قصة حديقة الحيوان فى الاسكندريةِ
مجلة الكاتب
السنة السادسة عشرة
اكتوبر 1976
كتب : ناجى احمد ناجى
قدمت فرقة المسرح الطليعى بالاسكندرية مسرحية " قصة حديقة الحيوان" من تأليف الكاتب الأمريكى (ادوارد أولبى) وترجمة الأستاذ / على شلش – فى قاعة العروض الفنية بقصر ثقافة الحرية على مدى اثنتى عشرة ليلة فى عرض لافت للنظر ومثير للتامل من حيث التناول والأسلوب.
والمسرحية هى أول عمل كتبه أولبى للمسحر ووضع فيه جماع فكرة ثم توالت أعماله المسرحية بعد ذلك لتكون تنويعات على هذه المسرحية.
وقد عكس فيها الخلخلة الكائنة فى بنية المجتمع الأمريكى المعاصر بعد الحرب العالمية الثانية بسبب الظروف التاريخية والاقتصادية لهذا المجتمع. واستمد الموضوع من الزبد الطافى على سطح حياة هذا المجتمع من زيف وتناقض.
وفى حين أن المؤلف يعتبر نفسه من الرافضين لشكل العلاقات الاجتماعية السائدة للمجتمع فإن النقاد يدخلون أعماله فى باب العبث واللامعقول.
لذلك فإنه يعاديهم ويرفض حكمهم ويفضل الانتماء لمدرسة الطليعة لأن اللامعقول فى نظره هو نفسه المسرح الواقعى الغث الذى يدعو جمهوره للاسترخاء وغسل المتاعب وقضاء الوقت اللطيف بينما يحس هو بتعاظم مسئولية كاتب المسرح إزاء ما هو سائد من قيم وعلاقات تستعدى الثورة والتغيير.
ومسرحية " قصة حديقة الحيوان" تقدم لنا بيتر البرجوازى جالساً فى جزء منعزل من حديقة عامة يطالع كتاباً – كعادته دائماً فى عصر أيام الآحاد – وهو أسلوب يعزله عن الآخرين ويعمق من هذه العزلة ممارسته لسلوك طبقته القائم على مبدأ التخصص وتقسيم العمل فهو (يعمل فى وظيفة إدارية بإحدى دور النشر الصغيرة) ويقتحم جيرى عزلة بيتر محاولاً أن يقيم معه علاقة ولكن عبثاً يحاول فهو الآخر يعيش منعزلاً عن الآخرين فى حجرة مفروشة بأحد البيوت الآهلة بالسكان لا يعرف عنهم شيئاً فعلاقته بمن حوله مقطعة الوشائج، صاحبة البيت العجوز تحاول أن تقيم معه علاقة جنسية فيوهمها أنه فعل معها الجنس بالأمس فتصدق وتعاود المحاولة يوماً آخر فيوهما بانه فعل ذلك بالأمس وكذا.. علاقاته بأسرته مقطوعة أيضاً .. مات أبوه بعد أن قتل أمه بسبب خيانتها الزوجية.. ولا يعرف عن خالته سوى أنها ماتت عصر يوم تخرجه فى المدرسة الثانوية ويؤكد أولبى هذه القطيعة بأن جعله يملك بروازين خاليين من الصور وعندما يساله بيتر لماذا لا يضع صور والديه يقول: إنهما ماتا .. وهذا يعنى أنهما ماتا من ذاكرته أيضاً .. وبرغم هذه العزلة فإن جيرى الخجول الطلق اللسان القادر على التعبير عن أزمته فى نفس الوقت يحاول مخلصاً أن يقيم علاقة مع شخص ما : لكنى فى كل لحظة أحب أن تكلم مع شخص ما.. اتكلم كلاماً حقيقياً .. فأنا أحب أن أعرف الشخص وأن أعرف كل شئ عنه.. وبرغم إدراك جيرى لمشكلته وجهاده المستميت لأن يقيم علاقة مع بيتر فغن المحاولة تفشل وتؤدى به إلى الموت.. على النقيض فإن محاولته أن يقيم علاقة مع كلب صاحبة البيت الشرس تنجح وتؤدى إلى إقامة علاقة وقتية.. والمفارقة هنا سخرية مرة ومحزنة فى نفس الوقت من شكل العلاقات الاجتماعية السائدة.
والسعى وراء رموز المسرحية يجعلنا ندرك أن الحديقة العامة هى رمز للمجتمع واقفاص الحيوانات بمثابة موانع بين أفراد هذا المجتمع، أما المقعد الذى قرر جيرى الحصول عليه فهو بعض امتيازات الطبقة .. جيرى : أليست لديك أدنى فكرة عما يحتاج اليه الناس.. وفى النهاية يحصل جيرى على النجاح الوحيد فى حياته الفاشلة هذا النجاح هو الموت فى سبيل مقعد تافه. فى حديقة عامة وبسكين أعطاها لغريمة فى نبل وشرف لا يتفقان وروح المجتمع الذى يعيش فيه حيث يسعى السمك الكبير إلى أكل السمك الصغير.
جيرى : يقذف المطواة عند قدمى بيتر قبل أن يتمكن الأخير فيما يجب التفكير فيه، هى لك.. التقطها خذ المطواة وسنكون ندين أكثر تساوياً.
ثمة تفسير آخر هو أن بيتر وجيرى وجهان لشخية واحدة مصابة بانقسام الشخصية، ويسعى أحد الوجهين لقتل الآخر، والمسرحية بهذا الشكل يمكن قبولها على أنها صورة لمجتمع مريض.
إن العمل الفنى الذى يثير هذه الانطباعات المتعدد إنما هو عمل جيد، ومثل هذا العمل فى المسرح يجعل مهمة المخرج والممثل مهمة صعبة وفى نفس الوقت تعطى فرصاً كثيرة للإبداع الفنى العظيم.
وقد أعطانا العرض الذى قدمه المسرح الطليعى انطباعات كثيرة أولها أنه وضع المتفرج امام حالة إبداعية ممتازة، وثانيها نقطة خاصة لتطور هذه الجماعة المسرحية الجادة وهى أن تقديم حديقة الحيوان يعتبر خطوة جديدة إلى الأمام فى الطريق الذى رسمه المسرح لنفسه.. واللافت للنظر ذلك التناول الذى قدمه لنا المخرج السيد حافظ – فقد قدم رؤية جديدة تعتمد على أن القيمة الأساسية للعرض المسرحى ليست فى الكلمة المكتوبة، بل تكمن فى الحالة المسرحية التى تنشأ بين المثل والجمهور وعناصر العرض.
تلك الحالة التى تحدث فور الساعة بحضور الفنانين والمتفرجين وينتج عنها خلق المسرح على المسرح، وتنشا فيه الحركة والشكل تلقائياً بحيث لا تنتفى فيه امكانية التصور السابق والتخطيط المعد للحركة بمعنى أنه يصبح فناً متحركاً قادراً على التغيير ووسيلة هامة لمكافحة اللامبالاه التى تغشى الناس وبهذا التصور وضع المخرج يده على فكرة عزلة الإنسان بسبب عادات السلوك وبسبب الفوارق الاجتماعية.. تلك الفكرة التى تتضح جيداً فى المسرحية وتحلل عواملها بعرض الصراع بين بيتر الذى اداه وفق قدراته الشخصية (علاء عبد الله) وجيرى الذى اداه ببراعة (أحمد آدم) هذا الصراع القائم بين شخصيتين من الطبقة الوسطى فى المجتمع الأمريكى ويتأكد هذا التصنيف الطبقى عندما يسأل جيرى : ما هو الخط الفاصل بين كبار الصغار وصغار الكبار من الطبقة الوسطى.
لقد غير المخرج وفق رؤيته المعالم الخارجية لشخصية جيرى بالملابس والمكياج وغير معالمها الداخلية بأسلوب الأداء ليصير من أفراد الطبقة الدنيا فبرز بذلك صراع طبقى زادت حدته وتفجرت المسرحية بطاقات لم تكن فى الحسبان وكان من نتائج هذا البروز أن زادت حدة العزلة بين الشخصيات وزاد من شأن العرض الاهتمام بالضوء والحركة والإيقاع بين حركة وسكون والاعتماد على تلقائية الممثل فوق الخشبة. كذلك الاعتماد على ربط الصالة بالمسرح فى ديكور مبسط ومعبر فى نفس الوقت وقد صممه على الدين الحكيم مما جعل المتفرج متعانقاً من الممثل وأصبح الكل فى واحد.
وفى زمن العرض المقدر بساعة ونصف ساعة على مساحة الخشبة الصغيرة استطاع المخرج أن يعرض لازمة جيرى فى حالة مسرحية فريدة تساوت تماماً مع الزمن الداخلى للحدث والمساوى تماماً – لتاريخ حياة جيرى الذى وقعت أحداثه فى أمكنة وأوقات مختلفة نقلها المخرج ببراعة مستخدماً الحركة وتكوينات الاجسام والتصوير التخيلى والإيقاع والتمثيل الصامت والموسيقى المعبرة التى أعدها.
وفى نهاية العرض يسقط جيرى وقد طعن بمطواته التى أعطاها لبيتر سانداً رأسه فقط على الكرس لبرهة قصيرة تعبيراً عن انتصار مؤقت لطبقته وهذا خلال لما نص المؤلف من جلوس جيرى ميتاً على الكرسى.. وتصبح النهاية التى وضعها المخرج لمن هم على شاكلة جيرى.. إن تشبثوا بحياتكم.. وتسلحوا لها بأسلحة قوية.. وأياكم وإلقاء السلاح.
0 التعليقات:
إرسال تعليق