دراسات من كتب د. نجاة صادق الجشعمي
( 276 )
الحب والصراع
في رواية ( لو لم أعشقها )
للكاتب / السيد حافظ
بقلم أ. معتز العجمي - مصر
دراسة من كتاب
جمع وإعداد
د. نـجـاة صـادق الجشـعمى
الحب والصراع
في رواية ( لو لم أعشقها )
للكاتب / السيد حافظ
بقلم أ. معتز العجمي - مصر
مقدم برامج إذاعية بالإذاعة المصرية
كاتب و باحث في الأدب و التراث العربي
قدم السيد حافظ مشروعا إبداعيًا يتسق مع طبيعة اللحظة التاريخية والاجتماعية التي تحياها الإنسانية الآن؛ روايات يغلب عليها التجريب و تجاوز النوعية التي لم يعد العصر الجديد يعترف بها. إن السباعية الروائية التي أنهاها الكاتب برواية (لو لم أعشقها) تجسد في مجملها جوهر الفن حيث " السؤال و الحيرة الصادقة ، والشك البكر الذي كأنه يرى كل شيء لأول مرة "([1]) ، فجاءت رواياته دون توقع على مستوى الشكل والمضمون السردي ، غاير بما قدمه صفة الرواية التقليدية أو الساذجة التي يرضاها أصحاب الذوق العادي والطموح المحدود من القراء، أراه في ذلك يتبنى مصطلح (الحساسية الجديدة )([2]) الذي أطلقه من قبل الناقد/ إدوار الخراط على الرواية والقصة المصرية في مرحلة الستينيات وما تلاها حيث بدأت تتشكل أطر جمالية وفنية جديدة تختلف عما قدمه الكتاب من قبل. ولعل من أهم سمات هذه الحساسية الجديدة التي تتميز بها روايات السيد حافظ؛ التشظي حيث تتداخل الأزمنة والأمكنة والأحداث، بل يسقط الواقع كليًّا؛ لتحل محله "الأسطورة و التراث التاريخي و الحلم و الشعر المضمر أو السافر...."([3]). من هنا تكمن الصعوبة في قراءة روايات السيد حافظ، فهو – على حد قوله – لم يُقرأ بعد، وهذه العبارة " لم أُقرأ بعد " تحمل في طياتها ألم الانتظار المُر الذي يتجرع مرارته بطل سباعيته فتحي رضوان خليل وكأنهما سويًّا؛ الكاتب وبطله يرددان قول الكاتب الفرنسي ألكسندر دوماس " تتلخص كل الحكمة الإنسانية في كلمتين الانتظار والأمل"([4]) .
إذا بدأنا رحلتنا النقدية داخل الرواية السابعة ( لو لم أعشقها) فإني أرى أن الرحلة لا تنفصل عراها عن الرواية الأولى؛ إذ يجمع بين الروايات السبعة رابط يرتكز على قانونين إنسانيين هما الحب و الصراع؛ بهما تتحدد العلاقات بين شخصيات السباعية ، كما تتكشف من خلالهما رؤية الكاتب لعالمه. بدايةً إن قانون الحب هو " الذي يشكل الدافع البشري القوي لإقامة علاقات سوية متوازنة مع النفس والآخرين؛ لأنه يولد لدى الفرد طاقة إيجابية تدفعه للثقة بنفسه و بمن حوله، ....... مما يشعر الفرد بالأمان والطمأنينة النفسية في واقعه الحياتي"([5])، وربما هذا هو المدخل الصحيح لقراءة طبيعة العلاقة التي تربط بين فتحي خليل بطل السباعية و بين النساء اللائي تعرف إليهن ومارس معهن الحب سواء عبر العلاقة الزوجية الشرعية أو عبر العلاقات العابرة التي تركت بدورها أثرًا في نفسه خاصة شخصية سهر، لقد كان فتحي رضوان يسعي عبر علاقاته النسائية أن يجد ملاذا يحتويه ويضمه يستعيض به عن فقدانه للحب الأكبر وهو الوطن، إذ لا يمكن أبدا – في رأيي – قراءة هذه العلاقات عبر محدد الجنس وحسب. إن هناك عوامل أخرى لابد أن تتم الاستعانة بها كإضاءات كاشفة لطبيعة دور المرأة في حياة فتحي رضوان. إن الحب يبلغ في روايته الأخيرة مرتبة صوفية تتسع لتشمل كل دوائر الحب بحيث لم يعد فتحي رضوان إنسانا يرغب في إرضاء نزواته الجسدية بقدر بحثه عن الروح، وأين هي تلك الروح التي تؤرقه وتحيره منذ بداية الرحلة في الجزء الأول من السباعية ؟!
إنها الروح التي ينشدها للتغلب على عوامل قهره ، وبها يستعيد فروسيته من جديد، إذ يتماس في انكساره مع وطنه في أزمته الكبرى التي تفرضها عليه الظروف التاريخية وتواطؤ المتآمرين عليه من الداخل والخارج ، بين واقعين زمنيين(الماضي والحاضر) يسعى البطل / الكاتب للبحث عن حب إيجابي يعيد تشكيل ذاته الإبداعية ، فالحب طاقة بقدر ما يكون عاطفة و كأني بفتحي رضوان أسمعه يردد أبيات جلال الدين الرومي :
" سأقول لك كيف خُلِقَ الإنسان من طين :
ذلك أن الله – جل جلاله – نفخ في الطين أنفاس الحب!
سأقول لك لماذا تمضي السموات في حركاتها الدائرية:
ذلك أن عرش الله – سبحانه – يملؤها بانعكاسات الحب!
سأقول لك لماذا تهب رياح الصباح:
ذلك لأنها تريد دائمًا أن تعبث بالأوراق النائمة على شجيرات ورود الحب!
سأقول لك لماذا يتشح الليل بغلائله :
ذلك أنه يدعو الناس إلى الصلاة في مخدع الحب!
إنني لا أستطيع أن أفسر لك كل ألغاز الخليقة:
فما الحل الأوحد لكل الألغاز سوى الحب"([6]) .
وهذا المعنى الصوفي نراه يتشكل في رواية (لو لم أعشقها) عبر اللقاء المجازي / المتخيل بين فتحي و بين الشيخ المحاسبي؛ فالحب هو المحبة ([7]) . وهي الصيغة التي تتكشف لفتحي في نهاية الرواية وتدفعه لأن يصير أحد مجاذيب مولد أبي العباس المرسي ، لتكتمل بحالة الانجذاب دورة الحب ويبلغ أسمى مراتبه بصورته العرفانية أملا في تعرف فتحي رضوان إلى ذاته المفقودة والتائهة. واختار الكاتب إلا يطلعنا على رحلة بطله في العالم الجديد عالم الأسرار الذي تتسم به الصوفية؛ لعلنا نكتب بأيدينا رحلة خلاصنا بتخيل ما سيكون أو بالأحرى ما ينبغي أن يكون. أما إذا أردنا تأمل طبيعة هذا القانون؛ قانون ( الحب ) باعتباره كلمة تطوي تحتها كلمات([8]). فكلمة الحب لدى سهر تعني الحرية والتحقق والرغبة الخالصة من أي قيد أو أعراف سلطوية ؛ فهي" أحيانا تشتاق إلى فتحي وأحيانا لا تشتاق إلى أحد..هي بركان من القلق"([9])، أو هي كما يصفها فتحي " أنت طيف من نور إذا مر أضيئت قلوب الرجال بالحياة"([10])، و كلمة الحب لدى شهرزاد ما هي إلا باب الغواية وحكاية الأسمار وأحاديث النساء السرية، وعن نفسها تقول: " لكن الله أرادني هكذا؛ أن أكون أما للجميع، وعونا للجميع. كل إنسان خلق لرسالة ما أو لهدف ما .."([11])، أما تهاني الزوجة فهي حبيبة من نوع آخر تسعى إلى لملمة روح فتحي رضوان، وكأنها إيزيس عندما يناديها فتحي بقوله " تهاني.. إذا أتيت لك ذات مساء باكيا بلا دموع لملميني، واحصدي الأحزان من روحي ودثريني واجمعي بقايا أفراحي من السنين.."([12])، وهي في حبها لزوجها تظنه رجلًا عاديًا يسهل أن تستهلكه الحياة الزوجية بمتطلباتها و مسئولياتها، ويدرك ذلك فتحي عبر مونولوج داخلي لا يسمعه سواه " الزوج يفر من مواجهة زوجته ، والزوجة تفر من مواجهة زوجها ..هي الحياة كر وفر؛ فإن المواجهة غالبا ما يكون فيها خسائر، إما أن يخسر أحد الطرفين أو الطرفان يخسران ..."([13])؛ هكذا تظل تهاني مجرد نقطة داخل دائرة الفراغ الرضواني . أما إذا أردنا أن نفهم معنى الحب في نفس فتحي رضوان خليل ، هذه النفس المضطربة المتأججة فعلينا أن نسمع لصوت ضميره حين يقول " ماذا تفعل يا ابن الحاج رضوان .. تجري خلف النساء ، وتجري خلفك النساء. ليس هكذا تدار الأشياء .. من العيب أن يكون محور حياتك في الخليج جزء كبير منه النساء .. إن للمثقف دورا آخر، هل الثقافة حقيقة في بلد مترف من الطعام و الثراء ؟، هل الثقافة حقيقة في بلد جائع ؟، هل النساء وعاء طبيعي وصحي لتفريغ شحنات الغضب واليأس والإحباط؟.... هل الجنس هو المعادل الموضوعي لتوازن الفرد؟..."([14]).إذن لا يمكن لنا أن نفهم معنى كلمة الحب لدى فتحي إلا بكشف ما تحتها من كلمات العجز والقهر و اليأس ..إن انهزامية البطل هي ما تقوده إلى كل هذه البحار من العشق ، فهو كما تقول سهر عنه " أنت مثل البحر كل ساعة بمزاج، وليس لك نهاية ولا أحد يعرف عمقك"([15]). إن الجنس في هذه الرواية ليس حبا خالصا أو رغبة مشتعلة بنفس فتحي يريد أن يطفئها، إن الجنس أو الحب بمعنى آخر هو رحلة البحث عن المستحيل حيث محاولة فتحي إمساك روحه من جديد، ولكنه لا يصل. فقط يصير روحًا هائمة وكأنها روح والد هاملت تبحث عن الانتقام من قاتله، ومعها تتوحد روح فتحي رضوان خليل التي ضلت الطريق وفقدت ثقتها في عالم الأحياء، وراحت تبحث لنفسها عن حياة أخرى في عالم آخر تحكمه قيم عالم السماء الصافية والنبيلة؛ فيدخل فتحي موكب المولد ويختفي مع الزحام ... هكذا تنتهي حكاية فتحي رضوان خليل لتبدأ أسطورته تكتب سطورها الأولى غير المحكية عبر من يشبهه ؛ الابن أو المثقف أو إنسان العصر الحالي .. ومن يعرف؟!
أما القانون الإنساني الثاني الذي يربط بين أجزاء السباعية؛ هو قانون الصراع الذي لا ينفصل عن الحب بل " يفرض بشكل حتمي ظهور قانون الحب في الأغلب الأعم؛ لأن قوانين الطبيعة في حقيقة الأمر هي التي تفترض بداهة في منظومة العلاقات الإنسانية أن ما يحركها في الأساس ويضبط مؤشرها قوة وضعفا إنما هو عامل الحب ....."([16]) . و الصراع الذي تتعدد أبعاده في الرواية يتسع ليشمل الصراع الداخلي في نفس فتحي الممزقة بفعل الهزائم المتلاحقة له ولجماعته التي ينتمي إليها، ويشمل كذلك تلك العلاقات الضدية التي يحياها فتحي مع الآخر أو الزمان أو المكان أو عناصر الواقع المتخيل الذي تنسجه الأحلام والرؤى الضبابية، ولعل مونولوجه الداخلي يكشف عن طبيعة ذلك الصراع إلى حد كبير "... ربما سرقني الوقت؛ فنسيت أن أكتب تاريخ الشرفاء؛ لأن اللصوص سكنوا كل المدينة. أعترف أنني هزمني الشر من الألف إلى الياء . وكان الأغبياء يشربون نخب صدور كتبهم العمياء التي تحولت بعد عام إلى مجرد أوراق لدورة المياه ..."([17]). هكذا صار فتحي رضوان المثقف أشبه بدون كيشوت، فهو يمتثل لقوانين الشرف والنبل في زمن عز فيه وجود مثل هذه القيم، وعن ذلك يقول" أنا رجل بسيط محاصر بالأنذال والأحقاد وحظي ليس عظيما....أنا مخلوق من اللون الأبيض تكرهني كل الألوان"([18]) ، إضافة إلى حساسية ذات البطل التي تشبه في إيمانها بذاتها ملامح البطل الأسطوري أو الملحمي على غرار ما نجد لدى أوديسيوس البطل الإغريقي القديم أو جلجامش في رحلته للبحث عن الخلود، و إذا كان فتحي رضوان خليل يشبه الأخير في شيء؛ فهو يشبهه في التجوال والبحث الدائب الذي رغم حالة الاستقرار التي يصل إليها جلجامش إلا أن بطلنا فتحي لا يهدأ ولا يقر له قرار وتستمر قضية الصراع باعتبارها قضية لا تنتهي، بل تخفي في طياتها مستويات عديدة من الصراع يلخصها اقتباس الكاتب لفقرة من رواية مزرعة الحيوانات للكاتب جورج أورويل ،و التي يبدأها بقوله " الآن أيها الرفاق؟ ما طبيعة الحياة التي نعيشها معشر الحيوانات؟ دعونا نواجه أمورنا بصراحة ..حياتنا جد قصيرة ..نقضيها في كد وعناء........."([19])، وطبيعي إثر ذلك أن نستشعر أن بطلنا ليس منتميا لا إلى المكان ولا إلى الزمان ولا إلى عالم الأحياء من حوله؛ لتثير قضية الصراع حالة تتعلق بالجانب النفسي للبطل وهي حالة الانتظار التي يمكن تفسيرها بكونها " حالة نفسية تتسم بالخصوصية ...." تؤدي إلى ".... حالات التوتر وصخب النفس والقلق وعدم التوازن...."([20]) ، وهي الحالات التي اتسمت بها نفسية فتحي رضوان خليل عبر أجزاء الرواية السبعة، فنجده يتماس مع مآسي وتاريخ الشخصيات والعصور السابقة ليؤكد بها حالتها النفسية إزاء ما يواجهه، وعاد إلى وطنه " خاسرا كل شيء الوظيفة والمال والعشق"([21]).
ويبقى لنا أن نؤكد على دلالة الأرقام في سياق حديثنا عن حالة الانتظار التي تولدت عن قانون الصراع؛ إذ أن دلالة الرقم (ثلاثون) عدد فصول الرواية، ودلالة الرقم سبعة عدد الأجزاء مجتمعة، ربما يرمزان إلى دورة حياة الإنسان التي لا تنفصل عن دورة الحياة التي تسيرعبر أيام الأسبوع السبعة و أيام الشهر الثلاثين . و كأنا بفتحي هنا عبر أيامه و شهوره ينتظر واقعا جديدا يمثل له أمل الخلاص، ولكن تنبئنا نهاية السباعية بأن الانتظار هو " ذلك الانتظار الحلو المر ، انتظار شيء جميل يرجو أن يحدث ولن يحدث"([22]).
ويبقى سؤال أخير؛ ماذا لو لم يعشق فتحي رضوان خليل المرأة و الوطن والتاريخ والكتابة والناس ..ماذا لو كان ذاتيًا أنانيًّا، لا غيريًا يتفاعل بكليته مع قضايا أمته ووجوده الإنساني؟!
0 التعليقات:
إرسال تعليق