أسطورة أوديب تلفزيونيا فى الخليج
الدراما الخليجية تتقدم نحو الأسطورة العالمية بنجاح باهر
جريدة عمان – سلطنة عمان
صفحة ثقافة – العدد الأسبوعى
9 ديسمبر 1982
كتب : د .نادر القنه - الكويت
أصبحت ظاهرة التسطيح النقدى (وتوعيته الانطباعى) فى الصحافة المحلية وباء بدأ يتأصل إلى أعمق حدوديات التحذير الفعل فى نفسية وعقلية الناقد المحلى، الأمر الذى أدى إلى حقيقة واقعية ساعدت فى تاجج وتطور ونمو الدراسات النقدية للمادة والفنية فى مضاربات بورصة الصحافة المحلية.
هذا تلعميم فى صياغة الحكيم لم أتجرأ على اطلاقه من منطلق عفوى سطحى، إنما ترتب موضوع انطلاقه على ترسبات عديدة لدراسات موضوعية وغربلة منهجية لمواد نقدية عديدة.. ولفترات زمنية متفاوتة ، فالكلية فى الحكم تأصلت من تخصيص الجزئية المتباينة وفى مقالتى هذه استخلص الجزئية المحكمة من كلية التعميم.. لتحديد مسار تلك المقالة النقدية التى أنا بصددها.
فمقالتى هذه تنصب حول تحليل درامية تلفزيونية العطاء، أى أننى أكتب نقداً للعمل، وليس من واقع أكاديمى، هذا التحديد فى مصارحة هوية المقالة، أزهره من واقع فنى وأدبى، وليس من واقع دفاع ذاتى لكل من يرتبط بالعمل، فلست قانونياً يحمل توكيلاً من مؤسسة الانتاج للدفاع عنها، ولست موكلاً من قبل المؤلف أو كاتب السيناريست أو المخرج. إنما كما ذكرت أكرر أن الواقع النقدى المتردى هو آل بى للكتابة هنا، وذلك لإبراز دور الحقيقة الفنية والأدبية التى يجب أن تكون جلية الرؤية لكل من أراد أن يقف على حقيقة الأمر.
قضايا مسلم بها
قبل أن أشرف مبتدأ بالطرح، أود أن أكون متفقاً مع نقادنا وقرائنا على أن السياسة النقدية الانطباعية هى صورة فوتغرافية تعبر عن الذات الخاصة، وليست تعبيراً مطلقاً عن الواقع الجمعى للمجتمعات الحديثة، أما النقد المنهجى المبرمج فى لون مدرسى نقدى هو حقيقة عامة وصورة تجريدية بعيدة عن الذات وتفاعلاتها. حيث يهدف هذا اللون من النقد إلى تسريح العالم الواعقى فى درامية تكوين العمل من تشريح تجريدى ثم تركيبى للوقوف وللاستبيان على مدى الملاءمة والمطابقة فى الصورة اللونية بين المدرسة النقدية والمعالجة الدرامية .
وحيقة أخرى أود أن أكون متفقاً بشأنها مع من سلفت وذكرت.. وهى أن أى نتاج أدبى أو فنى لابد وأن يحمل بين طياته مقادير غير ثابتة من الايجابيات والسلبيات عكسياً أو طردياً مع جملة من الظروف الآنية والعامة سواء كانت موضوعية أو غير موضوعية. من منطلق هذا الاتفاق أحبذ أن أبدأ.
الأسطورة الأوديبية عالمياً
عشرات الكتاب والباحثين والدارسين تناولوا على مر العصور هذه الأسطورة الخالدة، فنسجوا منها نتاجاً (أدبياً وفنياً وعلمياً) متفاوت التقارير ، ومهما كان ماضياً أو مستقبلا لن يبرز عمل يضارع اوديب سفوكل فى عظمة البناء وأسلوب المعالجة.. ومن أهم الكتاب الذى تطرقوا إلى هذه الأسطورة هم سينكا الرومانى، واندريه جيد، وجان كوكتو، وتوفيق الحكيم وباكثر من الوطن العربى.. وبدراسة انتاج هذا الجمع من الكتاب نلاحظ أنهم قد حافظوا على الشكل العام للأسطورة فى صورتها السردية المطلقة.
وبالطبع فإن كان نتاج لهؤلاء كانت نتيجة تفاعل الكاتب مع ظروف بيئته السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعقائدية والنفسية والفكرية، تفاعلا متغيراً كان من نتيجته هذا النتاج الأدبى الخاص، فالختلفت بالطبع الأحداث بين الكتاب باختلاف القمية الفكرية لكل منهم وباختلاف الطرح وأسلوب المعالجة، اختلفت تلقائياً النسبة المئوية لعملية التأثير الابداعى، أما تبوتيه الشكل فهى سمة ذات طبيعة مشتركة كما أسلفت.
فرويد وعقدة أوديب
استخلص سيجموند فرويد البناء السيكولوجى بعد تركيب الشخصية الأوديبية وتحليلها بناء على معطيات وفرضيات علمية.. وفى النهاية خرج لنا بعقدة أطلق عليها (عقدة أوديب) وهى دراسة من واقع منهجى سيكولوجى بحت أما تلك الدراسة الفرويدية فهى مقترنة بتصور جنسى خاص من خلال ضمنية هذا الاتجاه والتفسير العلمى اختلفت الدراسات والتحليلات ، وبالشكل الثابت بتحلل وبتفتت فى ضوء اختلافات ومعايير لا حصر لها، محتفظة بأصولية البيئة الجذرية .
فخط العقدة هو الذى أضحى ذا صبغة طبيعية مشتركة وثابتة لا عمومية القالب، فبدأ النسج يأخذ خطوطها عريضة ورفيعة سواء كان خطاً أفقياً أو عمودياً ذو مسقط رأسى.
عواطف البدر والسيد حافظ
وعقدة أوديب
من خلال خطوط الاتجاه والتفسير السابقين ، تولد لدى عواطف البدر فكرة موضوع بحر العطاء ومن ثم قام السيناريست السيد حافظ بغربلة الفكرة وتجسيدها تجسيداً درامياً بما يتفق مع عدة خطوط متوازية ارتاى السيد حافظ ألا يطغى خط لونى على خط آخر، كما أراد أن يحافظ على مستوى توازن كل خط فى وحدة تكوين درامية مستقلة من خلال ضمنية هذا العمل، حيث يشكل كل خط وحدة قائمة بذاتها، وفى النهاية تذوب وتتوحد هذه الخطوط فى صورة كلية مبرمجة بتكوينية تلفزيونية بحر العطاء، مجسدة مضامين لا أدعى حداثتها ولكن جودتها وروعتها بشكلية الطرح.
فهذه الأم بكل معاناتها، وهذا الابن الوحيد بكل أحلامه وطموحاته، وتلك هذه الظروف المشتركة بين عالم الأم وعالم الابن حيث نتفاعل تلك الخطوط عند عواطف البدر والسيد حافظ لبولدا معاً (عقدة أوديب) الصورة فى حد ذاتها منطقية ومقنعة.
رؤية حديثة
من البديهى جداً أن الكاتبة والسينارسيت عندما طرحا هذا الثوب الدرامى لم ينظرا إلى هيكلية بناء الشخصية الاوديبية المأسوية كل كيانها ومقاوماتها وسماتها، ولا إلى القدر السماوى الغاشم، ولم تكن جبال الأولمب ذات بال بالنسبة لهما، ولم ينظر إلى الانسان الذى تصنع الأقدار بما هو خارج عن إرادته .. إنما اوديب السيد حافظ هو أوديب عصرى. هو أحمد الذى يلتقى مع أوديب الاثنين بالعقدة المشتركة فقط.. وما عدا ذلك تكون الخطوط المتوازية للخطوط اللونية للخطوط المتوازية ذات بروز واضح.
سؤال .. وجواب
والسؤال الذى توجب جبرية طرحه على الساحة النقدية هو.. هل استطاع كل من الكاتب والسيناريست والمخرج صناعته وايجاد مبررات درامية منطقية تجعل قابلية التصديق بها أمراً إن لم يكن واقعياً فهو شبه واقعى بضرورة إصابة احمد (بعقدة أوديب).. وما هى تلك المبررات وكيف استطاع الثالوث السابق ايضاحها أم أن الأمر انكمش فى حدود عشوائية المعنى واستسلم للشكلية التقليدية.. باعتقادى لو طرح كل ناقد على ذاته هذا التساؤل وحاول الإجابة عليه من خلال العمل لرأينا نقداً درامياً تلفزيونياً رائعاً ، ولكن حقيقة الأمر كان الموقف عكس ذلك لأن الاتجاه النقدى كان منطلقاً من واقع أدنى مراتب النقد الانطباعى، أى الشخص بكينونته (وهو النقد البحث الذى تصاحبه عوامل انفعاليه خاصة. ويتميز هذا النقد بالتشنجات المعبرة عن حالة اللاوعى بالنسبة لصورة الواقع) وهذا هو واقعنا النقدى المأسوف عليه فى مضاربات بورصة الصحافة كما أسلفت ليس فقط على المستوى المحلى ولكن على المستوى القومى.
كوميديا اوديب.. لعلى سالم والفوضى النقدية
وهذه النقطة تستوقفنى تاريخياً لأوضح حقيقة ما.. عندما اخرج على سالم عام 1969 وبعد هزيمة حزيران 1967 نتاجه المسرحى (كوميديا أوديب) أو (أنت اللى قتلت الوحش) أثارت زوبعة نقدية عنيفة، تنكرت على على سالم كيف سمح لذاته أن يقلب المأساة إلى كوميديا وكيف يجعل من هذا البطل الاسطورى التراجيدى بطلاً كوميدياً.. وكيف قلب على سالم موازين الرؤية الدرامية من حيثية واقع إلى كينونة واقع على طرف نقيض من الصورة الأولية. وخرج معظم النقاد بنتيجة عامة تنص على أن نتاج على سالم لا يمت بأى صلة لأوديب الاثنين ولا لأسطورته.
وتناسى النقاد أن على سالم هو أول من فكر وخرج إلى الوجود فكرة تحويل البطل التراجيدى إلى كوميدى فى ضوء رؤية عصرية حديثة تتواكب مع الظروف السياسية ومتعامد مع نظام الحكم بكافة اجهزته الخاصة، جهاز المخابرات ذو الأسلوب القمعى.. هذا التيار عن الكتابة ما ورث بعد هزيمة (حزيران) نتيجة انهيار الإنسان العربى. وتنافره مع مادته التاريخية وواقعه التاريخى لوجود فارق زمنى شاسع بين القيمة والنتيجة، وبذلك يكون هذا التباعد غير المألوف واللامنطقى صورة عكسية ولدت لدى الإنسان العربى فى النصف الثانى من القرن العشرين فكرة تجديد الحلم التاريخى ، والعودة إلى قالب التاريخ. إلى أن نادى هذا التيار بضورة البحث عن فرد عربى يتماثل بفرديته مع مجتمعه حتى يتحدث الإنسان العربى فى ضوء الظروف التى يعايشها . وبذلك يكون قد ولد لدينا فرد عربى جديد سليم عن ذاته فى فترة زمنية كئيبة فى حدودها. وزرع فى مجتمعه فكرة أهمية دوره الملاصق لدور الجماعة. وأود أن أنوه فى هذا المقام أننا لو أطلنا النظر حينئذ فى بناء الشخصية الأوديبية عند على سالم لسوف تكتشف أن واقعها الإيدولوجى ومضمونها السلوكى هو بناء تراجيدى بشكله العام، وكوميدى باشكل الخاص فى خضوعها وبعدها عن المقاييس الأرسطية بكل تقنيناتها وأحكامها فى تركيبة الشخصية الدرامية.
وسببية طرح هذا التقليل الحكمى يعود إلى منظور الرؤية الواقعية لما يتحتم أن تؤول اليه الشخصية الواقعية فى الحياة وذلك بمقارنتها بالشخصية الفنية فى أساسيات السلوك من البداية وحتى النهاية.. إلى تحديد الخط العام لمسلسل الشخصية.
ومع ذلك فقد تناسى النقاد كل ذلك .. وأطرح هنا فرضية صيغتها "لو أن كاتباً آخر" وغير عربى ، قدم لنا هذا النتاج بشمولية حرفيته الموجودة كما قدمه على سالم، هل كانت هذ هالنتيجة عن الفوضى النقدية البالية " بالطبع كلا .. فإذا حدثت الصيغة على أرضية الواقع مؤكدة حدثها فإن سياق الأمر تنقلب موازيته من قطبية الاتجاه الموجب.. مؤكدين لنقادنا أن أن هذا العمل يعتبر بمثابة نقطة ابداع فى تاريخ الدراما العالمية. ويلجأ نقادنا فى مثل هذا الموقف إلى صناعة المبررات صناعة دقيقة دفاعاً عن هذا التحول والانعطاف . ولكان المر يحتم إقامة الدراسات والبحثو ولكن الأمر عكس ذلك أليس هذا هو الواقع ي اجبابرة النقد؟! اسألوا أنفسكم!
يقول الدكتور على الراعى فى مقدمة مسرحية (كوميديا أوديب)
" سأل على سالم نفسه : ماذا يمكن أن يهم المتفرج فى النصف الثانى من القرن العشرين، وفى مصر وبعد مواجهة مؤلمة مع قوات عدوان عالمى ، من أسطورة يونانية قديمة كأسطورة أوديب والوحش ليست مأساة زواج المحرمات ولا شبكة القدر المحكمة ولا المصير الذى انتهى إليه أوديب وجوكاسنا. إنما الذى يعيبه هو : دور الفرد فى التاريخ .. ما الذى يفعله وما الذى يجب أن يتركه للغير.. للشعب.
حل أوديب اللغز وانقذ طيبه، وفى رأى على سالم أن هذا الانقاذ الفردى البطولى هو جزء من التاريخ، يجب أن يبقى بين دفتى كتاب ولا يتكرر أبداً.. فلم يعد الفرد مهما علت قدراته، قادراً على انقاذ الشعب".
ملاحظات هامشية
لقد تناسى نقادنا المحليون أن هذه القصة تحول إلى دراما تلفزيونية، وليست معالجة جديدة لدراما مسرحية.. فالفرق واضح، وأن استعادة العقدة فى طرح رؤية جديدة أمر يستوجب الثناء والتشجيع لا الهجوم والسخط، وعلينا ألا ننسى أن السيد حافظ وعواطف البدر يخوضان لأول مرة أسوار جهاز التلفزيون ويقرعان أبوابه .. فكان الأجدر أن نبارك لهما خطوتهما المشتركة وجزئيتهما فى ذلك وأن نعمل على تشجيعهما لضمان فرصة الاستمرار موضحين لهما أم السلبيات والإيجابيات بصورة نقدية موضوعية لا من خلال هجوم انطباعى ذاتى بحت. وأن جمهور النقد لسوف تعتريهم الدهشة عندما يخضعون كل ما كتب لقيد الدراسة والمقارنة حيث ستتضح لهم حقيقة جلية. ألا وهى أن نقادنا أضحوا يعاملون الكاتبة والسيناريست على أنهما من مؤسسة حركة الدراما التلفزيونية فى الكويت ولمهما باعهما الطويل فى هذا المجال.
ارتباط مقارن
من جوهر طرح الدكتور يكرمان تناول السيد حافظ وعواطف البدر فكرة موضوع "العطاء" فأخذا ما شاءا مقداراً من العقدة الأوديبية وتركا الباقى ، أى نهجاً أحد خطوط فرويد، ثم ألسا هذا الخط ثوباً عصرياً حديثاً وطبعاه بصورة دراماتيكية محلية.
واستطاعا أن يبرزا الدور الالتحامى بين الشخصية الأوديبية الاثينية بأحد خطوط المعاصرة وبين شخصية أحمد المحلى، تلك الشخصية المركبة ، وذلك من خلال ترابط حديثى وواقع حوارى رائع.
واستسمح القارئ هذا الشروط المقصود.. والذى ما هدفت من ورائه إلا ربط الصلة العضوية ما اكتنف على سالم وما يكتنف السيد حافظ وعواطف البدر الآتى.
عودة للسؤال وتحديد للجواب فى مختبر علمى
وأعود الآن إلى التساؤل الذى طرحته قبل قليل وأود أن أنوه إلى أن عواطف البدر والسيد حافظ كانا متكنين جداً من المادة الخام التى بإيديهما تمكينا جعل منهما حكام الدقة فى صياغة العرض.
وللإجابة على طرح السؤال السابق حول إمكانية وجود مبررات دراماتيكية لإصابة احمد (بعقدة أوديب) يجدر الإشارة بالقول أن الكاتبة والسيناريست وضعا الشخصية فى محل تجارب مختبرية تعتريها الدقة العلمية البحتة، ومن ثم اخضاعها لفحوصات وتشخصيات عامة وخاصة، ازهرت النتيجة فيما بعد أن أحمد لديه الاستعداد التام للإصابة بعقدة أوديب وذلك لوجود العامل المساعد وهو المحرك الدراماتيكى.
أولاً : الإحادية المتفردة لأحمد : فكونية تلك الوحدوية تكمن بأهميتها وقيمتها باعتبار أن احمد هو الابن الوحيد لأمه، الأمر الذى ادى به إلى أن يلتصق بها التصاقاً تلقائياً نابعاً من محركات نفسية واقعية، قمترنا بضرورة التبادل الثنائى لصورة الحاجات الشخصية.. فأحمد بحاجة ماسة لأمه لشمولية واقعها المعاش، وباعتقادى أن احمد ليس لديه أدنى استعداد لأن يتقبل أمه بخلاف واقعها الحالى، دون أى تغير يطرأ موقف حياة سوف يؤدى هذا بكل تلقائية إلى صدمة عنيفة تعترى حياة أحمد (قارن نهاية العمل بهذه النظرة ومدى المطابة فى تحقيق الصورة) الأمر الذى سيؤدى إلى فصم العلاقة بين الطرفين نتيجة لتناقص ثنائية الحاجة المشار اليها سلفاً.
وكنظير للموقف المقابل فإن الم كذلك ليس لديها أدنى استعداد كصورة اقترانية والتى تسعى دوماً لأن تحافظ على تحقيق التوازن، والتوازن فى دراماتيكية الفعل لإقامة أى تشييل وتطوير فى علاقتها بابنها بخلاف واقعه، أو أن تتخذ على الأقل هذا عامل أساسى كما نرى فله أهميته الخاصة التى تختلف عن أسطورة أوديب الأرسطى.
ثانياً : مدرسة الاندماج والتقمص :
احمد من واقع دراسته مرتبط بفن التمثيل، وللتمثيل مدارس مختلفة، واحدى هذه المدارس التى عايشها كبار المخرجين والممثلين مدرسة (التقمص والاندماج) فعلى المثل هنا وأمام هذه المدرسة تقمص الشخصية الفنية التى هى بصدد تمثيلها وتشخصيها ، وهذا الأمر ينمى فى الممثل مزيداً من البحث والدراسة من خلال الواقع التاريخى للشخصية. وبما أن احمد يدرس فن التمثيل ويوقوم ببحث عن اوديب الاثنين، فإن الفرضية التى نطرحها هنا أن احمد يتعامل مع فن التمثيل من خلال المدرسة المشار على الممثل أن يلغى كيانه من واقع شهصى ، وأن يحل محلها كيان الشخصية الفنية وبذلك تتحقق هنا الرؤية للمثل (يجب ألا أكون انا، بل أكون كا وجب على الشخصية أن تكون أو كائنة) وهذا ما افترضته على احمد بتعامله مع أديب والعقدة. وإن كان كل من الكاتبة والسيناريست والمخرج لم يوضحوا لنا الفرضية سواء فى حديثه الموقف أو من خلال طبيعة الحوار أو إشارة عابرة.. إلا أن نقاط القضية يجب أن تكون داكنة على مستوى المساحة النقدية.. فأدنى المور أن تعللت سببية الاختفاء علينا صورتها الافتراضية، ومن ثم تنوير الثالوث السابق بها وبذلك يكون احمد قد عايش اوديب من واقع مدرسة (التقمص والاندماج) وبتحقيق هذه الصورة تترسب النقاط إلى أن يتفاعل الأول بالعامل الثانى بوجود عوامل مساعدة منها :
أ– العمر الزمنى لأحمد : فهو بهذا السن لديه تأثيرات كبيرة على مستوى السلوك الإنسانى وتحديد معالم الشخصية.
ب- النقطة الحرجة : فالنقطة اللحظية الحجرة فى تحديد الصراع السيكولوجى فى معايشة احمد تبرز كتأثير عام، وخصوصاً وأن احمد يطرق أبواب التخرج.. وهذه الفترة بالذات تطلب منه تجديد مصيره فى الانتقال من واقع إلى واقع، عن هيئته الطلابية (ذات المسئوليات والحرية اللا محدودة) .. الأمر الذى يتطلب من احمد أن يعيش فى دوامة صراع متناقض مع ذاته وخطورة هذا الموقف ومضاعفاته هو انقسام ذات الفرد.
فالشعور بالانتقال والترحيل الحياتى هو العامل المؤكد والأساسى الذى ولد لدى احمد جملة الاضطرابات المتناقضة والتى كان يتعذر من خلالها بشعور (بدوار الرأس) كصورة تحليلات من اللاشعور إلى الشعور لاقناعه واحباط طموحاته. وهذا يدلل على عدم استطاعة احمد على مواصلة الدرس التمثيلى لأن ذلك يتطلب منه القيام بجهد اضافى وبما أن مخزون الجهد لدى احمد كان مستهلكاً لقضية أساسية فى حياته المر الذى جعله يقف عاجزاً عن مواصلة الاستمرار بالتمثيل لأن التمثيل يعبر عن واقع وهذه هى المعادلة الرياضية التى تم استنتاجها: (أحمد اللاشعور) (احمد يمثل أوديب المصاب بالعقدة) (على) أحمد يساوى احمد (على) احمد يساوى احمد الطفل.
فمستوى اللاشعور عند احمد يحاول جاهداً أن يقنع الشعور بعدم القدرة على المواصلة فإذا عجز اللاشعور عن مواصلة الاقناع بالطرق السلمية فإنه يميل إلى التحايل بإحدى الصور .
ولما كان التمثيل احدى هذه الصور، فغن اللاشعور يقوم بالتمثيل على اللاشعور كوسيلة اقناع واحباط المخطط الشعور.. وهذا مما ادى بصورة تلقائية بعدم رغبة احمد بالانتقال من واقع الدراسة بالمنهجية الطلابية إلى واقع الحياة وعناصرها المتناقضة وقد اتخذ الشعور (دوار الرأس) كوسيلة لذلك.. وباعتقادى فغن احمد كان لديه فى مخزون اللاشعور احساس تام وافتراض شبه كامل لو أنه انتقل من واقع الطلاب إلى واقع الحياة فغن هذا سيؤدى إلى الانفصام عن أمه ولما كان هذا المر ضد مستوى الرغبات الكائن فى مستوى اللاشعور ومن حقيقة مسئولياته فإن احمد كان يتعلل ويتعذر بالدوار وهذا شكل من أشكال الضروب وأشخصها بالهستيريا.
من هذا المنطلقيحاول اللاشعور عند احمد إقناع الشعور بأنه كلما كان طالباً زادت نسبة التصاقه بوالدته وهو احد طرفى شعور ثنائية الحاجة (أنف الذكر) والذى سبق وطرحته.. اما إذا انتقل احمد إلى واقع الحياة، وهذا واقع يتطلب منه تجارب جديدة مرفوضة فى مستوى اللاشعور ومقبولة فى مستوى الشعور. ومن اخطر هذه التجارب الآن إلى نقطة الحرية اللامحدودة الذى سيحتم عليه اختيار زوجة كبديل شخصى وموضوعى لأمه.. وهذا كل ضد رغباته.. المر الذى جعل احمد أن يعيش فى صراع متواصل بين النقطة اللحظية الحرجة القائمة بين الشعور واللاشعور.
ج – غياب صور المنافسة: وباعتقادى ان هذا عامل أساسى من حيثياته ، فهذا احمد بدون أب والذى نفى أنه يمثل بالنسبة له عنصر منافسة قوى على الأم، أو هو البديل الشخصى لموقف وحدث موضوعى تام وليس ناقصاً. مما أدى إلى أن يتخذ احمد من أمه صورة ارتباطيه أحادية كما أسلفت.. فكأنما العملية هى ارتباط طبيعى بعيدة عن التصنيع فى الكتابة.. وهذه هى النقطة الإبداعية التى استطاعت أن تسجل موقفاً جديراً بالاهتمام للسيد حافظ فى تحديد شخصيات بحر العطاء من معطيات الطبيعة والأسلوب فى حركة السلوك.
ضبابية
وبعد طرح جملة من القضايا، أو أن أنوع بوجود من الضبابية سادت العمل فى تحديد بعض المواقف والأحداث مما أدى لوجود نوع من الغشاوة على عين المتفرج لتحديد تلك العقدة .. ومع ذلك فقد أضاف الجميع إلى رصيدهم الفنى تجربة غنية جديرة بالاهتمام والتقدير والتشجيع.
عوامل سلبيلة
ومن العوامل السلبية التى ساعدت فى إضعاف كلية الصور الدرامية للفعل تكمن فى إطار عنصرين متتاليين ومتتامين :
العامل الأول : وهو عامل البرمجة الذى يوظف توظيفاً جيداً لخدمة العمل . فمن الملاحظ أن مدة تصوير العمل وتنفيذه لم يبرمج له برنامج خاص بحيث تتناسق فيه كل الامكانيات والطاقات وخاصة أن الدراما التلفزيونية تطلب نوعاً من الابداع التصويرى. وفى هذا العمل بالتحديد تبرز أهمية التصوير لأن معظم المشاهد تم تسجيلها خارج إطار الاستديو فى التليفزيون فالتصوير بدون برمجة مسبقة أدى إلى نوع من الارتباك مما أثر على وحدة الصورة، الابداع.
العامل الثانى : وهو لا يقل أهمية عن العامل الأول وأحدده بالاختصار الشديد للعمل. وعلى ما اعتقد أن هناك مشاهد عديدة تم حذفها من كلية العمل، حيث كان من الممكن أن يقدم العمل على جزأين لولا تلك القضية – الاختصار – فمثل هذه المواضيع تتحمل مساحة زمنية أوسع مما قدم به .
ومع ذلك يبقى بحر العطاء عملاً يحتفظ بقيمته وبموضويته وبمادته الجيدة.
واكتفى بهذا القدر من التطرق للعمل ويبقى كل ذلك فى النهاية مقياساً لفهم وإدراك خاص ومن واقع وحجة نظر تحليلة اكاديمية.
0 التعليقات:
إرسال تعليق