السيد حافظ
وتشكيل النص المسرحى
أ.د. عقيل مهدى يوسف
*****
الرجل التاريخى.. الاتجاهات المعاكسة بين (الفرد) و(السلطة) الكوميديا السوداء.. التأكيد على "الأثر" الجمالى لدى المتلقى، كلها باتت علامات نشطة فى التجرب الدرامية للسيد حافظ.
فهو واحد من بين المسرحيين العرب الذين انتبهوا مبكراً لتلك الآلية التى تحدّ من آفاق "الذاكرة" الثمينة للشعب، فتحصر "الفرد" فى توهمات وأزمنة قريبة مأزومة، أو بعيدة خرافية، لكى يخسر هذا الفرد مسارب مرجعياته، بسبب الإحباط الذى يكابده المواطن حينما لا يجد وسيلة أو ملاذاً للخروج من المأزق الماثل فى حاضرة العشوم.
اتينا من الماضى القريب "حكاية الفلاح عبد المطيع"، ومن الزمن الأبعد نسبياً تقابل "ظهور واختفاء ابى ذر الغفارى" و"قراقوش الأراجوز" و"حرب الملوخية" و"الأشجار تنحنى أحياناً" و"رحلات ابن بسبوسة" و"ملك الزبالة"... الخ.
وسواها وكلها تشكل التوسطات اليومية، الرابطة بين السالف واللاحق من الأحداث المصيرية على مستوى الفرد أو الجماعة فى تاريخنا العربى بطله "التاريخى" ليس من أولئك الخارقين، والوثقيين، والمنتصرين على أعدائهم، بما جبلوا عليه من قدرات فائقة، وتمرس فى اجترام الحلول للخروج سالمين من المحنة!! هم بخلاف ذلك، ينتهون محطمين، تسورهم الأشداق الضاحكة، الشامتة من خيباتهم وقلة حيلهم للتفلت من القبضة الفولاذية الضاربة على رؤوسهم بحمية إجرامية .. جنونية!! نعم يحصل كل ذلك فى زمن الأرانب الذى يتأوه منه "عبد المطيع" إنه زمن "قنصوة الغورى" الذى امتدت شفراته الوراثية إلى آماد مستقبلية، وكأنها تتناسل من صلبها، لتنبتح أزلام شائهين، يضعون السيف فى موضع الندى"!!
ويقلبون ظهر المجن، ويتقهقرون إلى الوراء، حتى ينكفء التاريخ، فيصبح الحاضر، صيحة متلاشية فى وادى الصخور الصماء الراسخة، التى يمثلها جبروت الماضى" وتسلطه الماحق لحرية الفرد.
لا يمطح (السيد حافظ) أن يكون متاجراً بالقصص والحكايا، بل يريد أن يعيد تشكيل التفاعل ما بين طرفى اللعبة المسرحى، الفنان من جهة والمتفرج من جهة ثانية، ولا يطمح لخلق بطل سوبرمان بل إنسان عادى، تشكلت خلاياه بحر مسيرة سرية، ابتدأت منذ زمن أبعد من الفراعنة ومن السومريين، لتمرّ عبرهم، وهكذا حسب (الراوى) "نامت أحزانه الفرعونية" وهو يتحدث عن الفلاح عبد المطيع، ويالتالى، يمتد طوفان حزنه لكيون موصولاً بالزمن العربى اللاحق، حتى تنام (أحلامه العربية على وسادته) التى يتحكم بمستقرها بوصلة السلطان، حتى إن كانت عينه رمداء، طالما يصبح بالإمكان أن تسبغ الجلابيب على البشر، قيماً متباينة من التسلط والتسفل.
يذهب "السيد حافظ" ببطله اليومى إلى أفقه التاريخى، وهو يحرص تماماً على تجمير أحزانه بريام فترات ما قبل الميلاد وما يليها، وهذا "الجمر" المتقد، اللاهش، الآيل للانطفاء والعدم، يقوى على دفع شراراته إلى أحجار أخرى، قابلة للتواصل مع هذا الاشتعال لتبقى "الجذوة" الشعبية، ماثلة عند العامة" دون "الخاصة" فالمؤلف لا يرضى بانقلاب الهرم، لأن السواد الأعظم هو المرتكز.. ومن دون "حرية"، وحرص على أرزاقه وحرماته، تتهافت كل الأسماء مهما اتصلت بأسباب المجد، لأنها تصنع الراية بأيدى قرقوش، الأراجوز، الذى أعمى الغباء بصيرته، وبصره واستكلبت دمه السلطة الباغية.
يجيب "مهند" عند سؤال "عبد المطيع"، من أتى بالسلاطين إلينا ؟ بقوله :
إنى هنا لا أفهم.. لقد خلقنا ووجدنا السلاطين (ص8)
هنا يبدع "السيد حافظ" استراتيجية نصية، درامية، ليس غرضه سرد كلمات وجمل ومقاطع، بل معالجة "الحكاية" بحضور جمالى للصوت المطرز بالموالى والأغنية والشعر والجناسات والمفارقات، حتى لا يُقفل المعنى على اتجاه خطى، وأحادى، للموروثات من الحكايا والقصص والأخبار، التى تتوفر عليها ذاكرة الشعب، أو المخزونة بكتب المؤرخين والتى غالباً ما، يجرى اسطرتها، وتجريدها، وتثبيتها فى أفق أعلى من أحاسيس الناس وأفكارهم، وقدراتهم على التغيير، أوفى إعادة النظر إلى الفكر والعالم والإنسان من موقع متقدم متنامى جديد، لكى يرفض الحلقة المغلقة للجهل، اسمع الكورس ينشد :
- انجبت له زوجته عشرة أطفال، الأول غبى الفطرة، والأخير غبى الاكتساب. (ص 13).
هذا الخوف من المعرفة جعله :
- لم يدخل كتاباً لتعليم القراءة لأن القراءة تجلب المتاعب وتتعب العقل.
وكما يقول "نيشته" فالمشاكل الكبرى توجد فى الشارع، لهذا يحرض (السيد حافظ) على فضح التابوات (ممنوع أن تضحك ممنوع أن تبكى) فهذا التسلط القهرى التدميرى، لابد أن يخفر نقائضه الكامنة بأناس هذا الشارع، الذى يخدر التاريخ عبر هفواته، وغرائزه وأحلامه توابيه وحسه الفطرى، وليمتد تدفقه فى شرايين الأحداث والمصائر والشخوص التى تسكن "فضاءات نصوصه المسرحية" رجل التاريخ، رغم ضآلته ، يحمل الختم السرى فجيناته الوراثية الوطنية، يصطدم بالطغاة، ويضحى بوجوده الأرضى، لكى يخلق: "الفضاء الحر للحركة" المنبعثة من طيات المجتمع السلفى ، لتظهر للعلن وهى تهدر بعناصرها المتفجرة من داخل سور النص المسرحى نفسه لتلهم الآخرين "ايدلوجية" متزنة، وموضوعية، وليست مفروضة من خارج خطاب النص الدرامى !! أو غير مستبجية لدواعي الحضارية لذلك يتوسل "السيد حافظ" بالكوميديا السوداء، التى تجعل من ملابس عبد المطيع الرثة الشغل الشاغل لعسس السلطان!!
فلا ينقذه الثوب الأبيض من بؤس الثوب الأسود! فكلاهما لا يلتئمان مع يومى السعد والنحس للسلطان المسعور! وتقلبات أطواره، ونوبات شذوذه!!
حرص السيد حافظ بتشكيلاته النصية على الوجه إلى الإنسان العربى ابن القرى والنجوع والمدن ليرسم له الأزمنة والأمكنة المتخيلة، والتى يضع لها "تأرخه" مؤسلية وشرطية فى سبيل إنشاء تركيب جديد، يُبنى من عناصر عادية معروفة، لكنها تحول العادى والمألوف مثل (عبد المطيع) إلى بطل يلهم الناس البسطاء، قدراً من الفعالية الذنية وهم يكابدون انفعالات لم يعهدوها قبل تجربة التماس مع هذا العمل الفنى، وهذه من وظائف الفنان، الحاذق فى صنع تحفيزات فنية فى النص، تحرك من أفق التلقى عند الجمهور، وهذا النوع من التفاعل يبنى على إدراك أسرار لا تكشفها النظرة السطحية للناس وهم منهمكون فى تيارات الحياة المتلاطمة، يسيّرها الطمع والبلاد، والاستغلال.
إن (ثيم) نصوص "السيد حافظ" تعيد ترتيب العناصر بطريقة خاطئة تجعل إحساساً عاماً ما، يهيمن على تجربة التلقى، ربما تكون الآراء والانطباعات التى تظهرها الشخوص الواقعية بسيطة وسطحية، لكنها تتضافر معاً لتعزيز "الأمثولة" التى يريد الكاتب البرهنة على صدقية فرضتها فنياً هو يجبح لهذا الصراع بين السيد والمسود، ليحسم مواقف محددة فى نصوصه، مزروعة فى تربة الحاضر وآنيته الراهنة مهما أوعى من رحلات فى جوف التاريخ والأسطورة والحكاية أو الأمثولة، لأن توظيف الاستعارات والتشبيهات لا تتم إلا بدمج العناصر الدرامية مع بعضها، فيدور الراوى والكورى والشخوص والأحداث فى فضاء تجريبى، رسمت آفاقه ابداعات عربية، بعد نكسات مُرة على مستوى الشارع والوطن والأمة.
وبالتالى لا يصبح الحديث مجدياً عن " الشكل" التجريبى الجديد الذى جاء به السيد حافظ على أهمية ذلك، لكن الأهم هو جعل النص من خلالها رسالته التنويرية الساخطة على الواقع.
أ.د. عقيل مهدى يوسف
0 التعليقات:
إرسال تعليق