رواية السيد حافظ نسكافيه
جراءة الحداثة والمعاصرة
انطباعات : أمين بكير
لقد استوقفتني هذه الرواية من بين الأعمال التي قرأتها قبل رحيل عام 2010 فوجدت هذا الطرح العميق المشاعر من حيث المضمون وطرافته وجدارة الطرح وأصالته.
فقد رسم الكاتب الكبير: السيد حافظ ملامح مجتمعنا من خلال روايته "نسكافيه" بالتقاطه لصور فنية، مجتمعية شديدة الصدق. وكذلك رسم بحريفية عالية ملامح الصراع الدائر على أرضنا.. واستطاع أن يضبط طرفي المعادلة الفنية (الشكل والمضمون) وتعتبر الرواية (إطلالة جريئة) وحديثة تحمل في أعطافها الأصالة والمعاصرة.
والبداية عند الكاتب في هذه الرواية بدأت من (ينبوع الشباب) والسيد حافظ هو (الحكاء) الجيد في السرد الشاعري في اختيار مفرداته اللغوية.. فقد كان السرد عن قصة (لـمى) وعالمها المشحون بالنزق والرغبة والانكسار ومقاومة عالم الذكورة الزائفة حيث رسمها السيد حافظ في صدق، والأهم في شاعرية أدبية عميقة ومؤثرة.
وهو في الانتقال من فصول الرواية في نعومة ساحرة. إذ يغوص كبحار ماهر في بحور الأمنيات التي يحلم أبطال روايته: لـمى أو شخصية: وحيد سالم، أو باقي الشخصيات التى كان صادقاً فى رسمها فى حذق أدبى، تحدث عن رغبات الجسد وجموح العشق وحزن النوارس فى طيف أبطال روايته. وعن عضعضة أفعال وإكساب خصال، طرح علينا قضايا شخوصه وهمومهم ليجعل من المتلقى مشاركاً إيجابياً حيث حتمية أن يعقد المتلقى المقارنة بين الشخصيات وسلوكياتها. ويسدد في صدق عن آلام وأحلام الجيل المجهض الأحلام.
على أن عبقرية الأداء الروائي في هذه المحاولة ككاتب مسرحي مخضرم أراد أن يطرح بقلمه، الذي أطاع مشاعره، فأخرج من مخزون ثقافته جذوة نارية على إبداع مواز للحكي. وهو (استفاقات) أو (وقفات) أو (تعليقات على الأحداث الجارية) وكأنه بهذا الاتجاه يختار مهمة (التأريخ) بجانب الإبداع الأدبي، أراد كذلك أن يذكرنا بما يجري لعالمنا المعاصر.. لممتلكاتنا التاريخية وعقائدنا الفكرية.
وإذا كانت الأحداث لرواية "نسكافيه" تنكأ جراح الأبطال والمتلقيين على حد سواء. إذ يضعنا الكاتب أمام سندس الدهشة للشاعرية. وفي ذات الوقت واضعاً كل عقبات الإنطلاق. وسوف يجد القاريء في رواية "نسكافيه" العبقرية صدى بل أصداء لأشياء قريبة منه وقد بعدت عنه. أو بعيدة عنه فاستقدمها الكاتب.
إن الإحكام الفني في "نسكافيه" هي فضح كل أطراف المؤامرات التي تحاك في حق هذا الوطن. والذي سيجد القاريء أن الكاتب اختار تعبيرات أدبية أرادها أن تكون شارحة لما حدث في عالمنا المعاصرة وكذلك ذكرنا بطائفة من البشر باعوا انتمائهم للشيطان، وباعوا الله في طرقات الموت.
والشخوص المثخنة بعذابات الصدر والوجد والفساد والطموح والجنوح وتنوع المعاناة اليومية لرجل الشارع الذي لا ينساه السيد حافظ ولكن يذكره ويشكل مواز للسرد الروائي بقصص العشق وبكل الأمنيات الجميلة التي اقتنصت منه. وقصص لحياة قطاعات من البشر فينا، ومنا، وإلينا، وضدنا ومعنا في آن واحد.!؟
وعن لغة التوحد بالجسد وبالوطن وللوطن وسريان النزق في أوردة الشخوص، وعن السحر والجمال والصعلكة والتثاقف، وعن الوحشة والتوحش، وعن التوحيد والتطهر، وعن زلزلة الحب والرغبات الجانحة الجامحة ذي الأجنحة مثل طيور تحمل للبشرية كل الكره لها، وهذه الرواية للوطن لابد أن يعيد القارئ قراءتها مرات ومرات حتى يقف عند سندس الدهشة على قدرة الصياغة والوصف والحوار والشاعرية والصدق والتوثب. والتأريخ والتعليق على الأنباء، وتقليب تربة الحزن. ولقد صاغ الكاتب خطوطه في رواية عن القاهرة في حركتها غير العادية وسهر الساهرين وغضبة الثائرين وصور حقد الحاقدين، وعن معاملة النساء وكأنهن ملكات متوجات على عروش قلوب العاشقين. وحكى عن فرسان وقامات وأقذام، موضحة الكون للقارئ الإنسان. وإهداء الحب حتى ولو بعد فوات الآوان.
إن الأعوام ليست لها حساب في زمن السيد حافظ الروائي بل المعنى المتنامي دوماً في تربة اليقظة الناقدة..!؟
ورغم الإسقاط من خلال شخصيات الرواية فيحن يتصور العاشق أنه أحد ملوك الفراعنة وأنه أوزوريس وأن (لـمى) هي إيزيس ويتمنى أن ينجب منها حورس جديداً. واستبدال المشاعر والمتاجرة بها. ومثل سيمفونية عزفها الكاتب في ضلوع الشخوص في روايته، وجعلها بأحداثها سوسنات تأخذ بلباب المتلقي.
شاعرية الطرح :
لقد اختار الكاتب أسلوباً فيه الكثير من الشاعرية، وأتت كلمات كثيرات على وتيرة الشعر الحر، المطلق، ودعوني أستشهد بهذه الكلمات في صفحة (51) من هذه الرواية الشيقة : بعنوان (تنهيدة) ويقول الكاتب:
" كلما قرأت القرآن أو الإنجيل أو التوراة عرفت أن الله رب الشعر وكلما نظرت في عينيك عرفت أني بالعشق معجون وكلما سمعت صوتك الهادر بحنان كأمواج البحر أقول من أنت؟ فأنت لا تردين ومن يجيبني المطر أم الشمس ؟هل أنت الحضور أم ملكة ملكات التاريخ أم رعشة في الدم واشتعال الروح أم أنت زهور ارتوت بدم الحسين والمتنبي وبلقيس وكليوباترا وأنت شرفة للشهوة تطفىء انحرافي فأقوم للصلاة وأنا الجريح بالعشق وبكل ألوان الطيف"
ويذكرنا الكاتب دوماً بأننا على أرض مضر.. فوضع في أسفل تنهيدته همسات هي مفتاح اليقظة على واقعنا.. وفي ملحية كاشفة للسلبيات والانتقاد ثم يعود إلى السرد عن أبطال روايته وتستمر هذه الانحرافات التي يذكرها الكاتب سواء في تنهيداته الناقدة أو همساته التي تدين المخطئين في حق المعشوقة مصر.. وكل الشخصيات التي تبحث عن فجر حياتها، عن وجودها وعن قيمة هذا الوجود وأن رسالة الكاتب حب وسلام والتقاء الروح مع الجسد. والعطاء المجتمعي الذي يجعل المتلقى في عالم من السحر وهذا الجمال.
ولا أقول أن هذا الميلاد الروائي الجميل والجديد في توجهه المعتمد على التحليل العقلي وردود أفعال لأبطال الرواية وظل بقلمه يجعل من أبطاله في حالات العنف والعناد والسهاد والبعاد والاقتراب، وكل السجايا الإنسانية وكل كل خطايا البشر..
وعن الاغتراب والاقتراب ويأتى بأخبار الأولين ويشرح بجانب السرد الروائي أبعاد ثلاثية، فيها شمولية الثقافة أنه يكتب عن الإسكندرية العطش للحياة ويكتب عن عطش المواطنة إلى الحرية إلى الديمقراطية.
والخطاب الروائي في عمله الجديد خطاب وإن كان فيه استطالة الأذن فيه كل التبتل للوطن كأنه سيرد على أوجاع وعذابات المواطن المفروس من أفعال أشاوس الشر، وهو بجانب كونه (جبرتي جديد) فقد أخذ ولاية التأريخ من أفواه ومن كتابات المفكرين وشاعرية الشعراء وحكمة الحكماء. وقد أشفقت على السيد حافظ حين استلمت روايته حتى أقرأها وأن أكتب عنها انطباعاتي. وها أنا أكتب لا ناقداً ولكن قارئاً لعمل روائي لم أقرأ مثله من قبل. ففيه كل مبتغى القارئ من فكر ومن خط أدبي وخطاب روائي. وإنه كان بإمكانه أن يقسم هذه الرواية إلى ثلاثة أنواع من الإبداع. ففي همساته التأريخ، وفي تنهيداته شعر راق، وفي سرده الروائي إمتاع أدبي.
وأن السيد حافظ وعالمه المسرحي. ومعاناته في الغربة. أو في الاغتراب جعلت منه فيلسوفاً وقد يظن الجهلاء أن روايته عبث. وأنا لا أنفي أن تكون عبثاً لكنه عبث من أجل الاستفادة. وأيضاً قد يظن البعض الآخر أن الرواية قصة عشق عادية تحدث في كل يوم، وفي كل لحظة، وفي كل وطن ولكن حدوثها هنا على أرض مصر، وانتقال الأحداث والمشاهدات والشخوص ومناقشة حال البلاد والعباد، من خلال خلفية ثقافية وموسوعية، حاول الكاتب باجتهاده أن يقدم للقارئ من خلالها وجبة ثقافية متكاملة. فكتب عن العشق، عن الظلم، عن الخيانة، عن الأوجاع النفسية، وصاغ حكايات وتنهيدات وهمسات عن حفلات الغزل والخلوى الذي أبدع في تصويره هذا الغزل الخلوى للوطن الذي يجمع فيه السيد حافظ بين طرفي الصراع، ووجهي المعاناة..!؟
يجمع بين المترفين بالوطن وفي الوطن والمترفات بالتغيير والتدبيل، ويكتب عن الطبقات الدنيا فيصوغ أحلامهم بمهارة وجسارة، وأن المسألة ليست من خلال الشخصيات، وإنما الأحداث التي تأخذ الأبطال والقاريء معاً إلى دائرة معرفية للغة مشحونة بالحب والنقد، وبالمرارة وهذا هو الواضح. منتهى الواقعية ومنتهى الرومانسية في رواية واحدة..
وإذا كان اسم السيد حافظ قد اقترن بالمسرح أولاً.. فإنه من خلال إسهاماته في الكتابة للسينما أو للفيديو فهو ملك متوج في دائرة الحوار المستنيرة ونراه في سرده الأدبي قابضاً على أدواته، واعياً لما يكتبه مستبشراً خيراً للوطن من خلال هذا الأدب الروائي الهادف.
ولعل من المسلم به. وما ينبغي ذكره، أو التذكير به أنه لا يوجد فن جيد بدون صنعة جيدة. فاللغة عند السيد حافظ غنى في الخبرة الحوارية وشاعرية في السرد. وهو في روايته لم يعتمد إلى قوالب من التسطيحات أو إلى نوع من السهولة والبساطة وهي كلها مفهومات تحتاج إلى قدرة من التفكير. ونقل هذا العناء في التفكير إلى المتلقي المستنير، لأن الخبرة في الإبداع عنده تستمد غناها من الواقع.
والواقع عند السيد حافظ يعني وجوداً مفترضاً قد لا يقتصر على الظواهر الاجتماعية بكل ما فيها من تنوع. وإن كان السيد حافظ قد اختار الواقع المعقد الشديد التركيب، يعتمد على الصحوة كما يعتمد على الحلم، يعتمد على العلاقة بين الأشياء، وبين الذوات، وكذلك يعتمد على العلاقات بين الأشخاص بعضها ببعض، ويعتمد علاقات أخرى، يكاد لا يحصيها الحصر، مهما بلغت من ثراء وتنوع، لذلك لجأ الكاتب الى أسلوب الإحاطة الشاملة بالحقائق القائمة التي تعجزنا بالضرورة وبالتعريف على أن تكون ناقلة للواقع. ولكني أعترف جملة أن الأدب الروائي عند الكاتب كان بمثابة صناعة الأشواق والأحلام : فكان اقتطاع من الواقع.
وإن الكثافة في اللغة والشاعرية كما قلت آنفاً تدلان على الخبرة وكذلك سعي للمعرفة. وكذلك سعي إلى التواصل بين الجيال، وخبرة أظنها عند الكاتب مقسومة بالعدل بين المبدع والمتلقي، وما تحمله روايته من احتشاد. وما قد يترتب عليها من غموض، فقد اختار نسقاً جديداً ليكون إبداعه متميزاً.
ولقد بقت رواية "نسكافيه" للقاريء إلى الاستمتاع بهذا العمل الكبير والجميل، لن ألخص الأحداث أو فصول الرواية وإنما أدع القارئ بفطنته يصل إلى مبتغاه ولكل مبتغاه عند السيد حافظ هذا الكاتب الكبير...
بقلم : أمين بكير
25 يناير 2011
العنوان : 27 بلوك 11 مدينة العمال - إمبابة - الجيزة
0 التعليقات:
إرسال تعليق