المسرح المصرى فى السبعينات
تجربة السيد حافظ
بقلم د/ مصطفى عبد الغنى
اذا كان التجريب فى بعض درجاته يتحول الى مسرح ملحمى , فهو عند درجاته الاخرى , الجامحة , يمكن ان يتحول الى مسرح آخر, لا يرتبط بالملحمية , بقدر ما يرتبط بالقاعدة الشهيرة ان ( القاعدة هى اللاقاعدة فى الفن ) ..وهذا يعنى بالمفهوم البسيط ان الفن يمكن ان يكون فى ممارساته الفنية تنظيرا لاية نظرية, ولا يكون من الضرورى دائما ان ترتدى هذه الممارسة ثوب الفن ( الضيق ) فى بعض الاحيان .. غير ان التجريب بدون وعى فنى يصبح جموحا طائشا .. ومن هنا نرى حركة التمردعنى الشكل الدرامى , فى اتجاه المسرح الملحمى لونا من الوان (الفن) الوعى , وقلما نجد الجموح بدون وعى فنا بأى مقياس .. وعلى أية حال , فان التمرد عند عبد العزيز حمودة وفوزى فهمى جاوز الحد عند كاتب آخر عرف فى نفس العقد – السبعينات – هو السيد الحافظ فلنر حدود هذا التمرد فى اتجاه التجريب عند هذا الكاتب .. اذا كان وسف ادريس فى الستينات حاول الخروج من طار المسرح الاوروبى بمحاولته فى (البروسنيوم( الاوربى اكتر من الكتاب فى هذا الوقت , فاذا جاوزنا الستينات الى السبعيناتفسوف نرى فى محاولات السيد حافظ احدى هذه المحاولات التى جاوزت حد التمرد الى حد الثورة على كل التقنيات المعروفة وغير المعروفة .
وربما تعود جذور التجريب عند السيد حافظ الى المناخ الذى عاش فيه , والذى يصفه سعد اردش فى مقدمة دراسته التى ضمنها عدة نصوص صدرت للكاتب بعنوان (أميرة السينما). يقول سعد اردش ان هذا الكاتب ينتمى الى جيل ( عاش حياته ويعيش شبابه ملتاعا يكتوى بسلسلة من الهزائم الوطنية والقومية , وكان من الممكن ان يعيش عصر التحرر , والاشتراكية , والعدالة , والضيق من كل ما كان يثقل كواهل الاجيال السابقة , وما حاربت من اجل الخلاص منه اجيال / 1919 6194 , وما قامت من اجله ثورة يوليو 1952 وما تلاها ) وهذا الجيل لم يعان وحسب فى مجال السياسات , أو فى مجال المجتمع , وانما أيضا فى مجال الثقافة , فقد كان محظورا عليه – كما يقول الكاتب – الاقتراب من هيئة المسرح والثقافة الجماهيرية .. الى غير ذلك من المؤسسات الثقافيه ( السياسة1984/6/30) كما كان محظورا عليه ان يتعامل مع مثقفين حكم عليهم أما بالصمت أو الرحيل الى دول ( البترو دولار ) , ومن ثم , فبقدر وطأة المناخ وعسفه , بقدر ما كان التمرد على الشكل الفنى والثورة عليه.ومن هنا , فبينما اقترب بعض كتاب جيله بحذر شديد من المسرح التجريبى , اقترب هو منه بشكل حاد محاولا اعادة تركيب جماليات الشكل المسرحى ليعيد توزيعها تبعا للمضمون الذى كان يحتوى على قدر عنيفا من المرارة والغضب . وهذه المحاولة التجريبية نجدها عنده بدءا من العنوانات الغريبة التى اختارها لنصوصة من امثال (كبرياء التفاهة فى بلاد اللا معنى|الطبول الخرساء فى الاودية الزرقاء|حدث كما حدث ولكن لم يحدث اى يحدث | حبيبتى انا مسافر والقطار وانت والرحلة والانسان |هم كما هم ولكن ليسوا هم الزعاليك|الحانه الشاحبة العين .. الخ ) .. ويمتد الجموح من العنوانات الى الشكل الذى اختاره اذ نلحظ انه يهجر فترة تقسيم المسرحية الى ثلاثة فصول أو أربعة فصول فى أغلب الآحيان , فاذا هو يحكم بوضع الموقف والخروج منه بحيلة فنية جديدة , انه فى نص مثل ( 6 رجال فى معتقل شمال حيفا ) يقسم النص الى عدة جسور ( الجسر الأول|الجسر الثانى ) , اما فى ( أميرة السنما ) يقسم نصه الى لقطتين ( لقطة أولى | لقطة ثانية ) , ثم هو فى نص (الخلاص) يقسم نصه الى ثلاثة حدود ( الحد الأول|الثانى|الثالث ) .. الى غير ذلك . كما يبدو هذا الجموح فى تحطيم عناصر الشكل المركب واتساق اللغة الواحدة والقوالب التقليدية والشخصيات والحوار الى غير ذلك من اتجاهات ىعديدة منها الدرامى والملحمى والتجريبى , وتتدخل الحدود حتى يصعب معها تحديد هذا الشكل أو ذاك , اننا فى احد نصوصه الأخيرة نجد انه لايكاد الممثلون ينتهون من القاء أغنية لها علاقة حميمة بالنص , حتى نرى عمال المسرح يخرجون بعد الانتهاء من الاغنية , ولأضواء ساطعة ليخاطبوا الجمهور , صائحين : احنا مش ممثلين .. احنا شيلنا الديكور وجيبنا ديكور جديد .. كل واحد فيكم عليه ان يغير الديكور اللى جواه الديكور القديم احنا بنهد وبنبنى لكن فيه ناس بتهد وبس .. بتهد وبس .. واحنا مش ساكتين لها .. واحنا يا اما حانقف لها يا اما تغير طريقها يا اما ندبحها ..
وفى الوقت الذى يستطيع فيه عمال الاضاءة تغيير مستلزمات الاضاءة اما الجمهور , فان المخرج يخرج ليحادث الجمهور ’ فيقول : احنا كلنا معاكم مخرج وكاتب وعمال مسرح وممثلين لان الحرب فى رأينا ما انتهتش وما بتنتهتيش لان العدويرجع ثانى زى ما كان قبل حدود 48 الحرب مستمرة خليكم معانا .. ( حكاية الفلاح ص 197 ) .
وحين يخرج المخرج وعمال الاضاءة يعود الممثلون ليكملوا تمثيل الموقف.
ان العودة للتراث فى الحقبة الأخيرة ارتبط بعاملين :
الأول : ربط المشاهد بالاتجاه الملحمى .
الثانى : الحفاظ على الهوية العربية .
والمتابع لحركة العود الى التراث العربى يدرك انها بدأت فى السبعينات مع كتاب هذا العقد ( كانت لعا ارهاصات كثيرة فى أعمال شوقى وباكثير وعزيز أباظة وغيرهم حتى نهاية الحرب العالمية الثانية ) , ولم تلبث هذه الحركة ان تعمقت أكثر مع كتاب السبعينات أو منذ نهاية السبعينات وبداية الثمانينات ( بالنسبة لهذا العقد ) , مما يشير الى أن كثيرا من كتاب السبعينات من الجيل الثالث فى السبعينات القت فى تيار الثمانينات ما عمق هذا التيار فى اتجاه العود الى ظواهر التراث العربى .
البديهى أن العود لم يكن فقط للاحساس المفقود بالقومية , واما , أيضا , كما سنرى . للبحث عن تقنيات فنية من شأنها ان تقوم بدور ( التراسل ) الفنى مع الجمهور ، وهو ما يتأكد أكثر على مستوى ابداعيات هذا العقد , وهو ما بدأ فى شكل (كسر الايهام) أو(اللعبة المسرحية) وما الى ذلك من مستويات التقنية البريختية خاصة وان بربخت نفسه كان قد قرر فى فترة سابقة ان ثمة قرابة وثيقة بين مسرحه والمسرح الشرقى- والاسيوى- بوجه خاص. ونستطيع ان نراجع بعض الاشارات البسيط التى فى أذهاننا حول مسرحية بيرانديللو الشهيرة ( ست شخصيات تبحث عن مؤلف ) لندرك الى أى حد استخدام الكاتب الفرنسى الشهير العناصر التراثية العربية من خيال الظل أو المصباح السحرى أو الدلالات القديمة التى راح يستخدمها بحياء شديد كتاب كبار من أمثال توفيق الحكيم فى ( الطعام لكل فم ) ثم محمود دياب ( ليالى الحصاد ) ونجيب سرور(يا بهية وخبرينى) واستخدام بيراندللو تركز فى المقام الأول حول ما يسمى ( بالمسرح داخل المسرح ) وما لبث أن راح العديد من كتاب السبعينات يتلقفون هذه الحيلة ويطورونها خلال شخصياتهم .. ويلاحظ ان هذا الاستخدام اقترن بالفترة الأخيرة بالنسبة لكتاب السبعينات ، أى هذه الفترة التى مالوا فيها ، جميعا ، الى التراث العربى وظواهره وما لبث أن طورها أكثر كتاب الثمانينات من نفس الجيل (*)
(*) حول استخدام الظاهرة التراثية ، انظر دراستنا الأخرى ( مسرح الثمانينات ) التى صدرت عن ( دار الف ) بالقاهرة 1985 ، وفيها فصلنا بقية التحولات عند بقية التحولات عند بقية الجيل الثالث م كتاب المسرح المصرى - فى الثمانينات .. باعتبار ان كتاب السبعينات والثمانينات يمثلون - جميعا الجيل الثالث من كتاب المسرح فى مصر.
الظواهر التراثية تتعدد وتتباين عند كتاب السبعينات .. ان عبد العزيز حمودة وفوزى فهمى مولعان بهذه الظواهر من خيال الظل والاراجوز الى صندوق الدنيا والبلياتشو وما الى ذلك ، وان كنا نعثر عليها فى ( القالب ) الغربى ، كما نعثر عليها موظفة توظيفا حادا فى ( التطور ) الغربى لفن المسرح ، وهو ما يختلف معهم فيه بقية هذا الجيل ممن ظهروا فى الثمانينات والذين استخدموا المحبظين والمشخصاتيه والبابات والدواوين وما الى ذلك .. هذه هى الاحابة الأولى ، البدهية ، أن طبيعة التطور الفنى كانت تقتضى تلمس ظواهر التراث سواء فى التاريخ أو الميثولوجيا للبحث عن وسيلة ( التواصل ) مع الجمهور ، أما الاجابة الآخرى ، المركبة ، فهى تجاوز التطور الفنى الى التطور التاريخى وروح العصر .. كان العود الى التراث الآن يعنى البحث عن الهوية القومية فى زمن افتقدنا فيه الهوية المستقلة ، وقد تبدى هذا المناخ فى الشرق العربى منذ نهاية الحرب العالمية الثانية ، حين اكتسف الشرق العربى ان ثمة فارقا بين حضارة الغرب وبين اطماعه الاستعمارية ، واذا كان الغرب يحاول الزعم بانه يريد ( تنوير ) العرب وادخالهم عصر الحضارة ، فلانه كان يريد ان يستخدم هذه الحضارة من اجل تنفيذ أحلامه الاستغلالية التى تحولت الآن من الاستعمار المباشر الى الهيمنة الاقتصادية . كان البحث عن ( هوية ) معاصرة يعنى ، فى المقام الأول ، البحث عن وسيلة (مواجهة) يستطيع بها عالمنا العربى ان يقف بها ندا لهذه القرى الغاشمة . وقد بدأ هذا فى صورة الابتعاد عن مؤثرات الغرب الثقافية فى وقت الاقتراب فيه من تراثنا ، ذاكرتنا الحية .
وهذا الابتعاد والاقتراب لا يعود الى القريب ، بعد الحرب العالمية الثانية وحسب ، وانما يعود الى أبعد من ذلك بكثير ، منذ اكتشف الغرب الشرق ، وحاول ان يلعب معه لعبة مخادعة ، فلا يخلو من مغزى ان أول مسرحية مؤلفة فى تاريخنا الفنى كان عنوانها هو ( أبو الحسن المغفل ) لمارون نقاش ، وهو اسما عربيا كما نرى ، وهو يحمل دلالة ايجائية مباشرة كما نرى ، وهو ينتمى الى نص ينتمى الى البنية الحكائية ( لألف ليلة وليلة ) أيضا كما نرى ! هذا يعنى ان الاتجاه نحو المسرح الملحمى ، أو التأرجح بين الاتجاه الملحمى والاتجاه لبتجريبى الجامح .. لم يكن بقصد ( ركوب الموجة ) فى نهاية السبعينات وبداية الثمانينات ، وانما كان بفعل تراكم الاحساس بالهوية المفقودة ومحاولة استعادة الشحصية القومية منذ زمن بعيد ، خاصة ، اذا ما وضعنا فى الاعتبار ان عقد السبعينات ، خاصة ، تميز بضخامة التغيرات والأحداث التى هزت الوجدان العربى بعنف شديد (ولنذكر من جديد : هزمية 67 ، الانتفاضة الطلابية يناير 72 ، أحدث 18 ، 19 يناير 77 ، صلح كامب ديفيد ، سياسة الانفتاح الاقتصادى 74 ، مظاهرات أول يناير 75 ، ترسانة القوانين الاستثنائية كقانونى حماية القيم من العيب وحماية الجبهة الداخلية ، استحداث نظام المعى الاشتراكى فى التشريع المصرى .. الخ) . ولسنا فى حاجة لنؤكد من جديد ان عقد السبعينات لم ينجب كتابه فقط من أولئك الذين أشرنا اليهم هنا ، وانما انجب العديد من الكتاب الآخرين ، الذين وان لم يلعبوا هذا الدور دراميا محسوسا فى السبعينات ، فانهم راحوا يلعبوا هذا الدور فى الثمنينات ، حيث كان تيار السبعينات يلقى فى الثمانينات ليزيد من جريان هذا العقد .ولنخرج ، أكثر ، فى شئ من التفصيل ، لكتاب السبعينات وموقفهم من التراث ..
تتحدد بعض محاولات هذا العقد لكنها تحمل معها بعض الهنات .. ان فوزى فهمى يلجأ الى التاريخ الاسلامى فى نص ( لعبة السلطان ) خلال فترة الرشيد ، فيتلمس عناصر شعبية متوارثة مثل الراوى وصندوق الدنيا ، غير ان محاولاته ، سأنه شأن كتاب السبعينات ، مازالت تعانى من سيطرة التقنية الغربية فى صياغة الحدث والحوار الدرامى ، أما عبد العزيز حمودة فانه يعتمد ، كسلفه ، على الصياغات التاريخية التى يتلمس فيه أيضا عديدا من الظواهر التراثية خاصة فى النص ( الظاهر بيبرس ) حيث يعتمد على عروض خيال الظل ، واستيحاء بعض الشخصيات الخاطبة والامير وصال وبعثته لشخصية أم رشيد التى عرفناها عند مجد بن دانيال فى باباته خاصة أم رشيد الخاطبة ، ورغم ان عبد العزيز حموده يجهد ، أكثر من سواه فى السبغينات ، فى طريق التأصيل واستلهام الشخصيات والظواهر القديمة ، فمازال يتأرجح بين القديم والجديد ، وما زال القالب الارسطى يزاحم القالب الماحمى ، وما زال جهده فى هذا الصدد لم يصل الى طريق الصياغة الأخيرة وحين نصل الى السيد حافظ ، تقابل بزخم عنيف من هذه المحاولات التجريبية والطليعية ، يمضى الكثير منها فى طريق التراث ، وهو ما يبدو فى نص مثل ( ظهور واختفاء أبو ذر الغفارى ) للاسارة الى تأكيد ضياع قيمة العدالة الاجتماعية وهيبة الكرامة الانسانية فى هذا العصر ، وفى نص ( حكاية الفلاح عبد المطيع ) ذلك الذى يعيش فى عصر سلطان عربىتصل به ديكتاتوريته الى حد بعيد ، حتى انه يتحكم فى لون الملابس التى يرتديها هذا الفلاح الاعزل ، الذى لا يملك غير حق الفض والموافقة ان كل من تلمس التراث ووظفه من عقد السبعينات راح يسقط هذا التراث على شاشة الحاضر ليرى من خلاله تلك القيم السياسية الضائعة فى عالمنا المعاصر والآن ... نستطيع العود الى سؤال البداية فنحاول الاجابة عنه : ما سر التحول الى التراث العربى ؟
الاجابة تستمد مكوناتها من طبيعة هذا العصر الذى نعيش فيه ودرجة تعرض الهوية العربية للعبث والخطر الخارجى ، فبقدر ما تشتد أسباب التحدى بقدر ما تستد دواعيه .. ويكون مسرح السبعينيات ان يلقى فى تيار الثمانينات فيما بعد فى محاولة لتغذية هذا التيار والاسراع بجريانه. وصفوة القول ، ان العود الى التراث وظواهره الدرامية بدأ فى الخمسينات والستينات ، وبدأ أكثر تبلورا فى نهاية السبعينات ، حتى اذا ما كانت الثمانينات ، ونشط جيل ينتمى الى جيل السبعينات - جيل الثمانينات - حتى كان تيار العود الى التراث قد استد ، ومن ثم ، عرفنا الابتعاد قليلا قليلا عن الدراما الغربية بمفهومها الارسطى ، واقتربنا من المفهوم الملحمى ، الذى هو ، بالتبعية ، اقتراب من الظواهر العربية التى تعيد لنا شخصيتنا التاريخية ونعتقد ان هذا ما يحدث الآن ..
0 التعليقات:
إرسال تعليق