دراسات من كتب د. نجاة صادق الجشعمي
(221 )
دراسات في أدب السيد حافظمجموعة "لك النيل والقمر" نموذجاً
بقلم
أ.د إبراهيم بوخالفة
دراسة من كتاب
جمع وإعداد
د. نـجـاة صـادق الجشـعمى
دراسات في أدب السيد حافظ
مجموعة "لك النيل والقمر" نموذجاً
بقلم
أ.د إبراهيم بوخالفة
الجزائر
مقدمة عامّة:
هذه مجموعة قصصية للسيد حافظ تحت عنوان "لك النيل والقمر"، النيل تحت الأرض والقمر فوقها، وبينهما البشر بكل تناقضاتهم وفضاءاتهم بكل مساوئهم وخيباتهم، يتقاتلون بكل أدوات الاحتراب، وبأشدّها قسوة في حروب أبديّة لا تعرف الهدنة.
الكل يستمد الحياة من ماء النيل ويستنير بنور القمر، غير أن آلهتهم شتّى وصلواتهم بلغات كثيرة؛ ماركسيون ومسلمون ومسيحيون وليبيراليون ووطنيون، عبيدٌ وأحرار، أخيارٌ وأشرار. والعرب بين كل ذلك في معادلة صفريّة، قد توقف زمنهم، فلا يكاد يكون لهم وجود خارج حدودهم ولا يكاد يسمع لهم همس أبعد من آذانهم. والمثقف العربي يعيش حيرة فكرية في أقصى تجلياتها يكابد مكر الأنظمة في الداخل، وتواطؤها مع قوى الشر العالمي، فهو بين مدّ يمزّقه وجزر ينكؤه.
إن من بين القضايا المثيرة للجدل النقدي ما بعد البنيوي، وخصوصا في مجال النقد الثقافي ودراسات ما بعد الاستعمار الوظيفة التي ينهض بها السرد القصصي والروائي في تفكيك أنساق الهيمنة واحتكار الحقيقة من خلال استثمار الفاعليّة التخييليّة بكلّ تمظهراتها الجمالية والموضوعاتية.
يتعيّن السرد القصصي والروائي على حدّ سواء بوصفه منتجا لمعرفة، يصدرها المبدع للمتلقي من أجل تمثيل الذين لا يمكنهم تمثيل أنفسهم، ولا يمثّلهم أحدٌ في دوائر السلطة بوصفهم الحلقة الأضعف في المجتمع. إنّ وضعهم الأقلّوي ومراتبهم الاجتماعية الدونيّة وضحالتهم الفكريّة اللافتة، إنّ كلّ ذلك جعلهم يفتقرون لجهاز لغوي يمكنهم من نقد الذّات والآخر ومقاومته وتفكيك مركزيّته. إن الثقافة الرسميّة تدين بالولاء للطبقة التي تملك السلطة والمال لأنها هي التي منحتها الوجود والفضاء الاجتماعي الذي يسمح لها بالانتعاش وتمرير خطاباتها. إنّ إحدى مهامّ هذه الثقافة الرسميّة هي تهميش المهمّشين وتغييب كل خطابات الرفض والممانعة. من هنا تتأتّى أهميّة المقاومة الثقافيّة لخطاب السلطة الرسميّة التي تسعى عبر المتخيل السردي للهيمنة على آخريها وإسكاتهم. ونعتقد أنّ السيّد حافظ أحد رموز هذه المقاومة الثقافيّة على المستوى المحلّي والإقليمي باعتباره مثقّفا عضويّا يمارس التّأثير على مجتمعه عبر إنتاج يعتمد التخييل. المبدعون أكثر فئات المثقّفين استقلاليّة عن واقعهم، فلا ينقادون إليه عاطفيّا، وهم أكثرهم حساسيّة وحدّة مزاج، كما أنّ إنتاجهم لا يدخلُ في " الوظيفيّة " المباشرة لاعتماده الخطاب الإبداعي المعقّد، ويمكن إدراج الأدباء والفلاسفة والفنانين ورجال المسرح والفنّ السابع ضمن هذا الصنف من المثقّفين الأشدّ خطرا على أنظمة الحكم([1]).
الأنفاس الثوريّة للسيّد حافظ تسري في هذه المجموعة سريان الدم في العروق، كل قصة منها تكشفُ عن جرح عميق في الجسد العربي بفعل الاستبداد والتهميش. إنها عالم من المغمورين تبحثُ دوما عن مخرج لمحنتها "في مجتمع لا صداقة فيه" لقد حوّلتْ الأنظمة العربيّة أفواجا من البشر إلى آخرين وجعلتهم تحت نعالها. فالسجون والمعتقلات غدت أماكن للقتل الرمزي والفعلي، وتوقيف لمسار التاريخ، وتعطيل لحركة الزمن. إنها غيلان تلتهم ضحاياها من معذّبي الأرض المغيبين والمنسيين، هؤلاء الذين لا يستطيعون تمثيل أنفسهم، ويتعين تمثيلهم من طرف آلهة العصر.
السيد حافظ عقلٌ مفكر، ووعي مهيمن، وضمير أمّة معذّبة، ينضح ألما وأملا، على مراياه تنعكسُ روح مصر، القلب النابض للأمة العربية، الأسيرة والكسيرة. هل نحن بحاجة إلى مطرقة من حديد لتفجير لغة السيد المعبّأة فكرا وتفكّرا؟ هل نحن بحاجة إلى ماكنة نقديّة للتنقيب عن النصّ الغائب في النصوص الحاضرة والتي يقبع تحت أدبيتها معنى المعنى وجوهر الجوهر من القول والفعل؟ "لقد شغلتْ أدبية الأدب حيّزا عريضا في البحث النقدي على مدى قرون وما تزال تفعلُ. غير أنّ جهودا خارقة جاءتْ لتكشف أشياء أخرى من وراء ومن تحت أدبيّة الأدب"([2]). وسأعمل جاهدا على إخراج الأنساق الثقافيّة المضمرة من تحت الطبقات المعتمة للغة الأدبيّة التي تُكَوِّن النسيج القصصي لهذه المجموعة التي تختزل وعيا عربيّا شقيّا إلى حدّ الفناء. قد نكون بحاجة أيضا إلى جهاز نقدي فوكوي قادر على تعقب الحفريّات باتجاه الغور الباطن للغة التي تنضح دلالة لا يخطئها الإدراك المتبصّر. إننا بحاجة إلى كل ذلك لتفجير نصوص السيد حافظ المثقلة بهموم الإنسان المعذّب بفعل تبعات وجوده الإشكالي وانتمائه الأقلوي المرهق. إنّ التاريخ الذي تعيشه شخصيّاته ضمن هذه المجموعة التي بين أيدينا، يُعرضُ علينا بوصفه انحدارا مستمرّا للقيم، حيث هذه الشخصيّات "وكأنّها محبوسة ضمن قفص، وعليها أن تجد السّلوك الملائم لهذا الاختفاء التّدريجي للقيم المشتركة"
وأراني كائنا هلاميّا قد تخلّص من الشرط التاريخي ومن قيد الزمان والمكان، فمرّة أكون في منتصف القرن الماضي لأتذوق طعم الهزيمة وأستنشق عبق الخيانة، ومرة أخرى أتواجد في عصر ما بعد الهزيمة، فإذا هي هزيمة أنكر من الأولى في رحم الاستبداد الماكر والتهميش الطبقي المتوحّش وسلطة المال الأعمى، فللمال سلطان وللحكم شهوة وللقمع فنون. وتارة أخرى أتواجد بدول الخليج التي تتربع على ثروة عربية غير مستحقّة، تعبثُ من خلالها بالأفواه الجائعة، وبالأرواح المتمرّدة وتقايض الضمائر والذمم بالدولار من أجل تسويق السياسات وتسويغ المواقف. سأحاول إذا وضع اليد على التيمات الأكثر تجليا في هذه المجموعة القصصية البديعة لأترك المجال لرفاقي في هذه الرحلة النقدية الشاقّة والشيّقة.
خطاب الرفض:
هل قُدِّر للمثقف العربي الحرّ الذي لا يدين بمواقفه لأي انتماء طبقي ولا يتحيز إلاّ لخياراته العقلانيّة والأخلاقيّة، أن يكون في الجهة المناوئة للسلطة الحاكمة؟ وهل يتعيّن عليه حينئذ أن يعمل على تشكيل خطابه الذي يحمّله رفضه وإدانته لخيارات السلطة وخطاباتها؟ وأن يعمل على تقويض استراتجيات الهيمنة ومنعها من أن تأخذ شكلها النهائي من أجل تطويق فئات عريضة من مواطنيها وتحويلهم إلى أفواج من التابعين المسالمين؟ لقد بدا وكأنه قدرٌ محتوم على المثقف العربي حيثما وجد أن ينخرط في المقاومة الثقافية لمقارعة قوى الشر في عصره وفي غير عصره، وبكل أساليب التخييل وضروب السرد الممكنة. ولا أعتقد أنه توجد أداة نقديّة بإمكانها تعرية حيل السلطة، وخطاباتها المشحونة بالرمز مثل اللغة الأدبيّة، تلك التي تخرق قواعد الخطاب اليومي لأهداف تداوليّة ظرفيّة، وتحيل إلى حقول دلالية غاية في الخصوبة المعرفيّة والمتعة الجماليّة. إنّها الردّ بالكتابة على خطاب الهيمنة الذي يحيل قطاعات واسعة من المجتمع إلى عبيد.
وإذا كان الأدب القصصي والروائي هو شكل من أشكال تأمل العالم والتفكّر فيه، فإنّ من مهامّه أيضا العمل على تغييره، وعدم الاكتفاء بالوصف والتعيين. إنه مفوّضٌ لمقاومة الإيديولوجيات المهيمنة وإظهار زيفها. كثيرة هي النصوص القصصيّة في مجموعة "لك النيل والقمر" التي تشكّل حلقة من حلقات المقاومة الثقافيّة المضمرة وراء بنية جماليّة شديدة التماسك وعالية الجودة. في قصة "وجوه في الليالي الضائعة" يخرج عمر شهاب من السجن بعد أن قضى عقوبة من عشر سنوات هي فترة شبابه الغض بسبب مواقفه السياسية من النظام الذي انحاز لإسرائيل في معاهدة سلام هي أشبه بالاستسلام. لقد كان التطبيع مع إسرائيل بعد حرب خاسرة معها جريمة ترقى إلى مستوى الخيانة الكبرى في المخيال الشعبي العربي والمصري على الخصوص.
تواعد "عمر شهاب" مع صديق له، كان شريكه في النضال، على أن يلتقيا في إحدى مقاهي القاهرة الشعبيّة. وقد تمكن من خلال ما التقطته أذناه وعيناه في الطريق إلى المقهى من تحسس مظاهر الردّة السياسيّة والثقافيّة في الأوساط الشعبيّة التي عُرفتْ بولائها لقيم الثورة والتحرر ومقاومة استبداد الأنظمة في حقبة توصف بقابليّة شديدة للتنوير القادم من الغرب.
"تقهقر الزمن عشر سنوات قذفت بين خواطره أنا شهيد جوع الفقراء، والأرض والأكواخ، والإنسان، وقحط الأيام الكسيحة، منذ أن كانا في.. "([3]).
السجن رمز للحبس والقيد وتوقيف لسيرورة الزمن. إنه قتل رمزي للذّات واستلابٌ لإنسانيّتها وقهرٌ لكرامتها. ومن هنا فإن عمر شهاب اعتبر نفسه شهيدا طيلة فترة الحبس من أجل قضايا الفقراء وسكان الأكواخ. إنه شهيد إنسانيّة الإنسان، فمن أجلها قاوم وسُجن. إنه اختزال للمعذّبين في السجون العربيّة التي أُنشِئت من أجل احتواء وقهر كل أصوات الاحتجاج والرفض. "إنّ من عاش هذه التجربة وكتب عنها يمتلك امتيازا يندرُ أن يتحقق لكاتب آخر يتناولها من الخارج. فالسجن يعلّمنا كيف نقف بعيدا لننظر إلى الواقع نظرة أخرى نلاحظ التعارضات بين الأفكار والمفاهيم والأنساق والقيم ونفضح البلاغات المكرورة والإجماع المزعوم"([4]). يربط الكاتب الألماني "هرمان هيسه" بين الظلمة والحكمة. إن الذي يعيشُ ظلمة الأماكن يتعاظم لديه الوعي بالتنوير وقيم العدالة، "فلا يُعدّ حكيما من لا يعرف الظّلام"([5])
إن حقلا معجميّا نوعيّا يكشفُ عن طبيعة العلاقة التي تصل بين عمر شهاب، المثقف المضطهد بواقعه الإشكالي: قذفتْ؛ جوع الفقراء؛ الأرض؛ الأكواخ؛ قحط الأيام الكسيحة؛ إنه حقلٌ يصبّ في محيط دلالي متجانس. فالجوع سليل الفقر والحرمان والعوز، والقحط هو إيقاع يوميّ يعيشه المعذّبون في الأرض، فهو الخواء والفراغ والوحشة والفقد. والكوخ هو قبر الفقراء والمهمشين الذين أُقيمت لهم غيتوهات خارج المدن حتى لا يزعجوا سكينة الأسياد ولا يشوّهوا حدائقهم وبساتينهم. أما الأرض فهي النصّ الغائب. إنها العمق المسكوت عنه والمستلب بفعل الهزيمة على أصعدة عدّة.
عشر سنوات قضاها عمر شهاب في السجن بسبب موقفه الرافض لسياسة التطبيع مع العدو الأبدي، تلك الحكومة التي انحازت لإرادة الغرب الامبريالي على حساب خيارات الذّات والتاريخ القومي.
قد يكون فعل "القذف" الذي وظفه السيد حافظ هو فعل بليغ الدلالة على الصدمة النفسية التي أحدثتها فترة الإقامة في السجن والتي عزلت السجين عن حاضنه الاجتماعي، حيثُ كلّ شيء متوقّفٌ على مستوى الوعي الفردي. ومن هنا، فإنّ انفصاما متوقعا بين الذّات والموضوع، بين الداخل والخارج، بين الوعي الفعلي والوعي الممكن، بين الزمن الموضوعي والزمن النفسي. تلك المسافة بين المنطقتين هي نفسها التي تفصل بين ثقافة رسميّة مستلبة ووعي سياسي تابع، من جهة، وبين ثقافة شعبيّة تضربُ بجذورها في القاع الأسفل من الذاكرة الجماعيّة للمصريين والعرب عموما، ووعي ثوري يرفض العناصر الدخيلة التي لا تنسجم مع مكوناته من جهة أخرى. وهي نفس المسافة التي تفصل بين وضع عربي متدنّ ودوني وأقلّوي ووضع دولي متسيّد ينكر آخريّة الآخرين باعتبارهم طبيعة بشريّة منقوصة ومعيبة. إنها المسافة التي تفصلُ بين طبقة مستنيرة تكابد شظف العيش من أجل إبلاغ صوتها وتغيير واقع متكلس ونفسيّة منهزمة، ووعي متبلّد، وطبقة مهيمنة تدفع باتّجاه التبعيّة والولاء للآخر.
في طريقه إلى المقهى حيثُ تواعد مع رفيقه، وقعتْ عينا عمر شهاب على عناوين في بعض الصحف المحليّة تكشفُ عن تحول درامي في الواقع السياسي بمصر بعد عمليّة التطبيع: "منع مجلة العربي من الدخول إلى مصر لنشرها خبر مقابلة بين إسماعيل فهدي وموشي دايان"([6]). يكشف هذا العنوان عن سياسة قمع الحريات العامّة والحريات الصحافيّة، وهي طبيعة كل الأنظمة البوليسيّة والمستبدّة تحت مسميات متعددّة، ليس أقلّها حفظ الأمن العام.
وأُثناء لحظات العناق بين الصديقين، بعد عشر سنوات من الغياب القهري، تُحْشَرُ جملة داخل حوار الصديقين وتخترق وعيهما، وكأنها خضّ للذاكرة بأنّ ما افترقا من أجله يجب أن يلتقيا عليه. وقد أجاب توفيق بأنّ الأمر لم يعد كما كان. لقد تغيرت قيم كثيرة لم يعد يتحملها السياق الثقافي الراهن. لقد استبدل توفيق قيمة الوطنيّة بقضايا عاطفيّة هي أقصى ما يتحمّله وعيه. لقد تعلق بامرأة متزوجة وهي الأخرى متعلقة به. وهي حادثة تكشف عن طبيعة الهموم التي تشغل العربي في ظل حالة الانغلاق السياسي والانحسار الثقافي. فالشبقية والميول الجنسية المفرطة تكشف في غالب الأحيان عن حالة من القهر الاجتماعي والانكفاء على الذّات.
يرفض عمر شهاب الانسياق وراء هذه الرغبات المكبوتة باعتبارها سليلة مجتمعات ذكوريّة مغرقة في النرجسيّة وحب الذات وهي لا تنسجم مع الوعي الثوري الذي يحمله ويكابد من أجله السجن. ويعبر عن هذا الرفض بقوله: "اذهب إلى الجحيم"([7]). كما يرفض توفيق بدوره إصرار عمر على مبادئه الثوريّة ويسخر من أمله في انتصار قضيّته العادلة. وهو يعبر عن رفضه لخطاب الأمس بسبب تحولات عميقة في الواقع الاجتماعي والمجتمعي، هذه التحولات التي أفرزت قيما جديدة لا علاقة لها بقضايا الأمس تدعو عمر إلى تخليص الذّات من أسرها الإيديولوجي وتحرير الوعي من قيوده الأخلاقيّة.
"لا تعطني نصائح، ولا تخطب فيّ. كفاني ما أنا فيه، لستُ ثوريّا، كل صامت عظيمٌ، وكل جبان شريف، وكل كاذب هائل. سأدعك لما أنت فيه، وستموت جائعا". يكشف هذا الخطاب الراديكالي عن تغير عميق في الثقافة الشعبيّة بمصر بعد عشر سنوات من التطبيع، قضاها عمر مغيَّبا في السجن. هو تغير على مستوى القيم السياسية والاجتماعية والثقافية والأخلاقيّة بفعل سياسة المراقبة وفعل المعاقبة اللذين يفرضهما النظام على معارضيه. لقد أصبح الجبن شرفا بعد أن كان نقيصة وتحوّل الكذب إلى فضيلة بعد أن كان رذيلة. وأضحى الساكتُ عن الحق عظيما وحكيما. وأصبح المتمسك بقيمه الثوريّة مهدّدا بالموت جوعا وحبسا. لم تعد قيم الستينات والسبعينات التي تستلهم الإيديولوجيات الثوريّة في عالم مناوئ للامبرياليّة العالميّة عملة مقبولة لدى مثقفي الثمانينات. أصبحتْ ضرورات العيش، وشروط المرحلة تلقي بظلالها على حياة المواطن المصري البسيط. أما المثقفون أصحاب الوعي الثوري المحافظون فهم موزعون بين السجون والمنفى الاختياري والقهري. وقد تراجع الكثير منهم وانضمّ إلى خيارات السلطة تحت وطأة الحاجة الماديّة. إنّ من ضرورات الهيمنة لدى الأنظمة الاستبداديّة أن تجمع بين الإكراه والقبول. وقد حاجج غرامشي في "دفاتر السجن"، "أنّ الطّبقات الحاكمة تحقّق السّيطرة ليس بالقوّة والإكراه فقط، بل عن طريق خلق رعايا يستسلمون بإرادتهم لكونهم محكومين"([8])
تختتم هذه القصة المثقلة بهموم وطن باستعراض درامي لموقفين شديدي التناقض. يُعتقل عمر شهاب الذي تخلى عنه رفاق الأمس، وتخلت عنه زوجته، بسبب الخيانة العظمى والتحريض على رفض سياسة الانفتاح والتصالح مع العدو، ويُعتقل توفيق زياد بسبب الخيانة الزوجيّة. يؤجّل التحقيق في الجريمة الاجتماعية، فذلك ليس من اهتمامات السلطة ويُعَجَّلُ في التحقيق مع عمر ويُدان بشكل يبعثُ الوهن في نفوس المعارضين. وفي لحظة من صفاء الضمير تشعر زوجة عمر بالإحباط بسبب تخليها عن نصرة زوجها والوقوف إلى جانبه. "إنه نظيفٌ، وأنا القذرة، لقد تركته في معركته بمفرده بينما هو لم يتركنا لوحدنا حتى بعد أن عذّبوه كل هذا العذاب"([9]). يكشف خطاب الزوجة عن العزلة القاتلة التي يعيشها المثقف المقاوم للاستبداد والتفرد في الحكم. إنها عزلة على مستويات متعدّدة؛ عزلة سياسية وفكرية وأخلاقيّة واجتماعيّة. فهو يفقد نقطة ارتكازه في بيته وفي محيطه الاجتماعي ليجد نفسه معتقلا يجترّ مرارة الهزيمة وخيبة المسعى. إنه عصر الردّة العربية وحالة المثقفين العرب في مقاومتهم للشرّ بكل تجلياته.
لن نغادر تيمة "الردّة" التي تُلقي بظلالها على السرد القصصي في هذه المجموعة، والتي يمكن أن نتبين من خلالها رؤية العالم للسيد حافظ باعتباره مثقفا متمرّدا على حالة التردي المكارثي الذي آلت إليه حالة المجتمعات العربية بفعل الهزائم العسكرية والنفسية المتعاقبة طيلة عقود من الزمن. نخطو باتّجاه قصّة "ألم يحن الوقت الذي تبدأون فيه". وهي قصة قصيرة في شكل رسائل متبادلة بين شخصين اثنين، بين سامي وليلى. وأسلوب الرسائل هو جنس أدبي اشتهر في الغرب الحديث، ويتخلل أحيانا العمل الروائي، حيث يراوح الكاتب المبدع بين السرد والرسالة فيما سُمّي بالتهجين الأجناسي، حيث تتداخل أنماط القص والحكي ضمن العمل الواحد، الأمر الذي يُثقل العمل من حيث الدلالة والجماليّة. وهذا هو الحال بالنسبة لهذه القصة التي تنضحُ بهموم المثقفين.
اشتهر أسلوب الرسائل في عصر النهضة والأنوار، ويكشفُ عن تعاظم النزعة الفرديّة والوعي بالذّات، باعتبار الرسالة مضخّة للمشاعر الملتهبة والعواطف المشبوبة، لقد اكتشف "ريتشاردن في منتصف القرن الثامن عشر شكل الرواية القائم على الرسالة حيثُ تعترف الشخصيّات بأفكارها وبمشاعرها"([10]). ويمكن من خلال التحليل المتبصّر استخراج مشروع رؤية للعالم من خلال الرسائل المتبادلة من المرسل والمتلقي. تتشكّل هذه القصّة من رسالة أرسلها سامي إلى ليلى، ويعقبها ردّ من هذه الأخيرة إلى صاحبها. وبعد الرسالتين نجد مقاطع سرديّة وأخرى وصفيّة تستعرض استيهامات الشخصيّة الرئيسيّة وبعض مواقفها من الوجود.
تستعرض القصّة تيمة الانتماء الطبقي للأفراد وانعكاس ذلك على وجودهم الاجتماعي وعلاقاتهم التي يحكمها هذا التصنيف الطبقي المستحكم في المجتمع المصري وغير المصري، باعتبار الإنسان كائنا إيديولوجيّا بالدرجة الأولى. وهو ذات مفكرة وواعية انطلاقا من وضعها الطبقي. فالشرط المادّي يطغى أحيانا كثيرة على أشكال الوعي الاجتماعي والثقافي.
سامي رجل ثوري، يقف من قضايا مجتمعه موقفا نقديا راديكاليّا، وهو يذكرنا بأحلام الطبقة المثقفة والمشحونة بإيديولوجيا ماركسيّة نشطة في فترة الثمانينات، وهي الفترة التي نشط فيها اليسار العربي المعارض معبّئا بالإديولوجيا الأكثر وعدا بالخلاص من كل أشكال الاستبداد المحلّي والعالمي. يبدو المثقف الماركسي إنسانا كونيّا يترصّد اللحظات التاريخيّة الأكثر رومنسيّة والمواقف الثوريّة الأكثر حماسة، والشخصيات الأكثر إنسانيّة ليؤلّف من كل ذلك سمفونيّة كونيّة تتعالق مع كل الأديان والأعراف وتتحاور بكل لغات البشر، دون تصنيفات عرقيّة أو طبقيّة. كان سامي وهو يحطّ رسالته لليلى يستحضر خطى عمر بن الخطّاب، ويبحث في عيون الناس عن إدانة لهيروشيما. (.....) "اليوم قرأت أشعار محمود درويش وسميح القاسم، وجلست طويلا أتفحّص هذه الأشعار، وأغتسل من أفكاري التي لوثتها الكتب الدنيئة التي تحمل الزيف والرياء"([11]). الماركسيون يدينون بالولاء لكل الشخصيات الأسطوريّة التي تركت بصماتها على التاريخ الإنساني العام مثل عمر بن الخطاب وأبي ذر الغفاري وعلي وتشي جيفارا وماوتسي تونغ وكارل ماركس، فكل هؤلاء رموز عالميّة للثورة ضد الاستبداد بكل أشكاله. والشعراء الذين يمثلون وقودا للثورة ضد الشر من أمثال إبراهيم طوقان ودرويش وسميح القاسم هم النشيد الذي يسكن إليه في خلوته ويتطهر به من الثقافة المبتذلة التي تكرّسها الثقافة الرسميّة.
خطاب التعاسة:
تنغمس قصّة "نرجس الصباح" في عمق الشقاء الذي تعيشه الفئات المهمّشة في المجتمع المصري الحديث. تلك الفئات التي تدفعها الخصاصة إلى الهجرة باتّجاه دول الخليج سعيا وراء العيش الكريم. لقد تبيّن أنّ الشاب المصري المنبثق عن الفئات الشعبيّة الدنيا غير قادر على تكوين أسرة تحظى بعيش كريم، فيلجأ إلى إحدى دول الخليج، ويتطلب ذلك إجهاد نفسه لسنين عديدة حتى يتمكن من جمع حاجته من المال والعودة به إلى بلده. ولقد تكرر سرد هذه المعاناة في أكثر من قصّة قصيرة في هذه المجموعة. ويعني ذلك من ضمن ما يعنيه أنّ الهجرة القسريّة أضحتْ ظاهرة اجتماعية مستفحلة بفعل البطالة التي تنخر الجسد العربي بعنف بالغ القسوة.
واللافت في هذا السّلوك الهجروي أنه يكشف عن عمق الأزمة الاجتماعيّة المعقّدة في المجتمع المصري. فهي أزمة متعددة الأوجه والتجليات وآثارها النفسيّة قاتلة للضمائر. فهي وإن كانت ذات مظهر اقتصادي إلا أنها أخلاقيّة في جوهرها. وتترتب عنها ظواهر نفسية بالغة التعقيد.
تفتتح قصّة "نرجس الصباح"، ذات النفس الملحمي بخطاب الحالة النفسيّة المتعبة من واقع يقتلع الإنسان من موئله ويلقي به في مكان الغربة والشقاء الإنساني حيثُ يوظّفُ العرب وكأنهم في سوق النخاسة.
"سئمتُ الرحيل من مدن العفن إلى مدن الزّيف"([12]). هجرة محمود هي هجرة من مدن المتاعب والخيبات إلى مدن الزيف والنفاق والتلفيق. فأحلام المهاجرين تغدو عند اصطدامها بالواقع المحبط إلى أوهام لا تتجسّد إلا على صعيد المخيال. إنها أحلام يتغذى منها البؤساء الذين لا ملجأ لهم إلا مدن الزيف. فالزمن الذي يقضيه الشاب هناك هو زمن تتوقف فيه الأحداثُ وتؤول إلى السكون العدمي. يُفْرَغُ الزمن من فعل الحركة والتطور لِيُصار إلى العدم والخواء الروحي والفراغ الدلالي.
يعود محمود إلى بلده وقد جمع ما يعتقدُ أنّه يكفيه لإقامة أسرة كريمة بعد عشر سنوات من المعاناة، وهو يعتقد أن رحلته لم تتجاوز الخمس سنوات، ويلتقي بفتاة ويحادثها باعتبارها محظيته التي تواعد معها على الزواج. وإذا بوالديه يفاجئانه بأنّ نرجس تزوجتْ غيره وتوفيت منذ خمس سنوات هي ومولودها، وأنه مكث عشر سنوات في الكويت وليس خمس سنوات كما كان يتوهّم، نتيجة فقدانه الإحساس بالزمن. يُصاب محمود على إثر ذلك بصدمة عنيفة في وعيه تلجئه إلى الإلقاء بجسده تحت عجلات عربة في الطريق لتدهسه ويغادر عالمه المأساوي.
إنّ الانغماس المحموم في العمل المضني خارج الديار، والتعلق المرضي بمكان الألفة، والغياب الكلي عن الواقع المادّي غير المرغوب فيه، إنّ كلّ ذلك جعل محمود يعاني من حالة تثبيت (Fixation)، وهي حالة نفسيّة شديدة التعقيد، تشدّ الشخص العصابي غير القادر على تحمل الحالات الطارئة والصادمة، إلى الحالة الابتدائيّة قبل بزوغ التطور الدرامي لوضعه الاجتماعي. إنها حالة تجعل وعي الذّات مشدودا إلى الماضي المشرق، وتغيّبُ وعيه عن الحاضر المتأزّم، فلا يعي حركيّة الأحداث وتحوّلات الجسد داخل الفضاء الغريب وخارجه. ونظرا لهذه الحالة الدراميّة يعود محمود إلى وطنه وهمّته متعلّقة ببؤرة مركزيّة تعود به إلى الوراء بمسافة عشر سنوات اختزلها وعيه المشطور إلى النصف بسبب فقدانه للإحساس بالزّمن. ويعجز وعيه المشدود إلى الماضي بشكل مرضي لا شفاء منه.
إنّ غياب محمود عن مصر لزمن معين هو رفض لبلد لا مكان ولا مكانة فيه للمهمّشين. إنّه رفض لدرامية الوجود العربي المتعفن بفعل الوصاية الغربيّة عليه وبفعل الولاء المطلق للعدو الأبدي. يستحضر محمود تعبا نفسيا بالغ الثقل كلما ذكر بلد الهجرة الّذي دُفِع إليه دفعا. ومع ذلك فهو يجيب والديه بأنّه عائد إليه رغم قساوته. إنها منطقة وسطى بين الحياة والموت، يرادُ من خلالها بعث الحياة في البلد الأمّ.
هذه القصة القصيرة والمعبّأة إيديولوجيّا، هي تمثيل بليغٌ لموضوعة الهجرة القسريّة التي يمارسها المواطن العربي بحثا عن كرامة مفقودة. إنّ الدفء الذي يفتقده الإنسان في بيته الذي صنعه بيديه، لن يجده في بيت جاره، وإن وجد ريحه. ويتعيّن حينئذ إعادة ترميم البيت الداخلي وسدّ الثقوب والشقوق والتصدّعات التي يتسرّبُ منها الحرّ والقرّ. هذا الوطن العربي الموبوء لا بدّ أن يأخذ درسا في التخريب، وإن خرابا بالحق بناءٌ بالحق. إن الواقع الذي يعيشه المهاجر في البلدان العربيّة هو الردّ البليغ عن الخطابات العربيّة الرسميّة التي بدل أن تملأ العقول والأسماع حقائق راحتْ راحت تملأ الصحراء عويلا ونحيبا.
تنضحُ قصّة "الحِلم سيّد الأخلاق" بأوجاع المهمشين في المجتمع المصري، وبآلامهم وعذاباتهم التي يكابدونها وسط نظرات الآخرين السّاخرة واللاّمبالية والمستهترة بكرامة الآدميين التي آلت إلى كلمة مفرغة من المعنى. الشخصيّة المحوريّة التي تحملُ هموم الطبقات الدنيا في مجتمع القاهرة هي شخصيّة صابر المستنسخ من شخصيّة المسيح المصلوب فداء لقومه. اُفتُتِحَتْ القصّة ببعض الكلمات المفاتيح من مثل عبارة: الحلم" مكرّرة. وبعد سرد سلسلة المتاعب التي يعانيها الناس يوميّا في أحد أحياء القاهرة يفصحُ الكاتب عن اسم الشخصية "صابر". إنه اسم يلقي بظلاله الدلاليّة على الكلمة التي اُفْتُتِحَتْ بها القصة "حِلم" وهي تلك الواردة في العنوان وهي معطوفة على عبارة "الأخلاق". كتلة من الألفاظ التي تصبّ في حقل فلسفي واحد، وهو القيم التي يسائلها السيد حافظ ويختبر صدقيّتها في رحم المجتمع الذي تخلّقتْ فيه.
صابر هو مواطن من فئات الشعب البسيطة. انقطع الكهرباء عن حيّه بسبب خطأ ارتكبه مقاولٌ أثناء الحفر لتركيب خطوط الهاتف. وقد طال هذا الانقطاع، ولم تتحرك السلطات الوصيّة لتصحيح الوضع، فذلك يبدو وكأنه خارج دائرة اهتماماتهم. إنهم مشغولون بالمصالح العليا "للوطن". وهم مركز الوطن وروحه وجوهره، إن غياب الكهرباء هو غيابٌ للنّور وتغييب للعدالة الاجتماعية. فالحداثة لا تستوطن الأحياء الفقيرة ولا تطمئنّ لبيوت البؤساء. إن لها وطنا لا يطاله عامّة النّاس. وإذا كان الكهرباء قد انقطع عن أحد أحياء القاهرة ولم يحرك أحدٌ ساكنا لإصلاحه، فلأنه لا أهميّة للنور بالنسبة للفئات الهامشيّة في المجتمعات العربيّة. إنّ النصّ الغائب خلف هذه السرديّة هي أنّ جهة أخرى خلف هذا الفضاء المديني تتمتّع بالإنارة وبكل مرافق الرفاهية الاجتماعية الواردة من المركز. ف"الرؤية المانويّة تنظر إلى الخير والشرّ موزّعين أحدهما على هذه الجهة والآخر على الجهة الأخرى من خطّ الحدود"([13]). فالذين هم في الجهة المظلمة لا يعني بؤسهم وشقاؤهم شيئا بالنسبة للذين هم في الجهة المشرقة. ولا يحقّ لهم أن يزعجوا سكينتهم أو يشغلوهم بأيّ شكوى من شكاويهم التي لا تنتهي ومعاناتهم الأبديّة بسبب شظف العيش. وباعتبار وأنّ صابر هو الضمير النابض لطبقته الاجتماعية وعقلها المفكر وصوتها المعبّر، انبرى لمراسلة الصحف الموالية والمعارضة لعرض مشكلته على الرّأي العام. لقد راسل كل المسئولين الذين لهم علاقة بالخدمة التي يتوسّلها؛ فقد راسل الصحف القومية والإذاعة ومسئول وزارة الكهرباء ولا أحد من هؤلاء حرّك ساكنا. قرر أخيرا أن يحرّر تقريرا يسلّمه مباشرة إلى المحافظ عندما يأتي صباحا لمقرّ عمله. لقد كان يكافح بكل ما أوتي من قوّة من أجل هموم الحي الذي ينتمي إليه والجماعة التي يتنفس أحلامها وآمالها وآلامها.
"في الصباح وقف صابر أفندي أمام مبنى المحافظة وعندما لاحت عربة "سعادة المحافظ من بعيد تقدّم نحوها وهو يمسك الخطاب ويلوّح بيديه، وبينما هو يعبر الشارع انزلقت قدمه على قشرة موز"([14]). سقط صابر أرضا وراح ينزفُ دما ويفارق الحياة، بينما مجموعة من اللصوص تقدّمتْ نحوه وسلبته كلّ أشيائه الخاصّة. ويُنقَل إثر ذلك إلى المشرحة للمعاينة وهو مجهول دون هويّة. لقد عاش مهمشا ومات مهمشا ومجهولا. تحوّل إلى جثة هامدة دون اسم أو تاريخ أو هوية أو عنوان يدلّ على منبته. لقد تخلّى عن فرديّته لصالح ذات جماعيّة متخيّلة، وقد أُريدَ له أن يكون روح قومه، ورمزا لبؤسها. فهو أشبه بشخصيّة أكاكي أكاكيفيتش في قصّة "المعطف" لجوجول. فكلاهما عاش الحرمان المادي والعاطفي. وكلاهما كان عرضة لسخرية رفاقه في العمل، وكلاهما كان ناشطا ومبدعا في عمله. إنها البطولة الساخرة في مجتمع منحطّ لا يقرّ بالعظمة والوجاهة إلا لأصحاب السلطة النافذة والمال.
قال بعضهم: "صابر أفندي رجلٌ حاقد"، وقال آخرون: "رجلٌ عاقر"، وأضافوا في سياق آخر "صابر أفندي شيوعيّ"، إشارة إلى ثقافته الصحفيّة التي جعلته ينافح عن المعذبين في وطنه. وقد قيل في السياق نفسه "صابر ـأفندي مجنون ثقافة"([15]). فهو ما إن يسأله أحدهم عن مسألة حتى ينبري بردّ مستفيض متجاهلا سخرياتهم وتحاملهم عليه. يسرد آراء صحيفة كذا ومحطة كذا وكذا، وعندما يسأله أحدهم: "وما رأيك أنت في كل هذا؟"، فيكتفي بحك رأسه متجاهلا السؤال الذي يهدف إلى مزيد من السخرية. وإذا كان غوغول قد "جرّد من النسّاخ الصّغير، مستخدما أسلوب "البطولة السّاخرة" شخصيّة أخرى تمثّل المسيح المصلوب"([16])، فإنّ السيد حافظ قد فعل الشيء نفسه مع شخصيّة صابر الذي كان يقاتل بكلّ ما أوتي من حماس من أجل قضايا الجماعة التي ينتمي إليها وسط ضجيج المستهزئين وصمم المسئولين، بفعل الجدار الاسمنتي الذي أقيم بين الحكام والمحكومين، هؤلاء الذين لا صوت يمثلهم ولا قناة تبلغ أوجاعهم إلى من بيده الوعد بالخلاص. ولقد رأينا أنّه أُحيل بين صابر وكل الأبواب التي طرقها، كما أحيل بين أكاكي ومحافظ الشرطة الذي لجأ إليه يشكوه سرقة معطفه. فالإنسان كائنٌ اجتماعي، "وحاجته أن يكون مقدَّرا من قبل أقرانه هي أحد العناصر الأساسيّة للطبيعة الإنسانيّة. إنها فكرة الاعتراف بالآخر التي نجدها لاحقا في أعمال هيجل والتي تؤسس للفكر الجدلي بمعارضته مع الأشكال المختلفة للفرديّة"([17]). لقد اُنْتُزعتْ من صابر إنسانيّته كما اُنتُزِعتْ من بطل قصة "المعطف"، وسقطت الشخصيّتان في عالم منحطّ تحكمه الرذيلة والتشيّء والزيف. إنه عالم تحتي، هيمنت عليه قيم المال واستبدل آلهته.
تُنجزُ قصّة "الحِلم سيّد الأخلاق" اشتغالا عميقا على الشخصيّة القصصيّة ولا يتعلق الأمر بالشّخصيّة النمطيّة التي نجدها في القصّة الواقعيّة على غرار قصص سهيل إدريس أو توفيق الحكيم أو محمود تيمور. إنها شخصيّة مختلفة نجح الكاتب في الارتقاء بها إلى أفق محاورة العالم من خلال حدوس تعدّ ثمرة الخبرة والمعايشة اليوميّة في عمق الطبقات التحتيّة للمجتمع المصري الذي يعاني القطيعة مع الذّات والآخر على حدّ سواء، وعلى غرار كل المجتمعات العربيّة المنخرطة في الشرط الامبريالي العالمي. "تعتبرُ الشخصيّات مدخلا لفهم أيّ نصّ من النصوص. فهي إلى جانب كونها تقومُ بأفعال وسلوكات معيّنة تساهم في تفعيل السرد، فإنّها تمثّل تصوّرات ووجهات نظر للأشياء والعلاقات والحياة. كما أنّها تعبّر عن هذه الرؤى بواسطة اللغة"([18]). إنّ كل الأفعال الصادرة عن صابر، إنما صدرت عنه انطلاقا من انتمائه الجمعي، وليس انطلاقا من فرديّته، وهي بالتالي اختزال لتصورات ورؤيات للعالم وللذّات الجماعيّة؛ إنها توق إلى عالم دون تقسيمات ولا تصنيفات طبقية أو عنصريّة. وهي بالتالي تجسيدات للوعي الممكن في أقصى توهّجه. ذلك الوعي الذي يستشرف عالما مسكونا بالفضيلة والقيم الإنسانيّة التي هجرت عالمنا وتركته موحشا وغريبا ومستلبا.
إنّ الذي يهيمن على المجتمع بعامّة، -أيّما مجتمع-، هو التعارض بين الأفراد، كفاح بعضهم ضدّ بعضهم الآخر من أجل المصالح الطبقيّة، والمراتب الاجتماعيّة، ذلك الصراع الذي يتجلّى عند باسكال وكانط في الشكل المجرد لصراع الإنسان ضدّ الإنسان، ليصبح عند هيجل الصراع بين السيد والعبد، ويأخذ أخيرا عند ماركس الشكل المادي للصراع بين الطبقات؛ وإنّ عدم تكافؤ القوى بين الطبقة التي تملك حقّ الحياة والموت والطبقة الدنيا يجعل العلاقة بين الطرفين في قطيعة اجتماعية وثقافيّة يتعذّر اختراقها دون مقاومة متعدّدة الأشكال([19]).
عنوان القصّة التي ننتقل إليها الآن ذو دلالة عميقة. "أحزان مواطن بلا عنوان". عندما يفتقدُ الإنسان نقطة ارتكازه، ويفتقد الموئل الذي يستند إليه، ومكان الألفة الذي هو جزء من لاوعيه الفردي والجماعي، يفقد هويّته ويتحوّل إلى وجود بلا ذاكرة، وهي حالة تضعه على تخوم الجنون وفقدان المعنى وغياب الدلالة. إنها قصة قصيرة جدّا، ومثقلة جدّا بتناقضات المجتمع الذي أنتجها. لقد وردتْ في شكل حوار موزع بين شخصيّتين اثنتين، هما ذكي والشرطي. واللافتُ في هذه الأقصوصة هو أسلوب السخريّة الذي يشحن الخطاب بكم هائل من الرمز والإيحاء. فالاسم الذي اُختير للشخصيّة المحوريّة أريد به إثارة الدعابة والفكاهة، وهي طريقة للتحقير وإثارة السخرية من هذه الشخصيّة التي انتهكت حدودها الطبقيّة وتجاوزت عتبات المكان المحرّم عليها، بحكم انتمائها الدوني والذي لا يسمح بها بإزعاج سكينة المسئولين وكبار الشخصيّات في الدولة.
يدخل "ذكي" مدينة الاسكندريّة، ويؤجّر غرفة، ويسأل شرطيّا عن وزارة الحرب، وهو السؤال الذي أثار ضحك الشرطي ودهشته. "نظر الشرطيّ الواقف عند باب وزارة الحربيّة في وجه "ذكي"، ثمّ هلّل ضاحكا.... .
- ما الذي أتى بك إلى هنا؟
- أقابل الوزير.
- الوزير مرّة واحدة؟([20])
بدا موقف ذكي وهو يسعى إلى مقابلة وزير الحربيّة مثيرا للسخريّة والتعجّب المشوب بالإنكار، إلى الحدّ الذي جعل الحارس نفسه لا يتمالك عن الضحك والهزء بهذا الذي لا يعي الموقف الذي وضع نفسه فيه. إن مواطنا بسيطا لا يُسمح له بتجاوز موقعه الطبقي والتسلل إلى مواقع الآخرين التي لن يطالها مهما عظمتْ مبرّراته.
أفهمه الشرطيّ أنّه سيُحال بينه وبين وزير الحربيّة، بل إنهم لن يسمحوا له بتخطّي عتبات الوزارة التي لا يدخلها إلا أصحاب النفوذ السياسي والعسكري. وعندما أدرك ذكي سمك الجدار الذي يفصل بينه وبين المسئولين الذين يملكون الحلّ لمعاناته، وجد نفسه في دائرة الجنون بسبب حالة اليأس والقنوط التي أصابته. لقد تخلّى عنه الوطن الذي قاتل من أجله. كما تخلّى المسئولون عن الذين يحمون الوطن من الداخل والخارج ويؤمّنون لهم البقاء في السلطة طوعا وكرها. "انطلق يجري في الشوارع حتى وصل إلى ميدان عرابي، فنظر أمامه ليجد عرابي وقد وقف على التمثال، فصرخ: يا أحمد يا عرابي، يا أحمد يا عرابي"([21]).
لم يتمكن من مخاطبة الأحياء فراح يخاطبُ الأموات، وانزاح عن منطقة الوعي إلى منطقة اللاوعي، وفقد الإحساس بالزمان والمكان. "إنّه في اليوم الخامس والثلاثين من الشهر الرابع عشر، على ضفاف النيل جلس ومعه الأحزان والأشواق، نظر للنيل وبكى"([22]). فقد ذكي الصّلة بالواقع، ولم يعد وعيه قادرا على تحمّل مرارة التجربة. لم يعد يملك القدرة على التفكير الموضوعي. أفلتتْ منه معايير المنطق الذي يحكم علاقة الأشياء بالكلمات، وعلاقة الذّات بنفسها وبآخرها. أضحى عالمه بدون فضيلة وتخلّت عنه الآلهة، فخلا من القيم ومن الجمال والأخلاق. غدا عالما موحشا مفرغا من الدلالة. انقطعتْ الوشائج بين الإنسان والإنسان، ولذلك استسلم لحالة الجنون والهذيان المحموم.
والجنون حالة احتجاج على واقع لم يعدْ مُحْتَملا من فرط تناقضاته. إنّ الذّات المفكّرة إذا أعجزها تحمّل مفارقات واقعها المأزوم والمنحطّ، ولم تتمكن من امتصاص خيبات عصرها وسقطاته، أُحيلتْ إلى منطقة اللامعقول، وذلك يمكّنها من امتلاك عالم بديل يتمتع بكثير من التماسك الداخلي والانسجام بين مكوناته وأشيائه. إنّه واقعٌ يعجز البشر عن فهمه فينعتونه بالجنون.
عاد ذكي بعد حرب 1973 إلى مدينة بور سعيد ليشاهد منزل أسرته، فلم يتعرّف على معالم المكان الذي أُتلِفَ فيه كل شيء ففقد معالمه التي تختزن ذكرياته وخبراته الماضية، وبذلك يفقد جزء ليس باليسير من ذاته ويشعر بالانشطار والتشظي وسط عالم لا يملك إزاءه أية عاطفة أو جاذبيّة. فقدتْ الاسكندريّة ذاكرته وضاع منها تاريخها النابض بالحياة، ولم تعد تتّسع للّذين غمروها بدفء التاريخ وعبقه. غرق ذكي بين شوارع الاسكندريّة ببرودة قاتلة، فلا شيء يشدّه إليها، ولا شيء يثير فضوله أو يحرّك ذاكرته. التقى بمذيعة وراح يحدّثها عن مأساته وضياعه وعن شكواه التي يريد أن يرسل بها إلى وزارة الحربيّة. غير أنها تجاهلتْ معاناته وراحتْ تسأله عن رأيه في القاهرة، ويتجاهل هو بدوره سؤالها ليجرّها إلى حديثها، ولكنها تصرّ على إخفاء شكواه وجرّه إلى دعايتها الصحفيّة.
"مرتبي عشرة جنيهات وصدري يؤلمني من حرب أكتوبر وأدفع ثمانية جنيهات للعلاج شهريّا"([23]). تمعن المذيعة في الكذب وتزوير الشهادة وتلفيق الخطابات التي لا علاقة لها بالواقع، ولا أساس لها من الصحّة. "إنه بطلٌ من أبطال أكتوبر"([24]). الحوار الميلودرامي الذي حصل بين ذكي والمذيعة هو تجسيدٌ لعالمين نقيضين، بينهما قطيعة وجوديّة يتعذّرُ تخطيها، فوجود أحدهما مرهوب بموت الآخر. إنه حوارٌ يدين الإعلام الرسمي في الوطن العربي كلّه، ولمنظومته الإعلاميّة التي تداري تناقضات الواقع وهموم المهمَّشين والمنبوذين الذين يبيتون في العراء، وتنكر معاناة المحرومين من العيش الكريم. فالمسئولون الذين لا يحتكون بتلك الفئات الضعيفة خوفا على سلامتهم الجسديّة وهروبا من مسئوليات لا رغبة لديهم في تحمل تبعاتها، وتعاليا على مشاهد الغيتوهات والأحياء الفقيرة والقذرة. هؤلاء المسئولون لا يتحمّلون إلاّ الصور المشرقة والتقارير الإيجابيّة التي تمجّد سياساتهم وتؤكّد شرعيّة حكمهم وحكمتهم. ولذلك كانت المذيعة ترفض نقل شكاوي محدّثها على الهواء كي لا تصل إلى من تدين لهم بالنعمة.
تتموضع المذيعة في هذه الأقصوصة في موقع الوسيط الخطابي بين عالم الأسياد المحاط بهالة من القداسة وعالم "ّذكي" المشيء والمبتذل، فالإيدلوجيا تعمل من خلال أشخاص أو ذوات وتؤثّر عليهم، وتتشكّل الذّاتيّة من خلال الإيديولوجيا وفيها([25]). لقد كانت المذيعة تسلّط على موضوعها سيادتها الخطابيّة من خلال تجاهل ملفوظاته وتغييرها وتلفيقها لتتماهى مع الخطاب الرسمي المشبع بإيديولوجيا الهيمنة وأحاديّة الصّوت. ف"الكلمة محمّلة دائما بمضمون أو بمعنى إيديولوجي أو وقائعي"([26]). إنّ ما تلفّظ به ذكي من خلال قوله: "مرتبي عشرة جنيهات وصدري يؤلمني من حرب أكتوبر، وأدفع ثمانية جنيهات من الراتب للعلاج شهريّا" هو تعيين هويّة طبقيّة واجتماعيّة أقلّويّة ترفض دونيّتها وتحتجّ على إقصائها، وتحاول اختراق سيادة الآخر السياسي. غير أنّ المذيعة تتفطّن لهذا الهجوم وترفض جسارته من خلال إرجاعه قهرا إلى خطابها المتفرّد والمهيمن على كلّ الأصوات السّرديّة المناوئة: "تحب تسمع أغنية إيه"([27]). إنها تعرضُ عليه سماع أغنية، وهي ملفوظات تنضح دلالات طبقيّة لا يخطئها الإدراك؛ فحياة الفئات الحاكمة لها طقوس ماديّة احتفائيّة مميزة ومتميّزة لا يفهمها الآخرون المتخلفون الذين يعيشون الهوامش ويحلمون ببقايا حياة كيفما كانت لكونهم قاصرين عقليّا ونفسيّا ولا يحقّ لهم تخطّي قصورهم لأنه طبيعة متأصلة وموروثة عن الأسلاف.
إنه تنازع للمواقع بين طبقتين اجتماعيّتين على مستوى السرد والحكي. فبينما يقول ذكي: "أنا ما ليش بيت ولا مرتبي يكفيني يا هانم، وأنا حاربت في أكتوبر"، تردّ المذيعة مخاطبة ذاتا متخيّلة "إنّه يمجّد القيادة التي راعت كل المقاتلين"([28]). إنّه تلفيق الخطابات وتزويرها وتعبئتها إيديولوجيّا، فحضور السلطة يتمّ من خلال السرد ومادّته اللغويّة المشحونة. إن الخطاب يحيل إلى موقع اجتماعي سياسي، وهو يقاوم من أجل الانتشار أفقيا وعموديّا، في الزمان وفي المكان، مزيحا من أمامه كل معوقات التّموقع. "إنّ مفهوم الحواريّة وثيق الارتباط بمفهوم التعدّد الصوتي واللغوي الذي كرّس له باختين كلّ أعماله؛ فالخطاب في نظره، سواء كان أدبيّا أو غير أدبيّ، هو خطاب ثنائيّ التّلفّظ، ومن ثمّ فإنه يفقد خطيّته ليغدو مجالا للاختراقات وملتقى للعلامات"([29]). إنّ حوارا بين ذكي والمذيعة يضعنا أمام خطابين من موقعين إيديولوجيّا نقيضين، يتنازعان البقاء ومواقع القوّة والهيمنة، بمنطقين مختلفين، أساسهما النظرة المانويّة للعالم.
خطاب المنفى:
إنّ ضحايا حرب أكتوبر كثيرون في مصر، ليس ممّن استشهدوا، ولكن من الّذين عادوا إلى بيوتهم أحياء مرفقين بتبعات الحالة الاقتصاديّة الحرجة التي أعقبتْ الحرب.
الدمرداش أحد هؤلاء المتعبين من وضعه المادّي البائس. فقد غادر الحرب وهو يحمل وساما عسكريّا ظنّ أنّه يحقّق له الخلاص من الفقر والمعاناة. "ظنّ أنّ الوسام سيعطيه شقّة جديدة، بدلا من الغرفة الضيّقة المختنقة في حوارى طنطة. ظنّ أنّه سيهرب من الناموس والذّباب ولكن الوسام عُلِّق في الدولاب الصيني القديم"([30]). إنّ الوسام الذي يعطيه العسكريون للجنود هو شهادة وطنيّة يُراد بها صرف النظر عن المعاناة الحقيقيّة للجندي البسيط، وإلهاؤه بشعارات وطنيّة لا تغني شيئا في الواقع المعاش ولا تحل مشكلا ولا تقضي على خصاصة ولا تحقق وضعا طبقيّا جديدا. ويتوهّم الجندي الموسوم بأنها تكفل له حقوقا اجتماعيّة مقابل التضحيات التي بذلها نصرة لقضايا الوطن. غير أنّ معظم هؤلاء الّذين عادوا بها إلى الحياة المدنيّة وراحوا يطالبون السلطات بما يستحقونه، وبما وُعِدوا به، حيل بينهم وبين مسئولي الدولة، وأُعيدوا إلى مواقعهم الطّبقيّة السفلى دون أن ينالوا شيئا، باستثناء تبخيس الذّات ومزيد من الكراهيّة لكل رموز الدّولة.
إنّ شخصيّة "ذكي" في قصّة "أحزان مواطن بلا عنوان"، لمّا توجّه إلى القاهرة لمقابلة وزير الحربيّة، الذي كان قد زارهم في ميادين القتال وأثنى عليهم ووعدهم بأنّ أبوابه مشرعة لاستقبالهم في كلّ حين، كان يسعى إلى مقابلة وزير الحربية بناء على ما وعد به. ولمّا أفهمه الشرطيّ أنه لن يتمكن من الدّخول إلى عتبات وزارة الحربيّة، وليس من حقّه أن يدنو منها نظرا لوضعيّته الأقلّويّة. وقد انتهى به الأمر إلى حافّة الجنون.
الدمرداش بدوره وبعد الانتهاء من الحرب، كان يحلم بشقّة راقية بعيدا عن أسراب الناموس والروائح الكريهة والغيتوهات التي حُشِر فيها، بفضل الوسام العسكري الذي يحمله، غير أنّه لا شيء من ذلك تحقّق. وكانت زوجته لواحظ تشاركه هذه الأحلام وتنتظر معه زمن الخلاص من بؤسهما الاجتماعي بمجرّد أن غادر إلى الكويت. "عندما سافر الدمرداش إلى الكويت بدأت لواحظ تستعدّ لتغيير كلّ معالم حياتها، السجّاد والحمّام والكراسي والتلفزيون الأبيض والأسود والراديو، كل شيء ستحلم به سيأتي"([31]). إنها أحلام الفقراء يتغذّون منها ويشكّلون جنّتهم على مستوى المخيال وحلم اليقظة. لم يجد الدمرداش مفرّا من التفكير في الهجرة إلى إحدى دول الخليج التي تشكّلتِ بخصوصها تمثيلات هوسيّة في المخيال العربي باعتبارها مكانا للإثراء والرفاهيّة الماديّة والحداثة الغربية التي صنعها المال العربي والتكنولوجيا الغربيّة. انتقل الدمرداش إلى الكويت. فقد "أدرك أنّ عليه مهمّة جديدة: أن يذهب إلى بلاد النفط ليغيّر من وضعه ومن حياته"([32])، فالخلاص لا يأتي من داخل الوطن، ولكن من خارجه؛ والوطن لا يتّسعُ لكلّ أبنائه، بل للأقليّة منهم. إن لكل مرتحل نصيبا من التعب يطاله، فكل تكاليف السفر عليه أن يسددها أثناء عودته. فالسنة الأولى في السفر "لتسديد ديون التذكرة وكارت الزيارة، والسنة الثانية هدايا للأولاد والسنة الثالثة ثمن الشقّة الجديدة"([33]). ليس صحيحا أن المنفى أرض بدون متاعب. فمغادرة مكان الألفة هي عمليّة شاقّة للغاية بالنسبة للمهاجر. "ولعلّ حاجة المرء للجذور أن تكون أهمّ حاجات النفي البشريّة وأقلّها تبيّنا واعترافا"([34]). إن مسألة الارتباط بمكان الألفة يتوثّق عندما نكون خارجه، وهي الحالة التي تفضي إلى التشظّي والانشطار بين مكانين تربطُ بينهما حاجات عارضة لا تمتّ إلى الجوهر الإنساني بصلة. "والحقّ أنّ التفاعل بين القوميّة والمنفى هو أشبه بديالكتيك العبد والسيّد عند هيجل؛ حيثُ يعمل كلٌّ من هذين الضدّين على إملاء الآخر وتشكيله"([35]). يتعاظم الشوق إلى الداخل انطلاقا من وجودنا خارج الدائرة، وننطلق في تشكيل مخيالنا واستيهاماتنا حول انتمائنا الثقافي ووجودنا الاجتماعي. فالحاجة إلى المنفى عارضة وطارئة، وهي عاضدة لنقطة ارتكازنا المحليّة، وهي إذا لم تكن كذلك فإنها تتحول إلى مصدر شقاء قهري نسعى إلى الخلاص منها والعودة إلى نقطة الصفر؛ "عندما بدأتْ الأيّام تمرّ وهو يسير في الشوارع الواسعة في الخليج هنا لا أحد يسير على قدمه، الكلّ يركب سيارات والأوتوبيس لا يأتي وغير موجود (.......) الشمس هنا لا ترحم، درجة الحرارة فوق الخمسين (.....) ذهب إلى السفارة وسلّم نفسه وقال: أنا عيل، أريد أن أعود، فالرجال هنا مخصيون ضعفاء"([36]). لقد فرّ من التهميش والخصي إلى ما هو أشدّ وطأة منهما. الشعور بالدونيّة والحرمان وقسوة الطبيعة التي لا يجد ما يتقوّى به عليها. فكل الناس تركب السيارات الفاخرة باستثنائه هو، المترجل تحت شمس لا ترحم. شعر أنّ رجولته سُلِبتْ منه، وطاقته وهنتْ ولم تقو على المقاومة. لمّا لجأ إلى سفارة بلده لم تعترف به، وتخلّت عنه، كما تخلّتْ عنه وزارة الحربيّة ووزارة السكن لمّا لجأ إليهما في بلده باحثا عن العون ومطالبا بحقّه في الحياة الكريمة. ويتعمّق شعوره بالحرمان في المنفى فيقرّر العودة بدون وثائق ويتحمّل تبعاتها، ليحمل إلى زوجته مزيدا من الخيبة والهوان وفقدان الرجولة. إنّ الذي أقصاه في الدّاخل يقصيه في الخارج، والذي يتعبه في وطنه يتعبه بالمنفى، وعليه أن يبحث عن عالم آخر يسكنه هو وأهله، أو أن ينزوي في ركن من أركان الأرض ويتّخذ لنفسه مقاما مع المنفيين والمهمّشين ويكفّ عن البحث عن السّعادة.
يأخذنا الآن السيد حافظ إلى الكويت مرة أخرى لنعايش هموم العرب هنالك مع قصة "حيثُ أمضينا الوقت". تحكي القصة يوميّات المثقفين وغير المثقفين المصريين في الكويت والتعارض المثير للجدل بين تمثيلات الخليج في المخيال العربي والصورة الحقيقيّة لهذا الخليج الرمز، تلك الصورة التي تشكّلتْ أثناء إقامة مجموعة من العمّال العرب بالكويتْ بصفتهم أجراء لدى الحكومة المحليّة؛ والسّمة الغالبة على هؤلاء العمّال المصريين هي انتماؤهم إلى الفئات المستنيرة في المجتمع الذي يجاورونه. فمنهم من يشتغل في الصحافة ومنهم من يمارس التعليم أو الإعلام التلفزي، ومنهم من هم موظّفٌ لدى الدولة. تُفتَتَح القصة باستعراض الصورة الهوسيّة التي يحملها السّارد عن بلد الكويت. "الكويت والقادسيّة والحانية ولؤلؤة الخليج وقاتلتي وعشيقتي، ورياح الحب وتقلّبات الأزمنة المنسيّة"([37])؛ هذه الأماكن الأليفة بالكويت، لؤلؤة الخليج وزهرتها، ودفء الذاكرة وعبق التاريخ المنسي، هيجتْ عاطفة السارد وأسالت مدادا مشوبا بالأسى على بلد قتلته عبثيّة أهله وغرورهم وتعاليهم على ضيوفهم الذين خدموهم بعرقهم وعصارة أدمغتهم، فانقلبوا عليهم وتنكّروا لهم متجاهلين ما سيترتّب على هذه الجفوة من محن.
في مخيال الرجل البسيط في مصر أضحتْ الكويت رمزا للمال والأحلام والجنون سليل الحرية المطلقة والخروج عن المألوف، كما أنها ترمز للمستقبل المشرق الذي يراود البؤساء في أحلام النوم واليقظة. للكويت سلطة روحيّة لا شفاء منها في جلب العرب إليها. إنها أشبه بالمرأة التي تتزيّن وتتعطّر لعشاقها، حتّى إذا جاؤوها وظنوا أنهم مواقعوها، غيّرتْ طلاءها الخارجي وأسقطتْ أقنعتها، فإذا هي هي، على حقيقتها، لا مكان فيها للأجانب والغرباء. "إنّ الصّورة اختراع واختلاق وتلفيق وفبركة. والواقع ليس كذلك إلاّ حين يتمّ تصويره وتمثّله وتمثيله وتخيّله"([38]). تعرض هذه الأقصوصىة حملة محمومة لطرد الأجانب من كلّ الجنسيّات. وكان أولى ضحايا هذه الحملة هم المصريّون نظرا لعددهم المعتبر مقارنة بالجنسيّات الأخرى، ونظرا لوضعهم المادّي الصّعب في بلدهم الأصلي. فهم إن فكّروا في العودة إلى الوطن فإنّ متاعبهم الاجتماعيّة معقّدة من كلّ النّواحي، وإنْ فكّروا في تغيير الوجهة إلى بلد آخر، فهم لا يملكون من المال ما يؤهّلهم للبحث عن بلد مضيف يأويهم ويضمن لهم إقامة مريحة ووضعا ماديّا ميسورا.
"لقد بدأوا يطردون المدرسين العرب من المدارس بكميات وحولوا كل الحصص الإضافيّة إلى بقيّة المدرسين الباقين.. إنّهم يضغطون بثقلهم لطرد كلّ الأجانب"([39]). تكشف هذه السرديّة عن طبيعة السّلوك العدواني من طرف الكويتيين. يوجد ضغطٌ شعبيّ للتخلص من العبء الذي يترتّب عن العمالة الأجنبية والعربية منها على الخصوص، وسلوك الحكومة يتوافق مع الرأي العام المحلّي ويستجيب له. إنه تواطؤ ذو طبيعة عدوانيّة لا شفاء منها. يُنظَرُ للعرب هنالك على أنهم أجانب ويستوون في ذلك مع القوميّات الأخرى الوافدة من آسيا وإفريقيا. لقد أصبح هؤلاء الأجانب يشكلون عبئا اقتصاديّا واجتماعيّا ثقيلا على الدّولة المضيفة ويتعيّنُ طردهم دون تروّ ولا تدرّج، كما يعني تماما أنهم مختلفون عن المحليين في كل شيء، ويتعين طردهم باعتبارهم تهديدا لوجودهم ونقائهم الثقافي. "إنّ الآخر هو ما يكمن خارج عالم ثقافتنا وجماعتنا؛ فهو اللاذات، واللانحن"([40]). هناك تخوّفٌ ممّا يمكن أن يفعله الآخر بنا، فقد يخترقُ قواعدنا الاجتماعيّة، وقد يمتصّ حظوظنا في العيش الكريم، وقد يسمّم حياتنا على حدّ قول رينان في حديثه عن الأجانب، وقد يزعجُ سكينتنا بأفعاله الغريبة وعاداته التي قد لا تعني شيئا بالنسبة لنظام قيمنا. إنّ الانتماء إلى خلفيّة ثقافيّة وحضاريّة واحدة لم يشفع للمصريين أن يحضوا بواجب الضيافة لدى الكويتيين وربّما لدى العديد من دول الخليج التي تتربع على الجزء الأكبر من الثروة العربيّة، وعلى الجزء الأصغر من الثروة البشريّة. إنها وقائع تدين الأنظمة العربية دون استثناء، فالأمر واحد من المحيط إلى الخليج. إنّ سلوك الحكومة الكويتيّة مع العمالة العربية النوعيّة يكشفُ عن زيف الإعلام العربي الذي لا يكفّ عن الضّجيج بدعاوى القوميّة العربيّة، والوحدة العربيّة والعروبة، وما إلى ذلك من الشعارات الخاوية. "اللعنة للتاريخ الواحد والأمّة الواحدة، شعارات، أحسستُ برغبة في التبوّل، استأذنتُ صديقي وذهبت لدورة المياه أتبوّل على كلّ هذا الواقع"([41]). التبوّل على الواقع العربي هو فعلٌ أشدّ عنفا من الرفض والإدانة، والمحاكمة. إنّه تدنيسٌ لما هو في الأصل والطبيعة مدنّسٌ ومقرفٌ ومنبوذٌ. إنها الصّورة الأكثر رهابيّة عن الواقع العربي الدوني والمنحطّ أخلاقيّا والمتخلّف ثقافيّا واجتماعيّا.
"النصوص وقائعُ اجتماعيّة وإيديولوجيّة بقدر ما هي ردود فعل لنصوص أخرى منطوقة أو مكتوبة تجسّدُ مشاكل ومصالح جماعيّة"([42]). لقد كُتِبتْ قصّة "حيثُ أمضينا الوقت" على خلفيّة واقع معاش وتجربة فعليّة عايشها العرب ويعايشونها في المنفى خارج حدودهم، فهم ما إن يتخطّوا عتبات بلدانهم حتى يتحولوا إلى غرباء يتوسلون لقمة العيش. لقد تفاعل الكاتب باعتباره مثقفا حرا لا يدين بالولاء إلا لقناعاته الفكريّة والجماليّة، مع هذه المعاناة التي عايشها في الكويت إلى جانب مواطنين عرب آخرين وغير عرب، اُستُغِلّوا زمن الحاجة إليهم ثمّ فُصِلوا عن وظائفهم لأسباب غير وجيهة في أشدّ الأوقات حرجا.
"اليوم حدثت في المدرسة كارثة، مدرس فنشوه (أي طردوه)، فجأة أخذ يبكي ويصرخ كالنساء ويقول: الديون التي عليّ في مصر والشقة كيف سأنهي أقساطها"([43]). ومواطن مصري آخر، قدم استقالته في بلده ودخل الكويت بنية الاستقرار بها وإذا به يفصل عن عمله دون مبرر. إنها حملة محمومة للتخلّص من الأجانب الذين رفض وطنهم الاعتراف بهم؛ فهم زائدون عن الحاجة. لا الوطن يحتاجهم ولا المنفى يسعهم. فهم لا يحظون بالقبول ولا يُعتَرَفُ بهم أعضاء فاعلين ضمن جماعة يتقاسمون معها التاريخ والثقافة واللغة والإثنيّة، إنهم –ويا للمفارقة-خارج الدائرة وخارج المكان، بلا نقطة ارتكاز ولا تعيين هووي. إنه الإقصاء والقتل الرمزي والفعلي للذّات العربيّة الشريدة والباحثة عن شبه اعتراف بآخريّتها وبجدواها وبإنسانيّتها.
خطاب الإدانة:
نبحر الآن في سرديّة "عندما غاب القمر" في قصّة قصيرة كسرتْ نمط الحكي التقليدي، كما كسرتْ الزمن العربي وقطّعته إلى مفاصل مبتورة عن مركزيتها، معزولة عن تاريخيّتها، مبعدة عن جذورها، ضمن لغة متوتّرة إلى حدّ الإدهاش، راقصة إلى حدّ الإعياء، يتعذّرُ الإمساك بأيما دلالة عنها ويستحيل القبض على معنى المعنى. نحن في هذه القصة في حضرة اللاوعي واللامعقول. نحن في زمن عربي غاب عنه الإدراك وحضر الخبل واستحال الفكر كفرا والعقل عقلا وقيدا. زمن تفكّكت فيه كل الوشائج التي تصل الحاضر بالماضي وتدفع بهما إلى المستقبل، نحن في زمن الهزيمة تلوى الأخرى كقطع الليل المظلم التي غاب عنها القمر، فلم نعد نبصر أبعد من أقدامنا، ولم نعد قادرين على طرد أسراب الناموس التي تتخلل فضاءنا وتسمّم أجواءنا. لقد "دخلوا العراق ودخلوا فلسطين، دخلوا خرجوا، عبثوا قاموا، صعدوا هبطوا، أنت وهم هم وأنت، كلنا نجري ونهرب"([44]). الماغول والتاتار بُعِثوا من قبورهم ويقتحمون مركز الثقل من العالم العربي عاصمة هارون الرشيد التي أمدّت العالم بأسباب نهضته، وبنوا النظير بُعِثوا من قبورهم واقتحموا فلسطين وانتهكوا قدسيّتها واغتصبوا بكارتها. لقد قاموا بكل الحركات طولا وعرضا، طردا وعكسا، صعودا وهبوطا وسط ذهول العرب وغيابهم عن الوعي والإدراك السليم للواقع.
وسط الفوضى العارمة والصخب الحادّ والضجيج المصمّ للآذان، في يوميات العرب الأشدّ هوانا وتيها يفقد الإنسان القدرة على التفكير الموضوعي، فتتعطّل مدركات الحواسّ لديه، ويغور الإحساس بالزمن، فتضيعُ القيم وتختفي معايير الحق، وتتهاوى القناعات، ويصبح الولاء للقويّ، يتراجع الوعي مسافات في عمق التاريخ ليحاكم ملوك العرب القدماء الذين جنوا على حكّام اليوم عندما صنعوا تماثيل للحريّة والكرامة هي اليوم أساطير تُروى للأطفال من أجل تنويمهم والضّحك على براءتهم وطفولتهم الغضّة.
عاد الولاء لأساطير القوّة والهيمنة الكونيّة، من أمثال شارون الذي أذلّ العراق في بيته وعبث بياسر عرفات في قبّته الكرتونيّة، وبوش عرّاب العرب الذي أمره الرب بتحرير العراق من فرعونها، فهما اللذان يسمحان برغيف الخبز وعلب الدواء لأطفال العرب وشيوخهم. وهما اللذان ينصّبان حكّامنا ويباركانهم ويمدّانهم بالدّيمقراطيّة وحقوق الإنسان محمولة على دبّابة وبندقيّة آليّة صالحة للقتل والإحياء.
ما عاد العربي قادرا على صناعة قيمه في بيته، ما عاد قادرا على تشكيل تاريخه بنفسه، فكلّ شيء يأتيه معلّبا من المركز، من الغرب الذي بلغ سنّ الرّشد، وتعاظم عقله حتّى عاد إلها. أماّ العرب فقد تبين قصورهم العقلي وطبيعتهم البشريّة الناقصة، وتفكيرهم الذّرّي. إنهم لا يدركون أنّ الرصيف إنّما صُمِّم ليمشي عليه الراجلون وأنّ الطّريق إنّما عبّدتْ لسير العربات؛ إنّهم غير قادرين على تمثّلِ الحداثة ولا يتقبّلونها؛ وهم تماما غير قادرين على تمثيل أنفسهم، وعلى الغرب أن ينهض لتمثيلهم. "في دورات القدر والمصير كلّها لا ترى أمة واحدة من هذه الأمم تؤسس بدافع من حركتها الذّاتيّة ما نسمّيه نحن من وجهة نظر غربيّة حكم الذّات"([45]). تلك هي نظرة الغرب إلى العرب اليوم، أمم قاصرة وشعوب متخلّفة تتربّعُ على ثروات غير مستحقّة، ووجب على الغربيين أن يقودوا هذه الشعوب، ويُنصّبوا لها حكّاما مطيعين، متعاونين، مسالمين، يحكمون شعوبهم بالحزم والقوّة والبأس الشّديد، خوفا عليهم من الفساد. فلا عرب ولا عروبة، ولا إسلام ولا مسلمين، "أنت في الخطّ الأحمر، بالخطّ الأحمر تكتب، وباللّون الأحمر تُدفن، وبالصّوت الأحمر يجلدك حاكمك والشرطة والأمن، الآن لا أمن الآن (....) الآن دبابة وشرطي"([46]) أجنبي أو محلي يحكم بالوكالة ويقتل بالتفويض من التحالف الدولي لمقاومة "الإرهاب"؛ إنّه الأداة التاريخيّة غير الواعية لإنفاذ إرادة الرجل الأبيض الذي حبته الطبيعة بكلّ الفضائل؛ فهو وُلِد من المهد إلى اللحد ديمقراطيّا وعظيما وجليلا. "انظر إلى حقائق القضيّة، إنّ الأمم الغربيّة فور انبثاقها في التاريخ تظهر تباشير القدرة على حكم الذّات، لأنّها تمتلك مزايا خاصّة بها"([47]) بينما العربي عريقُ في الكذب كسولٌ وسيء الظنّ. إنّه على الطرف النقيض للعرق اللاتيني في وضوحه ومباشرته ونبله([48])، ولذلك يتعيّنُ على الحاكم العربي أن يعامل محكومه بالقوّة والمعاقبة. لقد غاب الشرفاء عن الوطن، غاب الأدباء والفنانون الأحرار، غابت الكلمة الصّادقة والصّوت العالي، وحضرتْ المومس رمز الدّعارة السياسيّة والأخلاقيّة والفكريّة.
وسمير سرحان يمتنع عن طباعة الأعمال الكاملة لصاحبنا بحجة كونها لغو وسمومٌ تضرّ بعقول الناشئة وغانم السليطي لا يفهم مسرح السيد ويتهمه بالجهل الفني والجمالي لجنس المسرح، فلا تستحقّ أعماله أن تُنشر أو أن تقرأ. لم يبلغ القارئ العربي سنّ الرشد، ولا يميز بين الفنّ الأصيل والمبتذل، وعلى وكلاء الثقافة والتنوير أن يرشدوه إلى ما يتعيّنُ قراءته.
يواسي جابر عصفور صاحبنا لينسيه خيبة الساسة، وأشرف زكّي يعد بالدّفع للعلاج، فالكلّ يناور ويداري زيف السلطة ونفاقها وعمالة أشباه المثقّفين الذين يؤجرون أقلامهم من أجل متاع قليل.
يُدْعَى السيّد إلى انتقاد حكام العراق لدى احتلاله للكويت مقابل عطاء جزيل فيرفض، ويدعى أثناء وقوع الكويت تحت قبضة الجيش العراقي إلى انتقاد حكّام الكويت وتبرير استعمارهم مقابل غنائم كثيرة فيرفض، ويُدعى من طرف حكومته لمساندة التطبيع مع إسرائيل مقابل مرتب محترم من الوزارة الوصيّة فيرفض. إنّه يقاوم من أجل نبل الكلمة وصدقها ونزاهة الموقف السياسي والإيديولوجي، إنه لا يدين إلا لقناعته الفكرية ومرجعيّته الأخلاقيّة. "كلما قتلناك ودفنّا جثّتك في الأرض تخرجُ من جديد وتعود للحياة، هل أنت أوزوريس؟"([49]). يؤكّد هذا الموقف صلابة الذّات أمام تفسّخ المجتمعات والأفراد أمام الإغراءات التي تغازل الشرفاء بشراسة. إنه المثقف الذي لم يفقد ذاكرة الطهارة التي غذّتها نسائم النيل، على الرغم من المحيط المعادي للثقافة والعلم والقيم الإنسانيّة عامّة.
يقاوم السيّد حافظ من أجل حريّة الكلمة ومسؤوليّة الموقف، وأن يكون الإنسان سيّد نفسه، وليس تابعا مهيمَنا عليه. إن الأنظمة الاستبداديّة التي تفتقر إلى الشعبيّة والمصداقيّة الأخلاقيّة تحاول أن تشتري الأقلام والعقول وتروضها بالترغيب أو بالترهيب بالمعاقبة والمراقبة، فإذا عجزتْ عن ذلك فإنها تلجأ إلى مصادرة الكتابة والإبداع بحجّة تهديد أمن الدولة، أو المساس بالحريات العامّة، وتبريرات السّلطة مثيرة للغرابة والفرادة، وأحيانا مثيرة للسخريّة والهزء.
المؤسسة التعليميّة هي جهازٌ من أجهزة الدولة يمكّنها من إعادة إنتاج نظام الحكم وتأبيد هيمنته على كل فئات المجتمع. وحسن فريد هو مدرس يمارس التعليم في مادّة التاريخ في إحدى المؤسسات التعليميّة في مصر. تطرح أقصوصة "عندما تدقّ السّاعة العاشرة من صباح أحد الأيام" مسألة بالغة التعقيد، وهي: من يحقّ له أن يكتب التاريخ القومي لأيّ مجتمع؟ العلماء والمثقفون الأحرار والباحثون أم السلطة الحاكمة من خلال طبقتها المثقّفة وإيديولوجييها؟ الطرفان يتنازعان أحقيّة كتابة التاريخ وسرد الأمّة والمجتمع. ونظريّة هومي بابا تقتضي أنّ التاريخ يُكتَبَ من الأسفل، وليس من الأعلى.
تسعى الأنظمة السياسية الشموليّة لـتأبيد حكمها من خلال أجهزتها الدعائيّة والقانونية والقضائية والعسكرية، حيثُ تمارسُ مراقبة الإنتاج العقلي بواسطة ما أسماه ألتوسير ب"الأجهزة الإيديولوجيّة للدولة"([50])، والسلطة إذ تمارسُ تحجيم الفكر تضع مجموعة من الآليّات والأدوات التي تؤمّن إرساليّتها التعليميّة والسياسيّة على حدّ سواء. إنّ العمليّة التعليميّة عمليّة معقّدة وممتدّة في الزمان، فالتعليم بكلّ مراحله هو مسيرة أجيال، ومن خلال ذلك تتمكن السلطة من تمرير أنساقها الثقافيّة ورسائلها الإيديولوجيّة وتطوير حالة الرضا والقبول بالوضع القائم باعتباره الحالة الطبيعيّة والمثاليّة للأمّة. "الدولة في جوهرها سلطة قمعيّة، ولكنها لا تستطيع بالقمع وحده المحافظة على سيادتها، أو تحقّق مشروعاتها"([51]). ومن هنا تتنزّل ضرورة الإيديولوجيا، ذلك الشرط الأساسي لتحقّق الهيمنة التي تحفظ نوعا من التوازن الاجتماعي.
المدرّس "محسن فريد" هو من مثقّفي الهامش في مواجهة مثقّفي المركز، وقد حاول أن يدرس مادّة التاريخ على غير ما هيّ ممَثَّلة في البرامج الرسميّة، باعتبارها تزييفا للتاريخ الفعلي والحقيقي. وهو بذلك يخرق قاعدة من أهمّ قواعد النظام. فالمدرّس أجيرٌ لدى الدولة، وليس من حقّه أن يساهم في إنتاج الثقافة أو تغيير قيم المجتمع، عليه فقط أن يضمن استمرارية الحالة الثقافية والمحافظة عليها من خلال تلقينها وإظهارها في صورة مشرقة. تتحرّك أجهزة المراقبة والمعاقبة، ليجد المدرّس نفسه خارج المؤسّسة. "ترك المدرسة، لم يستطع أن يفعل ما قيل له، لم يدرك أنّه سوف يجوع، أو يتشرّد"([52]). السلطة القمعيّة تجوّعُ معارضيها وتشرّدهم وتصنع منهم عبرة للآخرين حتّى ينضمّ الجميعُ للجميع. لا مجال للرّأي الآخر ولا للاختلاف الثقافي في الأنظمة الشموليّة التي تنكر آخريّة الآخرين وتدوس عليها بالنعال من أجل المصالح العليا "للوطن".
يتعيّن على المدرّس أن يمارس دور الوسيط الإيديولوجي بين النظام والأطراف الخاضعة، "أي أنه يساهمُ في القبول العضوي للجماهير الكبيرة بالطبقة المهيمنة (.....) ويضفي شرعيّة مطلقة على النظام الاجتماعي"([53]). وإذا تخلّى عن هذه الإرساليّة فإن الدولة تتخلّى عنه وتلحقه بقطيع المنبوذين، حيث راح يبيعُ الجرائد والمجلات، فاعتُقِل بتهمة المتاجرة بالصحف المحضورة، والتحق بالشارع يمسح سيارات المارّة مقابل لقمة عيش تبقيه ضمن الأحياء، ويحاولُ أن يجتاز الحدود لعل أبواب الرزق تحل بعتبته، ولكنه يُمنَعُ من ذلك. وأُعيد إلى مدرسته في محاولة لتدجينه وإخضاعه ليمتثل لشروط المؤسسة التعليميّة. غير أنه عجز عن أداء مهمّة تمرير الثقافة الرسميّة دون نقد. فوعيه لم يعد يتقبّل مزيدا من الزيف، فقرّر أن يجعل نهايته في النيل، ليتطهر من دنس النظام ومن مجتمع تابع كالقطيع الطيّع. إن كثيرا من شخصيّات هذه المجموعة، وعندما تكتشفُ أنّها لا تملك شيئا من هذا العالم تنسحبُ منه بصمت وبلا مبالاة؛ ولأنّه ربّما ليس ثمّة ما هو أشدّ هدوءا من النهاية عندما نخلّفُ وراءنا عالما بدون فضيلة وبدون شعراء.
إنها النهاية الحتميّة للمعارضة الجادّة في الوطن العربي، فإمّا الجنون أو المنفى أو الانتحار. وكانت تلك نهاية صابر الذي أغلقتْ في وجهه كل منافذ الحوار، فانتهى تحت العربة، مسلوب الهويّة منزوع الروح. تطرح هذه النهايات التراجيدية للمعذبين في الأرض وللمثقفين الذين يحملون هموم أوطانهم سؤالا ملحّا حول أسباب هذا الفشل في اقتحام تحصينات النظام رغم سقوطه الأخلاقي الماحق. أعتقد أنّ السبب في ذلك يرجعُ لكون مثقّفي المركز يشكّلون وحدهم انسجاما إيديولوجيا مع رؤية السلطة، فهم يتمتعون ببنية فكرية قويّة ومتماسكة ومرفودة ببنية طبقيّة تتمتع بكل أسباب القوّة الماديّة. في حين يشكل مثقّفو الهامش اختلافا مع هذه الرؤية وتفككا في بنيتهم الطبقيّة واختلافا في قناعاتهم.
خاتمة
أمكننا من خلال هذه الرحلة الشّاقّة والشّيّقة في الفضاء القصصي للسيّد حافظ تبين أهمّ أزمات المجتمع المصري والعربي بشكل عامّ؛ وأمكننا إدراك حجم المعاناة التي تكابدها الفئات الشعبيّة الأقلّويّة داخل أوطانها وخارجها، والتهميش والإقصاء الذي تتعرّض له. كما أمكننا تبين أزمة المثقف العربي وما يتعرض له من مساومات من أجل إسكاته أو تحييده إذا تعذّر تدجينه وتسخيره لخدمة مرامي السلطة السياسيّة.
إنّ العمل العظيم هو وحده الذي يحتوي على بنية للوعي الجماعي والاجتماعي تنبثق عنها رؤية للعالم كليّة دالّة ضمن جملة من القيم والمعايير، إنّ القصص التي أخضعناها للدراسة على قلّتها تكشف عن موقف كلي من الذّات والعالم بكل تجلياته الإشكاليّة. والشخصيّات القصصيّة التي تخلّلتْ البنية السرديّة لهذه القصص لم تكن تتصرّف إلا انطلاقا من وضعها الطّبقي، وتحيّزاتها الاجتماعيّة والأخلاقيّة. لقد كانت تتصرّف انطلاقا من متاعبها ومعاناتها، وتعارضها مع فئات لا تشاطرها وضعها المادّي وتمارس عليها تسيّدا قهريّا. وإن حواريّة هذه المجموعة القصصيّة تكمن بالذّات في تعارض البرامج السرديّة للأفراد الاجتماعيين، ذلك التعارض الذي يرتفع بالصراع إلى المراتب الأكثر دراميّة وتشنّجا.
لقد مرّت المجتمعات العربية بهزّات عنيفة في تاريخها الحديث والمعاصر، بدءا من حالات الاستعمار وما ترتّب عنه من تغريب واستلاب قهري، إلى الاستعمار الجديد، وما رافقه ويرافقه من وصاية أجنبيّة، إلى حالات الاحتراب والثورات العربيّة، إلى نكبة فلسطين وغزو العراق، وما أعقب ذلك من تدمير للذّات العربية وتهريب للثروات في رابعة النهار، إلى حالات الفقر والتهميش والاستبداد السياسي الذي تتعرض له فئة المثقفين والمعارضين. لقد كان كل ذلك يحصل بمباركة الدول الكبرى التي لطالما تغنّت بالديمقراطيّة وحقوق الإنسان. لقد بدا وكأنّ العربي لم يرتق بعد إلى منزلة الإنسان ولذلك فهو لا يستحقّ العطف الديمقراطي التي توزّعه الدول العظمى على مستعمراتها القديمة. وسط هذا المشهد المجتمعي المحموم بالكراهيّة والغيريّة في الأوساط الشعبيّة التي ضاقتْ بها أوطانها فراحت تبحثُ عن موئل يحضنها خارج حدودها، فلا هي وجدتْه ولا هي استعادتْ مواقعها التقليديّة في الوطن الأم، وسط هذه الأجواء العدائيّة والصور الرهابيّة تتنزّل المجموعة القصصيّة للسيّد حافظ فتختلط كلماتها بأنفاس الفقراء وزفرات المحرومين وأنين الموجوعين، ويرتقي فكرها إلى درجات التفكر في العالم وفي الإنسان بأبعاده الكونيّة ليشكّل رؤية للعالم لا يخطئها الإدراك، رؤية من شأنها أن تصهر تناقضات الواقع وتضغطها إلى حدّ الفناء فإذا الكون جوهرٌ خالصٌ يؤلّف نشيدا للوطن المستعاد على مستوى التخييل. فنحن أمّة تقتات على التخييل وتعتاش من أحلام اليقظة.
سيرة علميّة
الدكتور بوخالفة إبراهيم من مواليد 1960 بجمهورية تونس
متحصل على شهادة الباكالوريا بها، وعلى الليسانس من جامعة الجزائر
متحصل على درجة الماجستير في الأدب العربي في النقد الثقافي
متحصل على الدكتوراه في نفس التخصص في جامعة الجزائر
أستاذ الأدب المقارن والنقد الثقافي بالمركز الجامعي بتيبازة
له كتابان في النقد الثقافي:
1 - صورة العثمانيين في روايات أمين معلوف.
2 - الآخرية في الرواية الفرونكفونيّة.
له عدة مقالات بمجلات دولية ووطنية محكمة في مجال النقد الأدبي والنقد الثقافي.
يشتغل حاليّا حول روايات الكاتب المصري السيد حافظ
وحول روايات الكاتب الجزائري عز الدين جلاوجي
([2]) عبد الله الغذامي، النقد الثقافي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء-المغرب، ط الثالثة2005. ص13.
([8]) آنيا لومبا، نظريّة الاستعمار وما بعد الاستعمار الأدبيّة، ترجمة د. محمد عبد الغني غنوم، دار الحوار، سوريا، ط الأولى 2007. ص 42.
([10])ميلان كونديرا، فن الرواية، ترجمة د. بدر الدين عدروكي، الأهالي للطباعة والنشر والتوزيع، ط الأولى 1999، ص 30.
([13])تيزفيطان تودوروف، روح الأنوار، تعريب حافظ قويعة، دار توبقال للنشر والتوزيع، الدار البيضاء-المغرب. ط الأولى 2007. ص 140.
([17])لوسيان غولدمان، الإله الخفي، ترجمة زبيدة القاضي، منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب، وزارة الثقافة، دمشق 2010. ص 435-436.
([25])آنيا لومبا، في نظريّة الاستعمار وما بعد الاستعمار، ترجمة د. محمد عبد الغني غيوم، دار الحوار للنشر والتوزيع، ط الأولى 2007. ص 45.
([40])طوني بينيت - لورانس غروسبيرغ- ميغان موريس، معجم مصطلحات الثقافة والمجتمع، المنظمة العربية للترجمة، ط الأولى 2010. ص 41.
ابراهيم بوخالفة
سيرة علميّة
الدكتور بوخالفة إبراهيم من مواليد 1960 بجمهورية تونس
متحصل على شهادة الباكالوريا بها، وعلى الليسانس من جامعة الجزائر
متحصل على درجة الماجستير في الأدب العربي في النقد الثقافي
متحصل على الدكتوراه في نفس التخصص في جامعة الجزائر
أستاذ الأدب المقارن والنقد الثقافي بالمركز الجامعي بتيبازة
له كتابان في النقد الثقافي:
1 - صورة العثمانيين في روايات أمين معلوف.
2 - الآخرية في الرواية الفرونكفونيّة.
له عدة مقالات بمجلات دولية ووطنية محكمة في مجال النقد الأدبي والنقد الثقافي.
يشتغل حاليّا حول روايات الكاتب المصري السيد حافظ
وحول روايات الكاتب الجزائري عز الدين جلاوجي
0 التعليقات:
إرسال تعليق