نسكافيه رواية البوح والكشف والمغامرة
ا. د مصطفى رمضاني
بين الرواية والأتوبيوغرافيا حد رقيق : تلك تتحدث عن الآخر أو الآخرين برؤية السارد ، وهذه تتحدث عن الأنا بأنا السارد ..
وفي حالتنا يبدو السرد الأتوبيوغرافي الأكثر حضورا ، رغم أنه لا يلغي البعد السوسيوغرافي للرواية . فهو حاضر بالقوة وبالفعل . فرواية " نسكافيه " للكاتب العربي السيد حافظ ، تبدو في ظاهرها كما لو أنها أتوبيوغرافيا خالصة ، مادامت ذات السارد هي التي تشكل جوهر الحدث : فكل الأحداث تدور حول العلاقة العاطفية التي تربط البطل " وحيد سالم " بالبطلة " لمى " ، خصوصا وأن السارد يستعرض بعض الأحداث والوقائع والصفات وغيرها من القرائن اللفظية والمعنوية التي تحيلنا على جزء من حياة السيد حافظ ، في صراعه ضد نزواته الذاتية ، وضد تناقضات المجتمع ، وضد كل القوى التي حالت دون تحقيق أحلامه وطموحاته ، ومن خلالها طموحات كل الحالمين في الوطن العربي بوطن يمنحهم الدفء والاستقرار ، بعيدا عن كل ألوان المصادرات، مهما كان حجمها ونوعها ومصدرها . وهي كلها قرائن تؤشر على الطابع الواقعي للأحداث ، مما يمنحها هذا البعد السوسيوغرافي الذي هو الوجه الخفي للرواية.
لهذا تنطلق الرواية من الذات الخاصة لتمتد إلى ذات الواقع العربي المتهرئ من الخليج إلى المحيط ، قصد تعريته وإدانته بأسلوب يقطر سخرية ومرارة ، رغم أن التيمة المهيمنة على النص في ظاهرها هو الحب ؛ أو لنقل هو العشق بمختلف تجلياته المادية والروحية .
ومن مظاهر تلك السخرية ، استعانة الكاتب بمبدأ المفارقات بغية تعرية مواطن الخلل ، انطلاقا من استحضار واقع الحال ومقارنته بمنطق الحقيقة ، أو لنقل خلق تعارض بين الواقع والحقيقة .ولإبراز هذه الخاصية ، لجأ الكاتب إلى تقنية الهوامش والحواشي ضمن الخطاب السردي . ومن المعروف أن الهوامش والحواشي تثبت عادة بصفتها إضافات خارج المتن للتعليق أو التصحيح أو نحو ذلك مما يشكل نصا موازيا أو عتبة نصية ميتاسردية . ولكن السيد حافظ وظفها باعتبارها تكملة لأسلوب السرد ضمن خطاب السارد الأساسي. وهي نوعان هنا: نوع سماه المؤلف" تنهيدة" . أما النوع الثاني فأطلق عليه اسم : "همسة ". وهما معا بمثابة عتبات داخلية تكسر تواتر السرد وتنامي الأحداث ، لتصير مستوى آخر من التعبير النقدي المباشر ، يبدو وكأنه ليست له علاقة مباشرة بالتيمة الأساس ، ولكنه في العمق يغنيها فنيا وفكريا.
فهذه العتبات تشكل نصوصا موازية غير سردية ، لأنها توظف أسلوب النقد أو التأريخ أو الشهادة ، أو نحو ذلك مما يندرج ضمن الكتابة العابرة للنصوص . وهي عملية مقصودة لاستحضار بعض القضايا السياسية والاجتماعية والفكرية التي يعالجها المؤلف بموازاة مع التيمة الأساس ، ليقدم موقفه النقدي باعتبارها قضايا تهم أي مواطن في الوطن العربي الكبير. فهي تقنية ميتا سردية كما قلنا يوظفها السيد حافظ لتأكيد مبدأ المفارقة حتى يبرز ما وقع تاريخيا وما يقع اليوم، أو يقدم صورة لما هو كائن وما ينبغي أن يكون ...وبذلك يربط السوسيوغرافي بالبيوغرافي من منطلق التعرية والإدانة . وكأنه يذكّرنا بأن الذات المتمردة التي يتحدث عنها ، إنما هي جزء فقط من ذوات أخرى في الوطن العربي ، عانت أو تعاني نفس المرارة والمعاناة التي يعانيها البطل ولكن بمستوى آخر ومن زاوية أخرى .
والحق أن هذا الأسلوب طريف في الإبداعات السردية العربية ، ويميز هذا العمل السردي ويرشحه ليكون عملا تجريبيا على مستوى الخطاب الفني . والواضح أن السيد حافظ يستفيد من تراكم تجربته الإبداعية في مجال الكتابة المسرحية . وهو أحد فرسان المسرح العربي كما نعلم . لذلك نجده هنا ينزاح عن النمط السردي المألوف الذي يعتمد توالي الأحداث ، وصرامة ضبط عملية مستويات السرد ورؤاها ، ويستعين بما سميناه بتقية الميتا نصية لخدمة موقفه الفكري والجمالي عبر "التنهيدات والهمسات " .
وإذا كان هذا هو الوجه الأول الذي يؤكد جرأة هذه الرواية من الناحية الموضوعية والفنية ، فإن الوجه الآخر لتك الجرأة يتمثل في جعل الذات الساردة ـ التي هي ذات المؤلف على الأرجح ـ هي مادة السرد وقضيته الأولى : منها يبدأ وإليها ينتهي. وهي جرأة غير مألوفة في الكشف عن الخفي والخاص ، بل والحميم أيضا في تلك الذات وعلاقتها بالآخر ، انطلاقا من طابو العشق الذي يمارس خفية وعلانية بكل تفاصيله الصادمة أحيانا .
لهذا ، فبقدر ما تبدو الرواية سيرة ذاتية لعاشق كرس جزءا من حياته للحب ، تبدو رواية كشف وتعرية وبوح... بوح ذات تصارع من أجل تفجير نزواتها الصغرى والكبرى ، والكشف عن مشاعرها البسيطة والمركبة التي تتوارى عادة وراء قناع التابوهات ... إنها ببساطة رواية البوح والكشف والمغامرة ...
0 التعليقات:
إرسال تعليق