الحلم الآتى فى مسرح السيد حافظ
بقلم : زكريا عبد الجواد
مجلة إبداع – المصرية – العدد الثالث
– مارس 1983
بينما خبت شعلة المسرح
الجاد ، وتوارى ألقها الستينى الرائع، تاركة الأجواء لتجار الضمائر الفاسدة،
ليقبضوا على أعنة الخشبة المسرحية فى مصر الآن، ولتهطل علينا – بفضل عبقرياتهم
الفذة – سحابات فجاجة الكلمة وسط هذا الجو، كان ثمة حملة للكلمة الجادة الصادقة،
القاضبة على الحلم النظيف، حلم أبناء الوطن، بشمس مغايرة ، وسطوع أكثر بهجة ونقاء.
وإذا كان وعى الكاتب هو
وحده الذى يمنعه من الانزلاق والذى يكشف له رغم هيمنة الغثاثة، واضطراب المفاهيم
واختلاطها، إن الصدق والحقيقة وحدهما، وما وقر فى الذات البشرية من قيم نظيفة
طامحة لعالم أكثر خيراً وعدلاً للإنسان ، هى التى تنفع الناس، وتمنحهم صدق الكلمة
والفعل، وتبقى فى الأرض، وتعمر طويلاً.. إذا كان الوعى يمنح الكاتب موقفا متميزاً
فى كل ما يمارسه من أفعال إبداعية، فإنه يمكن تلمس عدد من كتاب المسرح الجادين
الذى رفضوا السباحة باتجاه تيار الزيف السائد، وحملوا الكلمة شرفاً وضميراً وشهادة
، من هؤلاء يبرز اسم الديب والكاتب المسرحى السيد حافظ، الذى صدرت له بالكويت منذ
وقت قليل مسرحيات ثلاث فى كتاب يحمل اسم أولادها " حكاية الفلاح عبد
المطيع".
وفى مجمل مسرحيات السيد
حافظ ، يمكن ملاحظة ذلك الالحاح على أن الغد الأكثر إشراقاً لابد قادم، مهما اتسعت
مساحة الأيام الغائمة، لذا يوظف جميع شخوصها ليعطى المتلقى انطباعاً يدين به القهر
والظلم والتسلط. ويمكننا أن نشهد هذا فى
المسرحية الأولى من الكتاب : " حكاية الفلاح عبد المطيع" ، فهو لا يقف
عند حد التوصيف والشرح الفنى وحدهما، بل يتجاورهما إلى الإدانة الصارخة والساخرة،
من بشاعة القوى القاهرة، وديماجوجيتها، فالمسرحية تحكى ببساطة ، إن عين السلطان
المملوكى قنصوه الغورى قد أصيبت بمرض، فالتم الاتباع والحاشية، واقترحوا اصدار فرمان
بأن يرتدى الخلائق الملابس السوداء، وأن تطلى منازلهم باللون نفسه، وأن تمنع
الأضواء والأفراح، وكل ما يخالف مراسم الحداد العام.
لكن عبد المطيع ، وهو
هنا شخصية كسولة سلبية، ساذجة إلى حد البلد، لا تصل اليه تلك الأوارم، فيقبض عليه،
ويعذب بحجة تحدى الأوامر، وعندما يخرج ويرتدى السواد، ويصبغ به حتى حماره، تبرأ
عين السلطان من مرضها، فيصدر الفرمان المعاكس، بأن تعود الأمور طبيعية بلا سواد،
ويمنع تماما ًالظهور بذلك اللون الحدادى، ولا يعلم عبد المطيع الساذج بهذا أيضاً ،
فيعاد القبض عليه مرة أخرى بالتهمة السابقة ذاتها.
وبين البياض والسواد ،
بين الأمر بالفرح ، والأمر بالحزن تدور أحداث المسرحية فى اسقاط بارع، وإشارات
لممارسات غاشمة، اوصلت إنسان الشرق التعس إلى ذروة الإحباط والخوف، وأسقطته فى
سلبية (وأنا مالية) قل أن توجد بعيداً عن تلك البقعة التى تكالبت عليها عوامل
التخلف، والإطماع الاستعمارية والعنصرية من فجاج الأرض. بينما يبعد البسطاء حتى عن
إبداء الرأى فى أبسط الأشياء المؤقرة على حياتهم، خوفاً وقهراً.
والمسرحية تقع فى
فصلين، ويمكن أن تعد من مسرحيات الملهاة الجادة، اى من تلك المسرحيات التى تتخذ من
الكوميديا الراقية طريقاً لبناء الحدث وتصعيده، والتى تنبع جديتها من خلال المواقف
المتقدمة الحاملة سخرية مريرة ، يتطلبها الموق.
وقد اداد الكاتب تحريك
شخوصه ابتداء من الشخصية المحورية "الرئيسية" عبد المطيع، وانتهاء
بالشخصيات الثانوية، وأجاد إقامة حوار مقنع لكل شخصية، وبما يلائم طبيعة كل منها ،
وسلوكها وحالاتها النفسية، كما أجاد اختيار اللحظة التاريخية ليتكئ على شخوصه فى
تلميحاته إلى أحداث مشابهة للواقع، وإن لم يجعل تركيزه الأساسى على إضفاء الجو
التاريخى لذلك العصر على أخداث المسرحية، حتى إنه يمكننا حذف اسم السلطان الغورى
وكلمة "فرمان" مثلاً لنجد أننا لا نكون امام مسرحية تاريخية، بقدر ما
يكون للواقع حضور مكثف وواضح.
ويمكن أن نقول بوجه عام
ان هذه المسرحية هى أفضل مسحرياته الثلاث، وهى تعد تطوراً طيباً فى المسيرة
المسرحية العربية الجادة، ولا شك أن السيد حافظ قد خطا بها خطوة واثقة فى عالم رحب
وممتع، هو عالم المسرح.
فى اشارتين ، تقع
المسرحية الثانية التى حملت عنواناً طويلاً ، ينم عن ولع السيد حافظ بالعناوين
الطويلة، منذ أن بدأ الكتابة للمسرح: "علمونا أن نموت ، وتعلمنا أن نحيا
"
ومن خلال الحوار الدائر
بين الشخصيتين الرئيستين واللتين تحملان مفاهيم وأحلاماً متباينة تماما، وتجتمعان
معاً فى غرفة واحدة من غرف السجن، ويدور بينهما حوار يبدأ فى الإشارة الأولى
بالفصحى ، ثمث ينتقل إلى العامية فى الإشارة الثانية (دون سبب معلوم) ومن خلاله
ندرك أن هناك سجينين : الأول يعمل صحفياً، وسجن بتهمة سياسية والثانى تاجر ويسجن
لارتكابه جريمة قتل والحوار الدائر يكشف عن مدى وعى كل منهما، لكن الهاجس الذى
يجمعهما معاً هو حلم الإفراج ، الأول لكى يحارب الأعداء (على المستويين الخارجى
والداخلى)، والثانيى لكى يعيش مع زوجته الرابعة وبين الحلمين مسافة كبيرة تفصل ما
بينهما، بحجم الوعى ومسار العاطفة، ويشتد حلم الإفراج ، وقت الغارة المعادية التى
تستمر طوال المسرحية، وعلى مدار الاشارتين فيها، ويجسد المؤلف هنا عذابات الوعى
الذى يعانيه من يحملونه، حين يقف السجين الثانى (غير الواعى والسلس الانقياد، وذو
العواطف المتناقضة والمشوشة ) صارخاً بوجه السجين الأول (الصحفى والسياسى الحالم
بغد يملؤه الخير).
"جاى تقولى افتح
الحجاب اللى تحت باطك، وعايز تعلمنى القراية والكتابة، علشان اقرأ، جايز يكون
الحجاب فيه ورقه سوده، وعايزنى أزعل وأشك فى نفسى والناس ليه؟.. علشان أفهم.. ما
أنت اهوه قدامى بتفهم وتعبان. أنا مستريح لأنى مش فاهم.. عايز أعيش زى ما أنا.. زى
ما أنا.
غير أنه يعود ليؤمن مع
السجين الأول بطلوع وقت أخر جديد رائع، إلى أن تاتى نهاية المسرحية حيث ينهار
حلمهما بإصدار قرار التحفظ ، واستمرار الحبس بعد انتها ءالغارة.
وقد كان للقطات
الجانبية وتوزيع نقاط الضوء أثر كبير فى إثراء احداثها ، والقاء الظلال على دخائل
السلوك ومكوناته عند كل من الشخصيتين المحوريتين ، إلى جانب الحوار الملائم، والذى
لا تخفيه كثرة الأغلاط الطباعية، وخلط ترقيم الشخصيتين.
أما المسرحية الثالثة
فى الكتاب، وتحمل عنواناً مختصراً "الخلاص" وأخر مطولاً " يا زمن
الكلمة .. الخوف، يا زمن الفترة من 4 يونيو 1967 حتى 6 اكتوبر 1973 ، حيث يستدعى
المؤلف ثلاثة من الشهداء الأشقاء ، هادى، صار، سلام" فى جو احتفالى ، انشادى،
ليروى كل منهم قصة الاستشهاد ، وليعلنوا عن تحديهم للموت، وللهزيمة، وحيث نلمح من
خلال تحاورهم ذلك الخيط الذى يربط مسرحيات السيد حافظ ، والذى يتمثل دائماً فى
تحدى الظروف القاهرة والتبشير بالغد الواعد الرائع، الذى تخلقه سواعد الرجال
وعزائمهم القوية.
المكان : مدينة السويس
، حيث تكون التضحية الدائمة، منذ أن حفرت القناة ، وحتى حروب 56 ، 67 ، 73، وحيث
تكون صلابة المقاومة، وشجاعة الفداء الرجولى ، سمة عظيمة تنضح بها جباه البشر فى
تلك المدينة الباسلة.
فى لغة أقرب إلى الشعر
العامة المصرى، يتبادل الأشخاص فى تدفق حماسى، وخطابية أحياناً ، إنشاد أهازيج
حماسية، عن الأرض التى تروى بدماء الرجال، وعرق جباههم، وعن الشمس المتلألئة فى
العيون، والنهار الوردى، والحلم الطالع، حتى نصل إلى نهاية المسرحية، ليغنى
"الكورس" ، "ازرع "لا" ، للهزيمة، ازرع "لا" ،
إزرع "لا" فى وش عدوك".
"اطلع فوق الهزيمة
مقاومة مقاومة ، واضرب، اضرب رصاص واحصد خلاص.. احصد خلاص .. احصد.. احصد .. هخلاص".
وهكذا تمزج المسرحية
بين الرصاص والخلاص، ومنذ الحرف الأول فيها، وحتى الأخير، يظل للمقاومة الصوت
الأعلى بوصفها الحل الأوحد، والأجدى، فى مواجهة عدو شرس قبيح.
إن المسرحيات الثلاث
التى حواها بين دفتيه كتاب السيد حافظ الأخير " حكاية الفلاح عبد
المطيع" تمنحنا فألا ، بأن المسرح الجاد مازالى موجوداً، ومازال رجاله يحملون
رايته التى انحسرت من الساحة يوماً، تلك المسرحيات علامة مضيئة فى مسرح السيد حافظ
، وخطوة متقدمة هامة.
ويبقى أن ننتظر أعمالاً
ناضجة أخرى فى مسيرة واعية وجادة، تعدنا بها مسرحيات السيد حافظ، طيلة مشواره مع
هذا الفن العظيم ، والصعب، فن المسرح.
الكويت : زكريا عبد الجواد
0 التعليقات:
إرسال تعليق