" وجوه فى الليالى الضائعة "
والسيرة الذاتية
عبد الغنى داود
تضم مجموعة "وجوه فى الليالى الضائعة" للكاتب الكبير [السيد حافظ] – واحداً وعشرين قصة قصيرة تربطها تداعيات الذاكرة التى تمثل تياراً زمنياً يربط ما بين الخاص لدى شخوص هذه القصص، والعام الذى يتمثل فى الظروف السياسية المحيطة على مدى سنوات طوال تمتد ما بين أعوام 1976 حتى عام 1978 فى مدن عربية ما بين الاسكندرية والكويت.. لمواطنين عرب أو فلنقل قد يجوز أن تكون لمواطن عربى واحد يحمل الهم العربى بين جوانحه.. فالقصة الأولى "وجوه فى الليالى الضائعة" تسرد لقاء صديقين فى مقهى – بعد عشر سنوات من الفراق. كانا مناضلين – أحدهما تنصل من ماضيه النضالى، والأخر يصر على مواصلة النضال – حتى قضى عمره فى المعتقلات – بينما تفسخ الأخر وسقط فى الهفوات ثم الخطايا التى تزخر بها حياتنا اليومية – فهناك طريقان لا ثالث لهما – إما المقاومة أو الإنهيار والموت.. وتأتى قصة "ألم يحن الوقت الذى تبدؤن فيه؟!" فى شكل رسائل بين شاب وفتاة – حيث تنهار علاقة الحب بينهما بسبب الظروف الإجتماعية القاسية التى تمر بها، وكان الكاتب حريصاً على الإشارة إلى زمن السبعينات – زمن الانفتاح – حيث استقرت قيم المادة والاستهلاكية.. مع الفقر فى زمن أحلام الثراء الوهمية، وهناك قصرة قصيرة بعنوان "الشوارع" تأتى فى شكل قصيدة النثر – لكنها سرد يعكس واقعاً بوليسياً يشير إلى سطور القصة القليلة، وفى قصة "قلق" يشخص حالة الضياع التى نعيشها منذ الثمانينات فى صفحة واحدة داخل المجموعة، ويجرب الكاتب كتابة القصة السيريالية التى تعتمد على الرمز وتحويل الواقع الذى يتغير بأفعال سحرية. وتكشف قصة "نرجس الصباح" عن ويلات الغربة وما تؤدى إليه من مصائب فى إطار قصة حب قديمة بين [نرجس، ومحمود] الذى تموت حبيبته (نرجس) وهو لا يدرى فى غربته – إلى أن يفيق فى النهاية على الحقيقة المُرة.
وفى قصة "حكايات من الشاطئ – نجد لوحات متتالية تعبر عن حالات نفسية تعكس الضياع والإنهيار وأيضا التحريض على الثورة عندما شاهد الدم ينزف من وجهه، وهناك فى المجموعة رحلة ساخرة لإنسان نصف مثقف تخدعه شعارات التقدمية والنضال من أجل المساواة والعدالة، ويتم القبض عليه فى النهاية ليستكمل مشوار النضال. ويعود الكاتب إلى شكل الرسائل فى قصة "أربع رسائل من العمر الضائع" حيث يربط تفاصيل الحياة اليومية بالأحداث الكبرى للوطن، وحيث تكشف الرسائل عن صعوبة العلاقة بين مثقف يحب فتاة ولا يرغب فى الزواج – بما يضع الفتاة فى مشكلة، وعندما يوافق على الزواج فى (الرسالة الثالثة) يكون الوقت قد فات، وحكمت الظروف بينهما بالفراق. ويقدم قصة قصيرة تقليدية نموذجية ومتميزة.. بالتركيز فقط على شخصية واحدة يتتبع مصيرها فى قصة "صابر أفندى.. طز" وتروى قصة حياة إنسان بسيط مليئة بالتفاصيل الساخرة عن حياة مواطن يعيش فى حى شعبى يصر على مقابلة محافظ المدينة ليقدم له شكواه، وعندما يحاول مقابلته يسقط تحت عجلات سيارة، ويجرده المارة والعابرون من كل ما يشير أو يدل على شخصيته لتتحول جثته إلى مشرحة كلية الطب لتصبح مادة لدراسة طلبة الطب، وتشير هذه القصة إلى عمق تأمل الكاتب وشمولية نظرته والعثور على المفارقة المريرة. ويقدم – السيد حافظ – شكلاً جديداً فى السرد القصصى أقرب إلى الدرامى المسرحى الذى يعتمد على الحوار – وهو الكاتب المسرحى ذو الباع الطويل فى الكتابة المسرحية – فى قصة "أحزان مواطن بلا عنوان"، وإن كنا نلحظ أن يطل القصة تمثال عرابى فى القاهرة – رغم أنه لم يشبه إلى أن القاهرة تخلو من تمثال لأحمد عرابى فى أى ميدان. ويجتر الكاتب الذكريات وتتوالى التداعيات التى يستدعيها من كل من الماضى والحاضر فى لحظة مريرة وموجعة وساخرة أيضاً فى قصة "على ضفاف الخليج" ويستلم فى قصته "رجل يسير فى صندوق" قصة سيدنا موسى من التراث القرآنى.. ذلك الصندوق الذى حمل النبى موسى فى النيل إلى قصر إمرأة الفرعون، وكأنها تستعيد الحادث القديم ليُسقط عليها الكاتب تعليقاته السياسية حول ما يدور فى الساحة السياسية. ويشخص حالة العروبة والإنسان العربى وما يرزح نحته من قهر وحصار فى قصته "سيدنا فى المباحث العامة"، ثم يبحث عن جثة الوطن فى قصة "الشمس" هذا الوطن الذى أدرك أنه مات، وفى صياغة مباشرة بدت أقرب إلى المقال منها إلى القصة القصيرة، ويقدم صورة سيريالية غريبة تعكس الشعور بالإنقراض والتناهى فى قصة "بعض ما تيسر من صور القهر"، ويعود إلى شكل الحوار المسرحى فى قصة "السؤال" فى حوار بين شخصين "ياسين وبهية" فى الموال الشعبى الشهير، والذى تمثل (بهية) فيه شخصية مصر التى يناجيها ياسين طالباً الخلاص. وفى لقطاع تسع – تختلف صياغاتها ما بين التعليق وبيان الحالة والتى يبدأها باستهلال شعرى بدأ به أغلب قصصه : [لم يعد فى المدينة إلا اللون الرمادى يلون كل شئ] إلى أن ينتهى إلى نتيجة غير مُستغربة وهى : أن اللص يمكن أن يكون (حاكماً) إذا داوم على اتباع سلوك اللصوصية. ويعيد كتابة القصة الشعبية (الفيل " يا ملك الزمان) فى قصته "بتا – حتب – رع – أمون" حيث يستبدل الفيل بالغولة – وحيث يقف (الفتى) وحيداً بعد أن هرب الجميع حين جاءوا يشكون من قرع الغولة، ويكون الموت نهاية الفتى أمام قصر السلطان. ونلمس تجرته الطويلة فى الكتابة لمسرح الطفل فى قصته الرشيقة "الخلق" التى بدت كقصة أطفال ذات مفردات بسيطة ونسيج ذكى. وفى قصة المجموعة الأخيرة " البحر يجسد عالماً سحرياً، وفى شكل تجربتى فى مجال القصة القصيرة حيث يصور كائنان مسخية بشعة ذات شكل سيريالى يجيد تصويره.
عن من أبرز سمات هذه القصص التى أشرنا إليها هى : تلك اللغة الشعرية التى صيغت بها.. سواء جاءت على شكل رسائل أو تم سرد ما بضمير المتكلم أو بضمير الغائب أو بالشكل الحوارى المسرحى الموضوعى.. فالكاتب من صفحته الأولى حتى صفحته الأخيرة ينساب فى سطورها موسيقى الشعر وإن جاءت بلا أوزان من مثل : (مع الليل والكتاب يأتى القلق إلى جوارى وينام ممدداً فى الفراش ويرحل فى الفجر) ص(18)، ومن مثل : [سئمت الرحيل من مدن العفن إلى مدن الزيف]، و[طفح القلب نشيداً بريالً فوق أرصفة الجموع الحبلى بالأغانى الخاسرة]، و[سقط العمر صريعاً على موائد الخديعة، ورحلت معك فى جوف النقاء صريعاً]، [أشعر أن الزعامة أحياناً مومس فى ثوب راهبة]، [سقط العمر صريعاً على موائد الخديعة]، [هذا الزمن العاصى.. عيون النساء خيانة وعيون الرجال مهانة]، قفز النهر على صدرى، نامت يافا على كف الحزن، أمك الأشجار وأبوك الطير وأنت بين أغصان الخسة تتنفس الشرف الذبيح على ثدى النساء الحالمات بالفراش الدافئ فى شتاء القمر]، وأخيراً: [فارس البلاد يغوص فى أعماق النهر حاملاً نايا.. يعزف عليه فترقص الأمواج والأسماك.. وعلى الشاطئ حصانة الأشقر تداعب حوافره حصاة ناعمة.. وقنينة الإخضرار ترسم لوحة شعرية] ص (91) .. من هنا نجد أن اللغة الشعرية تظهر كالنقوش فى نسيج العمل القصصى.. مُعتمداً على رسم صور [ذهنية – أدبية].. والسمة الثانية فى أغلب قصص المجموعة هى تلك التعليقات على وقائع حقيقية قد تكون تاريخية.. فيأتى بأسماء أشخاص معروفين، أو يأتى بأحداث تاريخية معروفة لدى الجميع.. فتضفى مصداقية على الأحداث التى يرويها.. لكنها أحيانا قد تخرج بها عن الشكل القصصى التقليدى أو غير التقليدى، وتنتقل بها إلى ما يمكن أن يكون شكلاً من أشكال المذكرات أو الترجمة الذاتية أو التأملات الحميمة فى الزمن والأحداث..
لذا نلاحظ فى قصص هذه المجموعة امتزاج مهمة الفنان بمهمة السياسى، وأننا لا نستطيع أن نفصل بينهما، وتختلط فيها بنية السرد، والهدف الجمالى، والخطاب، يتلاحمون معاً فى نسيج واحد.. ولذا تتوارى جماليات الوصف – سواء فى رسم الصورة المتخيلة، أو اللوحة الوصفية، وأن (المفارقة) التى تتكرر عادةً فى نهايات قصصه، وتبدو بين الأشياء ونقائضها، وهى مفارقات من نوع خاص هى "مفارقة [الحالة] التى تجسدها القصة ككل.. حيث لا تأتى من تعليقات الكاتب التى تقترب من السخرية اللاذعة أحياناً أو المريرة فى أحيان أخرى.. دون عناية برسم ملامح الشخصيات.. حيث يضع [روايا] من الخارج يفصح ويُشرِح الوضع العام أو ما يمكن أن نطلق عليه قدر الإنسان.. بلغة شعرية دالة... وتشير – أخيراً – إلى أن هذه المجموعة القصصية الجديدة هى المجموعة الثانية للكاتب – فقد صدرت مجموعته الأولى وسيمفونية الحب، عام 1980 فى بغداد، وأعيد نشرها عام 1991 – كما صدر له فى عالم القصة والسرد القصصى رواية "مسافرون بلا هوية" عام 1997 – والأعمال الثلاثة تغوص فى عوالم الغربة والسفر ومحنة الوطن الجريح، ومعاناة الإنسان العربى اليومية.. فى كفاحه من أجل البقاء والبحث عن العدالة والحرية.. حيث يعزف لنا – السيد حافظ – ما يحمله من نغمات وألحان بتنويعاته الشجية التى تعبر عن وجيعة الإنسان والوطن.. فهو يحمل فى جعبته الكثير والكثير من الأنغام الشجية المؤثرة التى تعبر وتبوح بما تكنه الصدور وبما تحسه القلوب، وتقدم أيضاً الوعى والاكتشاف والدهشة والتحريض الغاضب على هدم ما ألفناه من اتستلام ومهانة وعبودية مُختارة.. منطلقاً من كبرياء الفنان المعتز بإنسانيته.. بحثاً عن هوية وعدلو وأمان وحرية فى خضم هذا العالم المضطرب المتلاطم الأمواج... حيث الوجوه التى قد نلتقى بها فى الليالى الضائعة..
0 التعليقات:
إرسال تعليق