شعرية اللغة وجماليات السرد في رواية نيسكافيه
قراءة بقلم د. ليلى بن عائشة – الجزائر
إن الكتابة قلق لا ينتهي وهمّ إبداعي لا قبل للمبدع به ما لم يطور آلياته ،ونحسب أن الأديب الحق هو ذاك الذي لا يقف عند حدود النور في الكتابة بل يتعداها إلى حدود العتمة لينير المظلم منها ويلامس بسحر كلماته ما هو عذري بكر..ثم إن الانتقال من لون أدبي إلى آخر في الكتابة يحسب للأديب خاصة إذا أثبت قدرته على امتلاك زمام هذا اللون الذي أراد خوض غماره . ولا أخالني أغالي إذا قلت هذا هو حال أديبنا السيد حافظ الذي تحول من كتابة المسرح إلى كتابة الرواية باقتدار ، وهذا ما تنبئ به روايته الأولى نيسكافيه ..التي يبدو عبرها الكاتب مولعا بالتجريب كما عهدناه في المسرح ،وباعتقادنا أنه بدأ من القمة وسبح ضد التيار فبدل أن يتدرج في كتابة الرواية بحسب ما هو معهود وجدناه يختزل كل المراحل ليكتب الرواية التجريبية حيث كسر تقاليد الكتابة السردية بابتكاره لعالمه السردي الخاص ومصطلحاته التي تكفل له التعبير عن كل ما يختلج بذاته وكأننا بتفاصيل الرواية ومساحة البوح والسرد فيها غير كافية ليقول ما يود قوله...فكانت التنهيدة مساحة والهمسة مساحة، وتفاصيل الرواية مساحة أخرى ...وبين كل هذه المساحات فضاءات للمتلقي يطلق فيها العنان لذاته ليبدي رأيه، فيشاطر الكاتب ويقاسمه همومه أحيانا أو ليقف معارضا أو معترضا عن بعض أفكاره ربما أحيانا أخرى ،....فرواية نيسكافيه مساحة لشتى أنواع المتلقين يجد فيها كل متلق حيزه الخاص ...فالمولع بالجنس والنساء سيجد ضالته ...والمعترض على أساليب السلطة واضطهاد النظام سيجد من يتكلم بصوته ...والإنسان الحالم والرومانسي لن يجد أفضل من مساحة البوح الرومنطيقي الذي حبلت به هذه الرواية ..والمتمرد على كل الأعراف والتقاليد سيجد ذاته بين ثنايا شخصيات نيسكافيه..
نيسكافيه رواية حالة لا لشيء إلا لأنها كتبت شهادة ميلادها بنفسها دون أن تكون بحاجة إلى مرجعية أو سند ،لبها تجربة الكاتب وسيرته الذاتية ،هي رواية سيرة بل سير ولكنها غير السير المعهودة ،المتخيل فيها حاضر ولكن الحقيقة هي الحاضرة بقوة،...نيسكافيه رواية سيرة بعبق التاريخ واستعراض مهم لمحطات مشرقة ومشينة في تاريخ مصر والأمة العربية عبر همساته المتنوعة..كما أن تنهيداته تُقتلع من أعمق أعماقه ، بعضها كان متوائما بشكل كبير مع نسيج الرواية أي ان التنهيدة في بعض الأحيان تتواءم مع ما سيأتي في تفاصيل الرواية نأخذ على سبيل المثال :
(( وكان يرى أباه الحاج وحيد سالم يرتل القرآن فى الليل ويصيح ويؤذن وهو نائم.. ويدعو الحاج سالم الله فى الليل تضرعاً، ويجلس الطفل وحيد يترقبه من فوق السرير في دهشة حالة والده في التجلي خارج الوعي)).ثم تأتي التنهيدة في توافق تام مع ما سبق ((تنهيدة.. (إلهي تسبح لك السموات وما فيها والأرض وما عليها وأسبح لك خجلا وأملا سبحانك من خلقتني ووهبتني نعمة الحكمة والقلم إلهي في الروح والنفس ألم.. إلهي أنت المجير وأنا المستجير وأنت المغيث وأنا أستغيث اجعل لى نوراً أمامي كثر الظلام والظلم حولي ومن يغير حولي وحالي وأحوالي إلا أنت ربى ورب الناس إلهي هب لي من لدنك حكماً وعلماً ونوراً.. أخرجني من الظلمات أو المؤامرات احمني ودافع عني وأمكر لي وارزقني بفضلك يا رحمن يا رحيم.. ) آمين..)).
وبعضها الآخر كان بعيدا ،ولا نحسب أن الكاتب قد عنى بالتناغم بين الهمسة والتنهيدة وفصول الرواية بقدر ما عني بالفكرة في حد ذاتها وما تحمله من معاني وما يود للقارئ أن يستشفه.
رواية نيسكافيه أيضا رواية استشرافية للغد الذي لا نعلم كيف سيكون لكننا وفق رؤية الكاتب ندرك كيف سيكون انطلاقا مما هو كائن ...وما نهاية الرواية إلا تقرير حالة لما سيؤول إليه الأمر إن لم تتغير الأوضاع ،وتقوّض الأنظمة الفاسدة.. ،.
((استيقظت في الصباح.. شربت نسكافيه.. أمسكت القلم ثم نظرت حولي.. أمسكت الصحف الصباحية.. وجدتها باللغة العبرية.. لم أصدق عيني.. فتحت التلفزيون.. نابل سات.. وعرب سات.. وجدت كل القنوات تتحدث بالعبرية من المحيط إلى الخليج.
رفعت سماعة الهاتف سمعت الهاتف يقول شالوم ويتحدث عبري قلت لا....
قالوا: ربما نمت سنين عددا..
العرب انتهوا منذ زمن..
قلت: كم نمت..؟
قالوا: ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا.. والله أعلم..
بكيت.. نزلت دموعى على الأرض تكتب.. كنت عربياً.))الرواية.ص.522.
الرواية كتبت قبل ثورة يناير لكنها حملت في ثناياها –كما هي كتابات السيد حافظ- روح الثورة وبذرة التمرد... كانت الجامعات المصرية هي نبض الوطنية ووقودها.. الطلبة من قادوا كل حركات المقاومة المصرية.. واتفق الشعب المصري ومؤرخوه أن لا يذكر اسم الطلبة أبداً.. الرواية.ص 220.ويستشرف الكاتب واقعا جميلا يتفاءل فيه بميلاد صلاح الدين من جديد ووجود القائد الذي ينتشل الأمة من الضياع بل إنه يكتب لهذا القادم ويخاطبه قائلا:
((إلى القادم..
لا أدرى من أنت؟
ومن تكون؟ ومن أي مكان ستأتي لتغير وجه التاريخ العربي القبيح الآن.. أكتب لك لعلك تقرأ ما كتبت وتعرف حقيقة ما جرى لي ولنا، فذنبنا الوحيد أننا وجدنا في زمن الأقزام ويظنون أنهم قامات، أكتب إليك ولا أعرف هل سأراك وأنا حي أم يراك أولادي وأحفادي نحن مضطرون أن ننتظرك.. مقاومتنا حتى الآن لا تفيد.
أيها القادم النبيل الجميل العنيد، نحن بلاد يسكت فيها كل البشر حتى الحجر نحن كمنجات بلا وتر، ونحن قمر بلا ضوء نضر لا أجرؤ أن أقول لك أننا صرنا لا بشر)). الرواية.ص.7 .
غير أن التفاؤل يشوبه بعض التشاؤم الاستشرافي بأن المقاومة لم تثمر ثورة وإن أثمرت لم تنجح ((مقاومتنا حتى الآن لا تفيد.))هذه الثورة التي لم تولد بعد ثورة يناير ،التي نجحت في مسارها ما لم يجعلها الفاسدون تتحول عن مراميها النبيلة ...
إذا تأملنا اللغة فشعريتها تراوح الشعر في موسيقاه ،الكلمات محملة بعبق الرومانسية الحالمة وإذا كان في الشعر العربي المعاصر ما يسمى بالقصيدة النثرية فلنا أن نقول أن لغة الكاتب في مجملها في رواية نيسكافيه نثر شعري على قدر كبير من الشعرية والجمالية ،لغة ترتقي بالذوق وتراوح مكانها بين دفتي النثر والشعر ومن ثمة فالكاتب اعتمد كثيرا على ما يصطلح على تسميته بشعرنة الخطاب السردي.ولنتأمل لغة هذه التنهيدة ((تنهيدة :
( بعض النساء يتحولن إلى زهور.. وبعض الزهور يتحولن إلى نساء.. وبعض الزهور تظل زهورا سجينة البستان.. وبعض النساء تظل نساء سجينة القصور.. وبعض الرجال لا يعرف انه تزوج من أنثى اصلها وردة؟
وبعض البستانيين لا يعرفون أن زهورهم أصلها نساء؟؟ وأنا أعرف أنك كنت زهرة وتحولت إلى أنثى كي تزرعي نفسك في قلبي وعقلي وروحي وأشم عطرك كل صباح ومساء. أنت بعض كل البعض) .الرواية.ص.344.
لم تغفل الرواية -كما كان الكاتب دائما في مسرحياته-الجانب الإنساني الذي يبتعد فيه عن المحلية الضيقة ،كما ينأى فيه عن كل تفريق ديني أو طائفي ليركز على الإنسان في عمقه كإنسان، وعلى الوطنية بجوهرها التي لا يفرق فيها بين مصري مسلم أو مصري مسيحي أو يهودي فالمصري في عرف السيد حافظ مصري وكفى .. يقف حائلا وسدا منيعا بكلماته دون كل الثغرات التي قد يتسلل عبرها العدو لزعزعة الاستقرار وزرع الفتن ،وعلى رأسها النعرات الدينية والنزعات الطائفية..
(( أحب بلادي الحقيرة الخائنة التي استطيع أن أضمها كل ليلة في حضني كوردة أو وسادة أو جملة في عبارة وهى على حافة المقبرة ملطخة بالدم والفساد من آلاف السنين أنا الصامد للفساد وتردى المعرفة أنا القاهرة ومصر الخفية الطاهرة لا الظاهرة وأنا العروبة الخفية النادرة وليست العروبة الحالية..
((تنهيدة :
(سجل أنا عربي قال محمود درويش وأنا أقول لك سجل أنا عربي أنا مسلم أنا مسيحي أنا نوبي أنا شيعي أنا سني أنا أرميني أنا يهودي أنا علوي أنا درزي أنا فاطمي سجل أنا فرعوني سجل أنا خليجى فلسطيني سوري لبناني تونسي أنا فتحاوى أنا حمساوى أنا قومي أنا شيوعي وإخوان مسلمين أنا وهابي سجل أنا عربي أقصد رعبي أقصد بعرى أقصد عبري أقصد غبي إرهابي وأظن إني ظل نبي)).الرواية.ص.47.
باختصار لم نقف في هذه القراءة المقتضبة إلا على بعض النقاط المضيئة في هذه الرواية الاستثنائية ،وما استوقفنا كثير على غرار تداخل الأزمنة ،والأمكنة وسلاسة الانتقال بين الماضي والحاضر والمستقبل المُسْتَشرَف ،واعتماد تقنية التغريب التي تبقي القارئ متيقظا غير مندمج في الرواية وربما كانت الهمسات والتنهيدات إحدى قنوات التغريب الذي تحقق بقوة عبر الرواية ،ناهيك عن التبئير الذاتي أو الداخلي بوصفه تقنية أساسية اعتمدها الكاتب لينقل الأحداث ويسردها من وجهة نظره الخاصة ،وربما كانت الأنسب –كما نعتقد-لأن الرواية قائمة على سيرة ذاتية يتم فيها توجيه الأحداث وروايتها وفق ما يراه الكاتب من وجهة نظره الخاصة مستعينا في الوقت نفسه بالمونولوج والحوار مع الذات ،ومع ذلك نجد أن فضاء الرؤية والتعبير والرأي الآخر متاح لشخصيات الرواية بحيث قدمت وجهات نظرها من منطلق ما هي مؤمنة به بحرية ولم نشعر للحظة أن الكاتب يقف دون تعبيرها الفعلي عن آرائها بخاصة شخصية لمى ..
وما نود التأكيد عليه في ختام هذه القراءة أن رواية نيسكافيه رواية مغرية بالقراءة والاكتشاف،لأنها تسائل القارئ وتجعل منه قارئا مختلفا، إنها ببساطة تنتج قارئا إيجابيا يتجاوب مع النص الإبداعي ويسهم في ترتيبه وكتابته من جديد ..وإذا حاولنا تحديد هوية هذه الرواية فلنا أن نقول أنها تتقاسم مع الكاتب كينونتها عبر سؤاله في التنهيدة الموالية، مشركا المتلقي في أسئلة الهوية تلك ،ومن ثمة نقطع الشك باليقين لنقول (نيسكافيه )الرواية=الكاتب(السيد حافظ)
والكاتب (السيد حافظ)=الرواية(نيسكافيه)
تنهيدة :
(تسألوني من أنت؟ قلت أنا الصفر وأنا السفر..أنا القلم وأنا الألم أنا الحب وأنا الجرح.. أنا جسد العروبة العجوز وروح الأمة المتعبة.. أنا الحاضر والماضي والمستقبل.. أنا الكبير الصغير والصغير الكبير وأنا الأسير في العشق بل طريق. أنا الغريب في الوطن.. وأنا وطن كل الغرباء.. وأنا الغربة وأنا الغنى الفقير.. والفقير الغنى..
وأنا الجمهور الجائع للخبز والغاز والعطش للماء وأنا الانتماء النادر وأنا النيل النقي وأنا التقي وأنا الموسيقى والشعر والنثر وأنا الصمت الزى يصبح غناء وأنا جهل العروبة والعروبة الضائعة وأنا مصر يعنى مصريم بن بنصر بن حام بن نوح عليه السلام وأنا السلام والصمت والكلام والقهر والانسجام وأنا القصيدة العبقرية والسراب وأنا الحضور في أفكاركم وأنا الدنس والقداسة وأنا الطهر والنجاسة وأنا عبد الوهاب وفريد الأطرش وسيد درويش وصوت عبد المطلب أول رمضان وأنا لست أنا في خارطة الوطن الأعمى.. الوطن الإنسان وأنا الإنسان حين يصير الوطن إنسان.. ).الرواية .ص519.
0 التعليقات:
إرسال تعليق