دراسات من كتب د. نجاة صادق الجشعمي
( 319)
كل من عليها خان
رواية طرائق الدهشة
بقلم
أ. أمـــــل ســـــالم
دراسة من كتاب
ورشـــــــــــــــة النــــــــقــــد للســــــــرد الــــــروائـــــي
نموذجًا
سباعية الكاتب السيد حافظ الجزء الرابع { كل من عليها خان }
الشخصيات ما بين المرئي واللامرئي والثابـت والمتغيــر في السرد الروائي
نموذجًا
رواية " كل من عليها خان "
للكاتب السيد حافظ
الدكتورة/ نجاة صادق الجشعمى
الطبعة الأولي 2021
كل من عليها خان
رواية طرائق الدهشة
بقلم
أ. أمـــــل ســـــالم
"إذ لم يندهش الكاتب لن يندهش القارئ"، وهذه الجملة المعتادة يجب أن تكون مشروطة بتلقائية الدهشة؛ فالدهشة المفتعلة دهشة زائفة، لا أمل فيها، لا أمل في أن تنتج مبدَعًا مميزًا، بكرًا سهلًا ممتنعًا، لم يصل إليه إلا صاحبه، ويستحيل تقليده.
الواضح أننا عندما نطالع كتاب السيد حافظ، كل من عليها خان، نجد أننا أمام طرائق متعددة من الدهشة! واختيارى لمفردة طرائق كونها تعني معجميًّا: طبقات متتالية، بالضبط فنحن أمام آفاق متتالية من الدهشة؛ لا نكاد ننتهى من استيعاب واحدة منها حتى تفاجئنا التالية، هي دهشة مركبة ومتراكبة في آن.
وقبل أن نبدأ فى كشف النقاب عن الدهشة المركبة، علينا أن ننتبه لأمرين، أثناء تأسيس رؤيتنا الإنطباعية عن ذلك المنتج الثقافي الإبداعى، وهما:
الأول: أننا لسنا بصدد مناقشة عملًا روائيًّا معتادًا! ولا يمكن معرفة طبيعة هذا المنتج الثقافى الماثل بين أيدينا إلا عبر فرضية المؤلف- الموجودة على الغلاف-: بأن كتابه بمثابة رواية.
-آخرهما: أننا إذ تجاوزنا ذلك/ أسلمنا بأننا بصدد رواية، فإننا بالتأكيد لسنا بصدد رواية تقليدية؛ بمعنى أنها رواية تستمد روافدها من روايات سابقة؛ فالرواية هى شكل أدبى ليس له أطر ومحددات وليس لها شكل ثابت، فمثلما تجاوزت قصيدة التفعيلة/ ثم قصيدة النثر بنية البيت الشعري من وزن وقافية فى القصيدة العمودية، فإن الرواية الجيّدة لن تسير داخل قواعد مسبقة أو قوالب جامدة، بل تضع هى قواعدها أثناء الكتابة، ومن ثم لكل رواية بنيتها الخاصة. وهذا ما يُحدِث الدهشة عند الكاتب، ومن ثم عند القارئ. وإن كنت أعتبر أن التناص والتماس بين بنى بعض الروايات يقلل من قيمة الرواية الأحدث، ويأتى ذلك على غرار التماس مع ألف ليلة وليلة مثلاً، والاتكاء على التراث فى بعض الروايات.
ثم إننا يمكن أن نتحدث عن أربعة طرائق للدهشة، فى المنتج الإبداعى للسيد حافظ، مكنته من أن يكون من أهل الإبداع لا من أهل الاتباع، وهى بالترتيب: دهشة التكوين والبناء الروائى، ودهشةالانتقال عبر الأبعاد المكانية، ودهشة انتفاء الزمن الروائي، ودهشة السرد الحاوي. ولا يمكنناالتحدث على كل هذه المناح في مقال واحد ولذا فإن العينة الدالة هي خير ممثل في هذه الحالة، فلنتناول دهشة التكوين في عجالة، فنقول:
بالتتبع والتفحص الدقيق لبنية العمل الإبداعى، الماثل بين يدينا، سنجد أنفسنا أمام بنية رياضية هندسية محسوبة بدقة، وتبدأ هذه البنية من العنوان؛ حيث طرح الكاتب سبعة عناوين للكتاب وترك للقارئ حرية اختيار العنوان المناسب له، وعليه سيخوض القارئ/ المشارك- ظاهريًا- فى قراءة الرواية، ووضع شراكة المتلقى مع المبدع وهذا ما يمكن وصفه اصطلاحيًّأ ديمقراطية النص!
عرف الكاتب نفسه من خلال:
1-النص عن الشاعر القديم، والذى يعلن فيه شحَّ مصر، ومهَّره الكاتب شراكة بين الشاعر القديم وبينه.
2-اعلن الكاتب الانتماء العروبى صراحة ودون مواربة.
3-فى كشف السر: قرن الكاتب نفسه بحالة الأديب عادل كامل؛ وهو من أبرز أدباء الجيل الأول في الرواية العربية، والذى وصفه نجيب محفوظ بأنه من طليعة كتّاب جيله بلا جدال، لكنه اعتزل الكتابة بعدما رفض مجمع اللغة العربية منحه جائزة عن روايته مليم الأكبر، فى حين حرم الجائزة نجيب محفوظ أيضًا عن روايته السراب، لكنه أكمل دون التفات لقيمة جائزة المجمع، وكأن كاتبنا السيد حافظ يشير إلى مرارة أن تتجاهل مصر/ الشحيحة المبدع فيها.
4-إن مفهوم الرواية عند الكاتب هو مفتاح لفهم طريقته الكتابية، فقد عرف الكاتب الرواية على أنها: "سرد والسرد يعنى التاريخ، والحكاية والزمن الإنساني واللغة الحية التى تملك الدهشة الشعرية، وإذا أردت أن تكتب سردًا اكتب شعرًا وإذا نقص ضلع من هذه القواعد لن تكون رواية بل حكاية ضعيفة".
5-الإهداء الخاص وبحثه عن امرأة "لم يلمس كفها بعد لم يشرب معها قهوة الصباح وأنفاس عطرها تلاحقنى بعد"، وإن كان يمكننا أن تلك المرأة التى يبحث عنها السيد حافظ هي الرواية البكر ذاتها. ولدينا الدليل على ذلك: أن الأنثى هي من تتولى السرد غالبًا فى كتابات السيد حافظ.
ثم تبدأ بنية العمل بعنوان حكاية الروح الرابعة وهى عمل روائى، يطرح شخصيات مختلفة ويوضح العلاقة بينها وبين بعضها البعض. ثم تبدأ الفواصل، والكاتب نفسه اختار لها عنوان : فاصل ونعود، لا تذهب بعيدا عن الرواية. والحق أن جملة" لا تذهب بعيدًا عن الرواية" لها دلالتان؛ قد يعنى تنبيها للقارئ بعدم نسيان ما قرأه من الرواية، وإن كنت استبعد ذلك بقدر كبير. الدلالة الأخرى: أننى أراها مفهومًا للفاصل يصدِّره الكاتب للقارئ؛ بمعنى أن هذه الفواصل- نفسها- لا تذهب بعيدأ عن الرواية، وأن هذه الفواصل هي من صلب الرواية.
يتخلل هذه الفواصل المسرحيات السبع القصيرة جدًّا، والتى تنتهى غالبا بموت الشخص محور المسرحية! فالكاتب لم يترك جنسًا أدبيًّا معروفًا إلى وضمنه كتباته، دون حرج أو فواصل، فهناك المجموعة القصصية المعنونة: نحن والقمر جيران، والتى تتناول جيران فتحى رضوان فى الأسكندرية، والتى يمكن اعتبارها سبع قصص قصيرة تخللت العملين الروائيين.
بعد الفاصل يعود الكاتب بالروايتين المتوازيتين/المتداخلتين؛ الأولى أبطالها سهر وزوجها منقذ، النائم دائما، والذى لا يميز بين روح الذكر والانثى، ولا يعرف الفرق بين الغرام والحب والجنس، وفتحى رضوان المصرى، وشهرزاد وزوجها حامد الصق، والرواية الأخرى الموازية لها تتناول الأعوام السبعة من المجاعة أو الشدة المستنصرية، وشخصياتها ياقوت التاجر اليهودى، وهو حضور للتراث اليهودي، الذي هو جزء من التراث المصري القديم أو على الأقل متفاعل معه، وفتح الله شهبندر التجار، والشيخ اسحاق، ووجد، ونيروزى، الى آخره.
وأرى أن الكاتب جمع فى كتابه أجناسًا أدبية كثيرة، لا بل كل الأجناس الأدبية، فى عمل ابداعي يميزه الترابط إذا ما أراد القارئ أن يتناول العمل بقراءة خطية من الصفحة الأولى إلى الصفحة الأخيرة، ويميزه أيضًا التفكيك إذ ابتكر المتلقى قراءة انتقائيَّة أو شبكيَّة. ولا أقصد التفكيك هنا بمفهومه المعيوب في الثقافة النقدية العربية، فالنماذج المعرفية التي افترضت وجود الغائيّة، وبالتالي المصادر المعرفية الفوقية والمتعالية، تلك التي تفرض المعنى، وتمتلك الحقيقة المطلقة، وتمد النص بالقيمة الوجودية، وتوجد السلطة وتفرضها، – تم تفكيكها فيما عرف: ما بعد الحداثة.
وهذا المزيج المتكامل/ المتداخل/ المتباعد، في عمل واحد، بين كل هذه الأجناس الأدبية يقف حائلًا أمام توصيفه بالمسرواية، بل أن وصفًا كهذا هو انقاص من قيمة العمل وفض محدودية رفضها العمل ذاته؛ إنه يحوي القصة القصيرة، فلماذا لم نطلق عليه: القصرواية؟! ويتضفر والشعر، ويذيب الفواصل بينه وبين السرد، فلماذا لم نطلق عليه: الرواية الشعرية؟!
ذلك لأن كل هذه المصطلحات المنحوتة ليس في مكانها هنا، ذلك لأن العمل ذاته تجاوز المصطلحات المنحوتة لضيقها.
وببساطة شديدة يمكنه أن يقسم الكتاب إلى أربع أقسام كالتالى:
1-حكاية سهر وفتحى المصرى.
2-حكاية الشدة المستنصرية وهى سبعة أعوام.
3-المجموعة القصصية نحن والقمر جيران وهى سبعة.
4-المسرحيات القصيرة جدًا وهى سبعة.
وسواء اتبع القارئ طريقة القراءة الخطية، أو طريقة القراءة الشبكية، فإن العمل سيصل دلالاته للمتلقي.
هذا ما أدهشنى عند الكاتب؛ أنه عندما خيَّرنى بين عناوينه السبعة جهارًا، كان يخيرنى سرًّا بين طريقتين للقراءة لما أسماه برواية، أو طرق متعددة للتلقي، وما أحسب أن ذلك يحدث مصادفة، لذا أرى أنه من الإجحاف- أيضًا- على هذا العمل الإبداعى تصنيفه على أنه رواية!
أرى أن الكاتب ينجز فنًّا من الكتابة/ وجنسًا أدبيًّا خاصًا به؛ وقد يكون مبدعه الأول ومبتكره. مزج فيه بين عدد كبير من الأجناس الأدبية، بل أنه تخطى الحاجز بين السرد والشعر، فمقاطع كثيرة من الكتابة يمكن اعتبارها قصيدة النثر، وتتخطى كتابات نثرية كثيرة من كتابات محترفي قصيدة النثر، ومقاطع أخرى تقترب من شعر التفعيلة، وقد ينقصها بعض الأسباب الخفيفة أوالأوتاد بنوعيها- مثلًا - لتصبح من شعر التفعيلة
كما يظهر بوضوح، عبر القراءة، استخدام الكاتب للسيناريو بصورة مدهشة، والتجريب دائمًا صفة مميزة للكتابة دونما أن يفتقد القارئ الخط السردى؛ إذ سرعان ما يقبض على القارئ مرة أخرى لمتابعة قراءة العمل.
بقى أن كم المعلومات الواردة عبر الكتابة كبيرًا جدًا، لكنه يخدم العمل مستخدمًا أسلوب التشويق الذى يجبر القارئ على المتابعة، وإن كنت أتوقف عند جمل بعينها واحتاج للمراجعة التاريخية فى صحتها فمثلًا:
حين يقول الكاتب: "كان أغلب سكان مصر فى عهد البطالمة من أصحاب الديانة اليهودية، وظلت الإجابة مفقودة: كيف دخل اليهود الديانة المسيحية فى مصر؟"
أدرك الإسكندر والبطالمة أنه كان من الأسباب التي أحفظت قلوب المصريين ضد الفرس أنهم انتهكوا حرمة الديانة المصرية، ولذلك وضع الإسكندر والبطالمة نصب أعينهم الاعتراف بالديانة المصرية دينًا رسميًا، وكان ذلك ينطوي على إظهار احترامهم وإجلالهم لهذه الديانة ، وكذلك على السماح للمصريين بحرية عبادة آلهتهم القديمة، الإسكندر الأكبر فإنه عندما نزل في منف، كان همه الأول أن يقدم القرابين للآلهة الوطنية والعجل المقدس أبيس، وبعد ذلك وضع أساس معبد لإيزيس في الإسكندرية، وما كاد بطليموس الأول يطأ أرض مصر، عندما نصب واليًّا عليها عام 323 قم، حتى بادر بإظهار احترامه للديانة المصرية بأن تبرع بمبلغ قدره خمسون تالنتا للاحتفاء بجنازة أحد العجول المقدسة.
ليس هناك ما يشير أن ديانة أغلب المصريين فى العصر البطلمى كانت الديانة اليهودية، لكن جزءًا كبيرًا من المصريين تحولوا من الديانة المصرية القديمة إلى الديانة المسيحية، وكان ذلك أسهل من التحول من اليهودية للمسيحية، ويشير جمال حمدان إلى ذلك فى كتابه "شخصية مصر": فليس معروفًا بالطبع إلى أى حد بالضبط انتشرت اليهودية ثم المسيحية فى مصر قبل أن يرثهما الإسلام إلى أن ساد تمامًا، ولكن من المؤكد أنه كان انتشارًا جزئيًا ظلت تتنازعه دائمًا– وأحيانًا بتفوق- الديانة الفرعونية القديمة، فمصر ما قبل المسيحية لم يكن فى مجموعها أن تكون أكثر من عُشر يهودية بالكاد. حمدان الجزء الرابع ص510
ورغم أن العمل الأدبى الراقى الماثل بين أيدينا احتوى على برديات قديمة، وعددها سبعة أيضًا، وهى موجهة ليوسف بن يعقوب والتى يعترف المنادى فى نهايتها بعجزه وقلة حيلته بل يطلب حضور يوسف المنقذ كما يلى في صفحة 306: " يا يوسف عيوننا صارت عمياء لا نعرف الفرق بين الأقمشة السوداء والزرقاء، يا يوسف أدخل أيامنا واغسل قلوبنا بنور الشمس، وسنركع لله نعدك بذلك، ونكون بقدر المعجزة".
ومثل هذه الشخصيات دينية توراتية، ووردت فى القرآن الكريم أيضًا، لكن للأمانة التاريخية أن لا يوسف ولا يعقوب ولا اليهود ذكروا فى برديات مصرية قديمة، غير لوحة من لوحات تل العمارنة التي تتحدث عن شعب قادم إلى أرض فلسطين واسمتهم: "الخبيرو" ويعتقد العلماء أنهم العبيرو أو العبرانيون. كما أن بناء الأهرام بالسخرة فرضيّة ضد الحضارة المصرية القديمة، ليس لديهم دلائل على صحتها، وأعتقد أن اليهود هم من روجوا لها ليثبتوا صحة ما ورد في العهد القديم.
هناك أيضًا اسماء منسوبة لمصر فى عبارة: " أين ذهبت دولة جزلة؟ أين ذهبت دولة أم خنور؟ دى اسماء مصر ودول قامت على أرضها" والصحيح أن مصر تحمل اسمها التوراتى إلى هذه اللحظة، لكن لم أقرأ فى التاريخ أن هذه الأسماء من أسماء الدول التى قامت على أرض مصر، فيما أعتبره جزالة معلوماتية تميز بها الكاتب، مثل هذه الجزالة تعمل على جعل القارئ يبحث وراء هذه المعلوماتية، وهنا مكمن تفرد النص؛ إذ أن المتلقي له دور إيجابي في انتاج النص وليس ككثير من الروايات –بل معظمها- دوره سلبي كتلميذ يتلقي الدرس في فصل من فصول مدارسنا عقيمة التعليم.
هناك أيضًا بعض النصوص المنقولة عن كتّاب آخرين، قد تبدو أنها نقلت مجتزأة، وهى في هذه الحالة قد تعطى دلالات غير دلالاتها عندما تكتمل الجملة، وعلى سبيل المثال ماقاله العالم الجليل جمال حمدان: "أن مصر تنقرض، وستختفى من على الخريطة، وتعود باسم جديد".
والجملة تعنى حتمية الإنقراض والزوال، والحقيقة أن جملة جمال حمدان كانت كالتالى " مصر اليوم أما أن تحوز القوة أو تنقرض ، أما القوة أما الموت ، فإن لم تصبح مصر قوة عظمى تسود المنطقة فسوف يتداعى عليها الجميع يوما ما كالقصعة : أعداء و أشقاء و أصدقاء و أقربون و أبعدون" .
لكن مصر التي يتحدث عنها السيد حافظ في مبدعه ليست مصر التي خطها جمال حمدان في كتابه الفريد، فحمدان كان يتحدث عن مصر الافتراضية، أو التي يجب أن تكون. بينما السيد حافظ يتحدث عن مصر الحقيقية المعاشة يوميًّا؛ التي هي عرضة للإنقراض إن لم نقف أمام أنفسنا؛ لنحاول تصحيح مساراتنا، وذلك بعيدًا عن الشعارات الطنانة والرنانة التي تملئ جماجمنا ضجيجًا دون طحين.
وأخيرًا؛ فإن الشيء الملفت للنظر- والذي يميز السيد حافظ- أن كتاباته يمكن، بل يجب، النظر إليها عبر مسارين؛ جزئية: بمعنى أن كل عمل قائم بذاته وله كيانه الخاص، وكلية: بمعنى النظر إلى أعماله على أنها منظومة متكاملة كنهر فتي يتدفق في مسار واحد وإتجاه محدد. ما تبقى الأنهار القوية خالدة، وحولها تقوم حضارات راسخة، فالمجد للكتابة النهر.
أمــــــل سالم
0 التعليقات:
إرسال تعليق