دراسات من كتب د. نجاة صادق الجشعمي
( 309)
آليات الكتابة المسرحية
داخل العمل الروائي
دراسة من كتاب
آليات الكتابة المسرحية
داخل العمل الروائي
المبحث الأول: تفاعل الأجناس الأدبية
1- نظرية نقاء الجنس الأدبي
2- نظرية تفاعل الجنس الأدبي
المبحث الثاني: مسرحة الرواية
أولا: مفهوم مسرحة الرواية
ثانيا: تقنيات مسرحة الرواية
1- على مستوى النص المكتوب
2- على مستوى نص العرض
المبحث الثالث: السيد حافظ بين المسرحية والرواية
1- الكتابة المسرحية عند السيد حافظ
2- الكتابة الروائية عند السيد حافظ
المبحث الأول: تفاعل الأجناس الأدبية:
حظيت مسألة "الأجناس الأدبية" باهتمام كبير من قبل الباحثين والنقاد على مر العصور، لكن بنظرة مختلفة، وذلك فيما يتعلق بإشكالية نقاء الجنس الأدبي ومدى إمكانية تفاعله مع غيره من الأجناس.
1. نظرية نقاء الجنس الأدبي:
أولى كل من " أرسطو" و "أفلاطون" اهتماما كبيرا في العصر اليوناني، بموضوع النوع الأدبي القائم بذاته، وذلك باعتبار أنه «صورة خاصة من صور التعبير لها بواعثها وأصولها وخصائصها ومجالها»([1])، وقاموا بدراسة كل نوع أدبي وفقا لخصائصه ومميزاته التي يتميز بها عن الأنواع الأدبية الأخرى، وبذلك عملوا على وضع حواجز وحدود بين الأجناس الأدبية التي عرفت آنذاك،
فقد سبق أن ميز أفلاطون وأرسطو بين الأنواع الرئيسية الثلاثة على أساس "أسلوب المحاكاة" أو التمثيل) »([2])، وقد ترجما ذلك في كتابيهما "فن الشعر" و"الجمهورية".
و يعتبر "أفلاطون" الستباق إلى هذه المسألة، من خلال كتاب "الجمهورية" الذي ركز فيه على الشعر فقط، حيث كانت دراسته ترتكز على بعض الشعر اليوناني، لكن من ناحية الإبداع وليس من ناحية الجنس الأدبي، فقد ميز بين الحكي القصصي والحكي المسرحي، حيث يشمل الأول على السرد والحوار، ويتضمن الثاني الحوار فقط »([3])، وهو بذلك يكرس مبدأ الفصل بين الأجناس الأدبية رغم أن الحكي القصصي والحكي المسرحي يلتقيان في الحوار ويفترقان في وجود السرد في الأول وغيابه في الثاني.
وانطلق "أرسطو" من نفس مبدأ معلمه تقريبا لكن بطريقة أكثر إيغالا منه، حيث سعى في كتابه "فن الشعر" إلى تحديد القواعد والأسس التي يقوم عليها كل جنس أدبي، فمن خلاله « قسم الأدب إلى ثلاثة أنواع التراجيديا، الكوميديا، والملحمة، وقد بين خصائص كل من التراجيديا والملحمة في الموضع والمضمون أو الأداء والوظيفة»([4])، فقد حرص أرسطو من خلال تقسيمه هذا على أن يبقى كل جنس أدبي قائم بذاته نقيا عن نظيره الآخر ومستقلا عنه.
ظل العديد من الباحثين والنقاد الذين برزوا في هذا الميدان، متشبثين بهذه القوانين التي سيطرت على الأنواع الأدبية، حيث أنهم يؤمنون بضرورة محافظة النص على هويته وعدم تجاوز القواعد التي يتشكل منها، ومنهم "توماس إليوت" الذي «قسم الأدب إلى مواقف ثلاثة: الغنائي والملحمي، والدرامي وقد سماها "أصوات الشعر الثلاثة"([5])، متأثرا بتقسيمات أرسطو وقبله أفلاطون.
ويعتبر "محمد مندور" من أبرز النقاد العرب الذين قالوا بهذه النظرية، ويتجلى ذلك في تقسيمه للأدب «إلى أربعة أقسام: غنائي وملحمي ودرامي وتعليمي»([6])، فكل قسم من هاته الأقسام عند "مندور" لها قوانينها التي تنبني عليها وتحكمها و تجعلها منفصلة عن باقي الأقسام
2- نظرية تفاعل الجنس الأدبي:
عرف القرن التاسع عشر ثورة وتطور كبير في جميع المجالات خاصة عند العرب، وهو ما انعكس على الأدب، وذلك من خلال ظهور عدة تيارات ونظريات أدبية عملت على تكسير القيود القديمة وتأسيس لإبداع أدبي جديد عبر تحرير المبدع من قيود وقوانين كثيرة، ومن هذه التيارات نجد التيار "الرومانسي" في الأدب، والذي عمل رواده على تحرير الأدب من الجمود الذي كان مفروضا عليه من قبل المدرسة الكلاسيكية
ويعد موضوع التفاعل بين الأجناس الأدبية من أهم المواضيع التي تطرق إليها الرومانسيون، حيث أنهم استطاعوا من خلاله أن يغيروا الرؤى ويوضحوها، وأن يطرحوا فيه مفاهیم جديدة اللجنس الأدبي يمشي عليها النقد الأوروبي خاصة والعربي عامة إلى يومنا هذا.
وقد أفرزت هذه الرؤية الجديدة للجنس الأدبي « نصوصا تمزج فيها بين المأساة والملهاة؛ وحطمت بذلك المقولة الكلاسيكية القائلة بنقاء النوع والحدود الفاصلة بين هذه الأنواع»([7])، وقد اشتهر في هذه المرحلة الانجليزي " ويليام شيكسبير" لأنه هو الآخر «مزج بين المأساة والملهاة في بعض مسرحياته ليخصب في النهاية ما يسمى بالدراما الحديثة»([8])، وبهذا استطاع كل من نهج هذا الطريق أن يمنح النص الأدبي حرية تجاوز حدوده وقواعده التي تحكمه ويقوم عليها، فيصبح بعدها في قالب جديد لم يعرف من قبل، لتكون هذه النظرة الرومانسية الجديدة قد خالفت تصورات الكلاسيكية القديمة القائمة على وضع الفروق والحدود بين الأنواع الأدبية.
فبعد أن كانت الأجناس الأدبية في القديم ثابتة، ظهر من الباحثين من خرق ذلك الثبات وتجاوز النموذج القديم، لتصاغ بذلك نماذج جديدة تساير العصر ومقتضياته، لأن كل شيء في حالة تغير وتطور بتغير دورة الحياة وتطورها، ليصبح الاستمتاع بجمالية الموضوع واللص أهم من التركيزعلى النوع الذي ينتمي إليه وتصنيفه، وقد نادوا بتذويب تلك الحدود الفاصلة بين الأجناس، لأنهم يرون أنها تحبس وتعيق عملية الإبداع في العمل الأدبي وتمنعهم من التحرر، كما أنها «تجعل من الأديب يمضي في دائرة التقليد ولا يخرج عن الأنماط القديمة، فيؤدي بالنهاية إلى أن تصبح هذه الأشكال الأدبية متشابهة»([9])، فهذه الأسباب دفعت بالباحثين أن يسارعوا إلى هدم تلك الحدود إيمانا بتفاعل الأجناس الأدبية، وهذا ما أدى إلى ميلاد أنواع أدبية جديدة كانت بمثابة مخاض للتفاعل بين أنواع أخرى.
ويمثل عالم الجمال الإيطالي "كروتشيه" هذا الاتجاه، فهو يرفض الحدود بين الأجناس وينفيه، وقد «أصر في كتابه "علم الجمال"، مفندا النظرية الكلاسيكية في الأنواع الأدبية، على أن الأدب مجموعة من القصائد والمسرحيات والروايات...تشترك في اسم واحد هو "الأدب"، وأن مصطلح النوع ما هو إلا صفة نميز بها اختلاف الأنواع الأدبية من حيث بنائها أو أشكالها»([10])، فكل الأنواع الأدبية عند "كروتشيه" هي تحت راية الأدب لذا لا يجب حسب رأيه أن تصنف، وهو في هذا يتمرد ويثور على مبادئ الكلاسيكية التي كانت سائدة لقرون طويلة، ويعترف «موت الأجناس، وبشر بعصر جديد لأثر أدبي متمرد على كل الحدود، متحرر من كل قيد أجناسي»([11])، ليكون من خلال اعترافه الذي أعلن فيه بموت الأجناس الأدبية قد أعلن بالمقابل میلاد نوع جديد ينفتح على أجناس أدبية متعددة.
ويقف أيضا إلى هذه النقطة "فسيموند" حين شبه الأنواع الأدبية بالكائنات الحية في نشأتها وتطورها، حيث يرى «أن النوع الأدبي يمر بمراحل تناظر مراحل الجنين، والبلوغ والنضج والتدهور والفناء، في ضروب النمو التي تعودنا أن نعتبرها فسيولوجية»([12])، فهو بهذا الرأي يؤكد بأن الأنواع الأدبية غير ثابتة، لذا لا يمكن أن تكون بمعزل عن بعضها، فهي تتغير وتنمو عبر الزمن إلى أن تتحلل بشكل جزئي وليس كلي، لأنه حتى وإن مات جنس أدبي ما لكن عناصره تبقى مستمرة عبر الزمن وتتطور إلى غاية أن تصبح مولدا جديدا لجنس أدبي آخر.
منه فإن نظرية الأجناس الأدبية منذ الدراسات القديمة إلى غاية الدراسات الحديثة قد مرت بمرحلتين، يمكن أن تحديدها في اتجاهين هما:
الأول : تمتد من أرسطو إلى غاية تراجع الرؤية الكلاسيكية حيث تجلت فيها المطالبة بفصل الأجناس الأدبية عن بعضها البعض؛ بل غدت عند أصحاب هذا الاتجاه وكأن هذه الأجناس قارات منفصل كل منها عن الآخر، لما يميز كل جنس عن الآخر، فهو لا يتراسل فنيا مع الآخر.
الثاني: ما ظهر حديثا في مطلع القرن العشرين من اعتبار الأجناس الأدبية مجموعة من الروافد التي تصب في دائرة الإبداع، ومن ثم فهي تتقاطع فيما بينها عبر قواسم مشتركة بما يزيل عنها الانفصال؛ بل إن المزج بين الأنواع يتيح لنا ۔ وفق هذا الرأي . إمكانية التهجين بينها بما يسمح بتناسلها وانبثاق أجناس أدبية جديدة»([13])..
وعلى ضوء ما سبق يمكن القول أن الرأي الأخير الذي يؤمن بتفاعل الأجناس، هو حتمية أحدثها التطور الذي تشهده الحياة خاصة في الجانب الأدبي الذي ينادي بالكتابة الأدبية المتحررة، لذا فإن التفاعل في الأجناس أصبح لازمة من لوازم الأدب، وقد شمل كل ثنايا الساحة الأدبية دون استثناء، وهذا ما نلمسه خاصة في الرواية والمسرحية.
المبحث الثاني
مسرحة الرواية
أولا: مفهوم مسرحة الرواية:
اتفق معظم الباحثين والنقاد على أن الرواية في العصر الحديث استطاعت أن تبني وشائج قربی وعلاقة وطيدة مع المسرح، ليتمخض في الساحة الإبداعية الأدبية عن هذين الفتين فتا منفردا ومغايرا يمزق كل ما كان متداولا قبلا، ويفجر كل ما كان معهودا سلفا، ليكون عملا روائيا ومسرحية في آن واحد، يطلق عليه النقاد اسم "الرواية المسرحة".
وقد ظهر مصطلح "المسرحة" في الغرب في بداية القرن العشرين، مع الروسي "نيكولاي إيفرينوف"([14]) وهو أول من استخدم كلمة "مسرحة"، وكان ذلك عام 1922، للدلالة على ماهية المسرح Teatralnost وقد اشتقه من صفة مسرحي بالروسية وما يشكل جوهره»([15])، وهذا يعني أن "المسرحة" مشتقة من المسرح وهي تدل على كل ما يتعلق بالخصوصية المسرحية.
لكن هذا المفهوم قد تغير عبر الزمن حيث تجاوزت دلالة المصطلح حيز المسرح، وأصبحت تستخدم في مجالات أخرى كالمناهج الدراسية، وذلك بتحويل المادة المواد التعليمية الموجودة على صفحات الكتب إلى مادة حية»([16])، ورغم ذلك يبقى أصل المصطلح منبثقة من المسرح واستخدامه في غير ذلك ما هو إلا استعارة واقتباسن منه
رغم هذه المدة التي ظهر فيها هذا المصطلح في الغرب، إلا أن الساحة النقدية العربية لم تحتضنه إلا في الستينات، وكانت بدايته في مصر، حيث « نشأت حاجة إلى مسرحة الرواية بعد أن ظهر من المسرحيين من يعتمدون على الرواية كمصدر لكتابة نصوصهم، وخاصة أن أغلب٫ المؤلفين المسرحيين الموجودين يبدعون أشكالا فنية أخرى وليسوا متفرغين تماما لكتابة المسرح»([17])..
انطلاقا من هذا القول نتوصل إلى أن الدافع الأول لظهور ما يسمى بمسرحة الرواية كان التجريب والإبداع، كما يمكن أن تعتبر نقص الإنتاج المسرحي والمنتجون له . وقد كانوا آنذاك يعدون على الأصابع - سبب وجيهة لانغماس المسرحيين في الرواية، وجعلها المادة الأولية التي تبنى عليها أعمالهم، لتكون هذه العملية قد أتت بطريقة ما إلى «تجاوز مشكلة أزمة النص المسرحي ونقص الخيال المسرحي عند بعض الكتاب والمؤلفين»([18])، حيث فتحت لهم الآفاق نحو تجربة جديدة يستفيدمنها المسرح، وبهذا استطاعوا أن يكسروا النمط الذي كان سائدا منذ عقود في المسرحية الكلاسيكية القديمة.
وقد حاولت الباحثة "ماري إلياس" أن تعرف كلمة "المسرحة" على أنها: « غير مرتبطة جوهريا (وإنما تقنيا) بتحويل شيء أو فكرة أو حادثة إلى مسرح وإنما بشكل إدراكنا لهذا الشيء، وهي مرتبطة ارتباطا وثيقا بنظرتنا إلى الأمور وبشكل إدراكنا للعالم (فنحن نرى في الحلم مشهدا)»([19])، ويشير هذا المفهوم إلى أن الباحثة قد انطلقت في تناولها لمصطلح "المسرحة" بربطها له بالشيء المادي المرئي المحسوس المبني على العرض والمشاهدة، وليس شرطا أن يتعلق ذلك بالمسرح فقط، وفي ذلك قدمت لنا مثال عن "الحلم" الذي اعتبرته نوعا من المسرحة رغم عدم ارتباطه بالعرض المسرحي.
وعمدت الباحثة السابق ذكرها في "المعجم المسرحي" مع الباحثة "حنان قصاب" إلى إعطاء مفهوم "للمسرحة"، رغم أنهما قد اغترفتا بصعوبة تحديد المفهوم الذي يرمي إليه المصطلح في اللغة العربية، «لأن كلمة " المسرحة" التي هي أقرب ترجمة عربية لهذا المصطلح مشتقة من فعل مسرح الذي يستدعي في ذهن المتلقي معنى تحويل وإعداد مادة أدبية أو فنية أو حدث من الحياة اليومية، للمسرح وهو ما يطابق باللغات الأجنبية Dramatisation و Theatralisation فيقال٫ مسرحة الرواية ومسرحة القصيدة إلخ، في حين أن المعنى المقصود هنا هو ما يشكل الخصوصية المسرحية (ماهية المسرح في العمل المسرحي»([20]).
من خلال ما سبق يتبين لنا أن مصطلح "المسرحة" يتضمن استخدام تقنيات المسرح وآلياته في جنس أدبي ما، ليسمي بعدها إن كان في القصيدة مثلا "بمسرحة القصيدة" أما في الرواية "بمسرحة الرواية".
وقد ورد في مجلة "العلوم الإنسانية" مفهوم مصطلح "مسرحة الرواية"، على أنه: «عملية تحويل العمل الروائي القائم على السرد الحكي إلى نص مسرحي قابل للعرض أي تتوفر فيه شروط العرض المسرحي»([21])، أو بتعبير آخر هي إخراج المادة الروائية من الجمود الورقي إلى الحركة على الخشبة لتتجسد على شكل عرض مسرحي.
مما سبق يمكن أن نفهم أن الرواية المسرحة هي الرواية التي تتضمن في طياتها سلسلة من العناصر المشكلة للعرض المسرحي، والتي من خلالها تكون هذه الرواية قابلة للتقديم على خشبة المسرح.
كما نجد أن مصطلح "مسرحة" يرتبط في اللغة العربية بمصطلحات أخرى، تحمل نفس المفهوم الذي تنبض به هذه الكلمة، ومنها تذكر «الاقتباس، الإعداد، الترجمة»([22]).
وقد ورد في كتاب "حيرة النص المسرحي" أن «الإعداد المسرحي أو السينمائي ليس في حقيقته إلا نوع من الترجمة، ولكنه ليس ترجمة من لغة إلى أخرى، إنه تحويل رواية أو قصة قصيرة، أو سيرة أو تاريخ إلى مسرحية أو فيلم مسرحي سينمائي»([23])، وهذا يشير إلى أن هناك تشابه بين الإعداد والترجمة فهو وجه من وجوهها لكن ليس بنفس المعنى الذي تحمله تلك الأخيرة، بل بمعنى تحويل عمل أدبي أو في - بطريقة مناسبة كإضافة أشياء أو حذف أشياء أخرى - إلى عمل درامي يشاهده الجمهور، وعليه فإذا كانت الترجمة هي نقل النص من لغة إلى أخرى فإن المسرحة هي تحويل الماهية اللص من قالب كتابي إلى قالب مشاهد، إذا فالمسرحة ترجمة ولكن على مستوى طبيعة النص وليس لغته.
وبطريقة أكثر إيضاحا نقول أن "الإعداد" هو عبارة عن إقحام للعناصر الدرامية في النصوص الأدبية التي لا تتوفر عليها، مما يجعلها قابلة للعرض على خشبة المسرح، وبصيغة أخرى هو تعديل أو تحويل نص غير درامي إلى نص درامي وذلك من خلال تحويل مادة سردية (حكاية أو أسطورة أو رواية أو واقعة) أو مادة وثائقية (مذكرات، وثائق) أو غيرها بحيث تقدم على شكل أفعال وجوار بين شخصيات. تتطلب هذه العملية دراية بخصوصية العرض المسرحي لأنها نوع من الكتابة تفترض تقليصا وتقديما "مختلقا للمادة السردية التي تحول إلى فعل»([24]).
وفيما يخص الاقتباس فقد جاء تعريفه في "المعجم المسرحي"، بأنه «أخذ الخطوط الرئيسية الحكاية أو الفكرة وخلق مواقف جديدة مختلفة تماما»([25])، يتضح لنا من خلال هذا التعريف أنالاقتباس هو عميلة أخذ عناصر أساسية من نص أدبي، واستعمالها في نص آخر بطريقة مغايرة لما كانت فيه في الأصل، أي يجب أن يكون هناك تغيير لكن مع وجوب المحافظة على الفكرة الأصلية.
من خلال ما تقدم يمكن القول أن كل هذه المصطلحات أسهمت في ظهور عملية تحويل نص مكتوب في الورق إلى عرض يتحرك على خشبة المسرح.
لكن يبقى مصطلح الإعداد هو الأقرب إلى المفهوم الذي ترمي إليه كلمة "مسرحة"، إلا أن هذه الأخيرة تبقى الأنسب لهذه الدراسة، باعتبار أن هدفها المباشر هو نقل النص من حالته المكتوبة إلى حالة معروضة تجسده شخصيات حية.
تبقى العلاقة بين الرواية والمسرحية علاقة متلاحمة رغم امتلاك كل منهما لأسس فنية تتميز بها عن الأخرى، إلا أن هذا لم يمنع تواجد تشابك وترابط في أصولهما، خاصة وأنهما قد ولدتا من رحم واحد وهو الملحمة، وهذا ما خلق بينهما عناصر فنية مشتركة، بينها «الحبكة، والشخصية واللغة والفكرة»([26])، مما جعل من مسرحة الرواية شيء غير مستبعبر الحدوث.
ثانيا- تقنيات مسرحة الرواية:
1- على مستوى البناء الفني للنص المكتوب:
إن عملية مسرحة الرواية تستدعي الوقوف عند بعض الخصائص المسرحية التي استطاعت أن تغوص في عالم الرواية شكلا ومضمونا، لأن «الطبيعة المشكلة للجنس الروائي والمسرحي تختلف بينهما من حيث وسائل التعبير وطريقة التصوير والتخيل وكذا عرض الأحداث والشخصيات»([27])، وهذا الاختلاف لم يمنع الرواية من أن تستغله لصالحها وتجعل بناءها الفتي يغترف من العناصر الفتية التي تقوم عليها المسرحية شكلا ومضمونا، ونذكر منها:
أ - الشخصيات: تتميز الشخصية المسرحية بالحركة والحيوية وذلك نظرا للدور الذي وجدت من أجله وهو ممارسة الفعل على خشبة المسرح، لتكون بذلك «الوجود الحي الملموس الذي يراه المشاهدون ويتابعوه من خلال سلوكه وانفعالاته وحواره كل المعاني التي يحملها الحدث المسرحي وبناء المسرحي العام»([28])، فهذا يعني أن الحدث المسرحي مبني على أساس سلوكيات وأفعال الشخصيات لأنها هي من تعرض فكرة المسرحية ومضمونها، لذا على الكاتب أن يكون حريصا في اختيارها بغرض إقناع الجمهور والتأثير فيه.
في هذا الصدد يتبين لنا أن الكاتب يقوم بكتابة نص المسرحية بكل جزئياته وتفاصيله، ليأتي مخرج المسرحية ويقوم باختيار الممثلين بما يتوافق مع الشخصيات الموجودة في النص المسرحي، وهذا يؤكد ضرورة تصوير الشخصيات المسرحية تصويرا واضحا ودقيقا ومكثفا، ومقتصرا على ماله علاقة بحركة المسرحية العامة، والوضوح - هنا - أمر ضروري حتى في حالة تصوير المؤلف المسرحي شخصية غامضة أو شخصية تخفي سرا ما([29]) ، فالدقة والوضوح في رسم الشخصية المسرحية في النص واختيارها في العرض، وجعلها تتناسق مع البعد الذي ترمي إليه داخل الص، هو سر نجاح وخلود العمل المسرحي .
وتقوم الشخصية المسرحية على ثلاث أبعاد رئيسية هي:
أولا : البعد النفساني: يرتبط هذا العنصر كل ما يخالج نفسية الشخصية من تحولات واضطرابات وأحاسيس (الخزن أو الفرح)، وقد عرفه الفؤاد علي حازم الصالحي" في كتابه "دراسات في المسرح" على أنه: «ما تفصح عن الانعكاسات التي ترد على لسان الشخصية وفيما تفعله، ونوعية اللغة التي تتحدث بها، وطريقة حديثها، وشدة صوتها»([30])
انطلاقا من هذا التعريف نستنتج أن البعد النفسي لا ينحصر فقط بما يختلج نفسية الشخصية من أحاسيس بل حتى في أفعالها ولغتها ونبرة صوتها.
ثانيا : البعد الاجتماعي: يتمثل في الوضع الاجتماعي الذي تنتمي إليه الشخصية وكل ما يحيط بها، مثل مستواها المعيشي والثقافي والتعليمي... وغيرها، فالكاتب في هذا الجانب «يبين الوضع الاقتصادي للشخصية ومركزها الاجتماعي (الوظيفة أو العمل) ويعبر عن علاقاتها المتبادلة في المجتمع عموما والعائلة خصوصا »([31])، أي كل ما له علاقة بتكوين الشخصية وظروف نشأتها.
ثالثا - البعد الفسيولوجي: أو ما يسمى "الجسماني" وهو كل ما يتعلق بالجانب الذي تتكون منه البنية الخارجية أو الظاهرية للشخصية، واختلاف هذه الصفات في الأشخاص هي ما يولد اختلاف النظرة إلى الحياة، فالإنسان الذي يتمتع بالصحة الجيدة تختلف نظرته عن الإنسان الذي خانته صحته، فكلما اختلفت التركيبة الفسيولوجية للشخصية اختلفت طريقة عيشها وتفكيرها، وهذا البعد يقوم على مجموعة من المقومات وقد ذكرها "لايوس إيجري" :
« الجنس (أنثى أو ذكر)
- السن
- الطول والوزن - لون الشعر والعينين والجلد
- الهيئة والوضع
- المظهر: جميل المنظر، بدين أو نحيل أو ربعة، نظيف، أنيق، لطيف، أشعث، (مهرجل)، شكل الرأس والوجه والأطراف.
- العيوب: التشوهات، أنواع الشذوذ، الوحمات، الأمراض.
- الوراثة([32]).
وكل هذه الأبعاد الثلاثة التي ذكرناها ساهم في بناء الشخصية المسرحية و تتحكم في سلوكياتها وتجعلها تتلاءم مع الحدث وتستوعب مجرياته وتتناغم معه.
ب - اللغة والحوار: إن الحوار هو العنصر الأساسي الذي تتميز به المسرحية عن الرواية، فهو أسلوبها الخاص الذي تبنى عليه، كما يعتبر السبيل الذي يعرض من خلاله المؤلف المسرحي أحداث المسرحية وتطورها، لكن لابد « أن يتسم الحوار بالحيوية؛ وأن يكون ذا قدرة على الإيحاء بما يدور في نفس الشخصية وفكرها أكثر من قدرة الحديث العادي، وأن يتجاوب مع طبيعة الموقف والشخصية»([33])، لأنه يكشف جوهر الشخصية ولب الحكايةويتشكل الحوار المسرحي من لغة واضحة بعيدة عن الغموض، فهي الصورة التي تترجم الأفكار والعواطف إلى خروف بلسان الشخصية في الورق والممثل على خشبة المسرح، لذا ينبغي أن تكون هذه اللغة «محملة بشحنات عاطفية وفكرية كما يجب أن تكون موحية بالواقع وذات تأثير وقدرة على تطوير الحدث»([34])، لكي تهز وجدان المتلقي قارئا كان أو متفرجا، وتجعله يتفاعل مع الحدث ويركز فيه بكل شغف. ٫
كما تحمل لغة المسرحية "تعليمات إخراجية"، وهي عبارة عن توجيهات وإرشادات يكتبها المؤلف، تتضمن «ملاحظات الكاتب، والإرشادات المسرحية، والإرشادات الركحية، والتوجيهات المسرحية، والنص الثانوي، والنص الفرعي، والنص المرافق.. وغالبا ما توضع هذه الإرشادات المسرحية بين قوسين»([35])، وهي بدورها سهل من عملية تحويل النص المسرحي إلى عرض يقدم على خشبة المسرح.
وينقسم الحوار المسرحي إلى عدة أنواع تساهم في الكشف عن عمق الشخصية وطريقة تفكيرها وعلاقاتها، كما يؤدي أيضا إلى إبراز الحدث المسرحي ويسهم في تطوره، ومنهذه الأنواع الحوارية نجد:
1- الحوار المباشر: وهو الحوار الذي تتحدث فيه كل شخصية بصيغة المباشرة أي دون تقويل، وهذا معناه أن تكون «الصيغة "أنا" تخاطب "أنت" بنظام التور، فتوجه شخصية ما الحديث إلى شخصية أخرى فتنصت ثم تجيب بدورها وتتحول إلى متكلم، فهو صوتان لشخصيتين مختلفتين»([36])، أي كل شخصية تعبر عما يختلج صدرها دون الاستعانة بالمؤلف، أو أن تتحدث عنها شخصية أخرى.
2- الحوار الداخلي (المونولوج): وهو عبارة عن حوار الشخصية مع ذاتيتها، أي «مخاطبة الذات وفق الصيغة الآتية: "أنا" يخاطب "أنا"، أو حديث النفس للنفس بطريقة مسموعة أو ملفوظة أو غير مسموعة، تعبر به الشخصية عن أفكارها الباطنية القريبة من اللاوعي»([37])، وهذه التقنية تساعد المتلقي على فهم أعماق الشخصية وكشف معالمها ومكبوتاتها.
ج - الزمان والمكان: إذ يعتبر الزمن في النص المسرحي هو الوقت الذي تحدث فيه أحداث المسرحية من اليوم والسنة والشهر ويسمى "بالزمن التاريخي"، حيث يحدده الكاتب في بداية كل فصل، أما الزمن في العرض المسرحي هو المدة التي تستغرقه المسرحية في العرض المسرحي ويسمى "بالزمن الدرامي"، ويكون خلال مدة زمنية محددة، و«يتصل المن بالمنجز الأدبي النص المسرحي اتصالا وثيقا ومباشرا فهو مهم لعالمه الداخلي (الأحداث والأشخاص وذو أهمية أيضا من ناحية ديمومة النص وامتداد أثره بالمستقبل البقاء أو الاندثار) فلكل نص مسرحي نمط زمني ونمط يختفي به دون آخر»([38])، وهنا يتضح لنا أهمية تحديد الزمن في المسرحية لأنه هو السبيل الذي تسير عليه الشخصيات وتتطور من خلاله الأحداث، فلا مسرحية دون زمن.
ولا تقل أهمية المكان عن الزمن فكل منهما مرتبط بالآخر باعتبار أنهما يبينان الجو العام للمسرحية، فهما جزءان لا يتجزءان من البناء الفني للنص، ونجد أن المكان الدرامي يختلف عن المكان التاريخي لأن الأول يرتبط بخشبة العرض أي الحيز الذي تجري فيه أحداث المسرحية، أما الثاني فهو يرتبط بالمكان الذي تناول الكاتب المسرحي في النص الورقي، وهذه الأمكنة تتعدد وتتنوع تماشيا مع سياق الحدث، ومن بين هذه الأمكنة نجد «الأماكن المغلقة وتتضمن الأماكن التي يستطيع الكاتب المسرحي الإحاطة بها مثل الأماكن اليومية الحياتية والواقعية، كما نجد الأماكن المفتوحة وقد تكون من النوع اليوتوبية أي التي تملك سمات لا توجد في المدن الطبيعية»([39])، وكيفما تعددت هذه الأماكن تبقى عناصر جوهرية تساهم في ميلاد البنى الأخرى التي تتشكل منها المسرحية.
د.تقسيم النص: تعتبر هذه الآلية قاعدة من قواعد كتابة المسرحية، فالمسرحية تعتمد في بناءها على نظام تقسيم الفصول، وثقستم هذه الفصول بدورها إلى مشاهد يشار إليها في التص، لأن ذلك يساعد في عملية تمثيل المسرحية على الخشبة، ويختلف هذا التقسيم باختلاف المسرحية فيمكن أن نجد المسرحية الواحدة تحتوي على فصول عديدة، فأحيانا « تحتوي على ثلاثة فصول أو أربعة أو خمسة، وقد تحتوي الفصول على أكثر من منظر»([40])، وهذا تماشيا مع موضوع المسرحية 2- على مستوى نص العرض:
أ - عناصر السينوغرافيا: تعتبر السينوغرافيا عنصرا مهما في المسرح، وذلك لكونها تساهم في خلق الجو الذي يشد انتباه المتلقي والتأثير على حواسه، خاصة الحاسة البصرية لأنها تحتوي في تقنياتها على المؤثرات اللونية والأشكال المزخرفة.
إذا ترتبط الستينوغرافيا بكل ما يخص الفضاء المسرحي، لأنها هي التي تتحكم في واجهته، فهي تتعلق بكل ما هو موجود على خشبة المسرح بما فيه جسد الممثل»([41])، فحتى هيئة الممثل ولباسه وكلامه متعلق بتقنيات السينوغرافيا، لكن يتوجب أن تجاري أحداث المسرحية.
1- الديكور: هو مجموعة من العلامات التي يتشكل منها المكان المسرحي ويتزين بما يتلائم مع العرض المسرحي، وقد ورد تعريفه في "المعجم المسرحي" على أنه: « تسمية تشمل اللوحات المرسومة والعناصر المشيدة وكل ما يساهم في تكوين الصورة المشهدية»([42])، فالديكور من خلال هذا التعريف هو الإطار الشكلي الذي يشمل كل ما يحيط بعين المشاهد، مثل الألوان والملابس و الماكياج ولوحات الرسم...وما إلى ذلك.
وكل هذه التقنيات التي تندرج ضمن ما يسمى "الديكور" تساهم في إظهار صورة للمتلقي عن طبيعة العرض المسرحي، وتمنحه فكرة عن الموضوع الذي تدور عليه المسرحية، لكن بشرط أن لا يتعارض مع مضمون النص، ويكون متكاملا معه فتيا ودلاليا.
2- الإضاءة: تعتبر الإضاءة عنصرا أساسيا يتجلى من خلاله جمال وحيوية العرض المسرحي، وقد ورد تعريفه في مجلة "العلامة" على أنه « نسقا تعبيريا يساهم في إبراز دلالات الإنتاجية المسرحية، من حيث كونها عضوا ضمن الأنساق العامة التي يقوم عليها العرض المسرحي»([43])، فعلى هذا الأساس يتضح لنا أن الإضاءة لغة تعبيرية تتحدث إلى المتلقي بطريقة غير إيحائية تجعل الصورة المسرحية أكثر إيضاحا في ذهنه، وتتماشى هذه الإضاءة مع نوعية الحدث فإما تكون قوية أو ضعيفة، وذلك حسب ما يناسب الصورة المشهدية في المنظر المسرحي الذي تدور عليه الأحداث المسرحية .
3- المؤثرات الموسيقية و الصوتية: يرتبط هذا العنصر ارتباطا وثيقا بالمسرح وذلك لما يحمله من جمالية فنية ودلالية للجمهور، من خلال "تعويضه لصمت الكلمة (النص) وتوقف الحركة (التمثيل وفعل الجسد)، وانبراؤه لترجمة الخطاب بمظهر سمعي يحمل المعنى والمتعة"([44])، فهذه الموسيقى التي تكون في العمل المسرحي تحمل معاني كثيرة، لأنها يمكن أن نعتبرها حالة تعبر عن موقف معين، وتختلف باختلاف نوعها وذلك تماشيا مع نوع الحدث الذي وضعت لأجله، فمثلا فإن كان الحدث موت إحدى الشخصيات فهذا الموسيقى ستكون حزينة وقوية حسب قساوة المشهد.
وكل هذه المؤثرات بدورها تساهم في إمتاع المستمع والتأثير فيه، كما تساهم أيضا في توسيع خياله وجعله يعيش الأجواء بكل حواسه.
ب المتلقي (الجمهور): يعتبر الجمهور عنصرا مهما تكتمل به المسرحية، فهو «ركن أساسي في العملية المسرحية فإلى جانب كونه المتلقي، فهو شريك في العملية المسرحية، ويختلف عن المتلقي في باقي الألوان الأدبية والفنية"([45])، لأن المتلقي في العرض المسرحي حضوره مرتبط بالآتية أي في الوقت الذي تعرض فيه المسرحية.
وعلى المؤلف المسرحي أن يعيره اهتمامًا كبيرًا لأنه يعتبر المعيار الذي يقاس عليه نجاح العمل المسرحي، فعليه أن يخاطبه باللغة التي يفهمها ويبني موضوعه وفقًا لما يشغل بال هذا الجمهور لأن المسرح هو "انعكاس موضوعي للواقع الاجتماعي والمسرحية لن تنفصل عن الواقع الذي أنتجت فيه"([46])، فإن كانت المسرحية تحتاج إلى الجمهور لتعرض فالجمهور هو الآخر يحتاج لأن يرى صورته في ذلك العرض.
المبحث الثالث: السيد حافظ بين المسرحية والرواية:
تتميز الكتابة الأدبية عند "السيد حافظ" السكندري بالارتياد عن الأشكال التقليدية المألوفة والقوالب الموجودة، والغوص بقلمه في التجريب أملا منه أن يصل إلى ما يثلج صدره ويحقق ما يصبوا إليه، وهو التحليق بالأدب المصري خاصة والعربي عامة إلى مستوى الرقي، والرفع بلوائه بإشراقة جديدة مضيئة ترفرف نحو العالمية.
شد "السيد حافظ" رحاله نحو الإبداع بقلم متنوع، فهو قد خاض تجارب أدبية عديدة، واستطاع بقدرة عجيبة أن يجمع « في ذاته الكاتب والمخرج والمنظر والمبدع والإنسان والسياسي، واستطاع أن يخرج من دائرة القطيع، وأن يكون ذاته، وأن يؤسس رؤيته الجديدة والمتجددة للعالم»([47])، وهذا يؤكد انتماء الكاتب إلى كوكبة الكتاب المجتهدين الذين لا يكتفون بمنه واحد، حيث أنه استطاع أن يخوض في العديد من المجالات الأدبية المختلفة مما يجعله لا يستقر في جنس أدبي واحد، فنجده في المسرح والرواية والقصة والشعر وغير، وكل ذلك كان بطريقة منزاحة عن كل ما جاء به من كان قبله.
ومن أعماله الأدبية التي ذاع صيتها في الساحة النقدية، واهتم بها النقاد بدرجة عالية هي كتاباته في مجالي المسرح والرواية، والتي كانت «صادمية ترفض الواقع سياسيًا واجتماعيًا وثقافيًا ... تناولت هذه الكتابة قضايا كثيرة: حقوق الإنسان الديمقراطي - الأخلاق... تناولت كل التناقضات الاجتماعية التي أفرزها الواقع الانفتاحي من تمزق اجتماعي»([48])، لذا يمكن أن نعتبر قلم "السيد حافظ" - إما في مجال الرواية أو المسرح أو غيرهما من الأشكال الأدبية التي خاض فيها عبارة عن رسائل نابضة بكلمة صادقة يستقيها من الواقع المعيش، إذ هي تعكس كل آلام وآمال الشعب، وتتمرد على كل أشكال الفساد الطاغية في التربة المصرية بصفة خاصة والعربية بصفة عامة.
1- الكتابة المسرحية عند السيد حافظ:
بدأ اهتمام "السيد حافظ" بالمسرح في مرحلة مبكرة، حيث إنه «كان مولعا في طفولته بكل ماله صلة بالمسرح من أشكال مسرحية سواء من قريب أو من بعيد»([49])، من الأشكال المسرحية المنتشرة آنذاك هي" خيال الظل" و"عرائس القراقوز"، وقد أدى تتبعه لهذه الأشكال إلى نمو ذلك الشغف بعالم المسرح، ويتطور لدرجة أنه يخوض غمار هذا الفن ليصبح بعد ذلك «رائد المسرح التجريبي في مصر والوطن العربي وصاحب أكبر كم وكيف في هذا المجال»([50])، لتكون أعماله من أهم الانتاجات الأدبية التي عرفتها الساحة الفنية المسرحية العربية.
وما حدث في مصر وفي الدول العربية كان له تأثير كبير على حياة السيد حافظ الأدبية، فالظروف المحيطة به أسهمت في ولادة كتاباته المسرحية، وقد أكدت "نجاة صادق الجشعمي" أن «كل الأعمال المسرحية التي كتبها السيد حافظ ترتكز على فترة عصيبة في تاريخ الأمة العربية خاصة، والإنسانية بصفة عامة»([51])، فهو ينسج مواضيع كتاباته المسرحية من عمق الواقع الدائر من حوله ويستمد مادته منه. وإذا تساءلنا عن عدد مؤلفاته في مجال المسرح وكم تبلغ؟
فإن الإجابة تكون على حد قوله «كتبت أكثر من مائة مسرحية، وثمانية وسبعون كتابا عن المسرح»([52])، ومن هذه الأعمال نذكر:
كبرياء التفاهة في بلاد اللامعنى 1970م وكانت أول عمل مسرحي كتبه، الطبول الخرساء في الأدوية الزرقاء 1971م، حبيبتي أنا مسافر 1979م، هم كما هم ولكنهم ليس هم الزعاليك 1980م،
ظهور واختفاء أبو ذر الغفاري 1981م، حبيبتي أميرة السينما 1982م) و غيرها . ولم يكتف "السيد حافظ" فقط بمسرح الكبار بل استطاع أن يضع بصمته حتى في مسرح البراءة وألف فيه العديد من المسرحيات، ومنها:
سندس سنة 1987م ، وفي نفس السنة ألف كل من علي بابا و عنتر بن شداد وفرسان بني هلال، وفي سنة 1995م ألف أبو زيد الهيلالي و قميص السعادة، أما في سنة 1996م ألف أولاد جحا و سندريلا وقطر الندى وحب الرومان والوحش العجيب)... وغيرها، وهذا الثراء في التأليف يؤكد لنا أن "السيد حافظ" «هو المسرحي الذي عاش زمنه المسرحي كاملا»([53])، فقد كان ذلك الكاتب الذي يعرف كل زاوية من زوايا الإبداع المسرحي وكل ثناياه ولا عجب، لأنه كان له عمر إبداعي طويل في هذا المجال .
وقد كتب "السيد حافظ" مسرحياته بلغة ثلائم المجتمع بطبقاته المختلفة، حيث نجد أنها «تتردد بين مستوى العامية ومستوى العربية (أو الثالثة جريا على تسمية توفيق الحكيم) ولكنها تنحو منحى الشعر»([54])، أي أنه يستخدم الفصحى التي يفهمها كل مثقف، ويلجأ للعامية ليجعل رسالته تصل إلى كل إنسان لم تمنحه الحياة فرصة تعلم الفصحى، وكل هذا بلغة شاعرية يصل وقعها إلى أفئدة المتلقي، ترتكز على التبسيط، حيث نجد أنه كما أشارت "نجاة صادق الجشعي" «يبتعد عن الإسفاف والغموض، وتتطهر في ثنايا إبداعاته معاناه نفسية تجذبك إليه لتقاسمه مرارة الهزيمة»([55])، فلغته عميقة تجعل القارئ يعيش حس الكاتب لكنها بعيدة عن الغموض والتكلف لأنهما يعرقلان إيصال مغزى المسرحية ومداها إلى نفسية المتلقي.
2- الكتابة الروائية عند السيد حافظ:
استطاع" السيد حافظ" أن يكون بارعا في مجال الرواية أيضا، وقد ذاع صيته كروائي وقدم لنا مجموعة من الروايات التي نالت حظها من الانتشار والشهرة في الوطن العربي، وقد ساهمت هذه المؤلفات في إثراء المكتبة العربية بشكل عام، ومنها نذكر:
([2]) رينيه وليك، آستن وارن، نظرية الادب، تعريب: د. عادل سلامة، دار المريخ، الرياض، المملكة العربية السعودية، 1991، ص315.
([8]) صلاح ياسين، نظرية الأجناس الأنواع الأدبية، محاضرات في نظرية الأدب للسنة الثانية دراسات لغوية، المحاضرة الخامسة، 2018/12/15 ، ص 25.
([9]) حسين دخيل الطائي، تداخل الأنواع الأدبية النشأة والتطور، مجلة العلوم الإنسانية، كلية التربية للعلوم الإنسانية، ص 42
([11]) د. عبد العزيز شيبل، نظرية الأجناس الأدبية في التراث النثري، ط1، دار محمد علي الحامي، صفاقس، تونس، 2001، ص7.
([13]) زروقي عبد القادر، خطاب السرد وهوية الأجناس، مجلة الأثر، ع22، جامعة ابن خلدون، تيارت، جوان 2015، ص 119.
([14]) روسي الأصل ويعتبر من أهم المبدعين الروسيين في مجال المسرح فكان مؤلفا وممثلا وموسيقيا ومنظرا مسرحيا..
([16]) محمد حامد محمد يحي، عثمان جمال الدين عثمان، العناصر الدرامية في سرديات إبراهيم إسحق، مجلة العلوم الإنسانية، مجلد15، عماد لبحث العلمي، جامعة السودان، كلية الموسيقى والدراما، 2014، ص184.
([17]) أسماء عبد الفتاح يحيى الطاهر، تقنيات مسرحة الرواية في المسرح المصري، شهادة ماجستير، كلية الآداب، جامعة حلوان، 2009، ص7. (بتصرف)
([18]) معارف، مجلة علمية محكمة، قسم الآداب واللغات، العدد 16، جامعة أكلي محند أولحاج، البويرة، ديسمبر 2014، ص 209.
([23]) أبو الحسن عبد الحميد سلام، حيرة النص المسرحي بين الترجمة والإعداد والتأليف، ط2، مركز الإسكندرية للكتاب، 1993، ص 82.
([31]) د. عبد المطلب زيد، أساليب رسم الشخصية المسرحية قراءة في مسرحية كليوباترا لشوقي، دار غريب، القاهرة، 2005، ص217.
([35]) جميل حمداوي، الإرشادات المسرحية، منبر حر للثقافة والأدب، 11:45 ، 02/ 05 /2019، الموقع: www.diwanalarab.com
([36]) زبيدة بوغواص، الحوار في النص المسرحي لعز الدين جلاوجي، مجلة العلوم الإنسانية، العدد44، كلية الفنون والثقافة، جامعة قسنطينة 3، الجزائر، ديسمبر 2015، ص 33.
([38]) عقيل جعفر الوائلي، علي عبد الأمير عباس، البناء السردي في نصوص (عبد الحسين ماهود) المسرحية، مجلة كلية التربية الأساسية للعلوم التربوية والإنسانية، العدد30، جامعة بابل، 2016، ص 601.
([39]) عقيل جعفر الوائلي، علي عبد الأمير عباس، البناء السردي في نصوص (عبد الحسين ماهود) المسرحية، ص 599. (بتصرف)
([40]) فاطمة خلود السباعي، كيف نكتب المسرحية المناظرة، أرشيف: الطلبات والبحوث الدراسية، 15:46 ، 2019/05/10 ، الموقع: http://www.startimes.com
([41]) عبد الله حسين الغيث، السينوغرافيا مفهوما ولغة مسرحية، مجلة العلوم الإنسانية، المجلد12، الكويت، مایو 2012، ص 109.
([43]) هاجر مدقن، الجمالية في المسرح، قراءة في كتاب عناصر التركيب الجمالي في العرض المسرحي لـ: عبد المجيد شكير، مجلة العلامة، العدد الثاني، جامعة قصدي مرباح، ورقلة، 2016، ص 335.
([45]) برمانة سنية سامية ، العلاقة المسرحية وجمالية التلقي لدى الجمهور المسرحي الجزائري مسرحية "يعودون هذا الأسبوع" أنموذجًا ، شهادة ماجستير ، كلية الآداب ، قسم الفنون الدرامية، جامعة وهران، 2008 / 2009 ، ص1.
([46]) برمانة سنية سامية ، العلاقة المسرحية وجمالية التلقي لدى الجمهور المسرحي الجزائري مسرحية " الشهداء يعودون هذا الأسبوع" أنموذجًا ، ص2.
([47]) نجاة صادق الجشعمي، إشكالية الحداثة والرؤى النقدية في المسرح التجريبي، ط1، مركز الوطن العربي رؤيا، القاهرة، 2018، ص58.
([48]) نجاة صادق الجشعمي، السيد حافظ في عيون نقاد المغرب، ج1، ط1، مركز الوطن العربي رؤيا، القاهرة، 2019، ص 202.
([49]) لیلی بن عائشة، التجريب في مسرح السيد حافظ، ط1، مركز الوطن العربي رؤيا، القاهرة، مصر، 2005، ص 2.
([52]) منی نور، الروائي السيد حافظ صاحب نسكافيه وقهوة سادة، وشاي أخضر أبطال الثورة تراجيديون مصيرهم الإهمال أو المطاردة أو السجن، 20:16 / 13 / 05 /2019، الموقع: https://googleweblight.com
.......__________
مسافرون بلا هوية سنة 1997م، نسكافيه 2010م، قهوة سادة 2011م، كابوتشينو 2012م، شاي أخضر- شاي بالياسمين 2014م، حتى يطمئن قلبي 2016م، شط اسكندرية يا شط الهوى 2017م، أما في سنة 2018م فقد ألف العديد من الروايات منها: نور وموسى الحبل السري للروح، نیروزی والبنت وجد، شهرزاد تحب القهوة سادة، كرسي على البحر...) و غيرها.
ربما يعود سبب هذا الزواج الذي لاقته أعماله الروائية، إلى أسلوبه وأفكاره الجديدة التي يستخدمها، حيث نجد أنه قد استغني في أعماله عن «الأسلوب القديم المتميز بالرتابة والقيود الكلاسيكية المتمثلة في الوحدات الثلاث (الزمان والمكان والشخصيات)»([1])، وهذا يعني أنه يكسر المألوف ويسعى لخلق شكل سردي جديد ليسير بذلك ضمن ما جاءت به بالرواية الجديدة التي " تثور على كل القواعد، وتتنكر لكل الأصول، وترفض كل القيم والجماليات التي كانت سائدة في كتابة الرواية التي أصبحت توصف بالتقليدية"([2]).
وما يميز أيضا رواياته عن الروايات الأخرى أنه لم يكتبها لتقرأ فقط على الأوراق، بل فيها بعض من تقنيات المسرح التي تجعل مشاهدتها على خشبة المسرح أمرا ممكنا، وهذا ما يسمي بالرواية المسرحة، فهو قد حرص على وضع بصمته المسرحية فيها، ويمكن أن نرجع هذا "التلوين المتماوج في الكتابة الروائية عند السيد حافظ إلى ممارسته العتيدة لشتى الكتابات"([3])، أي أن اعتياد "السيد حافظ" على الكتابة في مجالات متعددة قد أدى بقلمه إلى خلق ذلك التداخل الذي نجده في مؤلفاته الأدبية إما عن قصد أو عن غيره.
يعتمد "السيد حافظ" في كتاباته السردية على اللغة الشعرية «كما اعتاد دائما في كل كتاباته المسرحية والقصصية والروائية»([4])، فأسلوبه اللغوي في الكتابة السردية لا يختلف عن التي يستعملها في المسرحية، حيث أنه يستخدم اللغة الرمزية المكثفة بكل أنواع الصور البيانية التي تصنع الحيوية في الرواية ليصل إيقاعها إلى عاطفة المتلقي ويقتنع بها.
تبقى الغاية من تكريس "السيد حافظ" قلمه للكتابة في كلا الجنسين هو تغيير المعهود إما في الأسلوب الفتي للكتابة أو في الموضوع الذي تتناوله تلك الكتابة، وهذه الأخيرة كثيرا ما ينطلق فيها بهدف معالجة الواقع بكل تناقضاته، ويسعى لنقل ما يعانيه الإنسان العربي من مرارة وأنين.
الفصل الثاني
اشتغال الفن المسرحي في رواية
"كل من عليها خان"
الفصل الثاني
"اشتغال الفن المسرحي في رواية "كل من عليها خان"
المبحث الأول: قراءة في رواية كل من عليها خان
1 - ملخص الرواية
2- دراسة عنوان الرواية
المبحث الثاني: آليات الكتابة المسرحية في رواية "كل من عليها خان"
1- من حيث البناء الفني للنص المكتوب
2- من ناحية البناء الفني لنص العرض
المبحث الأول: قراءة في رواية "كل من عليها خان":
1. ملخص الرواية:
يعتبر العمل الأدبي "كل من عليها خان" للكاتب المصري "السيد حافظ" عمل لم يؤمن بفكرة الحدود بين الأنواع الأدبية بل آمن بالتعددية التوعية، وقد أثبت ذلك من خلال انفتاحه على أجناس أدبية عديدة، منها: الشعر والسيرة الذاتية والقصة القصيرة... وغيرها، لكن كان النصيب الأكبر للمسرحية التي نلمس أثرها من بداية الرواية إلى نهايتها.|
أصدر "السيد حافظ" هذه الرواية في سنة 2015م عن دار رؤيا للنشر والتوزيع، و« تعتبر الجزء الرابع من مشروعه الروائي الكبير الذي يتمثل في سبعة أجزاء، التي سبق منها روايات "نسكافيه"، قهوة سادة"، " كابوتشين"، و"ليالي دبي"([5])، وتتمحور فكرتها على "الثالوث المحرم: الدين والسياسة والجنس؛ ليصير ثلاثيا مستأنسا طبيعيا يتماهي بجسم الرواية"([6])، وقد تناول في كل زاوية من زوايا هذا الثالوث قضية الخيانة بشتى أنواعها، بدءا من الخيانة الزوجية وانتهاء بخيانة الوطن ككل، إما دينيا أو سياسيا أو اقتصاديا أو اجتماعيا.
تنطلق أحداث الرواية بسرد الكاتب قصة "سهر" و الصحفي "فتحي" اللذان يعيشان في الخليج وبالتحديد في دبي، قصة عشق مرفوضة دينيا وأخلاقيا، لأن كلاهما متزوج من طرف آخر، فسهر متزوجة من "منقذ" و "فتحي" متزوج من " تهاني"، وفي هذه الحكاية يروي لنا الكاتب الأحداث اليومية التي تعيشها كلتا العائلتين، وما تعانيه في دبي جراء البعد عن الوطن، لأن "سهر" وزوجها من الشام أما "فتحي" وزوجته من مصر، وقد جمعهم البحث عن لقمة العيش في الخليج، كما وصف لنا الكاتب حالة العشق التي يعيشها كل من "سهر و" فتحي" بأدق تفاصيلها خاصة في معاناتهما حين لا يكونا معا، وبذلك تصل "سهر" في اشتياقها له إلى درجة البكاء، ومثال ذلك من الرواية: «ليلتها لم تنم سهر وظلت طوال الليل تتقلب في الفراش، وظلت تبكي»([7])، و تأتي الحكايات الأخرى على لسان "فتحي" إما عن نفسه أو عن جيرانه أو عن الرواية التي يكتبها وهي تحت عنوان "مذكرات رجل يضاجع الوطن والتاريخ"، من خلالها يسافر بنا إلى قصص من القرآن الكريم وينقل لنا قصة "آدم" وأبناءه "قابيل" و"هابیل" حين اختلفوا في شأن من منهما يتزوج من أختهم "نارين"، ويسافر بنا أيضا من خلال تقديمه لنا بردیات عن زمن سيدنا "یوسف" عليه السلام، أثناء معاناتهم لمدة سبع سنوات من القحط، وقد تطابقت هذه القصة دلاليا مع حكاية قهر وفقر الشارع المصري في زمن المستنصر بالله، وهنا يتبين لنا أن الكاتب استعان بالتناص الديني ليجعل الأحداث التي يرويها أكثر منطقية و أكثر قوة دلاليا.
وتتزامن هذه الأحداث العصرية مع الحكايات التي يرويها الكاتب عن أغوار الزمن القديم، وتحديدا في حكم " المستنصر بالله" في عهد الدولة الفاطمية، وقد استعرض الكاتب هذه الأحداث بطريقة حوارية درامية جاءت على لسان " شهرزاد" خالة "سهر" في حكاية "الروح الرابعة" التي كانت ترويها لسهر، وتدور أحداثها بين فتاة فائقة الجمال اسمها "وجد" - وهي بنت التركية "جميلة" التي كانت جارية التاجر "الياقوتي" وأبوها الحلاق "عمار". وبين الشاب الفارسي "نیروزی" الذي يعمل في تجارة العطور والبخور، وكان للأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية المتدهورة التي يعاني منها الشعب المصري لمدة سبع سنوات عجاف شريحة كبيرة على مدار الرواية، ويعود سبب هذه الأوضاع إلى تسلط واستبداد رجال السلطة وأصحاب النفوذ وجشع التجار الذين آل بهم الأمر لأن يقايضوا أجولة القمح بالبنات الجميلات، أمثال " فتح الله" الذي « كان يساوم الناس ويشتري خاصة البنات الصغيرات السن الجميلات بخمسة جوالات من القمح»([8])، وتصف لنا "شهرزاد" بشاعة الصورة التي وصل إليها الشعب المصري بسبب الفقر والمجاعة ليصل بهم الأمر إلى أكل الحيوانات كالفئران و القطط والكلاب...، وحين انتهوا منها تحولوا إلى أكل لحوم البشر والتجارة بها.
وفي ظل هذه الأوضاع المزرية يلتقي كل من "وجد" و "نيروزي" ويقعان في حب بعضهما، فأعجوبة الزمان "وجد" التي رفضت كل من تقدم إليها من شباب "حارة الزعفران بحي الحسين"،
دق الحب باب قلبها .. الحب الأول مثل سقوط قمر صغير على قلبك، ترتعش يداك ونبضك وينعكس ضوءه على عينيك نورا..»([9])، ولم تختلف حالة العشق عند "نيروي" فهو أيضا منذ تلك اللحظة لم تذق عيناه طعم النوم، فقد كان «يسير في حجرته..لا يعرف النوم»([10])، ليشاء القدر أن يهربا معا بعد أن ألح "فتح الله" شهبندر الزواج منها، لكن هذا الأخير بعد سماعه بخبر زواج وجد غضب وأسرع لينتقم من والدها "عمار" فحبسه في مخزنه طوال الليل ليلقي به بعدها في بيته وهو في حالة يرثى لها، وكان هذا سبب هروب "عمار" وزوجته مع ابنتهما "وجد" وزوجها "نیروزی" إلى "أسوان" ليعيشوا هناك ريثما تهدأ الأمور، لكن لم يحالفهم الحظ هناك أيضا، لأن ابنة "وجد" و"نيروزي" المسماة "نازك" توقيت وسارعوا لدفنها خلسة، لأن الناس كانت تأكل لحم البشر و«تحت شجرة كبيرة حفر نيروزي حفرة قبر للصغيرة. دفنها دون شاهد قبر. العلامة كانت الشجرة. تحت الشجرة الكبيرة. شجرة التين البنغالي. جلس الثلاثة تحت الشجرة يبكون ومعهم المصابيح»([11])، وحين رأوهم بتلك المصابيح المضاءة ظنوا أنهم يعبدون الشياطين فطردوهم وحملوا درب طريقهم و عادوا إلى القاهرة، التي كانت لا تزال تتخبط في مأساتها ولم يتغير فيها شيء سوى موت "فتح الله" بعد أن أمر بإمساك صيادي البشر وقبض على ثلاثة منهم وعدمهم، واجتمع الصيادون لينتقموا منه فخطفوه وقاموا بإعدامه ووزعوا لحمه على الفقراء.
مع مرور الزمن بدأت الناس تضيق ضرغا مما يحصل خاصة وقد باعوا حتى بيوتهم من أجل جوال دقيق، فقررت سيدات مصر أن يخرجن في مظاهرات نحو القصر وسماها الكاتب "بثورة النساء"، وكانت على رأسهن "وجد" و"فجر" زوجة "فتح الله" شهبندر" التي كانت صديقة "وجد" ولم تكن قابلة لما كان يفعله زوجها، وكانت نساء مصر ينددن «يسقط الخليفة المستنصر. الشعب يريد إسقاط الخليفة. الشعب يريد إعدام الجمالي»([12])، فخاف الخليفة وأمر وزيره "بدر الجمالي" أن يوفر القمح للناس بعد أن هدده بقطع رأسه، وفعلا سارع إلى التجار وأتي بهم إلى ساحة القصر بعد أن غطى رؤوسهم وأمر بقطعها، وحين رأي الآخرون ما حدث خافوا وسارعوا إلى إحضار القمح المخزون، وكانت تلك خدعة ناجحة من الوزير لأن المعدومين كانوا أناسا آخرين قد حكم عليهم بالإعدام سابقا، لكن الوزير استغل الوضع لكي يهدد الجار، وفعلا عادت مصر إلى الحياة و عادت المياه إلى النيل بعد سبع سنوات عجاف، وهذه كانت نهاية الأزمات في مصر، أما نهاية "نيروزي" ووجد" كانت في "خراسان" بعد أن سافرا إليها ليكملوا ما تبقى من حياتهم هناك.
وقد تمازجت مع هذه الحكايات الحافظية([13])سبع مسرحيات نثرية قصيرة جدا تتميز بطابع تراجيدي يتلائم مع سياق النص الروائي المأساوي، وقد تناول فيها الكاتب مواضيع حول الخيانة والوضع المأساوي الذي آلت إليه البلاد، كما أبرزت بشكل كبير الصراعات القائمة بين المفسدين والشرفاء الذين لم يبقى منهم إلا القليل، وكثيرا ما نجد أن الحدث الأخير الذي ينهي به الكاتب الفصل الروائي قبل أن يلج إلى المسرحية يكون في نفس السياق الذي تبنى عليه هذه الأخيرة، فمثلا المسرحية الأولى حملت في كلماتها الصغيرة موضوع خيانة الوطن واستيلاء المفسدين على الحكم، ما أدخل في قلوب الحاشية الخوف من الدفاع عن الوطن لأنهم يدركون أنه إذا تحدث منهم أحد وخالفهم في الرأي أردي قتيلا، وهو الموضوع نفسه الذي كان يتحدث عنه كل من "فحي" و"سهر" في النص السردي.
لذا يمكن القول أن هذه السباعية المسرحية التي وردت في الرواية قد لخصت مضمون الرواية، أو بالأحرى ساهمت في توضيحه أكثر في فرجة مسرحية متلائمة مع السياق العام للنص.
كما استعان أيضا بقصص قصيرة وأشعار أحيانا من تأليفه، ومثال ذلك من الرواية: «هلك يهلك هلكا.
المصريون يهلكون الآن
الجوع والمرض في كل مكان
فبأي آلاء ربكما تكذبان»([14])..
وأحيانا أخرى استخدم شعرا من تأليف شعراء آخرين أمثال "جلال الدين بن الرومي، والشاعر أحمد حنفي، الشاعرة إلينا مدن، وريتا عودة..." وغيرهم.
وجاء هذا التنوع في الأجناس الأدبية متسلسة ومتجاوبا مع مسار أحداث الرواية عن طريق فواصل يشير بها الكاتب بجملة "فاصل ونواصل أو لا تذهب بعيدا عن الرواية".
2- دراسة عنوان الرواية:
يشكل العنوان الباب الذي يلج من خلاله القارئ إلى عالم النص، وهو الذي يفسح له المجال الاكتشاف مكنوناته، فالعنوان يلعب دورا كبيرا بالنسبة للمتلقي، لذا على الكاتب أن يهتم به، لأنه الوسيلة الوحيدة الناجعة التي يمكن لصاحب اللص أن يتسلح بها لجلب اهتمام القاري»([15])
وفي هذه الرواية نلاحظ أن الكاتب وسمها بعنوان رئيسي هو "كل من عليها خان"، إلا أنه في نفس الوقت ترك للقارئ مجالا ليختار عنوانا آخر يناسبه من خلال ست اقتراحات كسر عبرها المألوف في الكتابة الروائية، وجاءت على الترتيب الآتي: "فنجان شاي العصر"، "الرائي"، "العصفور والبنفسج"، "كل من عليها جبان"، "كل من عليها هان"، "كل من عليها بان"، وهنا يتبين لنا كليا درجة اهتمام الكاتب بالقارئ فقد شاركه في عملية إبداعه، وهذا ما أكده في قوله:
صديقي القارئ يمكنك الآن أن تختار عنوانا من السبعة وتبدأ في قراءة الرواية بالعنوان الذي اخترته أنت...دعك من اختياري فأنت الآن شريكي من الآن»([16])، وهذه الدعوة تعتبر إغراء وحافز يدفع بالقارئ إلى قراءة النص والتعلق به أكثر.
ويظهر بوضوح من خلال العنوان الرئيس "كل من عليها خان" أن اللص يحمل في ثناياه قضية الخيانة في كل المجالات لأن الاسم "كل" الذي بدأ به العنوان يحمل معنى الشمولية، لكن أين تكون هذه الخيانة؟ وهذا الاستفهام قد ورد في العنوان بطريقة غير مباشرة، وظهر ذلك من خلال الضمير" هاء" الذي يشير بدوره إلى المجهول، وإذا ما ربطناه بدلالة اللص فإن هذا المجهول نجد أنه يعود على مصر لأنها المكان الذي تدور حولها أحداث الرواية.
ومن خلال هذا العنوان قدم الكاتب للقارئ حوصلة عن الموضوع الذي يدور حوله اللص، وقد أثار فضوله من خلال عدم توضيحه من الذي خان؟ ومن الذي يخان؟ وما نوعية هذه الخيانة؟ وهذا الغموض يشد ذهن القارئ ويغريه ليذهب للبحث عن الأجوبة داخل عوالم النص.
كما تجاوبت العناوين الأخرى مع صدى التص، لأنها تتناسق مع العنوان الرئيسي خاصة العناوين الثلاثة الأخيرة التي ذكرناها سابقا، فهي تتفق معه حتى في الصياغة، أما عنوان "فنجان شاي العصر" فإنه يرتبط ارتباطا وثيقا مع الحكاية المركزية التي تدور أحداثها بين "سهر" و"فتحي" و"شهرزاد"، لأن في هذه الحكاية نلمس الحياة العصرية التي تعيشها هذه العائلات بكل استرخاء، وقد ورد شرب الشاي في الرواية عدة مرات خاصة في الأحداث التي تكون فيها "شهرزاد"، ودليل ذلك من الرواية: «جلست سهر تبكي أمام شهرزاد بكاء حارا، وأمامها فنجان شاي..»([17])، أيضا «بعد العصر جلست شهرزاد تحكي لسهر، وهي تشرب الشاي»([18])، وفي موضع آخر نجد «شربت شهرزاد الشاي، ومددت ساقيها، وأكملت قائلة»([19])،...و غيرها لأن مواطنها كثيرة.
من خلال هذه الاقتباسات نستنتج أن فنجان الشاي يرتبط بالحكاية التي تسردها "شهرزاد" عن "الروح الرابعة" فكل مرة تبدأ فيها "شهرزاد" الحكاية نجد أنها تشرب الشاي، لذا يمكن أن نعتبر أن "فنجان شاي العصر" رمز لبداية الحكاية.
أما فيما يخص " الرائي" فإننا نجد انه يتقاطع دلاليا مع الفصل الذي تحدث فيه الكاتب عن "جمال عبد الناصر" في الصفحة "34" وقد جاء تحت عنوان " الرائي والبنفسج"، وفيما يخص عنوان "العصفور والبنفسج" فإنه يرتبط بالشخصية الأنثوية في الرواية، لنجد أن في حكاية "الروح الرابعة" أن "وجد" تحب العصافير والعصافير تحبها ، حيث ورد في الرواية أنه «عادة ما تجتمع العصافير فوق رأسها فينطلق جمالها مشعا في الآفاق»([20])، كما نجد أنها ترتدي ثوبا باللون البنفسجي لتكون «أجمل من ارتدى ثوبا باللون البنفسجي»([21])، كما ارتبط هذا العنوان في الحكاية العصرية بالشخصية "سهر" التي طلبت من زوجها أن يحظر لها عصفورا وقالت: «أن العصفور يحب أن ينام في أحضاني وأن الحمام يحط على نافذتي..»([22])، ونلاحظ من خلال ما تقدم أن "العصفور والبنفسج" يتمحور حول كل ما يتعلق بالحب والجمال الذي تحمله كلتا الشخصيتين البطلة في حكاية الزمن الحاضر وحكاية الزمن الماضي.
يمكن القول من خلال ما سبق أن العنوان يعبر بشكل كبير عن ما جاء في الرواية، رغم أنه مقتبس من القرآن، فإذا علمنا أن الرواية تتحدث عن الخيانة بشتى أنواعها، فإن "كل من عليها خان" هو أفضل تعبير عن ذلك، كما أن هذا العنوان هو عنوان يشد القارئ فبمجرد أن تقع عينيه عليه تتملكه رغبة في الإطلاع على فحو اللص، لأنه كما أسلفنا مقتبس من آية قرآنية متصرف فيها من جهة ويحمل لفظة الخيانة من جهة أخرى، وهذه الأخيرة قضية يعاني منها كل إنسان وإن اختلفت درجة ذلك، وهذا يدفعه للتعلق بالنص بشكل أكبر، وكيف لا والموضوع يمسته من كل الجهات، فهو قضية الوطن، قضية الإنسان البسيط المهمش، قضية الإنسان الضعيف، قضية القاهري([23])المقهور، الذي لم يستطع حتى أن يوفر لنفسه رغيف خبز، قضية الإنسان الذي جرد حتى من أبسط حقوقه، قضية تكشف بشاعة الحكم الديكتاتوري الذي يعاني منه الشعب المصري خاصة والعربي عامة، هي قضية تهدف إلى رفض الواقع المعيش والعمل على صنع ثورة من أجل واقع أجمل يرفرف بعلم الحرية والعدالة.
المبحث الثاني
آليات الكتابة المسرحية في رواية "كل من عليها خان"
استطاعت الرواية الحديثة بدورها أن تحمل بنى فتية مختلفة، من خلال توظيفها للعناصر الفنيية التي تتأسس عليها الأنواع الأدبية الأخرى، وهذا ما نلمسه في رواية "كل من عليها خان" "للسيد حافظ"، ومن هذه الأنواع الأدبية نجد المسرح الذي طفت آلياته و عناصره على ثنايا الرواية، و من خلالها تم نقل الأحداث والصراعات لنا، وسنحاول بدورنا الوقوف على كل هذه العناصر وتبرز كل عنصر على حدى، لنبين كيف اجتمعت وتفاعلت هذه البني المسرحية في ضوء البنى الروائية لتشكل لنا تجربة جديدة، وهي ما نصطلح عليها بالرواية الممسرحة :
1 - من حيث البناء الفني للنصالمكتوب:
أ- الشخصيات: احتوت رواية "كل من عليها خان" كغيرها من الروايات على مجموعة من الشخصيات التي ساهمت في بناء عالمها الروائي واستعراض أحداثها الدرامية، وقد تعددت الطرق التي رسم بها الكاتب هذه الشخصيات، وذلك وفقا للدور الذي تلعبه، فهي تتوزع في اللص حسب صفاتها ووظيفتها وطبيعتها التي تتميز بها، وإبراز هذه المعالم التي تتكون منها الشخصية في الرواية هو ما جعل منها تحمل سمات مسرحية تساهم في إمكانية إخراجها من الجمود الورقي إلى الحركة على المسرح لأداء وظيفتها.
وهذه الرواية تعج بالشخصيات وذلك لتعدد الأحداث وتشابكها، ونحن في هذه الدراسة سنقف أمام الشخصيات المحورية التي ركز عليها الكاتب ووظفها بشكل كبير، حيث أبرز لنا بيئتها ومعالمها وصراعاتها وسلوكياتها وأبعادها، وهذه ميزة من المميزات التي يركز عليها الكاتب المسرحي أثناء كتابة نصه، لأن ذلك يساعد أثناء تحويل اللص إلى العرض المسرحي.
فمن بين الأبعاد التي ركز عليها "السيد حافظ" لتقديمه لنا هاته الشخصيات نذكر: البعد النفساني والاجتماعي و الفسيولوجى، وقد تمثلت هذه الأبعاد في شخصيات "كل من عليها خان" على النحو التالي:
1 - شخصية البطلة سهر: هي المنبع الذي انبثقت منها روح الحكاية الثانية.
أ - البعد النفساني: هي شخصية متشائمة وحزينة في حياتها خاصة مع زوجها، وتعتبر أله: «لا يميز بين روح الذكر والأنثى. لا يعرف الفرق بين الغرام والحب والجنس»([24])..
فمن خلال هذا القول تبينت لنا الأسباب التي دفعتها لاختيار طريق الخيانة والبحث عن الأفضل في أحضان " فتحي"، وحظها العاثر هذا يجعلها تحسب أنها الضحية فيما يحدث معها، لذا نجد أنها تبكي دائما، وقد وصفت حالتها لخالتها "شهرزاد" في قولها:
«أنا يا خالتي.. مسائي بدون ناي، بلا عازف.. بلا آلة كمان..بلا أوتار. مسائي أحزان ودموع، مساء بلا عناق. يعني: عدم.. فراغ. يعني شجن وهموم وقمر ينزل من السماء لا يعرف طريق العودة. منقذ لا يجيد العزف ولا العناق.»([25])
ب - البعد الاجتماعي: من لبنان لكنها تعيش مع زوجها "منقذ" في دبي، وحياتها كلها مبنية على اضطرابات نفسية جراء حالة الحب الجنونية الملطخة بالخيانة مع "فتحي" صديق زوجها.
ج - البعد الفسيولوجي: شخصية تملك من الجمال ما يجعل عشرات الرجال يفتنون بها، ومنهم "فتحي" الذي جئ بها ليصفها عبر كلمات متناغمة وعميقة، ويقول عنها أنها:
" اسم يعرفه الليل والبحر والشجر وأحلام المراهقين والرجال والعجائز على أبواب الدكاكين في جبل الشام.. شعرها غابة من الحرير وبالعطر تغطيه. عطرها لا على الزهور ولا البحر ولا الغابات ولا أي بشر"([26]). اقدم لنا الكاتب هذه الشخصية كأنموذج للشخصية السلبية التي سيعتبرها المتلقي مجرد مراهقة تجرها مشاعرها وغرائزها إلى الخيانة، لتكون أول شخصية يشملها العنوان، وحتى في المتن هناك ما يشير إلى وصفها بالخائنة، وقد ورد هذا على لسان خالتها "شهرزاد" في قولها:
"سيقولون عنك خائنة ولن يقولوا عاشقة"([27]).
2 - شخصية البطل فتحي: ساردة وراوية في المتن، وأحيانا نجد الكاتب الخذه كسبيل لتمرير ما أراد هو البوح به عن نفسه.
أ - البعد النفساني: يحب فعل الخير ومساعدة الناس، إلا أن قلبه مرهف بأحاسيس يكتها لغير زوجته، وهذا ما يخلق أحيانا في داخله نوعا من الصراع والإحساس بالدم، وهذا ما استنتجناه من خلال قوله:
" كيف ألتقي بزوجة رجل آخر وأكون سعيدا، كأنني مخلوق من الخطيئة والفجور، والنور والحزن والشجن، وأنا رجل بسيط لا حول لي ولا قوة إلا بالله..."([28])
وهنا يتضح لنا الصراع النفسي الذي يعاني منه "فتحي" بين عشقه لـ"سهر" وخيانته لصديقه، كما يتميز بلغة راقية جدا مشحونة بعواطف تتخبط أحيانا في العشق والهيام لمعشوقته، وهذا ما نلمسه في قوله:
" كم أنت يا فاتنتي.. يا صغيرتي تبدين أمام العالم أبرأ من براءة الملائكة والندى والأطفال. وأنت كل يوم تقتلين عشرات الرجال والشباب..أنا مسكون بالعشق أفتح صفحتك في الغيب اعرف كم عاشقة لك بين الرجاء واليأس تنتظرك.. انا ضوء قمر يسود الفراغ المظلم في حضارة تموت..."([29])و نجد ذلك أيضا في آلامه وأحزانه جاء بعده عن الوطن الذي يعتبر قضيته الأولى في حياته، فهو مثلما قال: «لم أحلم بكنوز قارون.. وعمر نوح.. وصبر أيوب.. أمضيت العمر في الشقاء وأرى الدنيا مثل نار إبراهيم لونها وبردها.. ومثل الراقصة الجميلة نتنة الأنفاس.. ليس معي مالا، وكيف أجمع المال؟.. ولست" بطليموس الأول" الذي جمع المال من أهل الإسكندرية بالكارباج حتى يطورها»([30])، فوراء كل هذه المعاناة يبقى هم "فتحي" الوحيد هو أن يحست بالأمان وأن يعيش في وطنه بسلام.
ب - البعد الاجتماعي: شخصية مصرية العرق وتحديدا من "محرم بيك"، إلا أنه حالا مغترب في دبي ويعمل صحفي وكاتب هناك، وهو من عائلة متوسطة، يحب بلاده ويعشقها وأحيانا يصل لحد البكاء لحنينه لها، وقد ورد هذا على لسانه في قوله:
بكيت حزنا وأسفا على مصر، وأغلقت كتاب شخصية مصر الجزء الرابع»([31])، وفي موضع آخر سألته سهر عن مصر، وتقول: «أنت لسه بتحب مصر يا "فتحي" مع أنها خانتك أكثر من مرة؟
قدري أن أحب تلك الخائنة..»([32])وكانت هذه إجابة "فتحي"، فهو يحب مصر رغم ما أصابه منها خيبات أمل كثيرة، فبغض النظر عن الظروف القاسية التي مر بها هناك إلا أن أكثر شيء آلمة وخيب ظنه في بلاده كان من الناحية السياسية، فمثلا كان يحب "جمال عبد الناصر" وفي الأخير استنتج أنه مثلما قال:
«قد فشل في مشروع حذاء وسروال لكل مواطن حيث كان 70% من المصريين حفاة وبدون سراويل !! »([33])
ومن هنا يتبين لنا البعد السياسي الذي ترمي إليه الرواية، وقد تجسد ذلك من خلال شخصية "فتحي" الذي يبوح على لسانه الكاتب بوقائع سياسية مسكوت عنها دون خوف.
د - البعد الفسيولوجى: لم يهتم "السيد حافظ" بالمظهر الخارجي لشخصية "فتحي" مثلما اهتم بإبراز جانبه النفساني والاجتماعي.
3 - شخصية البطلة وجد: تعتبر قلب الحدث، فهي الشخصية المحورية في الرواية وقد انبثقت منها معظم أحداث الرواية.
أ - البعد النفساني: لقد جسد الكاتب في هذه الشخصية المرأة المخلصة التي ترمز للحب والوفاء الذي تفتقره "سهر" في الحكاية التي تتحدث عن الزمن الحاضر، تمتاز بروح مرحة وبريئة وكانت تحلم بزوجها المستقبلي وتأمل أن يكون مثلما أشارت:
«رجل وسيم.. ثري.. ينقذها من الحارة لتسكن بيتا كبيرا على النيل وترى الماء وهو يجري ليلا ونهارا([34])، وقد تحقق حلمها بعد أن التقت "نيروزي" وأحبته بكل صدق
ب - البعد الاجتماعي: تعيش "وجد" في حارة "الزعفران" في "حي الحسين" بالقاهرة، وسط عائلة بسيطة تغمرها بالحب، فهي الابنة الوحيدة للعائلة ما جعلها تكون مدللة البيت، وأيضا محبوبة عند كل من رآها لدرجة أنها كادت أن تغطي على كل أحداث المتن الروائي، فهي كانت لديها شعبية و أخذت عقل كل من رآها منذ صغر سنها، وقد جاء في الرواية ما يؤكد ذلك من خلال كثرة الخطابين، في قوله: " كانت مطلوبة للزواج منذ كان عمرها 7 سنوات؛ لجمالها، وكان أبوها يرفض بشدة.. كان عطرها يلفح من يمر بجوارها.."([35])وهذا يؤكد قوة جمالها.
ج البعد الفسيولوجى: أبدى الكاتب اهتماما كبيرا في إبراز الملامح التي تتكون منها هذه الشخصية، حيث تعمق في وصفها لكونها بطلة القصة وركيزتها، وقد جاء في الرواية أنها أجمل بنات عصرها، حيث أبهرت بجمالها المرأة قبل الرجل خاصة بعطرها المميز حتى أقبت "بمسك"، وجاء في الرواية ما يلي:
" كانت أعجوبة زمانها، فعطر جسدها دخان خفي.. يلهب جسد الرجال، ويشعل غيرة النساء"([36])، كما تتميز بشعرها الطويل وكثيرا ما تظفره ضفيرتين، وعلى وجهها ابتسامة جميلة وصفتها شهرزاد: «ضحكة يهتز لها القمر»([37]).
4 - شخصية البطل نيروزي: شخصية محورية لها دور كبير في الرواية، وقد جسد فيه الكاتب الشخصية الإيجابية الوفية التي ترمز لحب الوطن، ومساعدة الناس والنضال من أجل تحقيق الأمن والأمان في البلاد.
أ - البعد النفساني: مهذب ذو أخلاق حميدة يتمتع بذكاء قوي، فمنذ صغره كان مولع بالمعرفة و في إحدى المقاطع التي يتحدث فيها مع "وجد" يقول:
"وأنا في السابعة من عمري، كان لي ولع بالمعرفة من كل نوع. كنت أريد أن أكون عالم دین. ظللت أتعلم على طريق أجدادي الأئمة الإثني عشر من العمر"([38])، وهذا يؤكد ثراءه المعرفي وقوة إيمانه، وسيره وفق نهج أجداده.
ب - البعد الاجتماعي: هو شخصية مغتربة في مصر لأنه فارسي الأصل، وقد «وفد إلى الحي منذ شهور بشكل مفاجئ، وهو الآن يعمل في تجارة العطور والبخور»([39]). هو يتيم فأمه توقيت أثناء ولادته، ربما هذا ما انعكس على شعوره بالوطنية، فافتقاده لحنان الأم جعله يبحث عن هذا الحنان في حضن الوطن، فكان أنموذج لشريحة من شرائح المجتمع التي تبحث عن مصلحة الوطن والدفاع عن الحق ونشره.
ج - البعد الفسيولوجى: لقد اهتم "السيد حافظ" على لسان "شهرزاد" بالمواصفات الخارجية التي يتمتع بها "نيروزی"، ربما يعود ذلك إلى أهمية هذا الشاب في الحكاية، وذلك لكونه الشخصية المحورية الذي تدور حولها الأحداث، وقد جاء في الرواية أنه شاب أشقر الشعر وسیم، فهو يتمتع بقسمات وجه جميلة، ويقول عنه الكاتب في الرواية أنه شاب وسيم جميل القسمات، وهذا الجمال أسر قلوب نساء الحي، وكن دائما يتوافدن إلى دكانه وجاء ما يؤكد ذلك في النص على النحو الآتي:
" على باب دكانه يقف كعادته تتودد إليه النسوة الجميلات الفرحات الجامحات، الرامحات السابحات، الصادحات المادحات المازحات، غير النائحات ولا الكالحات اللاتي تقفن على باب قلبي نیروزي كل صباح.. فيردهن خائبات"([40])وبعد أن تأزم وضعه ولحقت به المشاكل أجبر على التنكر في شخصية أخرى، ودليل ذلك من التص، ما يلي: "ترك دكانه والعطور والبخور وأطلق لحيته وارتدي ثوب الدراويش"([41])..
وهنا تحول هندام الشخصية نيروزي" من الشاب الأنيق إلى شاب يلبس لباس الدراويش، ويربي شعره ولحيته لكي لا يتعرف عليه أحد.
5 - شخصية شهرزاد: تعتبر عمود البنية الحكائية لهذه الرواية، فهي التي قامت بسرد حكاية الزمن الماضي، وحملت على عاتقها نقل أحداث تلك القصة لنا مثلما فعلت "شهرزاد" في ألف ليلة وليلة، فكلتاهما أخذتا نفس المهمة تقريبا.
أ - البعد النفساني: تملك قدرات فائقة، حيث تستطيع قراءة الفنجان وتفسير الأحلام، كما تملك ذاكرة قوية، ودليل ذلك قدرتها على سردها لحكايات الزمن الغابر بتفاصيل دقيقة، ويمكن أن نعتبر بأنها شخصية تحاول أن تحرك الأحداث بالإيجاب، فنجدها على سبيل المثال تنصح "سهر" وتمنحها أفكارا كي لا تفكر في "فتحي" وأهم ما نصحتها به هو البحث العمل، في قولها: "أنصحك نصيحة هامة عليك أن تبحث عن عمل.. العمل سيشغلك"([42])...
ب - البعد الاجتماعي: متزوجة من رجل الأعمال "حامد الصقر"، الذي لم يولي له الكاتب اهتماما كبيرا، وهي خالة سهر وصديقتها الحميمة وكاتمة سرها، تعيش بعيدة عن وطنها فهي تنتقل من مكان إلى مكان آخر، فقد كانت تعيش في فنزويلا ثم أتت إلى دبي مع زوجها بسبب مشاريع العمل.
ج - البعد الفسيولوجى: عجوزة إلا أن الكاتب قدمها لنا بشخصية مازالت تتمتع بكل رشاقتها وأنوثتها، وتتميز في الرواية بكثرة شربها للشاي خاصة حين تكون في صدد الحكي.
وقد ساهم تركيز "السيد حافظ" في إظهار معالم الشخصيات وأبعادها، إلى تكوين الصورة الكاملة للشخصية في ذهن المتلقي، وقد استطاع بكل براعة أن يخلق من صفات هذه الشخصيات ما يتلائم مع أفعالها ويتطابق مع موقفها، كما نلاحظ أيضا أن الكاتب ركز كثيرا على البعد الاجتماعي لإبراز شخصياته وذلك تلاعما مع موضوع الرواية، الذي يعالج فيه جملة من القضايا الاجتماعية التي أبرزها من خلال جعل هذه الشخصيات تستنطق هذا الواقع الذي تعيشه.
كما يجب الإشارة أيضا إلى الشخصيات التي استعان بها "السيد حافظ" في مسرحياته السبعة التي أوردها في النص الروائي، والظاهر من هذه الشخصيات قد جاءت مجهولات الاسم، ويحددها انطلاقا من الجنس الذي تنتمي إليه مثلا بكلمة "رجل"، مثلما ما ورد في هذه المسرحية:
في اليمين رجل ينام على سرير متواضع.. يقوم الرجل ويتحرك عند دقة الساعة..»([43]).. أو "امرأة" مثل قوله:
"تظهر ثلاث نساء ترتدين ملابس بيضاء من اليمين تظهر.. في اليسار ثلاث نساء ترتدين ملابس سوداء.."([44])
وربما الغرض من ذلك هو الدفع بالقارئ إلى الربط بينها وبين شخصيات الرواية، فكلتاهما جسد في نصها موضوع الوطن.
ب - اللغة والحوار: اعتمد السيد حافظ في رواية "كل من عليها خان" على الحوار كتقنية تعبيرية يستعرض لنا من خلالها الأحداث وتطورها، وقد طغى الحوار بجملة القصيرة على اللص، مما أسهم في ظهور الأحداث على شكل صور قريبة إلى قلب المسرح، خاصة في حكاية الزمن الماضي الذي يتناول قصة "وجد" و "نیروزی" في عهد "المستنصر بالله"، حيث كشف لنا الكاتب من خلاله خبايا الشخصيات بأبعادها المختلفة، وصور لنا المواقف التي تعرضت إليها تصويرا دقيقا، مما أسهم في خلق صورة درامية واضحة في ذهن القارئ، وهذا ما نلمسه في المثال الآتي:
" ست مصر: الولد دا ابن أخويا الظاهر بالله ابن الحاكم بأمر الله ابن العزيز بالله ابن المعز لدين الله الفاطمي.. وإنت تبقي مین... جارية جابك النخاس اليهودي أبو سعدة واتجوزك أخويا الظاهر بالله...
سكينة: أنا اللي خلفت من أخوكي وجيبت منه الولد.. ودا هو خليفة مصر دالوقت.. خليفة الدولة الفاطمية كلها.. المستنصر ابني وأنا الوصية عليها ست مصر: لا أنا الوصية عليه..
سكينة: لا..دا ابني وأنا الوصية عليه أربيه زي ما أنا عايزة... ست مصر: سيبي الولد يا سكينة (يمسكون الولد من يديه)
سكينة: لا يا ست مصر.. ولازم تعرفي أنا سيدة مصر الأولى من الآن.. ومش ح أسمح لك تعملي في ابني اللي عملته عمتك ست الملك في الظاهر بالله.. الله يرحمها.. لا.. إنتم فاكرين نفسكم إيه ياستات البيت الفاطمي.. مفيش أميرات غيركم.. مفيش واحدة غيري عندكم.. انا جارية.. صحيح.. بس أنا أم الولد سامعة"([45])...
فمن خلال هذا الحوار استطاع "السيد حافظ" بلغته الدقيقة الواضحة أن يرسم صورة بألوان درامية في مخيلة المتلقي مواقف الشخصيات وملامحها وأحوالها النفسية، مثل شخصية "سكينة" في هذا المقطع، فانطلاقا من كلامها نستنبط أنها شخصية متعصبة ومتسلطة، كما بين لنا أيضا الصراع القائم بين هذه الشخصيات حول من يسير الحكم بكل وضوح، "فسكينة" أم "المستنصر بالله" تحاول أن تسيطر على ابنها وتستبعد "ست مصر" عمته عنه خوفا من أن يطيعها.
ونجد أن أشكال الحوار التي وظفها "السيد حافظ" في هذه الرواية قد تنوعت، وشكلت لنا من هذا التنوع صورة حية للأحدث، وهي:
1 - الحوار المباشر: استعان به الكاتب كآلية منحت لنا مضمون الحدث، ووضحت مواقف الشخصيات وصورتها بطريقة دقيقة، وهذا ما نستخلصه من خلال هذا المقطع الحواري الذي أوضح لنا الصراع الذي دار بين الخبازين و الناس: « الزمان/ ليلا.. في السنة الثانية من الشدة المستنصرية... المكان ليلا / حي الخبازين شوارع مصر المحروسة بأولياء الله الصالحين..
المنادي: يا أهالي مصر.. تعثر النيل وتعثرت الغلات، وكثر في الأسواق واق.. واق وصرخت النسوان و... و... و... فادعوا الله أن يستجيب لنا ولكم ويرحمنا ويرحمكم ويأتي الماء.. ماء.. ماء.. ماء
محلات متجاورة.. دكان مغلق كتب عليه خان مشتاق للنساء خياط.. ودكان كتب عليه خضر عريف الخبازين.. طابور طويل من الناس في ازدحام...)
خضر: خلصنا الخبز.. خبز مفيش.. عيش مفيش.. عجين مفيش... - رجل1: إحنا عايزيين عيش نأكل..
. خضر: النهاردة الخبز خلص..بكرة.... _ رجل2: أنا واقف من صباحية ربنا للخبز.. وأنت عمال توزع على الناس.
خضر: بتقطمنيياخويا.. علمنياخويا... فهمندیاخويا... إنت بالذات حتقعد تلاث تيام.. كل يوم حديك رغيفين علشان أعلمك الأدب وتبقى مؤدب.. رجل2: عشنا وشفنا الخبازين يتحكموا في الناس..
خضر: وبكرة ياما تشوف يا أبو لسان طويل.. امرأة 1: يا ابني بقالي تلث ساعات واقفة....
خضر: يحتن.. قلنا بكرة... - رجل3: الدقيق بتخبوه فين؟؟
خضر: في جيوبنا. إيه بنخبيه دي؟. راجل طويل اللسان. مفيش عيش. يلا كله يمشي.. الكل يهوينا.. - رجل1: دا ظلم.. يسقط الخبازين..
المجموعة: يسقط الخبازين... رجل1: يسقط الخبازين.. المجموعة: يسقط الخبازين.
خضر: كله يقفل الدكاكين ونادوا على الحراس والعسكر .. كله يقفل الدكاكين.. »([46]).
يمكن أن نعتبر هذا النموذج الحواري الطويل هو لوحة مسرحية بحتة، قدمت لنا أحداث بطريقة درامية، فكل شخصية تعبر عن رأيها بلسانها بطريقة مباشرة، ويأتي قبل كل شيء إبراز اسم الشخصية التي تتحدث ثم تليها بالدور اسم الشخصية التي كانت تسمع لها لترد لها بالشيء المطلوب، مما يجعل المتلقي يستوعب أكثر ما يحدث، وهذه تقنية من تقنيات كتابة الحوار المسرحي، فانطلاقا من هذا الحوار تبينت لنا الصورة بكل وضوح، لذا يمكن للقارئ أن يمسرحها في مخيلته خاصة من خلال الإرشادات المسرحية التي جاءت بين قوسين، فقد ساعدت في تخيل الحدث و الوضع المتأزم الذي آل إليه سكان مصر بسبب نقص أو بالأحرى انعدام الأكل بداية من "الخبز"، بسبب غطرسة وطغيان الخبازين الذين يخون الدقيق ليسيطروا على الشعب وأملاكهم.
2 - الحوار الداخلي (المونولوج): لقد وظفه "السيد حافظ" كتقنية يضيء بها ذهن المتلقي ويزيل أي غموض حول الشخصية، ونجد أن لجوءه إلى هذا النوع من الحوارات يعود لأسباب متعددة، منها التعرف على الشخصية وما تحمله من المكبوتات النفسية التي لا يجب أن تفصح عليها علنا، مثلما يحصل في علاقة "فتحي" مع زوجة صديقه "سهر"، حيث نجد أن كلاهما قد سيطر عليهما المونولوج، لأنهما لا يستطيعان البوح بمشاعرهما علينا، وذلك بسبب العلاقة التي تجمعهما فهي مرفوضة دينية وأخلاقيا، فمثلا جاء على لسان "فتحي" الذي كان يتألم سرا ما يلي:
" وتسألني من أنت، قلت أنا السؤال والزلزال والثمار والحوار والنبراس والزمان والمكان. أنا الوحدة والتوحد والباحث عن نور يفتح للشهوة ألف فكرة وحلم"([47])...
فعدم قدرته على البوح بمشاعره دفع به للتحدث مع نفسه، لأنه يعلم أنها كاتمة سره، ومن خلال هذا المقطع تتضح لنا معاناة "فتحي" جراء بعد عن "سهر"، وقد عبر عن ذلك بلغة شعرية جميلة يتمتع بها القارئ رغم ما تحمله من دلالات حزينة .
وفي مقطع آخر يبرز لنا المونولوج ما تعانيه أيضا "سهر" جراء هذا الحب الممنوع، وتقول في ذلك:
" ما لي أرى كل شيء بلا لون..بلا مستقبل كأن الألوان اختفت أو صار الوطن أعمى ونحن كذلك"([48]).
وهذه صورة أخرى ترسم في ذهن المتلقي شدة حزن وغیظ "سهر" حين يغيب عنها "فتحي"، الصبح حياتها في اللاشيء لا طعم لها ولا رائحة.
إلى جانب ما قدمناه من الأمثلة التي وضحت لنا دور المونولوج في كشف العالم الداخلي للشخصية، نقف أيضا عند "عمار" والد "وجد" الذي حبس ظلمة فنجده يناجي ربه سرا، ويقول:
" يالله.. أنت غاضب من مصر، لكن لا تغضب مني.. فأنا أصلا لا أعرف هل أنا مصري أم لا؟ أنا لم أشجع الدعارة يوما.. لم أسمع أغاني سيئة.. لم أشرب في حياتي الحشيش إلا مرة واحدة.. يالله إذا كنت غاضبا مني بسبب سيجارة الحشيش فسامحني وفك أسري.. فأنا عبدك الضعيف زوج جميلة. أم وجد.. وأبو وجد الحامل الغلبانة"([49])..
من خلال هذا المشهد المونولوجي تضح لنا صورة "عمار" أكثر، ونستنتج أنه شخصية طيبة مؤمنة يخاف من الله، فهو عبر عما يختلج في قلبه بكل صدق وبلغة نبعت من قلبه، ومن خلالها يستطيع أن يلج داخل قلب المتلقي ويؤثر فيه ويجعله يتعاطف مع حالته.
انطلاقا مما تقدم يمكن القول في الأخير أن هذه التنوع في طريقة تقديم الحوار قد خدم الحدث الروائي، وساهم في تفكيك رموز الشخصيات وتحليلها وإبراز معالمها للقارئ
وقد قدم لنا "الستيد حافظ" هذا العمل بلغة مسجوعة، تشكل أحيانا نصوص إيقاعية تتناغم حروفها بنزعة رومانسية، تتدقق من القلب لتصنع لوحة فنية تؤثر على قلب المتلقي وتحرك وجدانه، وعلى سبيل المثال نذكر:
" الليل يحتضن القرية.. الليل أب قاسي، وشاعر وفاجر وماجن، وحنون ومزاجي وصاحب هوى.. الليل ستار ويغمض عينيه بدهاء وشموخ.. ولليل بهاء.. أحيانا سكران وأحيانا تعبان.. الليل صديق الإنسان والأحلام.."([50]). وفي مشهد آخر نجد أنه يقول: "أبحث عنك في كل زمان ومكان، فلم أجد القلعة ولا السجان، ولكن يا غاليتي أين أنت الآن؟ أم أنت في خبر كان.. أم باسم آخر في هذا الزمان؟ أعطيتك الأمان.. اظهري؛ فلم يعد هنالك سجان ولا نوافذ لها قضبان.. لم يعد هناك شيء الآن.. كل من عليها الآن خان، وكل من عليها فان.. انظري.. لا يوجد إلا الخراب الجميل... وقلبي المتوهج التائه الحيران"([51])...
ومن خلال هذين المشهدين قدم لنا الكاتب - بكلمات متأنقة شكلها بطريقة بارعة و شحنها بإيحاءات تحمل بعدة دلاليا تأثيرا أضفت جمالية فنية على النص - مشاهد عن مشاعر "فتحي" الغرامية التي تفيض بالألم جراء عشق صادق لكنه يبقى محرم، فهذه الكلمات وصفت البعد التفسي التراجيدي الذي تكونت منه هاته الشخصية.
كما تنوعت لغة الكتابة في هذه الرواية بين اللغة الفصحي و العامية المصرية، وهذه الأخيرة أضفت بعدا واقعيا للأحداث، مما جعل المسافة بين الشخصية والمتلقي أكثر قرابة، لأنها " الناطقة الموضوعية باسم الجماهير المسرحية العربية التي تمثل نسبة كبيرة منها فئات العمال والفلاحين وذوي الثقافة البسيطة"([52])، إذا فهذه اللغة تستوعبها كل الفئات بمختلف مستوياتها.
ويمكن أن نعتبر لجوء "السيد حافظ" إلى هذا النوع من اللغة يعود إلى الموضوع الذي انبثقت منه الرواية، لأنه استقاه من بيئة تجمع كل طبقات المجتمع، لكن تبقى الطبقة البسيطة أكثر من يمستها هذا الموضوع، لذا كان ذكاء منه أن يتواصل معهم بلغتهم التي تكون أكثر استيعابا لهم من الفصحى، وأكثر وقعا في نفوسهم، وقد جاءت هذه اللغة متناسبة مع مواقف الشخصيات ومقامها، كما يظهر في المثال الآتي:
" فوجئت شهرزاد بطلب غريب من سهر إذ نظرت إليها وقالت:
شو رأيك نشرب نبيذ أبيض؟ شو عم تحكي نبيذ مرة واحدة..! نعم. في الجنة ربنا حيسقينا خمر.. وفي الدنيا نشرب إحنا نبيذ..! هذا في الجنة؟ وأنت في جنة الدنيا دبي. أنت يابنت شو حكايتك؟ زوجك بيشرب؟ لا.. بس قلت له اشرب فشرب.
كيف يعني؟
- شفت فيلم أمريكاني بيجنن. البطلة جميلة كل ما تنبسط عم تشرب فقلت له: منقذ.. اشتري لنا نبيذ وبيرة نشرب زي البطل والبطلة لما ننبسط"([53])
ومن خلال هذا المقطع الحواري نستنتج أن اللغة العامية جاءت خادمة للمعنى و متلائمة مع الموقف، فكلام كل من "شهرزاد" و "سهر" جاء تلقائيا لا يحتاج إلى الزخرفة والتألق، لأنهما بصدد الحديث عن حوادث يومية، وقد ألبست هذه اللغة الحوار حلة واقعية تجعل المتلقي يستحضر الموقف ويعيش ويتعايش معه.
كما نجد أيضا أن الكاتب قد وظف في لغته "إرشادات مسرحية ساعدت في تجسيد صورة الأحداث في مخيلة المتلقي، وجعلت اللص يقترب أكثر من خشبة المسرح، وهي «تتوجه أساسا المجموعة القائمين على العمل من مخرج وممثل"([54])، ومن هذه الإرشادات التي وجهها "السيد حافظ" إلى المخرج ، نذكر على سبيل المثال، تحديد الزمان والمكان، كقوله:
" الزمان/ ليلا المكان/ بیت شهرزاد في دبي"([55]). و «المكان دبي الجريدة/ دورة مياه الجريدة أيضا " الزمان/ ليلا.. في السنة الثانية من الشدة المستنصرية المكان/ حي الخبازين شوارع مصر المحروسة بأولياء الله الصالحين..."([56]). وإيراد هذه الإرشادات في النص ساعد في إعطاء المتلقي فكرة عن الأماكن التي تتحرك وتنتقل فيه الشخصيات، وعن الزمن الذي تعيشه، بتخيلات محددة وذلك وفقا لما جاء ذكره في الرواية.
ونلاحظ أيضا استخدامه لعبارات تشير إلى بداية أو نهاية العرض، وذلك من خلال قوله: «ستار»([57])، وقد وردت هذه العبارة في المسرحية" لتشير إلى نهاية المسرحية، ونجد أيضا عبارة "فاصل ونواصل..."([58])، وهذه الجملة كتبها السيد حافظ" في النص الروائي حين ينتقل إلى الأنواع الأدبية الأخرى، و" عدنا إلى الرواية.."([59])، وهي إشارة ينته من خلالها القارئ أنه عاد إلى اللص الأصلي.
ونجد أن "السيد حافظ" في هذه الرواية حدد أيضا نوع اللص الذي بصدد تناوله، مثل: "مسرحية قصيرة جدا"، "قصة قصيرة جدا".. وغيرها، وهذا التنوع والانتقال بين الأنواع الأدبية مع عنونتها هي طريقة كتابة السيناريوهات، ويمكن أن نعتبر الغاية من هذا التنقل والتنويع هو إبعاد الملل عن نفسية المتلقي، فيدخله في نوع آخر دون أن يتركه يتيه، لأن الموضوع الذي تناوله في النص الأصلي (الرواية) لا يبتعد كثيرا عما يتناوله في الأنواع الأخرى (كالقصة القصيرة والمسرحية والشعر.. وهذا ما يشد ذهن القارئ أكثر.
وفيما يخص الإرشادات التي قدمها للممثل فإن الهدف منها هو توجيهه ليؤدي دوره بامتياز وإتقان، لأنه يبني حركته على خشبة المسرح وفق ما يمليه عليه المخرج، كما ساعدت أيضا هذه التعليمات المتلقي في تخيل هذه الشخصية وتحركاتها وفهم موقفها، ومعرفة الدور الذي تقوم به، ومن الأمثلة التي وردت في الرواية نذكر ما يلي:
" ينزع الغطاء، يرفع سيفه على الوزير، ينحني، يطمئن المستنصر عندما ينحني حسن الصباح ويجد الوزير خائفا"([60]).. كما نجد أيضا عبارات «يدخل»([61])و «تخرج»([62]).
ومعظم هذه التعليمات قد وردت داخل ثنايا الحوار، وهي تحمل وظائف دلالية كشفت لنا تحركات الشخصيات و نفسيتهم، وهذا قد خدم الحركة المسرحية في النص، فمثلا خوف الوزير يشير إلى ما يحست به داخليا، ويشير أيضا إلى ردة فعلية خارجية تتعلق بملامح الوجه إن صح التعبير، ومن هذه الإرشادات تبينت لنا بكل وضوح معالم الشخصية، كما ساهمت أيضا في تقريب الصورة أكثر في ذهننا.
ج - الزمان والمكان: بما أن هذه الرواية الحافظية تحمل في طياتها حكايات عن الزمن الحاضر والماضي فمن الطبيعي أن نجد فيها تعتد في الأمكنة والأزمنة، لكن هذا التنوع لم يحدث خلل في اللص بل منحه رونقا جماليا قدمه بطريقة درامية يستمتع بها القارئ أثناء انتقاله عبر هذه الحقب المختلفة.
ومن خلال استخراجنا لهذه الأماكن وتحديدنا للأزمنة التي احتوت عليها هذه الرواية، فإننا سنقوم بتحديد المكان والزمان التاريخي مع المكان والزمان الدرامي.
المكان التاريخي: تحركت شخصيات رواية "كل من عليها خان" في حكاية الزمن الحاضر عبر ثلاث أماكن رئيسية أعلنها الكاتب وحدها بوضوح تام، وهي:
أولا: دبي: وتعتبر نقطة بداية الأحداث، وكانت المكان الذي احتوى الخيانة الزوجية التي عرفتها الرواية، فهذه المدينة الرائعة انبهر بجمالها الكاتب وجاء وصفها على لسان "فتحي"كما يلي:
« دبي هي أنثي نثر عليها سحر، ولها أسحار.. دبي مدينة بناها الجن وليس البشر»([63]). فهي مدينة جمعت في النص نذالة الخيانة بالمقدار الذي تملكه من الجمال، ومن خلالها تطرق الكاتب إلى أماكن عديدة جسد فيها أحداث روايته، فمنها بيت "سهر" الذي انطلقت منه الأحداث، وتحديدا في غرفة النوم حين اكتشفت "شهرزاد" الخيانة التي تمارسها "سهر".
" دخلت سهر، وشهرزاد إلى غرفة النوم.. وأغلقت سهر الباب عليهما، وهمست وهي تبكي:
شو قريتي في الفنجان یا خالتي شهرزاد؟»([64])..
ويمكن أن نعتبر هذه الغرفة تحمل دلالة سلبية، ففيها بدأت الخيانة وفيها كشفت، لأن "سهر" كانت تلتقي ب"فتحي" في غرفة الفندق.
ومن الأماكن الأخرى التي وردت في دبي أيضا نذكر بيت "فتحي"، ويحدده الكاتب في قوله: " المكان في البيت.. غرفة المكتب.. جلس فتحي رضوان خليل يكتب روايته الجديدة: "مذكرات رجل يضاجع الوطن والتاريخ"([65]).. وكثيرا ما يرتبط بیت "فتحي" في النص بمكتبه وقلمه وأوراقه، وهنا يمكن القول أن "فتحي" في بيته يهرب من الواقع، إما من زوجته أو من حبه ل"سهر" أو من ذكرياته أملا أن يجد الراحة في أوراقه.
ثانيا: الإسكندرية: وهي وطن "فتحي" الذي يحبه حبا جما، رغم أنه أجبر على تركها، ليقول في ذلك:
" ونسيت الوطن مع علبة سجائري على طاولة الكافيتيريا في المطار، في طريقي إلى دبي"([66])، ف"فتحي" يحاول أن يتناسى وطنه، لكنه لم يستطع ودليل ذلك ذكرياته التي لازمته في الرواية، كما وقدم لنا أيضا جزءا من تاريخها وبداية قال: «أنشأها الإسكندر الأكبر، وعمره كان وقتها في الخامسة والعشرين، وجعلها عاصمة مصر»([67])ثالثا الشام: وهي بلد"سهر" التي هاجرتها بسبب الحروب الأهلية، وكانت معظم الأحداث التي وردت فيها تدور حول الأستاذ "كاظم" عاشق "سهر"، وقد جسد لنا هذه الأحداث في بيته، وكمثال نقدم ما يلي:
" يجلس كاظم في شرفة البالكون يدخن الشيشة.."([68])وكثيرا ما تكون هذه الشخصية مكتئبة وتعيسة في حياتها، ومن خلال هذا المكان صور الكاتب في ذهن القارئ صورة عن هذه الشخصية التي تلجأ إلى الشيشة لتناسی همها وحبها.
وفيما يخص حكاية الزمن القديم فقد جاءت أحداثها أيضا ضمن ثلاثة أماكن تاريخية، هي:
أولا: القاهرة: وقد رصد فيها الكاتب الواقع المرير الذي يعيشه الناس بسبب سوء تسيير الحكم وطغيان التجار، وقد وزعت الأحداث فيها عبر أماكن متنوعة نذكر منها: "حارة الزعفران" وتحديدا "حي الحسين"، وهي الحارة التي أوت الفقير وشهدت سياسة التعسف التي يمارسها التجار، وفيها ينتقل بنا الكاتب بين الشوارع والدكاكين..وغيرها، ويصف لنا الحارة وأجوائها، ويقول في ذلك:
" الحارة متسخة مثل كل حارات مصر، والزبالة في كل مكان.. كان المصريون يحبون الحفر تحت بيوتهم، لعلهم يجدون کنزا، والسبب ما ذكر عن كنوز يوسف عليه السلام.. وكنوز قارون التي خسفت في الأرض.. وكنوز الإسكندر الأكبر..وكنوز الملوك من قبله ومن بعده. لأنه كان يكنز ما يفيض من النفقات والمؤن لنوائب الدهر.."([69]).
وفي هذه الحارة تعيش "فجر و"نیروزی" وتتقاسم أحداثها مع الشخصيات الأخرى، وكانت هذه الأحداث التي تعيشها كلتا الشخصيتين قد حدد لها الكاتب الأماكن التي حوتها، مثلا بیت "نيروزي" و "فجر" والسوق، وإلى جانب هذه الأماكن الملموسة في النص الروائي نجد أيضا قصر "المستنصر بالله" الذي كان له نصيب كبير في الرواية، ويمكن أن نعتبره المركز المسرحي الذي قدم من خلاله الكاتب المشاهد الدرامية، فمعظم أحداثه جاءت مبنية على الحوار، وكما عودنا الكاتب في تحديداته للأمكنة والأزمنة، فهذا ما فعله أيضا للقصر فنجد على سبيل المثال:
" المكان/ القصر الزاهر.
في القصر الزاهر جلس رجال الدين في القاعة الكبرى، وقدم لهم الشراب ولم يقدم طعاما فالبلاد تمر بأزمة كبيرة، حضر الاجتماع الحاخام الخاص باليهود المصريين وبابا الكنيسة المصرية. في صدارة المشهد كرسي كبير عليه جعرانان كبيران من الحجر الكريم، وقف بجوار الكرسي بدر الجمالي.. حيث يجلس المستنصر بالله.. وكان أول الجالسين إلى يمينه الشيخ إسحاق المفتي وإمام مسجد الأنور.. »([70])
من هذا المقطع يمكن أن نقول أن المكان هنا قد تعددت وظيفته، فإلى جانب احتوائه للأحداث حمل على عاتقه أيضا مهمة تقديم بعض الشخصيات والحالة الاجتماعية التي تنتمي إليها، فمثلا استخدامه للكرسي الفخم دليل على حالة اجتماعية يسودها الرخاء و الغني، كما يرمز أيضا إلى الحكم والسلطة، ويمكن أن نقول في ذلك أن الكاتب قد عمد على هذا الرسم ليشير إلى الطبقية المنتشرة في بلاده، فهناك من يجلس على حجر كريم وفي المقابل نجد من لم يجد رغيف خبز يسكت به جوعه.
ثانيا بلاد فارس: وهي بلد " نيروزي"، وقد جاء على لسانه أنها:
في بلاد فارس البعيدة، هناك قلعة غريبة اسمها ألموت.. وكلمة ألموت في اللهجة المحلية " أمثولة النسر".. »([71])۔
ولم يكن لها دور كبير في الرواية، فلم ساهم كثيرا في سير الأحداث.
ثالثا أسوان: التي سافر إليها "نيروزي" وعائلة "فجر" هربا من بطش التجار وبحثا عن الأمان.
" هناك يعيش نیروزی مع الناس البسطاء كل أهل أسوان ما زال لديهم مخزونا يأكلونه من الفئران الجبلية..."([72])
وفي الأخير يعود إلى الأصل وهي القاهرة، مثلما قال:
" إلى القاهرة، منها وإليها نعود»([73])، وهناك يختم الأحداث حيث يأخذ كل ذي حق حقه.
المكان الدرامي: جاء المكان الدرامي في الرواية واضحا، وذلك من خلال الديكور وعناصر السينوغرافيا التي تجسدت في المكان التاريخي، حيث جاء ممثلا فيه، فهما متلازمان ومتلائمان فنيا، وهذا خدم الصورة الدرامية ورسمها رسما دقيقا، وكمثال على ذلك نقدم ما يلي:
«(يفتح الضوء وتدخل فتيات تحملن في أيديهن أرقاما و عنوان المعركة الخامسة.. من الذي يشتري مصر) المخرج (يدخل ومعه شاب حاجب الخليفة المستنصر) أنت يا ولد أتجنت تقول لحسن الصباح المؤلف صاحبي وهو حيخرجني من الموقف دا.
حاجب الخليفة: ما هو مكتوب في الورق بتاع المسرحية بعد ما يقول الحاجب الكلمتين دول للوزير الجمالي يقتل نفسه. كنت عايزني أقتل نفسي على المسرح والدم ينزل والناس تضحك ويقولوا مسرحية ميلودراما ورواية نكد والنقاد يفضحونا..؟»([74]).
فمن هذا المشهد يمكن القول أن المكان الدرامي جاء في خشبة المسرح، وذلك نظرا لما ورد في هذا المقطع مثل: يفتح الضوء ، المخرج، أوراق المسرحية، ويتكون المكان الدرامي هنا
العناصر السينوغرافية، كالضوء والأرقام والأوراق التي أضفت جمالا للخشبة وأوضحت الصورة أكثر، كما نجد أيضا مجموعة من الشخصيات التي خلقت الأحداث، و يجدر بنا القول أن هذا المقطع جسد بشكل قريب جدا واقع العرض وإبراز لنا كيف يكون العرض المباشر على خشبة المسرح.
أخيرا يمكن القول أن المكان الدرامي قد تحقق بواسطة العناصر السينوغرافية التي تزين بها المكان التاريخي، فهي التي حددت الإطار الشكلي الذي تدور حوله الأحداث، فطبيعة الأماكن التاريخية في هذه الرواية قد جاءت متفاعلة مع الأماكن الدرامية، واستخدمت تصميمات تتناسب مع الإطار المسرحي والأداء التمثيلي.
الزمن التاريخي: جاء مسرح الأحداث في هذه الرواية عبر حقب زمنية متنوعة ومتداخلة، تمتد من الزمن الحاضر إلى الزمن الماضي، وقد جاء في ثنايا الرواية تحديد هذه الفترات الزمنية وضبطها بشكل صريح، وهذه تقنية من تقنيات كتابة السيناريوهات.
ويرتبط الزمن في عصر "المستنصر بالله" بما جاءت به "شهرزاد" من حكايات، وكانت كل مرة تتطرق إلى حكاية هذا الزمن تقول: «كان ياما كان روحك الرابعة في جسد بنت تسمي وجد أمها تركية تدعى جميلة»([75])..
وانطلاقا من هذا المقطع نصل إلى أن الأحداث التي ستتناولها "شهرزاد" هي من الزمن الماضي، وقد حدد الكاتب فيه الزمن الذي تحدث فيه الأحداث، كفترات النهار مثلا نجد أنه يشير أحيانا إلى الليل أو الصباح، مثل:
" في الصباح الباكر استيقظ عمار.. شرب الشاي المغلي مع أول شعاع الشمس، ونظر إلى العصفور الجاثم على نافذة وجد قرة عين أبيها. التي عادة ما تتجمع العصافير فوق رأسها فينطلق جمالها مشعا في الآفاق.. خرج عمار مهرولا إلى بيت سليمة تسبقه خطوات الفزع من المجهول.. دق عليها الباب بخجل مرة، مرتين، ثلاث.. فتحت له الباب، وعيناها نصف مفتوحتين"([76])
وأحيانا يتركنا الكاتب نستنبط الزمن من خلال كلمات اللص، مثلما جاء في هذا المقطع: كان الشيخ حسن الصباح يؤدي الصلاة؛ فأهل الشيعة الفاطميين يؤدون أكثر من إثنتي عشرة ركعة بعد صلاة العشاء، كان الظلام وشمعتان مضيئتان، والشيخ حسن الصباح يختم الصلاة.. التف الشيخ إليهم:
أهلا بكم.. ماذا حدث؟
أجاب نيروزي وهو يبتسم:
" سأتزوج من وجد يا شيخي الآن، ونريد عقد القران"([77]).
فانطلاقا من هنا نستنتج أن الأحداث في هذا المقطع جاء زمنها ليلا وتحديدا بعد العشاء وكانت الليلة التي سيتزوج فيها "نيروزي" و "وجد". الزمن الدرامي: يمكن القول أن الزمن الدرامي في هذه الرواية يمكن أن نستنبطه من عدة أشياء، فمثلا في الحكايات التي جاءت على لسان "شهرزاد" رغم أنها من الزمن الماضي البعيد، بيد أن الأفعال التي استخدمتها جاءت بصيغة المضارع، وهذا ما يجعلنا نعيش هذه المشاهد آنيا، فالكاتب من خلال هذه الأمور يجعلنا نعيش الزمن الدرامي الذي قامت عليه هذه الرواية.
وقد ساعد تحديد الزمن التاريخي في إبراز الزمن الدرامي الذي تقوم عليه الصورة المسرحية في هذه الرواية، وكمثال تقدم ما يلي:
" الزمان: صباحا المكان: منزل ياقوتي التاجر اليهودي، وهو قصر كبير دق الباب.. فتحت الخادمة. - من؟
- أنا جميلة.. خادمة سيدي.. أريد مقابلة سيدي ياقوتي.. قولي له جميلة جاريتك.. - انتظري هنا.. دخلت الخادمة إلى الحجرة واختفت ثم عادت.. تفضلي. دخلت جميلة خلف الخادمة ووصلت بها إلى إحدى غرف النوم. كان ياقوتي جالسة على السرير ممددة ساقيه على الأرض وعلى ملامحه الفزع؛ فقد قام من النوم توا وراح يلعب في ذقنه الطويلة:
- ماذا بك يا جميلة؟ مالذي أتى بك في هذا الصباح المبكر؟"([78])..
ومن هذا المقطع الحواري الطويل نستنبط الزمن الدرامي من المقومات التي حددها الكاتب، وهي اللحظة التي وصلت فيها "جميلة" إلى بيت "ياقوتي"، ويمكن أن تؤكد على فترة الصباح من خلال قول التاجر "ياقوتي": ماذا أتى بك في هذا الصباح المبكر؟، فهنا يتبين لنا أن الفترة هي فترة صباحية وبالتالي فالزمن الدرامي قد تحدد من الأفعال التي ذكرت في الزمن التاريخي.
وانطلاقا مما سبق يمكن القول أن الزمان والمكان قد لعبا دورا مهما في صيرورة الأحداث، وفي إبراز الصورة الدرامية التي بنيت عليها هذه الأحداث، وقد ساعد الكاتب بتحديده الدقيق للأمكنة والأزمنة في تخيل المشهد المسرحي، والتعايش معه وكأنها تحدث في الواقع، وبهذا تحقق الفعل المسرحي في النص الروائي.
د - تقسيم النص: "اعتمد "السيد حافظ" في هذه الرواية على تقنية التقطيع، الذي هو الشكل الذي ينتظم فيه العمل المسرحي بحيث تتحدد المفاصل الرئيسية للحدث من خلال تقسيمه إلى وحدات مثل الفصل Acte و المشهد Scene واللوحةTableau ، وغير ذلك من أنزاع التقطيع المستخدمة في المسرح"([79]).
ومن خلال هذه الفواصل أدرج لنا "السيد حافظ" نصوصا أخرى تحمل أحداثا تتماشى مع سياق الرواية وثتممه، كالمسرحية القصيرة جدا والقصة القصيرة، وحكايات عن جيران "فتحي" وغيرها، وقد زاوج "السيد حافظ" بين هاته الأنواع بأسلوب مسرحي محكم وجعلها تسير وفق خيط تقني واحد، ومن العبارات التي يقسم بها اللص نذكر: "فاصل ونواصل"، "لا تذهب بعيدا عن الرواية"، "عدنا إلى الرواية"...، وقد أدت هذه الفواصل إلى تحقيق فرجة مسرحية عن طريق لوحات درامية، ساعدت بدورها في إثراء ذهن المتلقي بأحداث أخرى تحمل نفس السياق الذي يدور فيه النص الأصلي، فقضيتها واحدة وهي الوطن، كما برمج "السيد حافظ" أيضا تقسيمات أخرى تحمل عناوين الفصول التي سيتطرق إليها، مثل: «الرائي والبنفسج»([80])، و« نحن والقمر جيران ، جيران فتحی رضوان)»([81])، وغيرها من العناوين التي توضح لنا مضمون الفكرة التي هو بصدد تناولها في تلك الفقرة، كما رسم أيضا بعض عناوين للمشاهد المسرحية التي تناولها، يمكن أن تدرجها ضمن تقسيم النص ونذكر على سبيل المثال:
يوم اغتيال فتح الله»([82])، و«خلفية مشهد الشنق»([83])... وغيرها من العناوين التي ساهمت في تقسيم النص تقسیما مسرحيا، منح للمتلقي صورة درامية واضحة ساعدته في استيعاب الأحداث وترتيبها في مخيلته ترتیبا صحيحا.
2 - من ناحية البناء الفتي النص العرض:
وفي هذا العنصر نسعى إلى استخراج الآليات المسرحية التي تخص العرض المسرحي، ومن خلالها تتحقق عملية المسرحة، ومنها نذكر ما يلي :
أ - عناصر السينوغرافيا: ([84])في تحليلنا لرواية "كل من عليها خان" وجدنا أن عناصر السينوغرافيا قد شغلت مساحة كبيرة فيها، وهذا خلق في داخلها بنية مسرحية تساعد على عملية الميزانسية ، فتواجد هذه العناصر في المتن هي من بين الأسباب التي دفعتنا إلى التيقن من أن هذا النص قابل للعرض على الخشبة أي قابل للمسرحة"، لأن مهمتها هي خلق الحركة في الستكون الموجود داخل الورقة، كما ترسم أيضا المشهد المسرحي وثقرب صورته إلى ذهن المتلقي، لأنها تترجم «أشياء لا تستطيع اللغة المنطوقة التعبير عنها"([85])، حيث تمنح اللص دلالات أكثر قوة مما تمنحه اللغة المنطوقة، ومن هذه العناصر نذكر:
1 - الديكور: احتل الديكور مساحة كبيرة في هذه الرواية، حيث أسهم في إبراز الحالة الاجتماعية للشخصيات والعصر الذي تدور فيه الأحداث، فعلى سبيل المثال ما جاء في الحكاية الأولى:
" جلست شهرزاد على أريكة عربية في الشقة الفاخرة المفروشة التي أجرها زوجها حامد الصقر في دبي»([86])..
فمن خلال هذا المقطع نستنتج أن طبقة هذه العائلة راقية تعيش حياة معاصرة بكل راحة و رخاء، والأهم أنها بيئة عربية فقد ورد أن الأريكة "عربية" فهذا يرمز إلى عرق الشخصيات، فهنا الديكور لم يكتف فقط بالشكل بل مست حتى المضمون، ليشمل حياة الشخصيات ومستواهم المعيشي والعصر الذي ينتمون إليه وحتى جنسيتهم. وفي مثال آخر نجد في:
" القصر الزاهر جلس رجال الدين في القاعة الكبرى، وقدم لهم الشراب ولم يقدم طعاما فالبلاد تمر بأزمة كبيرة، حضر الاجتماع الحاخام الخاص باليهود المصريين وبابا الكنيسة المصرية. في صدارة المشهد كرسي كبير عليه جعرانان كبيران من الحجر الكريم، وقف بجوار الكرسي بدر الجمالي.. حيث يجلس المستنصر بالله.. وكان أول الجالسين إلى يمينه الشيخ إسحاق المفتي وإمام مسجد الأنور.. "([87]).
جاء الديكور في هذا المقطع أكثر تفصيلا مما أدى إلى إبراز الصورة بدقة كبيرة، ومنه نصل إلى أن العصر الذي تدور فيه هذه الأحداث هو عصر الملوك والحكم الملكي، ويبدو من خلال الاكسسوارات الموجودة في الديكور أن هذا القصر فاخم والأهم أنه ينتمي إلى الإسكندرية، كما تمت الإشارة إليه سابقا.
رغم أن "السيد حافظ" في إبراز ديكوره قد استعان بأكسسوارات بسيطة، إلا أنها تحمل دلالات إيحائية عميقة، مثل المكتب ويرتبط ارتباطا وثيقا بالشخصية "فتحي"، ويوحي إلى الطبقة الثقافية التي تنتمي إليها هاته الشخصية، وأحيانا نجده يختلي فيه ليكتب في دفتر يومياته الذي يهرب من خلالها من الواقع إلى عالم الكتابة ليعبر عما لا يستطيع البوح به في الواقع. وتكرر في المتن "فنجان الشاي" ونجد أنه يحمل دلالة رمزية تشير إلى بداية حكاية "الروح الرابعة"، وهو يرتبط بشهرزاد لأن هذه الحكاية وردت على لسانها.
وأيضا نجد السيجارة ويمكن أن نعتبر أنها تحيل إلى النفسية المكتبة القلقة المتوترة، وهذا ماهي عليه شخصية "فتحي"، وكيف لا يكون قلقا ومكتئبا وهو يحب امرأة شخص آخر.
أما في حكاية عصر "المستنصر بالله" فإننا نجد أن الديكور في القصر دائما ما يذكر "كرسي العرش" وهو دلالة على السلطة والحكم. وهناك من المشاهد ما يشير إلى الديكور بطريقة مسرحية مباشرة، مثل: «(يدخل رجال الشرطة. يضربون المتظاهرين. يدخل رئيس الشرطة ويتحول الديكور إلى سوق الخبازين)»([1])، وأيضا «ضوضاء..جري.. يتغير المكان إلى حي الخبازين. الناس تقف صفوفة حول دكان فرحان. أميمة تقف معهم، والخبازون والآخرون يقفون في دهشة ليس عندهم أحد. العريف يدخل في دهشة. يلتف حوله الخبازون يهمسون له»([2])، و«يتغير المكان إلى قصر الخليفة المستنصر»([3]).
فمن خلال هذه المشاهد يتضح لنا أننا أمام مشهد مسرحي استوفي كل الشروط التي تلائم العرض.
وفيما يتعلق بالشخصية فقد جاء في بعض المقاطع إشارة إلى الديكور الفيزيائي الذي تكونت منه الشخصية كالملابس، وعلى سبيل المثال: نارمن ذات القميص الأبيض»([4]).
وقد ورد في النص أكثر من مرة "فجر" وهي ترتدي ثوبا أبيض اللون، ربما يرمز إلى نقاء نفسيتها البريئة وقلبها الأبيض التي تحب الخير للناس، لذا يمكن القول أن اللون تماشى مع طابع الشخصية، مثلا:
" ارتدت ثوبا أبيض شفافا "([5])، وأيضا نجد "نيروزي" «كل يوم كان يمر رجل عابر سبيل يرتدي ثوبا ممزقا ويصيح وهو يسير في الطريق. الحب غلاب.. الحب خلاب.. »([6])
وفي هذا المقطع حملت الثياب دلالة لها ارتباط بحالة وشخصية "نيروزي" فهو الفتى الذي خذله الواقع الاجتماعي إلى درجة أن يتنگر بلباس ممزق وهذا التمزق كأنه انعكاس على قلبه المنكسر، وفي مثال آخر جاء:
" يدخل حسن الصباح متنكرا في زي شيخ عجوز "([7]).
ومن خلال هذا المقطع نلمس صور حية للشخصيات، فهي لخصت لنا الوضع الاجتماعي الذي تنتمي إليه كل شخصية، كما نلاحظ أيضا تواجد أزياء تنكرية، مثلا "حسن الصباح" تنكر في زي شیخ عجوز، وكان الغرض منه هو الوصول إلى "المستنصر بالله"، فهذا اللباس لعب دورا يتناسب مع الغرض المنشود وطبيعة الحدث وموقف الشخصية.
إذا كان ما ذكرناه هو الديكور الذي استند إليه "السيد حافظ" في إبراز أحداث النص الروائي، فإن الديكور الذي استعان به في المسرحيات السبعة التي جاءت في هذا النص قد جاء بطريقة بسيطة يحمل دلالات عميقة، يصف من خلاله السلطة التعسفية السائدة في بلاده، فقد استعمل أكسوسوارات تحمل دلالات الحرب "كالرصاص وإطلاق النار والموت، والجرح." وغيرها، وذلك حسب المواقف التي يفرضها الجو المسرحي.
يمكن القول أخيرا أن الديكور الذي استعان به "السيد حافظ" يحمل صبغة واقعية، ساهم في إيهام المتلقي بواقعية الأحداث.
2 - الإضاءة: وظف "السيد حافظ" الإضاءة كتقنية فنية عبر من خلالها عن الصورة المسرحية الموجودة في النص، و"تعد الإضاءة لغة فنية لعدد من الدلالات في فضاء العرض حيث تنقل الأفكار والأحاسيس وتخلق الجو النفسي المطلوب وتكشف عن الحالات الدرامية"([8])، وهذه الإضاءة تحمل إيحاءات مختلفة تختلف باختلاف الحدث وطبيعته.
ومن بين العبارات التي تشير إلى الإضاءة في الص نذكر: "ظلام، إظلام، ستار.." وغيرها، وهي تحيل إلى نهاية العرض، ووردت أيضا:
" يفتح الضوء وتدخل فتيات تحملن في أيديهن أرقامًا"([9])..
وهنا الضوء يشير إلى بداية العرض، فهو ارتبط بدخول الممثل إلى خشبة المسرح، وأيضا:
"المسرح مظلم.. إضاءة ضعيفة تدريجية..، تبدأ الإضاءة في ازدياد..، إظلام.. ثم يعود الضوء.، إظلام على المسرح ثم يعود الضوء.."([10])، و"ضوء على صور الأتوجرافات..، ضوء على القفازات الحريمي..، ضوء على الشفايف..."([11])
وفي هذه المقاطع يبرز لنا الضوء صورة المشهد المسرحي، وقد أضفي مسحة جمالية للعرض ووضح الرؤيا للمتلقي أكثر، وهذا ما أبرزه أيضا في المسرحيات التي أدرجها ضمن هذا النص الروائي، مثلا ما ورد في المسرحية الأولى:
"المسرح مظلم.. إضاءة ضعيفة تدريجية.. يظهر مكتب على قلب منتصف المسرح.. وفي اليمين رجل ينام في سرير متواضع.. يقوم الرجل ويتحرك عند دقة الساعة.. ويقوم ويتحرك تبدأ الإضاءة في ازدياد بأرجاء المسرح..."([12])
فمن خلال هذا المشهد المسرحي تظهر لنا بصورة واضحة الدور الذي تلعبه الإضاءة على خشبة المسرح، فهي قد بينت الديكور الذي تحمله الخشبة، ونلاحظ أيضا أن هناك تفاوتا في درجة الإضاءة وذلك تناسبا مع الموقف المسرحي، فمثلا في الأول ساد الظلام في المسرح ثم بدأت الإضاءة تظهر تدريجيا وهذا يحيل إلى أن العرض على وشك الانطلاق.
3 - المؤثرات الموسيقية والصوتية: أشار "السيد حافظ" في النص إلى الموسيقى كمقطوعات من أغاني تختلف دلالاتها، منها إبراز الموقف الدرامي الذي تعيشه نفسية الشخصية ومزاجها، مما يسهم في تقريب صورة الشخصية في ذهن المتلقي، مثل:
" قامت سهر وأدارت الريكوردر لتسمع أغاني عبد الحميد حافظ "([13]).
هنا تظهر لنا "سهر" في نفسية حزينة ومكتئبة، لأن" عبد الحميد حافظ"في حقيقته يحمل نزعة تراجيدية ومعظم أغانيه عن الحب، لذا نجد "سهر" تستمع إليه لأنها هي الأخرى تعيش حالة من حب حزينة، وكأن هذه الأغاني قد ألفها "عبد الحميد حافظ" لتترجم ما حست بداخلها من عواطف.
وهذه الموسيقى «يمكن أن تكون موسيقى حية تعزف أو تغنى أثناء العرض»([14])، مثلما ورد في هذه المقاطع: «(تغني) أسمر وسماره خقة في عيونه معنى العقة..»([15])، و«يغنون : لما الرجالة نامت ستات مصر قامت.. ولما الرجالة نامت ستات مصر قامت»([16]).
فهنا جاءت الموسيقى حية جعلت المشهد أكثر وقعا وتأثيرا على وجدان المتلقي، لأنها جاءت على لسان الشخصيات فهي التي تؤديها، لذا يمكن القول أنها عبرت عن الموقف بصورة حيوية وواقعية.
كما وردت أيضا الموسيقى على شكل أبيات شعرية مثلما جاء على لسان "فتحي" حين كان يعبر عن الحب الذي يكه لسهر، ويقول في ذلك:
«آه لو عندي أقدام المطر!! آه.. لو بدلت أحشائي بأحشاء الشجر، ما فاجأني البرد، ولا جفف الضحكة في قلبي القدر!!»([17])
من خلال هذه المقطوعة الشعرية نكتشف نفسية "فتحي" ومكنوناتها، فهذه الكلمات جاءت كمرآة عكست حزن عواطفه، وعبرت عما يحست به من آلام جراء العد والاشتياق ل"سهر" فهي جاءت خادمة للحدث ومتماشية مع طبيعته.
يمكن القول أن عنصر الموسيقى في رواية "كل من عليها خان" جاء بصبغة تراجيدية وذلك تماشيا مع طبيعة الموضوع، وانسجاما مع المعاناة النفسية للشخصيات.
أما فيما يخص الأصوات فإنها تتعدد في التص، وهي أيضا بدورها تعبر عن الحدث وثدعم المشهد، فنجد منها ما يتعلق بالشخصية وقد وردت نبضات صوت متفاوتة، منها المرتفعة ومنها المنخفضة وذلك تبعا للموقف، مثلا:
"ابتعد عمار عن البيت، وهو يسير صائح في الحارة: أيها الناس أنا عمار رجل صالح لست كلبا.. الكلب من حبسني.."([18])
وهنا جاء الصوت مرتفعا لأن "عمار" في موقف غضب وقلق، فمن هذا الصراخ نستنبط الحالة الداخلية للشخصية، فنبرة الصراخ تعكس مزاج هذه الشخصية، فهنا "عمار" يعبر عن ألمه جراء ما حدث له، وفي مشهد آخر طلب منه التاجر "فتح الله شهبندر" الزواج من ابنته "فجر" و تملك عمار القلق عن كيفية إجابة هذا الرجل الطاغي، فجاء صوته منخفضا، مثلما يظهر في هذا المقطع:
«رد بصوت مختنق»([19]).. وهذه النبرة في صوت "عمار" تحيل إلى الخوف و الاضطراب من هذا الطلب.
كما وردت أيضا أصوات أخرى تساهم في التعبير عن المشهد والموقف الدرامي، وأحيانا عن الحرب والقتال، مثلما جاء في المسرحية السادسة:
مع صوت إطلاق الرصاص تسقط لافتة من أعلى المسرح كتب عليها: "البقاء للأقوى"([20])أيضا أصوات أخرى تحيل إلى الفرح، مثل: «تزغرد النساء»([21]). وأيضا نجد أصواتا أضافت رونقا جماليا للصورة، كصوت الهاتف وجرس الباب.. وغيرها.
مما سبق ذكره يمكن القول أن مفاد هذه العناصر السينوغرافية في هذه الرواية هو عرض هذا النص الورقي على خشبة المسرح، لأنها تقنيات ساهمت في خلق الحركة داخل الرواية، وتوضيح صورتها أكثر، فتبني "السيد حافظ" لهذه الآليات أدى إلى تقريب هذا النص إلى عملية التمثيل، لأن هذه المعطيات المسرحية حققت في الرواية بنية مسرحية ذات بعد عمیق صنعت منه إنتاجا دراما مكتملا مضموا ليكون مؤهلا لأن يصدر كعرض.
خاتمة
بناء على ما جاء في متن هذا البحث توصلنا إلى جملة من النتائج يمكن أن نجملها في التقاط التالية:
- أن البناء الفتي لكل من الرواية والمسرحية يكاد يكون مشتركا، وهذا ما سمح من عملية التداخل مع بعضهما. - رغم حرص كل من "أرسطو وأفلاطون" ومن والاهم برسم الحدود بين كل جنس وآخر إلا أن ذلك لم يدم، فقد ظهر من استطاع أن يكسر تلك الحدود ويهدمها ليصنع بعدها في الساحة الإبداعية نا يحوي مزيجا من الأجناس الأدبية، مثلما نلمس في رواية "كل من عليها خان" التي احتضنت في ثناياها أكثر من جنس واحد.
- البناء الفتي للرواية الممسرحة هو بناء جمع بين العناصر التي تتميز بها الرواية والعناصر الخاصة بالمسرحية، ونجد أن رواية "كل من عليها خان" قد استطاعت أن تحتوي على هذه العناصر المسرحية نصا وعرضا، وهذا جعلها تقدم أحداثها على شكل مشاهد درامية مما دفعنا أن نتيقن بإمكانية مسرحتها.| - حطم "السيد حافظ" من خلال هذه الرواية الأسلوب القديم في الكتابة، وهدم كل الحدود التي تفصل بين الأجناس، ليبتكر شكلا جديدا مفاده أن كل الأجناس الأدبية تصب في وعاء الأدب.
- أن مصطلح "الرواية الممسرحة" ينطبق على الرواية التي تحمل في طياتها عناصر مسرحية تؤهلها لتكون معروضة على خشبة المسرح.
- انطلق "السيد حافظ" في روايته هذه من الواقع المعيش، رغم أنه خصص فيها الواقع المصري إلا أننا نجد أنها تنعكس على كل إنسان عربي، حيث تطرق إلى مواضيع حساسة جدا تتمحور حول الثالوث المحرم، وقد كتب بجرأة أتت به لفضح السياسة القمعية والاضطهاد الذي يمارس في الأمة العربية عامة.
- تمكن "السيد حافظ" من إبراز الأبعاد التي ترمي إليها شخصيات روايته، وركز على ثلاثة أبعاد هي: البعد النفساني والبعد الاجتماعي والبعد الفسيولوجى، وقد ساعدت هذه الأبعاد في إبراز الشخصية الروائية يبعد مسرحي.
- جاءت لغة "كل من عليها خان" تتناسب مع طبيعة الأحداث، حيث وظفت لكل مقام لغته التي تناسبه، فنجد فيها الفصحى والعامية المصرية التي أعطت بعدا واقعيا للأحداث.
- وظف "السيد حافظ" التعليمات الإخراجية في روايته مما قرب الصورة بشكل كبير إلى التص المسرحي، وقد ساعدت هذه التعليمات على إبراز معالم الشخصيات وتحركاتها ودورها، وذلك ما جعل الصورة تتضح أكثر أمام المتلقي.
- اعتمد "السيد حافظ" على تقنية الحوار المسرحي بنوعية "الداخلي والخارجي" في تقديمه للأحداث، مما خلق صورة مسرحية واسعة غطت تقريبا معظم ثنايا النص الروائي.
- جاءت الأمكنة والأزمنة في هذه الرواية محددة تحديدا دقيقا، وهي طريقة يعتمد عليها المؤلف المسرحي لأنها تساعد في تخيل الحدث في اللص وتشكيله في العرض.
- جاءت رواية "كل من عليها خان" قائمة على تقنية مسرحية مهمة وهي تقنية تقسيم النص إلى فواصل ومشاهد، وقد انتشرت هذه التقنية من بداية الرواية إلى نهايتها، وبدورها ساعدت في استيعاب الأحداث أكثر خاصة وأن الرواية تعج بالأحداث.
- حلقت رواية "كل من عليها خان" نحو خشبة المسرح وذلك عن طريق العناصر السينوغرافية التي وردت فيها، فنجد الديكور والإضاءة والمؤثرات الموسيقية والصوتية وهي العناصر التي تقوم عليها الصورة المسرحية.
- سلط "السيد حافظ" الضوء على المتلقي" في هذه الرواية حيث نجد أنه قد منح له اهتماما كبيرا، وقد اعتبره شريكا له منذ البداية، وذلك من خلال منحه حرية اختيار عنوان من بين العناوين السبعة التي رسمها لروايته بما يتناسب مع رؤيته، كما نلمس أيضا في ثنايا الرواية أحداثا يشارك فيها الجمهور ويشير إليه بشكل مباشر، دون أن ننسى أيضا العناصر السينوغرافية التي سيطرت على اللص ككل، فهي أيضا جاءت لتوضح الصورة والأحداث للمتفرج، ومن خلال ما ذكرنا يمكن القول أن هذا النص وكأنه كتب ليعرض على خشبة المسرح أي يمكن مسرحته.
- أن الكاتب "السيد حافظ" استطاع من خلال استثماره لعناصر المسرحية داخل روايته كل من عليها خان" أن يكسر المألوف، ويشكل بطريقة فنية جمالية نصا روائيا قابل لأن يكون ممسرحا على خشبة المسرح. - وفي الأخير نقول أنه رغم جمالية هذه الكتابة التي ابتدعها "السيد حافظ" في روايته هذه، إلا أننا واجهتنا صعوبة في استيعاب أحداثها وذلك لتشابكها وتداخل الأنواع الأدبية فيها.
([1]) بوخالفة إبراهيم، السید حافظ في عيون الباحثين والنقاد الجزائريين، مركز الوطن العربي رؤيا، القاهرة، مصر، 2019، ص 147 /148.
([4]) أحمد محمد الشريف، التجريب والتجديد في البنية السردية للرواية العربية في كل من عليها خان"، مركز الوطن العربي رؤيا، القاهرة، مصر، 2017، ص16.
([15]) عبد القادر رحيم، العنوان في النص الإبداعي - أهميته وأنواعه -، مجلة كلية الآداب والعلوم الإنسانية والاجتماعية، العددان الثاني والثالث، جامعة محمد خيضر، بسكرة، 2008، ص10.
([52]) صورية غجاتي، النقد المسرحي في الجزائر، رسالة دكتوراه، قسم اللغة العربية وآدابها، جامعة منتوري، قسنطينة، 2011/2012 م، ص 35/34.
* من بعض من خلال هذه الجملة يمكن أن نقول أن " السيد حافظ" قد أكد بشكل مباشر على أن نصه هذا "مسروائي"، وهذا الأخير يشير إلى النص الذي يجمع بين التقنيات المسرحية والتقنيات التي تقوم عليها الرواية.
0 التعليقات:
إرسال تعليق