دراسات من كتب د. نجاة صادق الجشعمي
(252 )
التَّعالقُ بين الوطن ، الكتابةُ ، العشقُ
بقلم د. كاميليا عبد الفتاح
دراسة من كتاب
ورشـــــــــــــــــة النــــــــقــــد للســــــــــــرد الــــــروائـــــي
نموذجًا
سباعية الكاتب السيد حافظ الجزء الخامس { حتى يطمئن قلبي }
التجريب وانحرافات السرد
في الرواية
نموذجًا
رواية " حتى يطمئن قلبي "
للكاتب السيد حافظ
جمع وإعداد
د. نـجـاة صـادق الجشـعمى
التَّعالقُ بين الوطن ، الكتابةُ ، العشقُ
بقلم د. كاميليا عبد الفتاح
الأستاذ المساعد في تخصص الأدب الحديث والنقد
جامعة الباحة سابقًا
دراسةٌ نقديةٌ
حول اغتراب البطل الإشكالي
ومرتكزات خلاصه في رواية " حتى يطمئن قلبي "
للكاتب الروائي السيد حافظ .
السَّردُ الذاتيُّ نمطٌ من أنماط السرد الروائي – أو مقولات الحكي كما يُسمّيها الناقد الفرنسي جان بويون – ويتمّ فيه تقديم الأحداث والشخصيات من خلالِ وجهة نظر الراوي ، ومن خلالِ تأويله الأحداث، ودفعها إلى جهةٍ دلالية بعينها ، ويتمُّ كذلك من خلالِ انتخابِ هذه الأحداثِ – وتكثيفها وإخضاعها للعبة الخفاء والتجلّي– بما يُجعل هذه الأحداث متضافرةً في سبيل غاية واحدةٍ هي إبراز الرؤية – أو الأيديولوجية – التي أراد الكاتب تجسيدها . وفي السرد الذاتي - Subjwctif – كما يقولُ توماتشوفسكي – " نتتبّعُ الحكيَ من خلالِ عيني الراوي - أو طرف مستمعٍ – متوفرين على تفسيرٍ لكلِّ خبرِ ، متى وكيفَ عرفه الراوي ، أو المستمع نفسه " هذا النمطُ من السرد يشيعُ في الروايات الرومانسية ، والرواية ذات البطل الإشكاليّ التي نتوقف بالقراءة النقدية أمام أحدِ نماذجها ، وأعني رواية " حتّى يطمئن قلبي " للكاتب الروائيّ السيد حافظ ، وهي جزءٌ من أجزاء مشروعه الروائي الكبير، وحلقةٌ من حلقات الأحداث في هذا المشروع .
- الشخصيةُ الرئيسيةُ في هذه الرواية – شخصية فتحي رضوان - وهو - في افتراضي النقدي – نموذجٌ مثاليٌّ لتمثيلِ البطلٌ الإشكاليّ – أو كما يُسمّى في بعض المؤلفات النقدية بالبطل المُعضل - وهو البطلُ الذي برز في الرواية ما بين مرحلة الواقعية ومرحلة الرواية الجديدة – و يتميّزُ بسماتٍ فكرية وروحية خاصة ؛ فهو أقربُ إلى المثالية – ولنقل إنه دُون كيشوتيِّ التكوين – وهو يعاني من الصراع والتمزّق بين مُسلَّماته المثالية – قيمِه ورؤاه – وبين الارتكازات المعرفية والقيمية التي يتبنّاها الواقعُ ، وينبثقُ تأزّمُ هذا البطل من انتصار حقائقه الداخلية ورؤاه على أطروحات المجتمع . وقد اعتبر " لوسيان غولدمان " – في كتابه " مقدّماتٌ في سوسيولوجية الرواية " –البطل المعضل الإشكاليَّ شيطانًا أو مجنونًا - ترجمة بدر الدين عرودكي بسورية – دار الحوار، 1993م - أمَّا الناقدُ محمد عزّام ، فقد اعتبره بطلًا نظريًّا لا عمليًّا ، ووصفه بأنه يعيش حائرا ما بين الانتماء والاغتراب ؛ فانتماؤه إلى قيم الخير والإنسانية يتواكبُ مع اغترابه عن أفكار مجتمعه- ومنظومة مجتمعه عامة - وينتجُ تأزُّمُه من رؤيته نفسه باعتبارهِ "بطلًا في غير زمانه" ورؤية مجتمعه له على أنه "مشكلة" – محمد عزام . البطل الإشكالي في الرواية العربية المعاصرة، دمشق– الأهالي للنشر والتوزيع، 1992م - وهذا البطل تبدأُ معارضته – اختلافه – مع الوطن ، وتنتهي لتشمل مطلق الوجود .
- ينبثقُ تأزّم فتحي رضوان – بطل هذه الرواية – وتتخلّقُ وضعيته الإشكاليةُ من منطلقِ علاقته المضطربة بالوطن ؛ فالوطنُ مثارُ عشقه الصادق ، و مثارُ اغترابه الفكري والنفسي والمكاني . وللوطنِ مرتكزٌ عاطفيٌّ – فطري طبيعي – في روح فتحي رضوان ؛ فهو الانتماءُ والهويةُ والذكرياتُ والعمرُ والأحبة ، لكنّ هذا الوطن مُستلَبٌ طوال سبعة آلافِ سنةٍ – هي عمرُ حضارته – مُستلبٌ عبر عدة كياناتٍ مُنهِكة ، على رأسها : الحاكم الديكتاتور ، الخونة ، المرتزقة ، المنافقون ، اللصوص ، الجهل والتخلف الفكري الناتجان من هيمنة الحاكم على منظومة العلم والفكر والثقافة ، وإخضاع هذه المنظومة واتخاذها وسيلة لبقائه واستمراره ؛ ممّا أدَّى إلى إقصاء الرموز الحقيقية النفيسة من أهل العلم والثقافة ، في مقابل تمكين الأضعف منهم ، وإطلاق حرياتهم في السيطرة على عقول العامة .هذا فضلًا عن تزوير التاريخ وإبراز الهزائم في صورة الانتصاراتِ ، وإبراز الحكام الطّغاة في صورة القدوة الوطنيةٍ الزاهيةٍ .
- إنَّ الوعي – غالبًا – يكونُ منبثقَ الاغترابِ ، وهكذا انبثقَ اغترابُ فتحي رضوان من وعيه بهذه الأبعاد المأساوية من مؤامرة اغتيال الوطن . وقد اتخذ اغترابُهُ مسارًا عميقًا ؛ فلم يقف عند دلالته المكانية ، أو النفسية ، بل وصل إلى مصاف الاغتراب الفكري والروحي ، والتّشظي بين الرفض المطلق لفكرة الانتماء لهذا الوطن المُستلَب ، والعشق المطلق لهذا الوطن ، والشغف به ، والتوق للانتماءِ إليه .
ويلاحظُ المُتلقي – ناقدًا وقارئًا – وضوحَ التَّماهي بين الكاتب – السيد حافظ – وبطله الإشكالي – فتحي رضوان – في هذا التأزّم في العلاقة مع الوطن ، وذلك من خلال التَّماس الدلالي بين عتبات الرواية ومتنِها الحكائيّ ، إلى الحدِّ الذي يبرزُ فيه الكاتبُ وبطلُه بوصفهما ذاتًا إنسانيةً واحدةً ، وصوتًا إنسانيًا واحدًا ذا رؤىً موحّدة وإشكاليةً واحدة . بما يدفعنا إلى افتراض نقديٍ مفادُه أنّ البطل الإشكالي فتحي رضوان ما هو إلَّا معادلٌ رمزيٌّ للالسيد حافظ ذاته . من النصوص التي تُشجعنا على المُضي في هذه الفرضية - لتماسّها الدلالي - هذا النص الذي يطرحُ فيه السيد حافظ تصوّره للوطن . يقول في مقدمة الرواية : " ما إن اجتزت عتبة باب التاريخ اكتشفت أن مصر لونها رمادى .والبشر مشاعرهم أغلبها اصطناعى.. وعيونهم حزينة ورهيبة ومرتابة بشكل كبير.. ما إن اجتزت عتبة المعرفة واجهت قنابل الجهلاء والأغبياء وزعماء فكر بلا روح أو ذاكرة أو إدراك
يتماسّ هذا النص – رؤيويًّا ودلاليًّا – مع كثيرٍ من الجمل والعبارات التي يسوقُها الكاتبُ على لسانِ فتحي رضوان ؛ ويصفُ فيها مصر وطنًا للوجع والألم - والاغتراب والجهل والغيبوبة واللصوص - وهي في الوقتِ ذاته ليست وطنًا لأبنائها الواعيين بنفاستها ، الصادقين في محبّتها . من ذلك قول فتحي رضوان : ".. نفد صبر القلب على وطن بلا مشاعر أعتذر نفد الوقت وقطار العمر فى الغفلة مضى ." ص 129
وقولُه : " أنا غريب فى دبى و غريب فى بلادى مثل طير السمان..أحب مصر والعرب رغم أنهما جثة عفنة لاتقدر على الطيران والحلم.. هذا وطن البهلونات والمرتزقة وقاطعى الطريق والقراصنة وطن ملوث بالحرب والسلام يعرف أن الله شريط للقران فى تسجيل.. وطن بدوى متخلف قاطع طريق الحجاج.." ص 34
وكذلك قولُه ص 38 : " وأظل أحلم بالحرية حتى تدق ابواب الوطن..أيا لهفة الروح أن تعودي لنا يابلادي النبية..وأمضى نحو الحقيقة ويتبعنى ظلى وضحكات الاغبياء تلاحقنى وهم الغالبية العظمى من بنى وطنى.." ويقول :
" أنا لست مع أحد منهم.. أنا معهم كلهم.. أنا ابن هذا الشعب الجاهل المتعصب.. دمهم فى دمى.. وأراهم يجرون فى دمى يحملون أعلام الاهلى والزمالك وأعلام الاخوان وأعلام الكنيسة وأعلام السعودية وأعلام عبد الناصر وأعلام الملك فاروق... أنا من نبض هذا الشعب الجاهل القاتل شيعيا أوسنة وبهائيا وملحدين هذا شعبى " ص 162
- و يبرزُ الرمز والقناع التاريخي على رأسِ الحيلِ الفنية التي صوّر بها الروائي - السيد حافظ - هذا الجانبَ الإشكالي من شخصية فتحي رضوان ؛ فقد استدعى في هذه الرواية كثيرًا من رموز الفكر والإبداعِ – عبر مراحل التاريخ الإنساني – وأبرزها من خلال هذا الاستدعاءِ بوصفها ذواتًا إنسانيةً مُتماسًّة مع شخصية فتحي رضوان – في جانبٍ ما من جوانب التكوين الروحي أو التأزّم الفكري – من هؤلاء : بودلير ، جيمس جويس ، عبد الرحمن الكواكبي ، بريخت ، المتنبّي ، نزار قبّاني ، محمود درويش ، أخناتون ، أراجون ، لوركا ، المتنبي ، السهروردي ، جلال الدين الرومي ، الخيَّام ، وآخرون . هذا فضلًا عن بعض الشخصيات التي استدعاها على مدار المتن الحكائي ، وطرحها في لُحمة الأحداث . ونلاحظُ تنوعُ هذه الرموز الإنسانية ، ما بين الشاعر، والحاكم ، والمؤرخ ، والكاتب ، والمتصوف ، فضلا عن تنوّعها في الهوية والمرحلة التاريخية ؛ بما يدفعنا إلى افتراضِ رغبة الروائي في إبراز شخصية البطل فتحي رضوان في صورة ذاتٍ كونية ، لا متناهية ، سواء في أبعادها الفكرية والروحية ، أو في مصاف اغترابها ، وتأزّمها الإشكالي .
- لقد تمّ استدعاءُ الكاتب لهذه الرموز الإنسانية المتنوعة من خلالِ طرح نصوصها – في الفواصل الواقعة بين فصول الرواية – بما يعني ارتكاز الكاتب على أسلوب " التناص " كأسلوبٍ فنيٍّ يُسهمُ في إبراز المزيد من جوانب الرؤية الفكرية في العمل الأدبي . وقد استطاع الكاتبُ – من خلال التناص – أن يُلقي الضوء على جوانب التأزّم الروحي والفكري لبطله الإشكالي ؛ حيثُ اشتملت هذه النصوص على معاني الاغتراب والوحشة والبحث عن الهوية والسلام . وقد طُرحتْ هذه النصوص وكأنَّها مونولوجٌ صادرٌ من ذات الكاتب - أو صادر من معادله الفنّي فتحي رضوان . ومنها : الابتهال الذي رفعهُ الكاتبُ إلى روح أخناتون ، بوصفه صلاةً على هذه الروح التي تمثل – في رؤيته – الحق والنور – يقولُ في " ركعتان على روح أخناتون " :
" الركعة الأولى
حين أتذكرك أتوضأ وأصلى ركعتين على روحك الشفيفة فى الركعة الأولى أسأل نفسى كيف تسلل النور إلى قبك وروحك ورأيت الواحد الأحد .ترى من جزع لغيابك ؟ ومن خانك ؟ وأنت خبز أرواحنا الجوعى وأنت نور بلادى الجاهلة المظلمة.. لاتحزن ياسيدى .فروحك تسكن الأرض والسماء أما نحن البشر فى مصر فلا عزاء. " وفي هذه الركعة الأولى يطرحُ الكاتب أسئلة إدانة لهذا الوطن ؛ فهو يصف أخناتون باعتباره ظاهرة نادرة وروحًا متميزة – تقابل السائد المظلم – ويطرحه مغتربًا تمّت خيانته ، ونورًا رحل من الوطن المظلم .
ويؤكدُ هذه الدلالة في " الركعة الثانية " ، كما يطرحُ بعدًا دلاليًّا للقرب والبعد – من الوطن – أو المقام فيه والرحيل عنه – فيجعلُ العشق الصادق للوطن قربانَ َ الخلود فيه ، ويجعل الخيانة وغياب الوعي قربان الرحيل عنه ، والحرمان منه . ومن هنا يكونُ أخناتون روحًا باقيةً في مصر . يقول في هذه المناجاة :
" أنت سرُّ مصر والسر هو الروح فأنت لم ترحل من هنا من مصر بل نحن رحلنا من النور إلى الظلام ؟ وسرقتنا الخطيئة إلى ألف ألف علامة استفهام " ص 166
كذلك يستدعي روح أبا ذرٍّ الغفاريّ في مناجاةٍ ، هي أقربُ للمرثية ، ويضعه مع الثائر " جيفارا " في أُفقٍ إنسانيٍ واحدٍ ، أفقٍ يواجه الظلمَ والزيفَ والجهلَ . يقول : " يا سيدي أنت المنفيٌّ الأول في تاريخنا الملوث بالدماء و الظلم و الاضطهاد ،ياسيدي أصبح النفي عنوانا لكل من تسول له نفسه أن يقول الحق أو الحقيقة . أولم تدري أننا صرنا أكثر من مليار و لكننا كالغثاء الأحوى ، لا نفكر إلا في النساء و المال و التجارة و الدعارة و لبس الجبة و الصلاة في رمضان ؟ يا أول الغرباء ، وأول من فهم أن الإسلام دين الفقراء قبل الأثرياء و دين المساواة و ليس المحاباة بعد قرن و ما يزيد ظهر ثائر جديد مثلك اسمه جيفارا رفض المنصب و رفض الجاه و كره الأغنياء . سامحنا فنحن الجهلاء و كان أكثرنا لا يعقلون و لا يفقهون و لا يفهمون ." ص 19
وإذا كان الكاتب يستدعي روح أخناتون وأبا ذرٍّ الغفاري ويطرحهما ذواتًا مغتربةً صادقة، فهو يستدعي جلال الدين الرومي باعتباره رمزًا للعشقِ المطلق الذي يتماس مع هذا الجانب الروحي من شخصية فتحي رضوان . يقول في الركعة الأولى المُهداة إلى روح جلال الدين :
" وكيف لحرفي في العشق أن يتجلى إذا لم يمر بباب حرفك المتخفى وينتشى بشهيق المتنبى وزفير عطر الخيام..كيف تنام اللام على صدر البنات الفاتنات وتنام الهاء على كف هواء البحر في صيف الإسكندرية إذا لم تشم أنفاسك..اللهم إنك كنت نبى عشق وهرب من الجنة ليخبرنا عن سر العشق إذا ماهل علينا دون استئذان..حين أمر بذاكرتى على اسمك يرجع إلى قلبي فكره الشقى ونبضه الأبيض وأشعر بروحى المتمردة تفكره وتذكره فيما مضى بين جنون وسكون المعرفة وتخلعنى الهواجس من الزحام إلى الاعتكاف " ص 232
ولا يقف رمز جلال الدين الرومي عند مصاف هذه الدلالة – في طرح السيد حافظ – بل يطرحه رمزًا للسلام والسكينة والانعتاق الروحي ، حين يبرزهُ في وضعية ضدية مع مفردة " الجنرال " - برمزيتها الدالة على السطوة العسكرية المادية - يقول في الركعة الثانية :
" ضمَّنى وهزنى وعلمنى وأدبنى وأنا الخطى والمنسى والمبتدأ المتأخر والضمير الغائب تقديره الشفيف والذى قال لا حين قال الجنرال في الميدان انتصرنا ونحن لم ننتصر فبأيّ ألاء ربى اعترف." ص 232
ويدفع الكاتبُ بطله الإشكالي – فتحي رضوان - لقراءة رواية " هرمان هسه " ، ويسوق على لسانه مونولوجًا يبرزُ فيه تماسه الفكري والروحي مع رو ح " هسه " ، وروح جلال الدين الرومي ؛ فرارًا من ضعف الواقع الفني ، وبحثًا عن الكلمة الصادقة النابعة من ذواتٍ تأزّمت من مجتمعاتها ، ومن واقعها الوجودي بأسره . يقول :
".. ترى ما الذي يربطني بهيرمان هسه.. كأنه يكتبني أو أنا أكتبه كأننا روح واحدة انشطرت أو كأنه منحنى قبسة من روحه أو منحته جزءا من روحي...كنت فيما مضى اعشق شكسبير والمتنبي ولكن روح هسه تسكنني أو أسكنه. لابد من التحرر من روحه الصوفية.. قرأت لجلال الدين ابن الرومي أغتسل من الهزال الذي يطبع باسم الشعر والشعراء"
إنّ نظرة تأملية في هذه النصوص المُستدعاة تؤكدُ أنَّها ليست عرضًا ثقافيًّا - أو وقفة استجمامٍ من أحداث الرواية - بل هي نصوصٌ متعالقةٌ مع المتن الحكائي للرواية من خلال أسلوب لإبرازِ مثارات تأزّم البطل الإشكالي – ومظاهر هذا التأزّم – من ذلك هذه القصيدة للشاعر الفرنسيّ بودلير ، وقد استدعى منها الكاتبُ هذه الأسطر المفعمة بالاغتراب والوحشة ؛ فبدتْ وكأنّها جزءٌ من المتنِ الحكائي ؛ لاتصالها العضوي بإشكالية اغتراب فتحي رضوان . يقول بودلير :
- مَن تحب أكثر، أيها الإنسان اللغز، قل؟ أباك، أمك، أختك، أم أخاك؟
- ليس لي أب، ولا أم، ولا أخت، ولا أخ.
- أصدقاءك؟
- أنت تستعمل كلامًا لا يزال معناه حتى اليوم خافيًا عنِّي.
- وطنك؟
- أجهل في أيِّ خطِّ عرض يقع. " ص 90
تبدو هذه الوشيجة العضوية بين المتن الحكائي للرواية ، وبين النصوص العالمية المُستدعاة في نموذجٍ شعريٍ آخر ، يطرحُ فيه " بريخت " تمزّق الذات ، ووقوفها بين منطقة الانفصال والاتصال بالوطن . وهذا التمزّقُ يصوّرُ به السيد حافظ مظهرا عميقًا من مظاهر اغترابه - و اغتراب بطله الإشكالي - يقول :
" أعطوني مسدساً
وقالوا اقتل عدونا
وحين أطلقت على عدوهم
كان المقصود أخي
هناك يقف أخي
الجوع يوحدّنا
وأنا أسير ، أسير
مع عدوه وعدوي
هكذا يحتضر الأن أخي
وأنا من يذبحه
لكنني أعرف أنه لو هزم
فسوف أضيع أنا "
و تبرزُ الكتابةُ والعشقُ – في رؤية السيد حافظ - بوصفهما قوى الخلاصِ التي يتصدّى بها البطل الإشكالي لعوامل استلابه ؛ ومن خلالِ الكتابة والعشق يبحثُ البطلُ المغتربُ عن الانعتاق والسلام والسكينة ، ودرجة من درجات التوافق مع الذات، والوطن، والواقع، ومطلق الوجود
وتعدُّ الكتابةُ هي المصدرُ الأول للخلاص ومساراته – في هذه الرؤية - إلى حدّ أننا نرى – في كثيرٍ من مواضع الرواية – مزجًا بين الحبيبة سهر – كذاتٍ أنثوية – وبين الكتابة ؛ بما يجعل " سهر " أميرة النساء في عين فتحي رضوان . نطالعُ هذه الدلالة في هذا الموضع من البوح على لسان فتحي رضوان ، قائلًا لسهر : " أنت لست أفضل امرأة قابلتها.. لكنك امرأة تشبهين تواطؤ العشق وكارثة الكتابة التى تطيح بظلام قلبى حين يطفىء الوطنُ نور قلبى.." ص 160
ونلاحظُ – في الموضعِ السابقِ – أنَّ الكاتب يطرح الأطراف الثلاثة التي تمثِّلُ إشكالية وجودهِ ، وهي : الوطن ، الكتابةُ ، العشقُ .
ويسوقُ على لسان " تهاني " – زوج فتحي رضوان – جملة تُحرّضُه فيها على السفر ، وتغريه ببديلٍ آخر للوطن ؛ لأنّ هذا البديل يحتفي بإبداعه ، وكأنّ السيد حافظ يضعُ مفهومًا جديدًا للوطن ، هو المكانُ الذي يُقدِّرُ الكتابة . تقول لزوجها : " العراقُ هو مستقبلُك طبعوا لك كتاب " ص 144
الكتابةُ - وفقَ هذه الرؤية – تماثل الروحَ - في نفاستها – ولذلك فهي دليل استمرار الحياة ، ونبض الوجود . يطرحُ السيد حافظ هذه الدلالة في مقدمة الرواية ، كاشفًا عن جانبٍ من جوانب تأزّمه مع الوطنِ . ومُبرزًا مدى التماهي بينه وبين بطله الإشكالي – فتحي رضوان - يقول:
" أنا أكتب إذن أنا موجود. وحين لا أكتب فأنا مفقود .ونادرا ما يكون الوطن حاضرا ويرى الحقيقة التى أكتبها وغالبا ما يكون الوطن غائبا عن التاريخ ويخرج ثم يعود له الوعى بعد سنين عددا وقد لا يعود أبدا.. ويتوه منا ونتوه معه... "
في هذه الرؤيةِ : يبدو الوطنُ كيانًا مُعاديًا للذاتِ المبدعة – معاديًا بالتجاهلِ وانعدامِ الوعي – ومن ثمَّ فهو كيانٌ مُعادٍ للحياةِ ، مُستلبٍ للوجود ؛ لأنَّ الكتابةَ تُمثِّلُ – في هذا الطرحِ – حضور الذاتِ وشرط الحياة .
ويبرزُ العشقُ – في طرح السيد حافظ – مسارًا قويًّا لخلاص البطل الإشكالي من اغترابه وتأزّم علاقته بالوطن وبالذات . وتتخذُ الأنثى الحبيبةُ – سهر - سمات الأنثى الكونية – ممّا ينسجم مع اصطباغ الذات الإنسانية لفتحي رضوان بهذه السمة – ويطرحها الكاتبُ ذاتًا مُطلقةً متكاملة الجسد والروح ، خالدة تمتدّ عبر مراحل التاريخ – فيما يشبه فكرة التناسخ - من خلالِ انتقال روحها عبر عدّة ذواتٍ أنثويةٍ – ومنها روح لامار –- فهي عبارةٌ عن مجموعة من الأرواح التي تتخلّقُ منها في النهاية روحٌ أنثوية كونية فاتنة الجسد والروح ، تكتنزُ قدرة عالية وطاقة أسطورية لإثارة الشهوة ، والسمو ، والتأمل التجريدي . وتبدو وكأنها روح الوجود أو سره ، أو كأنها تشتمل على سر الخلق وأول التكوين ، هي الأنثى الأسطورة ، والذات المكتملة . هي أسمى من الجسد ؛ فلها عطرٌ خاصٌ لا ينبعثُ من جسدها ، وهي الجسدُ الشهوي ، كما تبدو فكرة مجرّدة ، وبديًلا حالما للوطن ؛ ولذلك يُهرعُ إليها فتحي حين يستشعر الوحدة والوحشة . الحبيبة – سهر – وفق هذا الطرح – هي العنفوان والصبا والصبابة والغوايةُ والعقلُ والخلاصُ والحنو والملاذُ ، و الأنثى الكونية التي يلوذ بها البطلُ خلاصًا من اغترابه . ولذلك يستحضرُ الكاتبُ هذه الحبيبة كلما شعر بإبعاد الوطن له ، أو تأزّمه منه، كما في هذا الموضع ، حيثُ يقول محتدًّا من المفارقة بين نسبة الأمية في مصر ، وبين وضعيتها الحضارية :
" أين نحن من الحضارة.. أشعر بالخجل. لاشيء حقيقى لاشيء أجمل من عينيك تمسح حزن أيامى أيتها المرأة المدينة الغارقة فى القلق..." ص 161 .
ويقول : " آه يا سهر ، من علمك سر النور من الروح للسماء وسر الكحل في عيون النساء وسر التنهيدة وخيانة حرف الراء لى وخيانة الرفاق وسر سورة قاف..مثلث مرعب.. أعيش فيه.. سحقا لوطن متعثر 7 الاف سنة ومازال يركب الحمير في القرن 21 هل هو وطن جدير أم مهرج كبير..؟؟ أمضى إلى نهديك كل مساء لأنى افتقد الحنان من الوطن واقتسم معك القبلات والفراش. أحيانا أشك أن العدل غائب والقضاء فاسد والوطن يحتاج إلى زلزال وأنى بين شفتيك مهاجر . "
وممَّا يتبعُ هذه الرؤية الإبداعية - للعلاقة بين العشقِ والأنثى والاغتراب والوطن – المنظور الخاص الذي يطرحه الكاتب للخيانة ؛ فهو لا يصف عشق سهر لفتحي رضوان – أو عشقه لها – بالخيانة - لكونهما متزوجين – ودافعه إلى هذا أن هذه العشق ليس محض علاقة جسدية، بل هو علاقةٌ روحيةٌ جسديةٌ لها دوافعها المعقدة التي يبدو فيها الوطنُ المُستلب مسؤولا مسؤولية تامة . يطرحُ السيد حافظ رؤيته للفارق بين خيانة الزوجة والوطن في هذه العبارة :
" حين تفتح الباب وتجد زوجتك فى أحضان رجل آخر تخونك.. تطلقها.. وتنساها.. ولكن حين تفتح باب التاريخ لتجد وطنك أقصد بلادك تخونك 7 الاف سنة وتظن أنها شريفة ونظيفة وطاهرة وهى العكس تماما.. ماذا تفعل؟... سيان أن يكون الوطن بخير أو فى ضجر.. فهو قاتل على مر الزمان لكل البشر.." ص 158
وإنَّ اتسّام الأنثى الحبيبة والبطل الإشكالي بالسمة الكونية – في هذا الطرح – ليدلُّ على وجود أبعادٍ دلالية عميقةٍ للعلاقة الإشكالية بين الوطن والعشق والكتابة . هذه العلاقة تبدو متعالقة تعالقًا لا نهائيًّا ؛ إذ يحتاجُ كلُّ ضلعٍ منها إلى الآخرين .
من هنا نلاحظُ وجود زمانٍ ومكانٍ دائريين في بدء الرواية وختامها ؛ فالروايةُ تبدأُ ليلًا في شرفة شهرزاد ، وتنتهي فجرًا في الشرفة ذاتها . كما تبدأُ – بحكاية الروح المماثلة لسهر – وهي روح لامار – وتنتهي ببدءٍ جديد مع روح أخرى مماثلة لسهر ، هي روح سلمى وقصتها مع بيرتون . وينسجم هذا الختام مع مخاض سهر ، وإنجابها ولد جميل ، ممَّا يؤذن بامتدادها في الوجود من خلال ابنها الوليد ، ومن خلال روحها الأنثوية " سلمى " ، وبذلك يبدو العشقُ لا نهائيًّا في هذا الطرح ، وتبدو الحبيبةُ أنثى خالدة ، لا محدودة ؛ لتظل هي الكتابة والوطن حين يضنّ الواقع بالوطن ، وبالكتابة .
نحنُ أمام نصٍّ روائيٍ هو مزيجٌ من السيرة الذاتية – الفردية والجمعية التاريخية – وفن السّرد ، وفن المسرحية - وغير ذلك من أجناس الأدب - أمام نصٍّ روائيٍ يتعالقٍ مع عدّة أجناسٍ أدبية أخرى – رغم أنّ الكاتب وضع له تصنيفًا على الغلاف هو المسرواية - وأفترضُ أنّ هذا التعالق هو الشكلُ الفنّي الذي استطاع استيعاب رؤية الكاتب لإشكالية الذات والوطن ؛ واحتواء أزمنة التاريخ – المُستدعاة في المتن الحكائي - واستشراف المستقبلِ ، وسرد وقائع الذات ، في كيفية تجمعُ بين الرومانسيّ والواقعيّ ، وتتسمُ بالحداثةِ ؛ لهذا المزج بين الأجناس – من جهةٍ - ولتوظيف طرائق الميديا - ومنها الفواصل - و المزجِ بين اللغة الفصحى والعامية واللغة الثالثة في الكتابة . وقد اتّسم الخكيُ بشعرية اللغة – في كل صورها – من خلالِ الارتكاز على الأسطورةِ والرمز ، والاستعارة ، وتحطيم الحبكة التقليدية ، فضلًا عن اعتماد الصورة التخييلية والإيقاع .
هذا فضلًا عن ارتكاز الكاتب على كيفية خاصة في السرد ، هي الحكي داخل الحكي – من خلال تعدد الرواة – بما يؤدي إلى وجود رواية – أو أكثر – داخل الرواية الأصلية . وهذا الكيفية – أو المنهج – في الحكي تراثيةٌ الأصل مُستقاةٌ من الكلاسيكيات الخالدة ، وعلى رأسها " حكايات ألف ليلة وليلة " ؛ ولذلك استحضر الكاتبُ روح " شهرزاد " لتكون امتداده ، أو الراوي المعادل له ، وجعلها مفتتح الرواية ، ومنتهاها . إن هذه الخصوصية في المبنى الروائي تؤكدُ ما ذهب إليه " إيكو " – في كتابه تأملات في السرد الروائي – من أنّ النص " يُبنى كعالمٍ مغلقٍ ومُكثّفٍ بذاته من حيثُ التحديد الدلالي الذي يُسقطُه المؤلفُ " ، هذا التحديدُ ما هو إلَّا الرؤية الفكرية الناجمة من الخبرة الشعورية والفكرية.
د. كاميليا عبد الفتاح حفني
أستاذة أكاديمية وناقدةٌ أدبية ، وشاعرةٌ ، وكاتبةٌ قصصية.
حاصلة على الدكتوراة في الأدب والنقد من قسم اللغة العربية بكلية الآداب جامعة الإسكندرية.
من أبرز المؤلّفات المطبوعة:
1- القصيدة العربية المعاصرة دراسة نقدية تحليلية في البنيةِ الفكرية والفنية. دار المطبوعات الجامعية. أمام كلية الحقوق بالإسكندرية. 2007 م
2- الأصولية والحداثة في شعر حسن محمد حسن الزهراني. دراسة تحليلة نقدية. الطبعة الأولى. 1429هـ . النادي الأدبي بمنطقة الباحة. المملكة العربية السعودية. الطبعة الثانية . دار المطبوعات الجامعية بالإسكندرية 2007م .
3- الشعر العربي القديم. دراسة تحليلية نقدية في ظاهرة الاغترابِ (أبو العلاء المعري نموذجًا). دار المطبوعات الجامعية بالإسكندرية 2008 م
4- إشكاليات الوجود الإنساني: دراسة نقدية تحليلية في القصيدة الواقعية والحداثيّة. دار المطبوعات الجامعية بالإسكندرية 2009 م
5- رثائيات الفارس المُغيّب دراسة نقدية في شعر د. صالح سعيد الزهراني - دار المطبوعات الجامعية بالإسكندرية. 2009 م
6- بواعث الاغتراب وجموح التكوين. دراسة نقدية في شعر د. يوسف العارف: دراسة تحليلية نقدية. الطبعة الأولى. النادي الأدبي بالقصيم . المملكة العربية السعودية 1432هـ. الطبعة الثانية دار المطبوعات الجامعية بالإسكندرية عام 2006م.
7- خصائصُ التشكيلِ الفنّي في القصيدة العربية المعاصرة. دراسةٌ تحليلية في أساليبُ الأداء اللغوي، وأنواع الصورة الشعرية ، وأنماط الإيقاع ، وبِنيةِ القصيدة. دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر. الإسكندرية 2016م
8- الذات والمرايا. دراسة نقديةٌ تحليلية حول تمرئي الوضعية العربية الراهنة في الطرح الشعري المُعاصر. النادي الأدبي بمنطقة الباحة. المملكة العربية السعودية. 2016م
المُشاركات العلمية:
شاركت بالدراسات النقدية في العديد من المؤتمرات النقدية – والإبداعية – في الجامعات المصرية والعربية ونشرت العديد من القصائد والدراسات النقدية داخل مصر وخارجها.
العضوياتُ:
عضو عامل في اتّحاد كُتّاب مصر، وأتيليه جماعة الفنانين والكُتّاب بالإسكندرية، عضو رابطة العالم الإسلامي العالمية. عضو لجان تحكيم الدواوين الشعرية، والكتابات المسرحية والقصصية في أدبي الباحة. وعضو في الجمعية المصرية لأصدقاء مكتبة الإسكندرية. حصلتُ على العديد من شهادات التقدير والشكر من المؤسَّسات العلمية - والأدبية - في مصر - والمملكة العربية السعودية.
0 التعليقات:
إرسال تعليق