دراسات من كتب د. نجاة صادق الجشعمي
( 253)
قراءة نقدية
سيمفونية المضامين الروائية والأنواع الأدبية
بقلم : د. محمد مخيمر
دراسة من كتاب
ورشـــــــــــــــــة النــــــــقــــد للســــــــــــرد الــــــروائـــــي
نموذجًا
سباعية الكاتب السيد حافظ الجزء الخامس { حتى يطمئن قلبي }
التجريب وانحرافات السرد
في الرواية
نموذجًا
رواية " حتى يطمئن قلبي "
للكاتب السيد حافظ
جمع وإعداد
د. نـجـاة صـادق الجشـعمى
قراءة نقدية
سيمفونية المضامين الروائية والأنواع الأدبية
بقلم : د. محمد مخيمر
قراءة في رواية حتى يطمئن قلبي
للكاتب الروائي / السيد حافظ
المقدمة :
على الرغم من أن الكتابة العابرة للنوع تعد شكلا من أشكال التمرد على الكتابة التقليدية، والتي تشكل في ذاتها صدمة للقارئ والناقد التقليديين. إلا أنها ليست جديدة على المستوى الإبداعي والنقدي، فتاريخ التراث الأدبي العربي يمتلئ بالعديد من الكتابات التي تمازجت فيها الأنواع الأدبية المختلفة، خاصة ما كان بين الشعر والسرد مثل ألف ليلة وليلة والمقامات والسير الشعبية وغيرها ، كما أن تجاوز النوع الأدبي وكسر معاييره البنائية وإدخال نوع آخر عليه يحتاج إلى المرونة المطلوبة في النوع الأدبي والتي تسمح بدخول نوع آخر عليه. فيؤكد الدكتور عمر عتيق أن "الشكل الروائي يتميز بالانسيابية والمرونة؛ ومن ثم يغدو قادرًا على استلهام أدوات فنية من الفنون الأخرى كالشعر والدراما والسينما والتراث الأدبي الشفاهي، وهو بمزجه بين الأساليب المتنوعة وصهرها في بوتقة السرد، يتميز عن سائر الأنواع الأدبية بقدرته الفائقة على التمرد على الحدود والقواعد، وعلى ذاته أيضاً"
كما يؤكد الناقد الفرنسي جان إيف تادييه أن فن الرواية الذي كان أقل أهمية من الشعر والمسرح في القرن التاسع عشر قد أصبح الآن في الصف الأمامي للإبداع، بل إنه امتص كل الأجناس الأدبية الأخرى. ويؤكد أن الرواية أصبحت تنافس الشعر باستخدامها الوسائل نفسها التي تجعل من بنيتها منافسة للبيت الشعري من حيث امتلائها بالاستعارة وتلاعبها بموسيقى الكلمات، كما أن الرواية أصبحت تأخذ من المسرح المونولوج والحوار. وبالتالي فقد أصبحت الرواية هي المنفذ الأهم للكتابة عبر النوع والتمرد على التقليدية الإبداعية لإنتاج كتابة تنتصر للإبداع أكثر من انتصارها لنوع بعينه.
بينما أرى بشكل شخصي أنه وعلى الرغم من أن الكتابة عبر الأنواع موجودة في التراث الأدبي منذ زمن بعيد إلا أن المعضلة الأكبر هي مهارة الكاتب والأديب في مزج أكثر من نوع أدبي بشكل لا يحدث إلا تناغما وتوافقا بين الأنواع التي يرى تمازجها، بحيث يمكنه تضفيرها دون نفور ونشاز بين مكوناتها والهدف الأدبي الذي يمزج الأنواع من أجله.
وقد أجاد الكاتب الكبير السيد حافظ في روايته التي نحن بصددها "حتى يطمئن قلبي" والتي عنونها كـ "مسرواية" أي "مسرحية – رواية" في إيجاد ضفيرة متداخلة بين أكثر من نوع أدبي، ليس المسرح والرواية فحسب، بل كذلك فن السيناريو السينمائي، والكتابة التأريخية التوثيقية، والتصويرية الشعرية، والقص القصير جدا، فأنتج لنا سيمفونية أدبية تمازجت فيها الأنواع الأدبية وكان هو بمثابة المايسترو الذي يدير آلاته الموسيقية بحرفية شديدة.
ملخص الرواية :
تعد رواية "حتى يطمئن قلبي" أحدث أجزاء المتوالية الروائية التي يروي من خلالها الكاتب قصة أرواح سهر التي تجسدت عبر عدة عصور في شخصيات مختلفة، تحكي لنا التاريخ من وجهة نظر مختلفة، أو بمعنى آخر تحكي لنا التاريخ كما يجب أن يكون عندما نراه من عدة زوايا، فيصير الحكي متكأ وتصير الحكاية معادلا موضوعيا للحاضر بكل تجلياته، فكانت هذه الحكاية لروح سهر الخامسة لامار وقصتها مع ضوء المكان في قصر الملك العاضد بالله آخر خلفاء الدولة الفاطمية وبداية حكم صلاح الدين الأيوبي في مصر ووزيره قراقوش، بعد أن كانت الحكاية الأولى لقصة نفر فى عهد أخناتون، والحكاية الثانية لنور وقصة حبها مع الضابط محب فى عهد موسى عليه السلام، والحكاية الثالثة لشمس وقصة الحاكم بأمر الله الفاطمي، والحكاية الرابعة لوجد مع نيروزي وقصة الشدة المستنصرية في عهد المستنصر بالله الفاطمي.
وقد تم ذلك بشكل متواز مع الحكاية الأصلية التي تروي قصة سهر مع حبيبها فتحي وإسقاط التاريخ على الحاضر واستلهام المستقبل، مع وجود الفواصل التي تمثل نصا موازيا للنص الأصلي تكمل بناءه وتفكك تماسكه لتعيد بناءه من جديد فتنتج نصا روائيا مسرحيا سينمائيا تاريخيا شعريا حكويا متداخلا في آن واحد.
الاختلاف بين هذا الجزء وأسلافه من الأجزاء السابقة :
يعد هذا الجزء - وإن كان يظهر من شكله الخارجي أنه صورة خامسة لنفس الأصل – مختلفا ظاهريا وبنيويا عن الأجزاء السابقة، بل يعد من وجهة نظري أكثر الأجزاء دهشة وتطورا وتمكنا من شكله التجريبي المتفرد، سواء على مستوى الشكل أو على مستوى المضمون والحبكة الروائية وتطور الأحداث. وفيما يلي أبرز الاختلافات بين هذا الجزء والأجزاء السابقة عليه؛ حيث لا يمكن قراءة هذا الجزء بمعزل عن أجزائه السابقة :
أولا : على مستوى الشكل :
فقد اتخذ هذا الجزء شكلا متداخلا بين فنون السرد المختلفة، كالرواية والمسرح والسيناريو السينمائي، في متن الرواية الرئيس، وبين القصص القصيرة جدا والسرد التاريخي والحكائي في المتن الموازي في صورة فواصل. بينما اعتمدت الأجزاء السابقة على المسرح والرواية بشكل رئيس أكثر من اعتمادها على السيناريو السينمائي في المتن الرئيس. كذلك كانت الفواصل تعتمد في معظمها على نسق أدبي واحد كالسرد الذاتي للكاتب نفسه كما في "ليالي دبي"، أو المسرح والقص القصير جدا والشعر كما في "كل من عليها خان".
فكان الكاتب في الأجزاء السابقة يعتمد لغة المسرح الصافية بإرشاداتها وحوارها دائما في القصة التاريخية التي تحكي تجسد روح سهر في شخصيات عبر التاريخ، فكنا أمام نوعين سرديين هما الرواية في قصة (سهر) و(فتحي) في الزمن الحاضر، والمسرح في قصة روح (سهر) في الزمن الماضي. بينما اعتمد السيد حافظ في هذا الجزء على كسر هذا الشكل؛ فكان السيناريو السينمائي يتداخل مع الفن الروائي والمسرحي على حد سواء سواء في مستوى الحاضر أو المستوى التاريخي، فنجده غالبا يبدأ مشهده بتوصيف الزمان والمكان ودرجة الحرارة قبل الدخول إلى عالم المشهد، فيتمازج العالم الواقعي لـ (سهر) مع عالم التاريخ لروحها المتجسدة (لامار) في مشاهد متلاحقة متداخلة لم تنفصل حتى نهاية النص.
بينما كانت الاستراحات أو النص الموازي يعتمد في الغالب لغة خطاب شعرية الأسلوب تأريخية المضمون في صورة أذان وركعات، فكان الأذان بأصوات ولأصوات الشيخ محمد رفعت وعبد الباسط عبد الصمد ومحمود خليل الحصري والشيخ سيد النقشبندي، بينما كانت الركعات تناجي أرواح سعد الدين الشاذلي وأخناتون وجلال الدين الرومي وركعة لكل من نزار قباني ومحمود درويش. أو في صورة حكايات إذاعية برامجية عن قراقوش تناولت الأساطير الفكاهية عن ذلك الوزير الذي حكم مصر في عهد صلاح الدين الأيوبي. وكأننا أمام شاشة تعرض لنا الحياة والتاريخ والأذان والصلاة والشعر والبرامج في قناة يرأسها السيد حافظ يختار محتواها بعناية بالغة حتى يطمئن قلبه وقلبنا معه.
كذلك عمد السيد حافظ إلى حالة أخرى من حالات التجريب، والتي تبرز إمكانياته في امتلاك زمام الحكي والسرد، دون أن يلقي بالقارئ في غياهب التيه، ألا وهي الحكاية داخل الحكاية، فكان القارئ في وقت من الأوقات داخل ثلاث حكايات في وقت واحد، الحكاية الأولى حكاية (سهر) مع (شهرزاد)، وبداخل هذه الحكاية تحكي (شهرزاد) حكاية (لامار) مع (هوى) وهي الحكاية الثانية، وفي داخل الحكاية الثانية تحكي (هوى) حكاية (العالية) مع (الآمر بأحكام الله) وهي الحكاية الثالثة. والتي تقع تقريبا في نفس مرحلة ترهل الحكم الفاطمي، الذي تقع فيه أحداث الحكاية الثانية.
ثانيا : على مستوى المضمون :
لم تكن الحبكة لجميع الخطوط الدرامية في الأجزاء السابقة تتطور بشكل متواز مع بعضها البعض، فكانت الحكاية التاريخية في كل مرة تبدأ وتتطور وتنتهي بينما قصة (سهر) مع (فتحي) أو مع (منقذ) لا تتطور بالشكل المرضي للقارئ، فلم تكن الحبكات متوازية التطور ولم تكن المعادلات الموضوعية ظاهرة بشكل واضح، على عكس هذا الجزء "حتى يطمئن قلبي" الذي تطورت فيه جميع الحبكات الدرامية بشكل متواز ومتكافئ، وظهرت فيه المعادلات الموضوعية بشكل واضح.
فكانت الخيانات الزوجية عاملا بالغ الوضوح في جميع مستويات الحكايات الثلاثة الرئيسة، وكان الأزواج متخاذلين أمام زوجاتهم الخائنات وأمام عشقهم لهن، فنرى (منقذ) يكتشف خيانة زوجته (سهر) له وعلاقتها بـ(فتحي) واحتمالية حملها منه، فلا يكون منه غير البكاء ومطالبتها بعدم إجهاض الجنين " الولد الذي في بطنك أنا أريده.. أريد أن أكون أبا.. حتى لو لم أكن أباه". كذلك نرى في الحكاية الثالثة اكتشاف (الآمر بأحكام الله) خيانة زوجته (العالية) وخنوعه أمام عشقه لها فلا يأمرها إلا بعدم مراسلة عشيقها والبقاء معه " اقسمى لى إنك لن تكتبى له شعرُا أو تراسلينه بعد ذلك.".
كما كانت قصة صلاح الدين الأيوبي بمثابة عش الدبابير الذي قرر أن يدخله السيد حافظ بكامل إرادته، فصلاح الدين الأيوبي له في الذاكرة الجمعية تاريخ ناصع لتحريره بيت المقدس، فجاءت هذه الرواية لتحطم هذه الصورة المبنية على وجهة نظر تاريخية واحدة لتضع أمامنا رؤية جديدة لهذا القائد تتجاوز كونه بطلا أسطوريا في المخيلة الجمعية وتنزع عنه أسطورية العدالة وهالة التقديس لنراه إنسانا يخ طيء ويصيب، يستبد ويقتل ويتآمر ويحكم ويتصالح، فيكون السيد حافظ بذلك قد صدم التقليديين في قراءة الرواية وقراءة التاريخ على حد سواء.
تداخل المضامين الحكائية :
كما كانت الأنواع الأدبية متداخلة في رواية "حتى يطمئن قلبي" وكما تداخلت الحكايات، كانت المضامين الروائية أيضا متداخلة بشكل منسجم وبديع، فالروايات يمكن تصنيفها وفقا للمضامين إلى روايات تاريخية أو روايات رومانسية أو روايات اجتماعية أو روايات سياسية أو نفسية إلى غير ذلك من المضامين التي لا يتسع المجال لذكرها، وقد تتداخل مجموعة من المضامين الثانوية داخل المضمون الرئيس، فقد نجد رواية تاريخية المضمون بها ملمح رومانسي أو نفسي ولكن هذه الملامح لا تشكل نسقا روائيا مستقلا بل تكون تحت راية التاريخ الذي يعبر بنا عبر هذه الملامح لينفذ سطوته ويحقق هدفه.
أما في هذا الجزء من المتوالية الروائية والمعنون "حتى يطمئن قلبي" نجد أن هناك عددا من المضامين المتداخلة فيما بينها، بحيث يشكل كل مضمون فيهم نسقا مستقلا لا ينحني تحت راية نسق آخر، بل تتوازى كل تلك المضامين مشكلة لوحة شعورية متكاملة لا تطغى إحدى مكوناتها على الأخرى؛ فنرى المضمون التاريخي بارزا في حكايات (لامار) وقصة (العاضد بالله) و(صلاح الدين الأيوبي) و(الآمر بأحكام الله) و(قراقوش)، بينما نرى المضمون الرومانسي صارخا في حكايات (العالية) مع (الآمر بأحكام الله)، و(سهر) مع (فتحي رضوان) ذلك الخط الدرامي الملتهب عشقا والمتوهج بمونولوجات الشوق والغرام، كما نرى المضمون الاجتماعي بارزا في حكاية (فتحي رضوان) وقصته مع وطنه وزوجته وعمله، بينما نرى المضمون العجائبي في قصة (شهرزاد) ومعرفتها بقصص أرواح (سهر).
وقد استخدم الكاتب لتنفيذ هذه المضامين العديد من الشخصيات الرئيسة والثانوية والهامشية التي يحتاج التحكم فيها وتسييرها داخل خطوط البنية الروائية مجهودا شاقا جدا، يستلزم معرفة كيفية دخول وخروج كل شخصية وتطورها الدرامي ودورها في بناء العقدة وحلها، بحيث تتمازج ولا تتنافر، تترابط ولا تتفكك بنيتها النفسية والاجتماعية والشعورية طوال النص الروائي، كذلك استخدم تقنية الخطوط الدرامية المتشابكة "العنكبوتية" التي تتصل أطرافها ببعضها البعض عن طريق الحكي تارة وعن طريق العلاقات المباشرة تارة أخرى. وهي الطريقة التي مكنت الكاتب من زرع علاقات شعورية بين الخطوط الدرامية المختلفة جعلتها مترابطة، حتى وإن اختلفت بيئتها التاريخية والاجتماعية. فكانت حكايتا (لامار) و(العالية) خطين دراميين متصلين ببعضهما وبالخط الدرامي لحكاية (سهر) عن طريق الحكي، بينما كانت بقية الخطوط الدرامية داخل الحكايات الثلاثة مترابطة بعلاقات مباشرة بين شخصياتها. فلم يشعر القارئ أنه يقرأ ثلاث روايات منفصلة، بل رواية واحدة بثلاث تجليات مترابطة.
الخاتمة :
إن العمل الإبداعي لا يكون إبداعيا إلا إذا أتى بالجديد المبدع المتناغم والمتناسق مع بعضه من حيث الشكل ومن حيث المضمون، وكلما تداخلت الأنواع والمضامين احتاج ذلك من الكاتب مهارة في قدرته على امتلاك أدوات الكتابة الأدبية عبر الأنواع وعبر المضامين وبالشكل الذي لا يجعل من الكتابة العابرة للنوع مجرد تجاور لنوعين أو أكثر من الأجناس الأدبية، بل يجعلها كنسيج واحد لا يمكن فصله. في تناغم يشبه تناغم الآلات التي تعزف لحنا واحدا، وبينما لكل آلة صوتها المميز فإنها لا تخرج عن دورها في رسم الصورة الكاملة للسيمفونية، ولا يستقيم اللحن بدونها. وقد كان السيد حافظ في نصه المتداخل - الذي من الظلم أن نطلق عليه مسرواية - بمثابة المايسترو الذي أجاد التحكم في أدواته وآلاته الموسيقية فأدارها باقتدار. "حتى يطمئن قلبي" عمل مميز باقتدار، استمتعت به وفي انتظار الجزء الجديد.
0 التعليقات:
إرسال تعليق