وبين الزنجى والزنجية..) ويسجل غياب المونولوج والحوار الداخلى.
ومسألة التجريب فى المسرح العربى
السيد حافظ : نموذجاً من خلال مسرحية " طفل وقوقع وقزح "
بقلم : حميد حقون
قراءة تحليلية لمسرحية " طفل وقوقع وقزج " للسيد حافظ :
1- تجربة السيد حافظ : من هو السيد حافظ ؟
السيد حافظ من الشخصيات المسرحية البارزة فى العالم العربى الذى غطت عليه وسائل الاعلام فأقامت عليه حفراً، فلم يستطع أن يبث كلماته فى شراح مجتمعنا الأدبى. وانطلاقاً من هذا التضارب الذى يحدق بالثقافة والمعرفة الإنسانية لم ينتمكن من الحصول على ما يشفى الغليل من تجربته الممتعة والهادفة، ولم نتمكن من معرفة شخصيته كرجل وكمبدع وكفنان ينتمى إلى جيل النكسة، فقد ولد سنة 1948م بالاسكندرية، التحق بمركز الشباب على يد الفنان الكبير محمد فهمى متخطياً مرحلة جديدة فى حياته، يقول السيد حافظ عن هذه المرحلة " وهناك تعلمت أين أجد النصوص المسرحية وتاريخ المسرح وقرأت المسرح الاجتماعى لتوفيق الحكيم وشاهدت كل مسرحياته هيئة للمسرح وتعرفت على شكسبير ويوربيديس واسخيلوس والمسرح العالمى والمسرح الأمريكى والسوفياتى ، كان وقتى كله موزعاً بين القراءة والتمثيل والتثقيف الذاتى ونسخت فى العام الأول ملخصاً لـ (145) مسرحية عالمية ومائتى مسرحية عربية، وتعرفت على سعد الدين وهبه، ونعمان عاشور وميخائيل رومان وشوقى عبد الحكيم ويوسف ادريس وعبد الرحمن الشرقاوى والفريد فرج( ) هذه المرحلة كانت جديدة وإيجابية فى بلورة فكر السيد حافظ وتعميقه، فقد وقف كعلامة بارزة ونقطة وفاءه فى وسط الميدان المسرح وصاح بأعلى صوت " لا مسرح بدون تجريب" يقول عبد الله هاشم متحدثاً عن تجربة السيد حافظ : " إنه بدل أن نقيم التهليل لكل مستورد أفلا أجدى بنا أن نهتم بكاتب مصرى لا يقل جودة وتجديداً وثورة وغضباً الأوضاع المسرحية التى تحيط بالعالم العربى خصوصاً وأن مسرحياته نتاج طبيعى لـ(67) ومحاولة تجاوزها والثورة ضد الظروف التى خلفتها ومحاولة الاستمرار وقهر الظروف السلبية التى قدمت بعد ذلك لخلق إنسان عربى جديد قادر على الثورة والنجاح ضد أعتى الظروف يصادفها الوطن العربى". ( )
لقد كانت نكسة (67) من بين المؤثرات العامة التى أثرت وبشكل قوى على فكر السيد حافظ، الذى ثار على كل أشكال الظلم والاستبداد والقهر الذى كان يعانى منه العالم العربى أو " بعبارة أخرى أن هذه الفترة من التجريب والتلمس قد اقنعت السيد حافظ بضرورة زرع جذور أكثر عمقاً وبوضع حد لجمود هذا المجتمع ومحاولة تلخيصه من الاستيلاب إلى الايجاب أى التلخص من التبعية إلى مرحلة التأطير والخصوصية وقد كانت هذه الخطوة عنده أساسية وممهدة للوصول إلى كم الإشكالية ومحاولة خلخلتها وتحليلها من أجل تحقيق تحول جذرى فى بنية هذا المجتمع وتفكيكه ميكانيزاته العلائقية على ضوء، معطيات الحاضر والمستقبل".( )
فالسيد حافظ كاتب مسرحى سياسى ناضج جداً فى لغته الدرامية التى يمزج فيها بين النثر والشعر ومتمرداً على الأصول التقليدية البالية،/ فهو فنان ومثقف ومفكر وفيلسوف إن صح القول استفاد من دراسته العلمية فى الفلسفة والاجتماع وعلم النفس وحاول توظيفها فى دراسة حياة الأفراد وأصولهم الاجتماعية، حيث نجد معظم كتاباته تدور حول الإنسان المعاصر... الإنسان الكادح.. وعن مختلف الضغوطات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية الملقاة عليه، لذلك نجده فى كل مسرحية من مسرحياته يبذل مجهوداً جباراً وفعلياً فى البحث والكشف والتنقيب عن معاناة الإنسان المعاصر.
كتب السيد حافظ العديد من المسرحيات نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر (علمونا أن نموت وتعلمنا أن نحيا – مدينة الزعفران – أميرة السينما – حكاية الفلاح عبد المطيع – ظهور واختفاء أبى ذر الغفارى...) تتميز عناوين مسرحياته بالغرابة والغموض نتيجة رؤيته المأسوية للعالم، كما تتميز كتابته باسلوب واضح وبسيط. يقول عن مسرح السيد حافظ اسماعيل الامبابى : " تعد مسرحيات السيد حافظ من العالم البارزة فى أدبنا الحديث ذلك أنها تقف وحدها فى قمة الريادة فى ميدان المسرح التجريبى فى الساحة العربية. والسيد حافظ ليس مجرد كاتب مسرحى يحكى لنا حدثاً فى قالب درامى مسحرى، بل يعتبر بانتاجه الفكرى الناضج خالقاً مبدعاً.. له عالمه الخاص وفلسفته وهو يغوص فى أعماق النفس الانسانية محاولاً الكشف والوصول إلى أرض المثالية التى فقدناها فى القرن العشرين محاولاً الكشف عن كل ما يقابله إنسان ذلك العمر من صراعات مادية ونفسية وحضارية" ( ) إن مسرح السيد حافظ مسرح ثورى بامتياز يشعر سلاحه فى وجه كل أدوات القهر والاضطهاد والحرمان التى تحاول أن تنال أو تحطم من كرامة وانسانية الإنسان داخل هذا المجتمع.
2- محاولة قراءة النص المسرحى :
يحاول المؤلف أن يعلن من خلال النص المعلق، الذى يفصل بين العنوان كبوابة كبيرة أو فكرة أساسية تختزل النص الأصلى / المسرحى (طفل وقوقع وقزح) والمسرحية كموضوع للعرف والمشاهدة داخل زمان ومكان محددين من طرف المؤلف. أن ا لزمن العربى زمان سديمى بحيث يتداخل فيه النيئ بالمطبوخ والأصيل بالدخيل وهذا واضح من خلال مجموعة من التعابير المتباعدة على مستوى المدلول، وما يجمع بينها فى الحقيقة هو التشتت الذى يطبعها، يقول المؤلف وأنا وأنت – أنا وأنت – أنا أنت أنا أنت .. أنت أنا..."( ) كل هذه التعابير تبين بوضوح أن الزمن والعقل العربى يعرف تشويشاً يكاد يفضى إلى التمزق والانفلات من الهوية. والزمان الذى يشير إليه الكاتب ويعلن عنه صراحة هو الذى يبتدئ بالطفولة البشرية حيث التماسك بين أعضاء الشرائح الاجتماعية والقرن العشرين والممثل للزمن الفردى الذى يعتمد فيه الفرد على ذاته أى زمن التقنية ، ومن هنا سوف يكون الجمع بين زمانين متناقضين بحيث يضيع بينهما الأمل والرغبة فى التكون. والمقارنة التى نطمح بواسطتها الولوج إلى غياهب النص وسراديبه تسير بمحاذاة البحث عن الإرشادات المسرحية لأنها فيما نرى بمثابة المفتاح الذى يجعلنا على الطريق الأصوب فى معالجة النص المسرحى والتقرب من أعماقه وخباياه.
ومسرحية " الطفل وقوقع وقزح" لما حبها السيد حافظ هى التى نود التعامل معها، رغم أن للمسرحى (المؤلف) مجموعة من المسرحيات الأخرى وغيرها، ويأتى اختيارنا لهذه المسرحية بالذات هو ما تزخر به من ارشادات مسرحية – موضوع بحثنا – وكذلك اعتبارها تجربة متميزة فى المسرح العربى عامة والمسرح المصرى خاصة.
ومما يلفت الانتباه منذ البداية فى نصوص السيد حافظ هو احتواؤها على مقدمة تقنية تساعد فى إخراج النص حيث يختزل فيها كل الحيثيات التى يسير عليها الركح من بداية المسرحية حتى نهايتها، فيصف من خلالها الديكور بحيث يكون الركح منظم بطريقة نهائية لا يدخل عليه تغيير حتى نهاية المسرح ، وكذا توظيفه للإنارة التى تطبع بالاختلاف والتنوع بين الحمراء والصفراء والزرقاء.. وكلها تؤدى وظيفة التركيز على مشاهد معينة أو شخصيات أو أمكنة بعينها، ولا يقتصر على وصفه القضايا الغير المتحركة فى المسرحية بل يتعداها إلى وصف الشخصيات كما تكتسى هذه المقدمة التقنية وصفاً للملابس التى ترتديها هذه الشخصيات، والملابس ليست عملية مجانية بل أن دورها جسد دقيق ومحدد، فملابس الراهب ليست هى ملابس الفقيه ولا ملابس الغنى كملابس الفقير... وطبيعة الشخصيات التى تلعب الأدوار الرئيسية فى هذه المسرحية تختلف ملابس بعضها عن بعض. كما يشفع حديثه عن وصف الموسيقى التى تسود المسرحية والتى قال عنها بأنها صاخبة وأجنبية.
ومن خلال هذه المقدمة يتبين بوضوح أن السيد حافظ حينما يكتب يلتزم نوعية خاصة من الكتابة تربط ميكانيزم الحقل الثقافى بالمناخ السياسى والخلفيات الإيديولوجية السائدة فى مصر. فكتاباته بصفة عامة هى تجلية لنوعية العلائق القائمة بين أفراد المجتمع ومحاولة إعادة رسم حركة تغييرية لبنية هذا المجتمع وذلك بانتقاد عفواته ومحاولة تحطيم القوالب والسلوكيات البالية ... إنها بعبارة أخرى لحظة الرفض لكل تخاذل وتقاعس ودعوة إلى تطوير الحاضر والاستفادة من ثغرات الماضى من أجل دخول المستقبل، وهذا ما يجعل رؤية السيد حافظ متسمة بالعمق والتحدى لكونها تنظر إلى التاريخ فى حركته الديناميكية. ( )
يقول محمد مسكين فى هذا الصدد : " وبهذا تميز فى الكتابة المسرحية بين نوع على تكريس اللحظة وحصر التاريخ وهذه الكتابة تحكم على نفسها بالهامشية والاغتراب أى أنها تقصى ذاتها من التاريخ. أما النوع الثانى فهو الكتابة الساعية إلى التغيير وهى الكتابة المستقبلية المؤمنة بالتطور والتجاوز والتى تضمن لنفسها المشروعية التاريخية" ( )
إن مسرح السيد حافظ وثيقة من أهم سيماتها الرؤية التاريخية الموضحة على ضوء تحقيق رؤية شمولية متكاملة.
إن فى كل عمل إبداعى لابد من موضوعه تكون هى بؤرة التوتر التى ينطلق من خلالها المبدع ليلج إلى العالم الواقعى الذى يبغى التعامل معه فيؤثر فيه أو يتأثر به. والعمل الإبداعى من هذا المنطلق يكون فى اتصال رسمى وثابت مع الواقع حيث تتم المحاكاة كما يفسرها ارسطو، فالمبدع بهذا الاعتبار يحاكى أفعال الناس وليس الطبيعة بحذافيرها. ومن جهته فإن السيد حافظ حاول ومن خلال تجاربه الرائدة أن يدخل فى حوار جاد ومثمر مع المجتمع ليكشف همومه، آماله ، وآلامه... ويكون نموذجنا فى البحث التجربة رقم 7/1972 المعنونة بـ"طفل وقوقع وقزح".
هذه المسرحية التى تكون لب عمل السيد حافظ إذ كل الملامح الإنسانية التىتكلم عنها توجد فى هذه المسرحية بدون تحفظ. فقد اهتم فى هذه المسرحية بهموم الإنسان وإحباطاته وما يكابده من مشاق فى عالم الزيف والتهور وسلب الحقوق والحريات، كما تطلعنا المسرحية – موضوع الدرس – عن نوع الخطابات والمواقف التى تصدر عنها بعض الشرائح الاجتماعية. فالخطابات التى تسيج المستعمر وأدنابه تختلف تمام الاختلاف عن الخطابات التى يتحدث بها أهل البلد المقهورين منهم والمناضلين.
ثم أن المواقف تختلف باختلاف التوجهات لأن نوعية الخطاب تحدد نوعية الإيديولوجية، وعندما تظهر هذه الخاصية على الشخصيات المكونة لعالم المحكى.. فإن ذلك من سمات المؤلف البارع ، والذى يدخل ضمن ما أسماه " ميخائيل باختين " بالحوارية، فالبطل فى هذا النموذج من الحكى يتصرف بكامل الحرية بحيث لا يتقيد بوعى المؤلف ولا بأفكاره، بل يكون له وعيه الخاص وموقفه الخاص. أمام الموضوعة الرئيسية التى يحاول السيد حافظ أن يبلورها من خلال مسرحيته هى علاقة المناضل بالطبقة التى تسير فى ركب المستعمر الغاشم، وكذا رؤيته إلى الأرض ودفاعه المستميت عنها، ومحاولة رأب الصدع والانشقاق التى تحاول أن تحدث الطبقة المهيمنة فى قلوب الدهماء وعامة الناس.
ولكى يكون تحليلنا بعيداً عن السديمية والهلامية يبقى من اللازم أن نرصد بعض المقاطع من داخل المسرحية التى تبرز نموذج الوعى الذى يصدر عن كل مناضل مناضل وخاصة شخصية البطل / المصلوبة. وأدناب الاستعمار وبقية الشخصيات المدوخ بها والتى تمثل الفئات ذات الوعى الضحل، والتى استطاع المستعمر استقطابها وإدخالها فى برنامجه الاستعمارى. وحتى تكون هذه المحاولة التحليلية أكثر نضجاً وفعالية، نقسم فئات الشخصيات / إلى مجموعتين: المجموعة الأولى التى تحمل هموم الأمة وبالتالى الأرض التى يمثلها المجموعة الأولى التى تحمل هموم الأمة وبالتالى الأرض التى يمثلها بصفة خاصة البطل الذى هو المطلوب، حيث يسير فى ركبه كل من الفيلسوف والطفل والزنجية والزنجى والفتاة مارى....
أما الفئة الثانية فهى الشخصيات الأجنبية وكذا أهل البلد السائرون فى منحاها، ومنهم شيخ البلد وشيخ الغفر والعمدة... وكل الشخصيات المكونة للمجموعة (1، 2، 3) بما فيهم الرجال والنساء. إن أبطال السيد حافظ ليسوا أبطالاً إشكاليين بل هم رؤى مستقبلية للأمة العربية بصفة عامة ومن هنا يمكن القول أن السيد حافظ كان رائياً كبيراً متحكماً ومعبراً عن الأحداث التى يعيشها العالم العربى برمته " عندما نسأل عن أى شئ يبحث أبطال السيد حافظ فإن الجواب يأتينا كالتالى : أنهم يبحثون عن الممكن وليس عن المحال، يبحثون عن مدينة يغيب فيها (ممارسة القهر على المواطن وطمس كيانه ومسخه بتمريره على أجهزة القهر والعجز والتخلف).( ) يبدأ الحوار الجاد تدخلت مارى لتعلن أنه إذا دخل المقنعون يجب على باتريس أن يكون أكثر هدوءاً حتى لا يصدر فى الليلة ويجب أن تكون أكثر هدوءاً لتكن عاقلاً يجب ان نتحدث بهدوء.. " أنت هذه الليلة سخيف لن تموت آه لو احتوى العالم ما حتويه".( )
فى هذه الكلمات من طرف مارى وفرح تام وثابت على ما يمارسه المقنعون " فأجابوه فوراً" أهلاً ولدنا باتريس".( ) وصيغة الخطاب الذى واجه المقنعون بها باتريس تبين بما لا يدع مجالاً للشك أنهم راضون عليه تمام الرضى، لأنه جاء فى صفهم، وكل من عارضهم وخرج عن طاعتهم فإنهم يتحيلون اصطناع الفرض لقتله أو ذبحه أو شنقه لأن منهم المفتى ومنهم الذى ينفذ الحكم... وليس هناك من يعارض أو يجادل أو يتكلم وشخصية المصلوب / البطل دليل واضح على ذلك. فهذه الشخصية هى التى تمثل قطب الرحى والتى من خلالها يظهر صوت المؤلف بجلاء واضح وكذا رؤيته الشمولية للعامل، فمن خلال المصلوب يتبين أن السيد حافظ رجل يجمع بين الرؤية السياسية التحررية من أصفاد الاستغلال وبراثين الاستعمار، وبين الرؤية الإسلامية التى تكون وعى الأمة العربية والإسلامية كافة، ولولا هذه الرؤية لما جاء لنا بشخصيات مثل الواعظ التى تمثل الوعى الإسلامى وتعبر باسمه.
وجاء بكل هذا لأنه يعرف أن الشعب المصرى والعربى كافة شعب مسلم مسالم لا يمكن أن يرضى إلا بما يقضى به الإسلام. والى جانب هذا فإن شخصية الواعد فيها دليل واضح على الإيهام بالواقعية الذى ينشده كل عمل تخييل جاد وهادف. فهكذا نستطيع أن نقول بأن مسرحية " طفل وقوع وقزح" تدخل فى باب الأدب الواقعى وليس فى السريالى أو الرمزى اللذين يبعدان عن الواقعية بدرجتين. فشخصية المصلوب هى التى تريد أن ترد عن ادعاءاته المقنعين وكل الذين يسيرون فى ركبهم. وشخصية الواعظ هو الأول الذى يتحمل مسئولية القاء الظلم على المصلوب لكى يدينه أمام الملأ فينفذ فيه الحكم بصبغة شرعية لا يستطيع أحد بعده أن يستأنف فى الحكم ليدافع عليه، لأن الحكم كما يدعون أت من الشرع، وإذا جاء قضاء الله فلا مرد له، فهم – أى المقنعون – يستطيعون أن يدينوا من شاؤوا ويبرؤوا من شاؤوا يقول الواعظ " الحكاية دى ما يتسكتش عليها أبداً واللى ربنا قايلوا حانفذه عليه وعلينا"( ) فى خطاب الواعظ ثبات ويقينية تدعوا مستمعة إلى الإيمان بما يقوله بدرجة لا متناهية بحيث يظهر من خلاله العدل التام. وبمجرد أن يرد عليه المصلوب لأنه يعرف الينبوع الذى يصدر منه يتهمه بأخطر كلمة عندما فى مقدستنا العربية وهى "الكفر" ، فهذه الكلمة تحكم على ما حبها بالقتل طبقاً للحديث النبوى الذى يقول " اقتلوا التارك لدينه" فهى إدانة تامة لكل من خرج عن المنظومة العربية الإسلامية. وهكذا فاتهام المصلوب الكفر، يعنى قتله علناً وإدانته جاءت من كونه لم يدخل فى المسلسل الاستعمارى ولم يؤمن بطروحاته بل ظل متشبثاً بأرضه يحبها إلى حد الهوس ويدافع عنها رغم أنه يعرف أن ذلك يكلفه حياته، ولكى يؤكد لمن يريد أن يثنيه عن قضيته يقول : " الأن مكنش فيه حد يقدر يحوشها عنى ولا يحوشنى عنها".( ) هكذا يثبته فى أذهان المتآمرين على الأرض ومن فى صفهم أنه لم يتخل عن الأرض مهما بلغت التضحية. والظاهر أن القوة المعادية مؤمنة بصلابة رأيه وأنها فقط تصطنع الأكاذيب لكى ترده عن مبتغاه، وخاصة عند اعترافها التام والملحوظ بنسبة الأرض التى صاحبها. وذلك فى شكل رمزى حيث يقول الواعظ : " احنا غلطانين اللى جوزناها لك".( ) والارتكاز على الرمز من بين المقومات التخيلية ا لتى يرتكز عليها المؤلف ليبنى عالمه التخيلى، وهو ظاهر فى الخطابات الساحرة وكذا فى التعابير التى تستعمل فى غير محلها لكى يحيلنا بلغة إيحائية شعرية على فحوى ما يرمى إليه. ولكى يثبت عدم التمركز حول الذات وأن العنصر العربى هو الذى من حقه أن يدافع عن الأرض أضاف عنصر الزنجى والزنجية ليعلن بطريقة علنية أن المسألة هى المشاركة المكثفة والفعالة فى القضية (قضية الشعب) ، ولا يؤثر فى ذلك لا اللون ولا العرف ، وإنما الأصل هو الرؤية وتوحدها، فرغم كون الزنجى والزنجية ليسا من مصر إلا أنهما يناضلان بالشكل الذى يناضل به أهل البلد المقهورين وذلك انطلاقاً من القناعات الرؤيوية.
إن المؤلف يريد أن يحيلنا على قضية أشد تمركزاً فى الوعى الإنسانى التى هى الأممية أو الإنسانية مستشهداً ببعض الثورات العالمية تقول مارى لاوس... كوريا .. فيتنام.. شيلى.. بوليفيا.. كمبوديا.. الثورة هناك معرضة للطعن دائماً وانتهت الثورة وفلسطين محتلة.. والعرب متخاصمون والحال فى سوء والاتحاد السوفيتى يباع .. والزنوج يبكون."( ) كل هذا يبين بما لا يدع مجالاً للشك أن الوعى التحررى فى البلدان المستعمرة أو المستهدفة من طرفه القوى الاستعمارية وأدنابها طبقة " الكومبرادور" فى الوطن العربى مدعوة إلى الانخراط الفعلى فى نضالات الجماهير الشعبية بغية رد الاعتبار للعنصر العربى.
وهكذا يوضح المؤلف موقف الزنجى / الأسود من الإنسان فى علاقته بوطنه وبالآخر، وذلك من خلال مشهد بليغ ومؤثر دار فيه الحوار بين زنجى وزنجية، وكأنهما يتيمان الوضع الذى يوجد عليه، ليس فقط الوطن العربى بل العالم بأكمله. وقد قدم لنا هذا المشهد انطلاقاً من مجموعة من الأسئلة المتلاحقة التى تحاول أن تكشف عن الوضع السائد المتردى رؤية كل من الزنجى والزنجية للعالم، تقول الزنجية : " لا العنف يستخدمه الضعفاء ويخافه الخاملون.. نحن لسنا هكذا.. أما نضع كلمتنا فى مسرح الزنوج ولا يسمعها إلا من يعانى منها.. والظالم يسمعها أخباراً.. لنخرج فى الشوارع.. ولنغلق الطرقات ونخرج عراة.. وليقتلونا أو نموت على صدر الشوارعه.. جوعى.. وعراه.. عار على جبين بلدنا العظيم الكبيرة.."( ) هكذا يكون الصوت والموقف الذى تنطلق منه الزنجية إلى جانب الضعفاء الآخرين فى العالم، يقوى فيهم الحماس والنضال ويبعث فيهم نشوة الحلم والانتصار بالفجر القادم. لكن الوضع الذى يعانى منه الإنسان العربى الحر فى مصر يبقى على ما هو عليه ما دامت العقلية المتحجرة هى التى تحكم البلد، هذه العقلية التى ركبها الاستعمار بالشكل الذى يجعل منها أداة يسخرها كما يريد لمصالحه الخاصة.
فرغم الحوارات ورغم الدفاع عن النفس والكرامة الإنسانية، فإن شخصية العمدة تغضرب المصلوب حتى الموت على مرأى ومسمع من الخليفة والمجموعة المتآمرة. وعقليته المتحجرة والمتخلفة توهمه بأن الأمر لن يشيع ولا يجب أن يشاع ولذلك يؤكد على الحاضرين بقوله : " ماحدش يقول مين اللى قتله.. إزاى مات".( )
لكن الوضع الانفجارى الذى وصلت إليه الساحة بسبب تردى الأوضاع وسوء أحوال الرعية ترك الأمر على ما هو عليه فلم يستطع الجيل الجديد الممثل فى الطفل أن يقاوم وأن يتحدى، بل انسحب عبر كيس هلامى جامد لكى يستنجد الخلاص ويعبر عن مواقفه الرافض لكل أشكال القهر والاضطهاد ولو بطريقة سلبية.
من هذا المنطلق نجد أن السيد حافظ يكشف عبر بنية النص عدة قضايا وإشكالات كانت مطروحة على الساعة العربية ولازالت.. إنها قضية الظلم والاستبداد التى تتجدر فى عمق التاريخ.. إن السيد حافظ حافظ لا يكتفى بوصف عنف السلطة والممارسات القمعية فى علاقتها بالانسان المقهور فى شرط تاريخ معين ، بل يخوض فى أعماق التجربة الديمقراطية لفك ألغازها ومحاورة البنية العميقة القائمة على الثنائية الضد الأنا فى مقابل الجماعة الأمر فى مقابل التنفيذ.( )
3- مقاربة النص السينوغرافى :
بعد قراءة النص المسرحى، ننتقل الآن إلى استخراج بعض تقنيات النص السينوغرافى، التى سوف تساعدناعلى فهم واكتمال الفرجة المسرحية. من هذه التقنيات نذكر ما يلى :
- الإخراج :
لعب الإخراج فى المسرحية دوراً هاماً فى إثراء البعد التجريبى الذى تضمنه خطاب المؤلف (الكاتب) عبر تثنيات متعددة يمكن حصرها فى النقاط التالية :
• إعطاء فكرة أساسية تختزل النص الأصلى من خلال النص المعلق.
• إلغاء الستار الفاصل بين الممثلين والجمهور من بداية العرض المسرحى حتى نهايته، ليتابع الجمهور (المتلقى) المشاهد والمناظر حتى نهاية المسرحية حيث يسدل الستار.
• اعتماد مقطوعات غنائية جماعية مصحوبة بالرقص لمقاطعة جريان الأحداث بتلخيصها والتعليق عليها.
• تقسيم الركح المسرحى (خشبة المسرح) إلى ثلاث مستويات، كل جزء مقسم إلى عدة مستويات (اليمين ، اليساء، المنتصف).
• تكثيف الرمز وتكسير الإيهام المسرحى، قصد تذويب الممثل فى الجمهور والدفع بهذا الأخير إلى المشاركة بغية خلق جسر تواصل بين الجمهور وخشبة المسرح.
التمثيل :
عمل ممثلون على تلوين أدائهم بأساليب متنوعة ومختلفة منها (استعمال اللغة الفصحى، واللغة العامية (المصرية) استعمال الرقص والغناء، تكسير الجدار الوهمى ، تغيير الملابس...)
وقد اتخذ الأداء عندهم ثلاث مستويات :
1- مستوى سردى روائى يظهر فى البداية ويتحلى هذا المستوى فى المسرح الملحمى عند بروتولد بريشت.
2- مستوى تعبيرى ذو بعد رمزى يتصل بالشخصيات من حيث ملابسها وشكلها وطريقة أدائها.
3- مستوى حوارى يتجسد فى الحوار (بين المفكر والطفل وبين الزنجى والزنجية..) ويسجل غياب المونولوج والحوار الداخلى.
0 التعليقات:
إرسال تعليق