ملك الزبالة أو الزبالين
دراسة بقلم أ.د. كمال عيد
كلية الآداب – جامعة الملك سعود
دفع لى الصديق الصدوق الكاتب الدرامى العزيز السيد حافظ بمسرحيته الكوميدية - كما عنوانها - وهذا حصر، بآخر رؤياه التراثية التى عوّدنا عليها فى استلهام التاريخ، وربطه ربطاً عضوياً غير افتعالى أو مفتعل بالعصر الآنى.. فى أى مكان.
وقع بصر الكاتب الدرامى على ثيمة قديمة حقيقية التاريخ، وقعت بين عامى 365 ، 373هـ، مع أنه غلطة مطبعية على ما اعتقد ذكرته فى صفحة له، من الكتاب المطبوع للمسرحية أن الأحداث فى عام 265هـ، وهو خطـأ مطبعى بسيط، لكنه يضع علامات استفهام أمام القارئ العالم بالتاريخ.
فلعل الصديق العزيز يُصلح فى الطبعة القادمة من الخطأ غير المقصود.
أقول اختار الكاتب الدرامى ثيمة تاريخية، لكنها سوّرها فى إطار درامى يجعلنا نطلق على الدراما (النوع الطبيعى) نسبة الى المسرح الطبيعى Naturalism الذى قعّد قواعده الفرنسيان أميل زولا والمخرج أندريا أنطوان، وسواء قصد الدرامىّ ذلك أم لم يقصد، فإن درامته مليئة بعناصر المسرح الطبيعى.. من صراع، وقمامة، ورائحة فاسدة عفنة، طبعاً الى جانب العناصر الدرامية الأخرى، وأقصد بصفة خاصة الكوميديا التى لجأ اليها، وبقدر مكثف ومنضبط فى المشهدين الخامس والثامن من مسرحيته. فالملاحظ أن المشهدين يحملان كل سخرية السيد حافظ من هذه الطبقة الحاكمة التى تمثل العسكر، شهبندر التجار، الأعيان، والأمراء، ولاحظ التسلسل الذى يلجأ اليه الكاتب. فهو ينبئعن انحيازه الى جانب الغلابة وزبالى المسرحية.
والجميل أن هذه السخرية هى مكمن الكوميديا.. وهى على الصورة تصبح كوميديا نظيفة تماماً.. نابعة من صراع كامن، ومستمر ومتصل بين طرفى النزاع الدرامى فى النص المسرحى الجميل.. أى بين فقراء شرفاء، وعاملين مخلصين يبذلون العرق من أجل نظافة أو قُل تنظيف الآخرين، حتى ولو كان هؤلاء الآخرون حكاماً أو شبه حكام أو سندتهم، ولعلنى أشير داخل هذا السياق الى شخصية القاضى.. إذ هى شخصية كاريكاتيرية تتناقض تناقضاً تاماً مع أصول مهنتها وحدودها، وتفاهتها فى آن واحد أنظر الى حوارها فى ص36 حين تقول:
"إدينى مريم، وأنا أعمل أى حاجة، وادفع خمسين ألف دينار مهرها" خمسون ألف دينار، والشحاذون يتعاملون بالسحتوت.. أى سخرية هذه؟ وأمام هذا الخصل فى الشخصية ذاتها، نراه يجرى وراء الغريزة.. رغم كر سنه ومنصبه - أليست هذه كوميديا نظيفة بل نقية نابعة من صُلب الدراما؟
لم تفقد الثيمة × شكلها اللغوى الطبيعى، الأمر الذى يقرّب إخراج هذا النوع الى المسرح الطبيعى كما سبق الإشارة. أنظر الى طبيعة الحوار التالى (ص 8)
مريم : (تدخل تحمل صينية الشاى) الشاى يا امه (تفاجئ برجال الشرطة) فيه ايه على الصبح.. عسكر؟ يا فتاح يا عليم يا رزاق يا كريم.. عايزين إيه؟
زبيدة : عايزين ضرايب على الزبالين؟
سعد : عاملين ضرايب على الزبالة والتراب؟
مريم : أبويا فين؟
شرطى4 : (لمنصور) امشى قدامى يا صباّغ الحمير، ما دام مش حتدفع
تتسجن.
سعد : المعلم وصل.. المعلم قسام التراب وصل.
زبيدة : مدّ شوية يا معلم.. مد يا خويا
وإضافة الى هذه اللغة الشعبية الجزلة، ألا توحى الى المشاهد المسرحى بهذا التعاون وهذه العلاقات الشريفة بين الفقراء والمساكين والزبالين؟ ثم ألا تشير مرة ثانية الى الظلم والظالمين؟
وفى البناء الدرامى يلجأ السيد حافظ الى تقنية (التكثيف) فى الدراما. كيف ذلك.؟
لاحظ كيف رتب مشاهد درامته.
المشهد الأول فى الفجر.. ضوء أزرق.. إحدى ضواحى دمشق.. أكوام الزبالة.. كوخ يمثل مكان إقامة الزبالين.
ثم يورد المشهد الثانى بعد مرور ثلاثة أيام.. ولا تزال الشخصيات الشعبية (الزبالين، هى المسيطرة على مسيرة الدراما وتطورها)
والمشهد الثالث فى نفس المكان - بعد أسبوع - من المشهد الثانى.. مشهد وصول الشرطة لمكافحة تمرد الزبالين.
ثم يورد المشهد السابع فى نفس المكان أيضاً.. وفيه نلاحظ تطوراً يشرح الصراح المتنامى.. لكن بالمكانس والسيوف والحجارة. وماذا يملك الفقراء غير هذه الأسلحة المسكينة فى مواجهة العسكر بأسلحتهم مرة، وبخبث ودهاء أسيادهم الحكام مرة أخرى؟
ليس عبثاً ما فعله السيد حافظ. إنه - رغم جريان الأحداث فى المكان الواحد - إلا أن كل مشهد من هذه المشاهد الأربعة التى تتوالى وتتعاقب منذ انفراج الستار، يعتبر مشهداً مستقلاً بأحداثه سواء فى التمهيد، وفى تعقّد الأمور، وفى وصول الشرطة، وأخيراً فى بدء الصراع أمامنا نحن الجماهير على مستوى العين. ولعلنى أرى المشهد الرابع هو نقطة الارتكاز للزبالين.. فكل همهم من المتاريس التى أقاموها.. هو حماية النفس البشرية، بعد أن تعقدت الأمور فى المشاهد الثلاثة الفائتة. ولا حلول إلا باليد ذاتها.. وبالقوة لمكافحة قوة الظلم والدهاء. والتى يمثل فيها غسان بطولة التمرد والعصيان.
غسان : أنا مش حادفع الضرائب والأتاوه. أنا طول النهار قاعد فى البستان. كل شوية هات فاكهة للوزير فلان، وفاكهة للأمير فلان. وهات فاكهة للعسكر، وهات فاكهة للوالى ×. وهات وهات.. ذهقت طهقت.. مش حادفع.. ادفع فاكهة بس. فاكهة وبس. ومش حادفع تانى.. (ص 10).
يستلهم الاستاذ السيد حافظ النص الثانى من درامته من حكاية (على بابا والأربعين حرامى) وليس هذا عيباً، بل شطارة درامية، على ما أظن.
فاختباء الغلابى فى صناديق القمامة يدل على ذكاء وصدق حيل هذه الشخصيات رغم بساطة تفكيرها. لم يكن منارة حل من السخرية بالظالمين، وضربهم (طبيعيا) وأمام العين إلا بهذه الطريقة الكوميدية.
إن متناقضاته كثيرة تثير نوعياً جدلياً من الضحك، يُخفى خلف هذه المتناقضات المُحرك أو الموتيف Motive الذى هو أساس الضحك. فالانتقام، والإزدراء، والسخرية والتهكم هم الأصل الخفى، والظاهر أمامنا من زاوية أخرى. لكنه يُخفى وراءه ثورة عارمة صادقة أوقعت كل دمشق بحكامها وقاضيها وأمرأتها فى (حيص بيص) نتيجة لعدم أقدام الشحاذين على جمع قماماتهم، حتى ولو كانت قمامته مليئة ببقايا التفاح والفاكهة المحرمة على الزبالين.
وأخيراً، لا ينسى الكاتب الدرامى الواعى أن يقدم صورة طبيعية - كدرامته تماما - حين يختم درامته بقوله " يا ناس ، يا أهل القاهرة خللى بالكم، مش حتلاقوه اسمى فى التاريخ، لكنى كنت حقيقى موجود فى التاريخ. وحكمته سبع سنين وبالعدل والميزان وكنت زبال يمسك المكنسة، وأنا كنت شوارع الشام والقاهرة وأنتم معايا.. اكنسوا من التاريخ اللى ظلموكم واللى خانوكم واللى باعوكم واللى عذبوكم. يا إما تنسوهم يا إما حيكنسوكم وحيكنسوكم من التاريخ.. (75).
وهنا، وعلى مشارف نهاية الدراما. وقبل مغادرة الجماهير لمقاعدها تتحول قمة نهاية الدراما - تحولاً حساساً ناعماً - الى علامات وأمارات لها تأثيرها ولها مفاهيمها الكبرى.
إذ نرى أن الزبالة ليست هى الواقع أو التاريخ، لكن أمور أخرى أكثر أهمية للشعوب، مثل العدالة، والمساواة والإخاء، وغيرها من دلائل أخلاقية، يرمى بذورها النقية السيد حافظ ، لترفع من قيمة درامته، ولتتحول المسرحية الى تعليمية بلا تعليم، ولا خطب منبرية.
القاهرة 16/9/1990م
0 التعليقات:
إرسال تعليق