نسكافيه
د. وفاء كمالو
سألوه..
هل قرأت تاريخ العشق؟؟
قال.. نعم .. في عينيها.. وشربت كل كؤوس الهوى من شفتيها؟ وطفت كل قارات العالم بين نهديها.
كان وحيد ولمى في الكويت.. في السرير لم يكن هناك إلا الشهوة والحب، كأس من اللوعة وكأس من الهوى وكؤوس من نبيذ أحمر.
لم يكن يدري أنه اللقاء الأخير، وأن أحلامه ستسقط فجأة..
وشاية مصرية فلسطينية وقرار من رئيس التحرير بإنهاء عمله بالمؤسسة ومغادرة البلاد فوراً..
في المطار وقف وحيد أمامه "لـمى" .. يبحث في عينيها عن حبه وموسيقى روحه.. عن سيمفونية كان قد عزفها على ظهرها ونهديها.. فتش في جسدها وخصرها.. شفتيها فخذيها كتفيها.. ولم يجد بصماته.. دخل دمها يفتش الخلايا التي كتب فيها أحبك.. فلم يجد.. لم يجد..
نظر لشفتيها..
بحث عن رشفة نسكافيه.. عن رائحة عطره.. ولم يجد..
فهل كان حبه خطيئة..؟؟ هل هو ذنب من السماء..؟؟
أعطته وردة.. وقالت ستجد واحدة أفضل مني تحبها.. وتعشقها..
دخل وحيد الطائرة وقلبه ينزف والعالم أمامه نار.. وصل إلى القاهرة.. وجدها حزينة أو نائمة.. ذهب إلى البيت ونام..
استيقظ في الصباح.. شرب النسكافيه.. أمسك بالقلم.. نظر حوله.. أمسك بالصحف الصباحية فوجدها كلها تتحدث بالعبرية.. رفع سماعة التليفون .. سمع شالوم.. اتجه إلى مكتبته فوجد كل الكتب عبرية.. فتح النافذة وصرخ.. أنا فين؟؟
قال .. سأكتب رسالة إلى الله.. فوجد نفسه يكتب بالعبرية..
قال يا إلهي.. أنا عربي.. نزل إلى الناس فوجد أشكالاً غريبة..
قالوا.. ربما نمت سنيناً عدداً.. العرب انتهوا من زمان..
قال.. كم نمت؟
قالوا.. ثلاث مائة وازدادوا تسعاً.. بكيت ..
نزلت دموعي على الأرض..
نزلت دموعي على الأرض تكتب..
كنت عربياً...
هكذا تكلم السيد حافظ...
هكذا كتب نهاية تجربته الإبداعية الكبرى، التي تثير الجدل والتساؤلات حول هذا الجمال الشرس الأخاذ، الذي يعانق دهشة البوح وبكارة العشق، وحرارة المعرفة.. تلك الدهشة التي تضعنا أمام لحظة فارقة في تاريخ الإبداع، وفي حياة المؤلف الذي يعيش ميلاداً جديداً صاخباً لحالة روائية استثنائية، خرجت من أسر السائد والكائن، واتجهت إلى آفاق مغايرة لتعلن العصيان والتمرد على وجود وحشي.. غاب عنه المعنى والهدف والدلالات واستلب روح الإنسان، ليظل وحيداً أمام فراغ الكون الهائل.. وذاكرة الجسد، في تاريخ الحب وفلسفة الصمت وعذابات الإنسان.. وكان المؤلف مؤرقاً بجمرات عشق ناري لليقين والحب والحرية.. فجاءت تساؤلاته كموجات النشوى وهمسات الجنون واندفاعات الرغبة ومجون السياسة وخلاعة الحقيقة.. تلك الحقيقة الصادمة الآثمة المريرة، التي اخترقت المستقبل، وقرأت المائي وعانقت الحاضر، لتضعنا أمام معادلات السقوط و إيقاعات الغياب.
تمتلك " نسكافيه" قدراً هائلاً من الوهج والمشاغبة.., الحركة البريق، الحزن والجمال والعذاب., فهي قطعة رفيعة المستوى تترك في الأعماق أثراً عميقاً يظل باقياً.. لا يزول.. ورغم أن هذا الإنجاز الإبداعي الضخم هو التجربة الروائية الأولى للمؤلف المثقف السيد حافظ.. إلا أن حالة الجمال الأثير. لم تأت من فراغ.. فهو قامة فنية شامخة، من كبار مؤلفي مصر الذين أثروا الواقع المسرحي عبر إنتاج غزير وكتابة مختلفة، رشيقة ثائرة مدهشة متمردة مسكونة بعشق الوطن والحرية.. وباحثة عن مصر. وعن إنسانية الإنسان.. لذلك لم تكن الرواية هي كتابة على أوراق خجل التجربة الأولى، لكنها كتابة على أوتار الوعي والخبرة والاحتراف، اتخذت مسارها التلقائي نحو تيار الإبداع المدهش الذي يعزف على أعصاب عارية، ويشاغب الصمت، ويبوح بمعنى المعنى.
تشير إيقاعات الحضور والوهج إلى أن فعل الكتابة كان قراراً بامتلاك أقصى أشكال الحرية، حيث تجاوز المؤلف جمود التابوهات المغلقة، واشتبك بحرارة مع السياسة والجنس والاقتصاد والمجتمع، لنصبح أمام وجود حي يمتلك شرعية انتمائية للفن الإنساني الجميل. وفي هذا السياق نجد أن مجتمعاتنا العربية لا تزال تتباعد عن جدل الحوار، ولغة العقل وحرية الكتاب،ـ وتنجذب بقوة إلى أحادية الصوت وتسلط التابوهات، لذلك تأتي الكتابة عقيمة مسكونة بهوس الخضوع والرضوخ، تغيب عنها قوة الصوت لتبقى الأصداء الشاحبة المتكررة، تلك الحالة التي تجاوزها السيد حافظ، عندما قبض على جمرات الفن النارية، واتجه إلى يقين عارم بأن فعل الكتابة الحر المتجدد يتمثل في تحريره الجمالي من المؤسسي، وتأصيله باعتباره فعل احتجاج دائم ضد كل أشكال التسلط، الذي يهدد الفن والحرية.. فالإبداع هو حرية مواجهة العالم دون السقوط في هوة المصنوع سلفاً.
هكذا كان النسكافيه قانونه الخاص، وإطاره المرجعي المتميز، حيث النضج والاختلاف، والتساؤلات التي تمزق أسرار المستقبل.
يقول المؤلف في الصفحة الأولى من الرواية..
" أحب بلادي التي أستطيع أن أضمها كل ليلة في حضني كوردة، أو وسادة، أو جملة في عبارة.. أحبها وهي على حافة المقبرة ..ملطخة بالدم والشقاء من آلاف السنين.. أنا الصامد للفساد وتردي المعرفة.. أنا القاهرة.. ومصر الخفية الطاهرة لا الظاهرة.. وأنا العروبة الخفية النادرة.. وليست العروبة الحالية..
أنا الإنسان الإبراهيمي اليهودي والمسيحي.. وأنا المسلم والبشرية الراقية.. أنا خلاصة الأديان.. وأنا الموحد بالله وبنور الأديان.. أنا الإنسان.."
في أعماق هذا الإنسان الجميل، فنان ثائر مسكون بعشق غجري مثير، معذ ب بالصمت في بلاده التي يسكت فيها كل البشر.. حتى الحجر!!، بعد أن أصبحوا كمنجات بلا وتر، وأقمار بلا ضوء نضر.. لذلك كان العشق هو شرارة الوهج والكتابة والإنجاز والرواية.., التي يهديها إلى القادم.. وهو يهديها إلى ابنته الجميلة غيداء، وإلى المؤلف الكبير "بهيج اسماعيل"، الذي طلب منه أن يسجل يوميات عشقه لعصفورة الهجر والجمال، لتكون بذرة خصبة لرواية مبهرة.
تأتى تقنيات الكتابة في نسكافيه السيد حافظ، لتشتبك مع فلسفة بيكاسو عندما أحسن أن رسم البروفيل أو صورة الوجه الكامل هو لون من الكذب والمراوغة، لذلك ظل مؤرقاً بالبحث عن تكنيك يتيح له امتلاك أكبر جزء من الحقيقة، وأخيراً رسم صوراً للوجوه تعددت فيها العيون والأفواه والأنوف.. فهل اقترب بالفعل من الحقيقة..؟؟
في هذا السياق تعددت العيون والشفاه في رواية نسكافيه.., وأصبح القارئ أمام حالة إبداع جرئ أعلن العصيان على الصمت والجمود والسكون، بحثاً عن عناق دافئ مع الإنسان والحرية، ومع الحقيقة الصادمة التي جاءت كالأحلام والكوابيس، تنساب.. تتقارب وتتباعد، تتقاطع وتتوازى.. لتبدو كلوحة سيريالية يختلط فيها الذاتي مع الموضوعي، والخاص مع العام، تنشطر فيها الشخصيات لتتحول إلى شظايا ونبضات وإيقاعات، وعبر سحر الأحلام والرؤى وغموضها المثير، وملامحها المشاغبة.. تأخذنا الحالة الروائية إلى اشتباط شديد التكثيف والدلالة مع وقائع حاضرنا العنيد حين تتضح أبعاده وأعماقه وترقص شياطينه، وتصبح اللحظات الفاصلة في تاريخ وجود الإنسان، مثاراً للجدل الثائر بين الفلسفة والتاريخ والعشق والسياسية، خلال مسارات السقوط والصعود والردة والإنكسار..
لقد كتب السيد حافظ رواية حداثية متميزة، أسقط فيها أقنعة الزيف ورسم وجوهاً تعددت فيها الشفاه والعيون..، فنحن أمام كتابة بلا مركز، يميزها التنوع والثراء والتعدد، وهي ترتبط نقدياً وجمالياً بفكرة إنهيار المركز وسقوط المرجعيات المعرفية والاجتماعية، حيث لم يعد للعمل الفني بمفهومة الحداثي بؤرة مجددة ينطلق منها، لكنه يتشكل وينمو عبر اختلاف الرؤى، وتعدد الأنماط..، فالفن بشكل عام والرواية بشكل خاص تشهد تحولاً جذرياً ينتزعها بقوة من سلطة المطلق والمجرد والواقع والمحاكاة، وصورة العالم، ويأخذها إلى خصوصية بالذات والتفاصيل اليومية، وإيقاعات الحس والمشاعر، ونبضات الجسد، وذلك في إطار تنكسر فيه مفاهيم التتابع الزمني للحكاية والسرد والحوار والأحداث، حيث تغيب الأطر والمرجعيات والسياقات، وينتفي مبدأ الوحدة العضوية، والاتساق الهارموني الناعم، لنصبح أمام جماليات شرسة مغايرة، يبعثها تفجير المعاني الأحادية، وتحويلها إلى موجات من التكوينات المختلفة، المشاغبة فكرياً ودلالياً..
اتخذت مشاغبات المؤلف مسارها عبر تقاطع السرد والحكي مع الأصوات والأحداث..، تيارات الوعي تموج بحرارة المشاعر واندفاعات الأعماق..، المفهوم التقليدي للزمن يغيب في قلب الفلاشات والصعود والهبوط والارتداد والامتداد..، ويظل صوت المؤلف باعثاً لحالة من الجدل والثراء عبر الهمسات والتنهيدات، التي ارتبطت بالنسيج الروائي، رغم انفصالها الظاهري وانتمائها لأحداث السياسة والفن والتاريخ ووقائع الثقافة والمجتمع وعذابات الناس. وفي هذا السياق تبعث التناقضات المدهشة حالة من الوعي الكاشف عن وجهات نظر نارية تتبلور عبر شراسة الجروتسك الساخر في واقع تراجيدي.. مأساوي الملامح والإيقاعات، وعلى مستوى آخر تموج الكتابة الرشيقة بالعديد من التفاصيل الدقيقة التي تحرك أعماق الرجال والنساء، وتسكن في الأفكار والرغبات والحجرات، ويأتي ذلك في إطار من التصاعد والإيقاع الداخلي المدهش، الذي يبعث تيارات من الحركة الشعورية، ترتبط مع الانتقال المثير عبر المكان، وتظل الكتابة كاشفة عن حس جمالي رفيع المستوى,, يرسم ويقرأ ويكتب في ذاكرة الوطن والجسد، والشخصيات التي رسم المؤلف ادعاها تجرفية شديدة البلاغة، تغيب معها الحدود الفاصلة بين الواقع والخيال، وتدفعنا حرارة الصدق إلى نوع من اليقين بأن بطل النسكافيه هو المؤلف "السيد حافظ" نفسه ، حين أمتلك الضوء الكاشف وكتب عن تجربة شديد الوهج والثراء والعذاب، تضافرت فيها الإرادة والفكر والثقافة والعشق والسياسة، لتلون معنى اللحظة الوجودية بألوان العشق الوردي، والحس الرومانسي المسكون بإيقاعات صوفية عارمة..
يبدو أن الحب هو أبو الفنون في الدنيا..، فهو يستوعب الفلسفة والحرب والسياسة، العشق والدم والثورة ، الفكر والأساطير والجسد والغموض، الاقتصاد والاجتماع والتسلط والرضوخ.. ويظل دائماً هو البدء والمنتهي، والسر والنبض والحياة.. وفي هذا الإطار تضعنا الرواية أمام تساؤلات مقلقة تدور في فضاءات متداخلة.. فهل كان المؤلف مدفوعاً بالشوق العارم للتحقق؟؟ هل كان مفتوناً بسحر اللحظة؟؟ أم بصراعات وجود تسكنه الشهوة؟؟
من المؤكد أن ميلاد التساؤلات سيظل خصيباً وممتداً، وستكشف كل قراءة جديدة عن موجات من التفسيرات، التي تحملها رؤى "السيد حافظ" حين يقول .. "النساء وطن.. الله يصوغ بهاء النساء أحياناً بمزاج عال، فيخلق لنا نساء لآلئ للغرقى في العشق والجمال"
كانت علاقة "وحيد سالم" ، و"لـمى القيسى" هي شرارة الميلاد الصاخب لرواية نسكافيه، التي صاغها المؤلف بأسلوب مغاير مسكون بالشعر والهمس والشوق..، وملاحم العذاب وفيض الخصب وإيقاعات الجنون.. فمن هي "لـمى القيسى".؟؟
في البدء كان الجمال ولـمى.. عصفورة العشق والهجر والجمال، إسمها يعني الشفاه الجميل.. العسل يعني "لـمى".. ألق العشق هو "لـمى" وهو دم ومن ووهج نور..
في الثامنة من عمرها تفتح في صدرها ربيع الحياة.. نهدان صغيران شقيان.. شعرها كان عطراً يداعب خيال الرجال، جسدها يشاغب الطريق بأحلى الخطوات.. كأنه موسيقى الخفاء.. كانت تحب جمع الزهور، تغازلها كرمة العنب والشجر ينتصب لها ببهاء.. كانت منحة من السماء، قطعة من الجنة، ابنة فينوس الهاربة من السماء، الوسطى في أسرتها أخوين أكبر وأخوين أصغر.. كانت منتصف الأرض والسماء، تخبئ في مستقبلها اجتياحاً للمألوف، في عيونها أنثى مكتملة، يراها البعض ويردد.. استغفر الله العظيم..
ولدت "لـمى" في جنوب لبنان.. والجبل في لبنان هو سر أسرار التناقض يحمل تاريخ حب ونضال.. يحمل الدروز والعلويين والسنيين والشيعة والمسيحيين، "لـمى" مثل لبنان سحابة غمامة وتاريخ عشق أجمل النساء، تحلم أن تطير.. الدم النافر يبحث عن مكان في عالم الأنوثة.. كانت تعذب الرجال.. من يطفئ لهيب الرجال أمام جمال أثنى..؟؟
تأخذنا لغة السرد وجماليات الوصف إلى انطلاقات البداية الناعمة نحو الأنثى وتفاصيل الجسد، جغرافيا الجنوب وتناقضات لبنان وإيقاعات السياسة العربية، حيث تكشف التقاطعات الباعثة للحركة وحرارة الإدراك عن تقنيات مغايرة تدخل بالرواية إلى حيز التجريب والمغامرة، فإذا كانت البدايات تأخذنا إلى طفولة "لـمى" ، فإن المشاهد التالية ستشهد اختراقاً عنيداً للزمن لنتعرف على الأنثى الناضجة في إطار موجات السياسة والتاريخ والجنس والمجتمع، أما التنهيدة التالية فهي تأتي كاشتباك مع أعماق المؤلف وعزف جميل على أوتار روحه.. حيث يقول :
( بلا خوف سأدق عليك الباب، بلا خوف أحضر حقائب أفراحك وذكرياتك المتشردة والنبية والصوفية والماجنة ودقي على الباب فأنا الناسك والفقير والمتجرد وأنا جوهر المقامات والفعل واللب والوجد والسعى وذات العاشق والمعشوق وبي مسحة بهاء، وأنا عندما أعشق، أعشق حتى الفناء وأظل ظمأن الروح والجسد وبي لوعة الشفيف وأمضي شوطاً نحو المناجاة وأنا أيقونة القهر، لا أحظى بعصمة مجلس الشعب ولا منحة الانتماء ولا عصمة الأنبياء)
في سياق روائي متصل تأتي الهمة لتشير إلى زمن النكسة حيث :
"قال هيكل في قناة الجزيرة : آخر فنجان قهوة شربه عبد الناصر قبل وفاته بدقائق قام أنور السادات بعمله بنفسه.. ومات بعدها الرئيس"
يمتد السرد المنسوج من الشعر والعشق والجنس، ويخترق الزمن والسنوات، ومفاهيم التتابع التقليدية، ونتعرف على "لـمى" بعد أن اصبحت غزالاً أربعينياً، دغدغ خيال أربعين رجلاً من الفرسان، مارسوا العادة السرية عليها، وحاولوا معها بأصواتهم الرخيمة، وهداياهم الجميلة لعلهم يأخذون قطرة من عسلها.. فقد أصبحت تمتلك لؤلؤة في فمها وموج غواية.. ووردة في كل فصل.. ونار في حقول الرجال، كل مرحلة من عمرها كانت محطة للعشق، كلما مر عليها شخص منحته.، بعد أن أصبح وجودها رحلة لسموات العشق السبع.
تأتي ملامح شخصية الصحفي "وحيد سالم" لتضعنا أمام قراءة ثرية في أعماق جبل امتلك الحلم والمعنى وطموحات المشروع القومي ـ حيث تأخذنا جماليات الإطار التاريخي والفكري إلى حالة شديدة الخصوصية من السرد الذي يروى عن الفتى الصغير حين عرف أن أحد عمال أبيه كان يُحمى زوجته بالماء الساخن في الطشت ويتحسس جسدها كله، وسمع خاله وهو يتحدث ليلاً ونهاراً عن النساء والحشيش، وأدرك أن الإثنين حلموا به رئيس جمهورية، أو وزير أو محافظ إسكندرية، لذلك عشق الصغير عالم النساء وكان يذوب عشقاً في عيون ليلى مراد وسعاد حسني، رغم أن طفولته البريئة لم تمنحه معرفة بالفرق بين النهد والتفاح والبرتقال.
تظل الهمسات والتنهيدات تقطع حالة السرد، تأخذنا من الماضي إلى قلب الحاضر، أو إلى عمق التاريخ والتراث، وتدفعنا حرارة الكلمات إلى موجات عشق مثير، حين يؤكد "وحيد سالم" أن سحر "لـمى" لا يزال في دمه، وأن كلماتها شهوة الشهوة.. فهل هي الاشتهاء؟ أم مسك النساء؟ هل هي أرض عشق بريئة أم الواقع والظنون..؟ أم الوجع الذي يحاصره كل مساء؟؟ وفي نفس الإطار تتفتح مسارات الوعي والإدراك، وينفصل القارئ عن التوحد مع رومانسية الإيقاعات حين نقرأ في كتاب "الجبرتي" : أن زينب ابنة شيخ الأزهر، أحبت نابليون أثناء الحملة الفرنسية، وكانت تقابله، ومن أجلها لبس القفطان، لكنه سافر وأخذ قلبها معه" وعبر إيقاعات الزمن اللاهث تمتد القرون ومتوقف أمام قضية سوزان تميم، وهشام طلعت مصطفى، وكذلك زواج هيفاء من رجل الأعمال المصرى أحمد أبو هشيمة في حفل أسطوري الملايين، ويأتي التعليق المرير حين يشير المقريزي إلى الجوع عند المصريين أيام الخليفة المستنصر.. حين تبادل الناس أولادهم ليأكلوهم..
كان الطفل "وحيد سالم" يتأمل أباه بدهشة حين يؤذن وهو نائم..، كان أبوه دائم البكاء على أحزان الفقراء، واعتاد أن يتصدق بكل ماله لهم..،.
وكان يشعر أن فقراء مكة والحجاز مسؤولية كل حاج، وبعد أن مضت السنوات عاش "وحيد سالم" حرب 1956 ، ونكسة 1967، ونصر 1973 وأدرك أن أعمارنا محطات حرب، لكن عشقه للبحر، وأسراره مع الموجع ظلت باقية.
قرأ "وحيد سالم" الفلسفة والأدب والفن والتاريخ، فزرعوا في روحه عشقاً من كلمات، وفي جامعة القاهرة كان يشعر بالتاريخ يفوح منها في دمع، ويرسل له إشارات ميلاد وعي مغايرة، يتدفق بوحاً وكشفاً ومعرفة.. وحين مات عبد الناصر، انهار الزهو والمعنى وحلم اليقين، وخلعت القاهرة ملابس الحداد، وكشفت برقع الحياء، وجاء الفاسدون وضاجعوا عقلها وسرقوا أموالها، وانطلقت سياسات الانفتاح لتفتح كل الأبواب للأمريكان وإسرائيل، وظل الفتى مسكون بحب امرأة استثناء، تجمع قلبه الأشلاء لكنه وكما يشير – عاش عذابات المصير بعشقه للقاهرة.. رغم كونها هي الزانية المذنبة.
تمتد تداعيات أعماق الروح، ويتقاطع الحب والزمن والشعر، مع الأدب والصحافة والسياسة، ويلمس القارئ شراسة المشاعر المتناقضة، وتيارات الجموع، واندفاعات الوعي وانفجارات اللاوعي.. حين نعود إلى أحزان وطن مثقوب الذاكرة، لا يحب الذكريات، ويتوقف أمام علاقة وحيد بالآنسة "سلوى فتحي" و"نجوى" بنت صاحبة الشقة التي نامت في فراشه، وبفريق البالية المائي في الجامعة مغامراته الساخنة مع اختيار الجميلات ليراهن بالمايوه.
وحين يقفز الماضي إلى قلب الحاضر وتتجاوز الأزمنة حدودها نقرأ تنهيدته الجارية حين يقول ... :
(تعال انثرك ضوءا على قلبي المعتم... أُخرج من نهديك كتاب العشق ولبن التوبة.. فأنا رجل ليحبس أنفاس أنثاه عشقاً، لكني لا أصدق القمر ولا النساء في المساء..، أصدق الله، والمعري والمتنبي وجمال عبد الناصر والحلاج.. أصدق الروح قبل الجسد.. أثق في بعض النساء ولا أصدق أحد من الأصدقاء)
في سنوات نضجة الأولى نظر "وحيد سالم" إلى وجوده فرآه.. امرأة بخيلة، ووطن مبعثر، ورجل خصي، ودين بلا مؤمنين، وبعد موت عبد الناصر كان يحلم أن يكون سياسياً من المدنيين، فالقائد مات وليس من العسكر رئيساً للجمهورية.. لكنه عرف أن الأحلام تموت في وطنه بلا ثمن.. تموت على الأرصفة.. وحين سافر وابتعد والتقى بعد سنوات بـ "لـمى" أهداها محارة العشق ولؤلؤة التنهيد وشعر بدفء سريره بالقاهرة، فعرف لأول مرة أن الله قد اصطفاه في العشق، ورغم ذلك ظلت همساته تؤكد أن العرب أجمعين من المحيط إلى الخليج سيقفون على أبواب جهنم دون حساب أو رحمة.. فهم قتلة الخلفاء الراشدين، وأحفاد الرسول، وهم خونة قبل الإسلام وبعده، وفي سياق متصل عرف أن السياسة عاهرة وفاجرة تمارس كل ألوان الضلال على الناس باسم الوطن والأمن القومى، كذلك أخبرته "لـمى" أنها ليست مومس ولا عاهرة.. وأن هناك رجال مومس، يمارسون الدعارة، وهناك أوطان مومس، وشعوب مومس..
والآن.. لا يزال "وحيد سالم" يتحدث مع النيل ومع نفسه.. قائلاً: وحدك يا قلبي تحمل أوجاعك وحزنك.. الكل خائن.. الكل خانك.. والأكثر خيانة وطنك، الأصدقاء القدامى خانوك.. والأسئلة تحاصرني..
رغم أنه لا توجد امرأة تجرؤ على الاعتراف.. إلا أن "لـمى" تعترف فالجنس في حياتها أزرق اللون.. وأحياناً أحمر أو أخضر.. هي امرأة لا تستطيع الحياة دون الحب واللذة.. تعيش سباقاً مع الوجود ، وتبحث دائماً عن رجل يسمع صراخ جسدها للشهوة.. يصفها "وحيد سالم" بأنها شبق العشق لحظة الشفق، وبريق الشهوة لحظة الجنون، وظنون فان جوخ حين رسم لوحة الزهور..
في سن الخامسة عشر أحبت همام ابن خالتها.. حين لامسها كان جسدها ينز عسلاً، وفي التكعيبة شعرت برائحة شهوتها، فهو أول رعشة حب، وقبلاته لا تنساها أبداً.
وفي ذلك السياق يأخذنا المؤلف إلى اشتباكات ثائرة بين الماضي والحاضر والحلم والواقع، وتظل صياغاته الشاعرية الدافئة تكشف عن أعماق مسكونة بالفن والخصب والوهج، ونعرف كيف تزوجت "لـمى" ابنة السادسة عشر من "عامر" المحاسب القادم من الكويت.. إلى جنوب لبنان ليرى الأنثى التي سيقطف وردات حلماتها.. هو في الثانية والثلاثين.. سياسي أحمق، صوت عال، أعجبته الصغيرة، التي تعشق الجبل والزهور والنسكافيه، فخطبها وامتثلت هي لأمر أهلها، وتزوجته بعيون طفلة.
في ذلك الزمن بالتحديد كان "وحيد سالم" يعمل بالكويت وكان صديقا لعامر.. لكنه كان معذباً بوطنه عذاباً مريراً يتضح في همسته حين يقول :
" الوطن يضاجع الفقراء.. ويقدمهم ضحايا وشهداء في سيناء، عندما انتصروا في أكتوبر ترك لهم سرواله الداخلي ليصنعوا منه أوسمة وشهادات وأعلام.. أما الأغنياء فقد جلسوا على عرش مصر وباعوها لكل الغرباء باسم الانفتاح والانفشاخ والخصخصة، ونشروا للشباب حبوب الهلوسة.. وطني لا يحب الفقراء.. نذل مع الشهداء والشرفاء.. وأنا نادم لأني كنت من الفقراء.. وكم قررت أن أضاجع وطني بدلاً من أن يضاجعه الغرباء من الحكام سبعة آلاف عام"
عاد عامر إلى الكويت والتقى بـ "وحيد سالم" وفي سيارته أظهر له صورة خطيبته "لـمى" .. فكانت البداية والبعث والوعد الذي تأخر عشرين عاماً.. فهل كانت "لـمى" حلماً يراوده، ونهداها لحن شجى على شرفة الشهوة المعطلة؟؟ وحين عاد إلى منزله وجلس أمام زوجته يتناول العشاء، وجد صورة "لـمى" بحجم النافذة... عينيها.. ابتسامتها طفولتها.. وظلت تطارده فهبط في أحضانها وصعد وماج.. ونظرت له "تهانى" وهي متعجبة..
كانت الكويت جميلة لحظة سكونها.. لكن ليلها السري أغرب من الخيال.. هذه الليالي التى يخترقها المؤلف ويصوع منها عشق وأحلاماً وجنساً وشهوة ورغبة، وأسرار حياة ستدخلها الصغيرة الجميلة، التي غادرت لبنان ليظل الوطن نغماً خفياً يسري في الروح، حيث دموع الماضي الجميل، والقبلات المسروقة.. وفي ليلة الدخلة بالكويت قال لها عامر.. نامي على ظهرك.. نامت.. فتح قدميها بعنف.. وكانت أصعب ثلاث دقائق في حياتها.. كأنها ثلاث طعنات.. ثلاثة خناجر اغتصبت بكارتها وصرخ فرحاً.. وفي ثاني أيام زواجهما طارحها الغرام دقائق ثم ذهب إلى الحمام وتركها مشتعلة برغة لا تستطيع أن تطفئ جذوتها، فقد كان عامر يشبه قادة حرب 1967.. يخدعون أنفسهم أن كل شيء تمام، لا يعرف من أين يبدأ الغرام في السرير.. وأصبحت "لـمى" تكره الليلة التي يقرر فيها زوجها الجنس معها.. كان يظن أنه يفترس بكارتها، وكانت تصرخ ندماً على أنه لن يكمل ويتركها لحريق الشهوة..
اتخذت الحياة مساراً رمادياً غائماً بارداً.. وطلبت "لـمى" من زوجها أن تكمل دراستها، والتحقت بكلية الآداب جامعة اللاذقية بسوريا، وهناك قررت أن تذهب إلى المجهول وعرفت طارق الذي فتح أمامها أبواب الجنس والرغبة ومنحها ارتواء فجر في داخلها كل موجات الشهوة وحين انتهت سنوات الدراسة عادت إلى الكويت لتعمل في المدرسة الأمريكية، ورأيناها عبر السرد الروائي وردة جورى يشم عطرها الجميع إلا زوجها، فكان الرجال في المدرسة الأمريكية الكويتية يبهرهم جمالها فعاشت معارك غرام وحروب نزوات، وكان "وحيد سالم" صديق زوجها هو المصري الوحيد الذي تخافه، فهو طويل عملاق، وهي أمامه قصيرة، صوت فيه مهابة، وظلت تسأل عنه بعد أن غادرت الكويت عام 1986 واحتفظت بالعنوان الذي تركه لزوجها، فقد كان يسكن عينيها وقلبها وأدرك هو أنها له.. وهو لها.. لكنه لم يفعل شيئاً.
بعد سنوات وسنوات انفتح الباب السري للعشق وامتدت رسائل الهوتميل وأحاديث الفيس بوك، وفي القاهرة كان اللقاء العاصف عام 2002 وفي هذا السياق نتوقف أمام موجات الحساسية البليغة التي تميز صياغاتها المؤلف لأدق تفاصيل الحب والجنس والتي أثار من خلالها قضايا رجال ونساء وكشف برشاقة عن أسرار الليالي وأسباب الخيانة والطلاق والاكتئاب والعذاب، ورغم حرارة الاشتباك واقترابه من التابوهات والمحرمات.. إلا أن الكتابة تظل دائماً مرتبطة بلغة الفن وشاعرية الجمال وقدسية العلاقة، وجدل الرغبة مع اندفاعات الجسد وإيقاعات الحياة.
قال لها .. أراك مهرة النور والحياة والهمس والليل.. أنت كئوس للخمر عشرون عاماً مضت كنت أحاول أن ألقاك..
وعندما تمددت على الفراش لترى الليل والنيل من فندق هيلتون رمسيس كان العرق ينتفض من جسدها وأدركت أن "وحيد سالم" رجل أسطوري التكوين فتوحدت به وبالقاهرة.. أغمضت عينيها وسبحت في سحبه ورجال وآهات وهمسات، رجال عبروا على جسدها لحظة قلق.. زوج وبنتين وولد، وجسد عذراء مسكون بالرحيق والجنون والوهج.
أحضر الشمبانيا .. وعقود الفل والياسمين ليكتب الغرام سطوراً عن الحب والمجهول والنساء الاستثناء، والعشق الذي يأتي منحة من الكون.. فالقدر يمنع ويمنح..
يقول "وحيد سالم" .. بدأت أدخل في جسدها على رقرقة كف الأمواج..، هسيس أصداف البحر..، خرجت وأخرجت كل أحزانها.. أوراق شجر قد ذبلت في حديقة عشقها.. بين فخذيها أدخل وأخرج، أمحو آثار شهوات رجال.. زرعت نخيلاً للود بشهوته الطازجة..، فتحت لها دلتا جديدة.. الجسد والبحر والخليج.. آه يا مئذنات الروح حين تذوب في الجسد.. وضعت في فمها لؤلؤ القبلات، والله زلزلت بين يدي وترنحت.. وهبها الله لي.. تلك الخائنة للعشق.. تعاملت مع النهدين كأنهما جواهر مطموسة في عجين الشهوة.. تود أن أحررهما من القيد، فأخرجتهما بالحلميتن.. غنى لي كل منهما عشقاً صوفياً حانياً..
تأخذنا الرؤى والإيقاعات إلى أساطير الماضي البعيد، ونقرأ عن عبد الرحمن الشرقاوى عندما قال.. المصريين هبة النيل.. وأيزيس وأوزوريس أسطورة الناس.. وعبر دلالات التوازي كان بطل الرواية يشعر أنه ممزق مثل أوزوريس.. ولكن تجمعه "لـمى" أليست إيزيس جمعت أربعين جزءاً من أربعين مكان لتلملم أوزوريس، ثم تنام على قطعة الذكورة الخاصة به..؟
فهل تحمل "لـمى" طفلاً من وحيد ويأتي حورس منقذ مصر؟؟ في سياق متوتر بالدهشة والغموض والمراوغة والجنون، تمتد التفاصيل بين القاهرة والكويت ودبي ولبنان، وتؤكد "لـمى" أنها تشبه الحياة.. لكن الفارس العاشق لم يدرك المغزى والمعنى، وظل يعلمها متى تكون قصيدة.. متى تكون لبؤة.. متى تكون سفينة يركبها ويطوف.. متى يرسم على نهديها، ومتى يقضم خديها، متى تكون أمواجاً في عاصفة عشقه ، ومتى تكون كهفه وأفقه وحنان أمه.. ومتى تصير مسرحه وروايته وقصيدته.
أصبحت شوارع القاهرة باهتة خالية في عيون الفارس بعد عودة "لـمى" إلى الكويت، وظل محاصراً بالرغبة في أن يغزوها ويبهرها ويمتعها، ويشرب معها النسكافيه، وظلت الحالة الروائية مشحونة بتقاطعات السرد، وتداعيات الوعي وانفاجارات الأزمنة، ودلالات نقد الواقع المسكون بهواجس الجنون، ورغم كل الوقائع والحقائق والظروف كان وحيد يرفض فكرة أن تكون ابنة الجبل.. فاجرة، مفصحة عن عشقها لمن تهواه.. تتوحد بالحب اللحظي وتنتزع لحظة عشق شرعية في الحرام.. الحب في دستورها له بداية ونهاية. العشق والهوى يغوي جسدها، وشوقها الدائم للرجال شوقاً منقوشاًَ على صدرها كالموت والحياة.
نجحت "لـمى" في إحضار "وحيد سالم" إلى الكويت.. وفي المطار قال لها أنت مكتوبة في دمى.. لن نخون ولن نفترق أبداً.. وكتباً بالدم الأحمر وثيقة عشق.. وفي السيارة خلعت ملابسها وأصبحت عارية تماماً وشعر الرجل أنه آدم وأنها حواء.. التي خرجت من ضلعه ليعطيها إسمه وميلاده ...، وفي اليوم التالي سافرت "لـمى" إلى بيروت لتزوج ابنتها من ابن عشيقها السابق، وانتابتها شراسة مخيفة، وأغلقت التليفون في وجهه..
تقودنا همسات المؤلف إلى دوائر القهر والغياب والاستلاب حين نقرأ أن المتنبي عبقري الأمة العربية، قتله التخلف العربي ولم تلد الأمة مثله حتى الآن.. وأن "أبو حيان التوحيدى قتله الغباء العربي ومات معدماً" لأن السلطان يريد منافقين، أما طارق بن زياد.. فقد مات متسولاً فقيراً، بعد أن فتح الأندلس وانتصر.. وفي العصر العباسي الثاني كانت الجواري والمومسات يتحكمن في الخلفاء..
يذكر أن الهمسات التي تتقاطع مع السرد الروائي، وتعلق عليه ببراعة، تأتي كنص سياسي اجتماعي تاريخي وتراثي.. وهو نص شديد الدلالة والبلاغة، يكشف عن ثقافة عارمة وعن وعي بأبعاد المأزق والأزمة، وكشف لمسارات الجهر والردة والتخلف العربي.
ارتبط "وحيد سالم" بالعمل في إحدى المؤسسات الإعلامية ، وعادت "لـمى" من بيروت.. طلقها زوجها "عامر" حين عرف علاقتها بالصحفي المصري لكنها عادت له بعد فترة، بشرط أن ينفصل كل منهما بحياته الخاصة، وظلت تعيش مغامرات الجسد الظمآن.. وعرفت غيره كثيرين.. وقال لها عاشقها النبيل.. أنت عذراء رغم كل الرجال الذين عبروا فخذيك، أنت لبؤة.. بين نهديك سأضع علامة لأنهي في حياتك زمن البكارة حتى تصلين إلى نشوة ورعشة لا تحظى بها نساء الكون.. أنت حبيبتي وأنت عهر نساء الأرض.
هكذا يظل كل شيء في "لـمى" مبهج مختلف منحرف.. عشقها تطرف، وحبها تطرف.. ويظل "وحيد سالم" يشعر أن كل شيء باطل.. فلا عدل ولا سلام ولا حرية.. العالم ينقسم إلى عبيد وأحرار.. إلى وجود وعدم، قوي وضعيف، غني وفقير.. والكل سينتهي ويموت.. ولكن طقوس الجنس وجنون الرغبة ونهد الشهوة والعشق.. دفعوه إلى امتلاك المعنى والفرح وكل الأحلام..
تقترب النهايات.. وتشهد الرواية انكسارات وجود ينهار، حين تقول "لـمى" في حدة.. أن الحب انتهى.. فكل شيء يتغير.. وعليه أن يذهب .. لكنه لم يفهم وذهب إلى شاطئ الخليج يبكي في صمت، مثل طفل فقد أمه.. فالأنثى الأربعينية فهمت الحب العصري.. الرومانسية ماتت المشاعر كما قال "أحمد" ابن "وحيد سالم" كله بيخلص على نفسه في ساعة. وعبر إيقاعات الدهشة والمفاجأة تتبلور العذابات في الكويت ، في ذلك المشهد المخيف الذي تناولناه في البداية.
أخيراً.. نحن أمام تجربة روائية شديدة الثراء.. تملك قدراً هائلاً من الفكر والدهشة والجاذبية، تعانق العقل والمشاعر وتترك في الأعماق موجات من الوعي والأشواق والحنين، وهي تكشف عن جماليا وتقنيات الفنان المثقف "السيد حافظ" الذي يقول ...
تسألوني من أنا ؟
أنا القلم والألم والحب، الصفر والسفر، الحاضر والماضي.. جسد العروبة وروح الأمة.. أنا وطن كل الغرباء.. الجمهور الجائع للخبر والعطش للماء.. أنا الانتماء .. السلام والكلام والصمت والقهر..
لكننا نضيف.. أن الرواية هي ثورة إبداعية ساخنة فجرها "السيد حافظ" الذي أعلن العصيان على القهر والتسلط والاستلاب وانطلق إلى آفاق رحبة ليبحث عن الحرية المغتالة في أعماق الذات.. وتابوهات الجسد، ومراوغات السياسية وجمود الفكر واختناق الأحلام.
د وفاء حامد كمالو
0 التعليقات:
إرسال تعليق