دراسات من كتب د. نجاة صادق الجشعمي
( 227 )
لك النيل والقمربقلم : د. منيرة مصباح
دراسة من كتاب
تمظهر التجديد في بنية السرد في القصة القصيرة
السيد حافظ نموذجا
جمع وإعداد
د. نـجـاة صـادق الجشـعمى
لك النيل والقمر
بقلم : د. منيرة مصباح
حين يكون الانسان هو الرئة التي يتنفس بها الوطن، يصبح الكاتب هو هذه الرئة لهذا الوطن، أو بعض من الهواء الذي يتنشقه لينعش تلك الارض التي تسمى وطن . فيدخل دائما كالهواء في شعاب الزمن والتاريخ ليطرد ويعري كل الكتل السوداء الممتدة في خلايا التاريخ. وذلك الفعل للكاتب لا يمنعه من الخوض في العلاقات الانسانية التي تكون جزءاً شاهداً على الزمن و التاريخ، أو تكون فاعلا فيه أو نافذة أو شريانا لدخول الهواء والدمالى رئة ذاك الوطن الذي يضغط الدخان الاسود الكثيف عليه. وقد عودنا المسرحي والروائي سيد حافظ في اعماله الكثيرة على فضح تلك البؤر المظلمة والمتراكمة عبر الزمن والتاريخ، ليستحضر التراث أحيانا والواقع، ويسقطهما على بعض ليكشف لنا قوة بشاعة التاريخ والواقع معا. فنشعر دائما أن لا أمل لوجود الفضائل الكبرى التي نادى بها المفكرون في عالمنا الانساني منذ القدم (العدالة والحرية والمساواة) الا بنسب قليلة في عالم اصبح متآكلا. وعندما نقرأ عناوين القصص التي كتبها سيد حافظ خلال أربعين عاما وضمنها في مجموعة (لك النيل والقمر) نستطيع ان نفهم مدلولاته في هذا العنوان، فهو يكتب عن مصر.. عن بهية.. مصر هي أرق دائم للكاتب بكل ما فيها، وبكل تاريخها القديم والحديث، لذلك نراه دائما ما يسترجع الماضي ويقارنه او يسقطه أو يدمجه بالحاضر. لقد استنطق الكاتب في قصصه ذاكرة شخصياته ليضفي على واقعهم مأساة زمنية متكررة ومتعاقبة يعيشونها، تمثل واقع المجتمع الذي ينتمون اليه، وهو بذلك يوظف أدوات الواقعية النقدية الحديثة للعمل القصصي، فيقدم لوحة شاملة لعلاقات البشر الاجتماعية، من خلال الفوارق الطبقية في المدينة التي تتنازعها رواسب التخلف والحضارة الموروثة، مع واقع الحرب السائدة في الدول المحيطة بكل تفاصيلها. حيث تبقى المأساة الحقيقية هي المأساة الاجتماعية بين الناس، والتي يصر سيد حافظ على نكئها بزخم فكري أراد منه التغلغل الى قلوب وعقول كل من يقرأ كتبه، لأجل إيجاد البدائل في عالم ملىء بالزيف والخداع، وفي زمن يموت فيه الفعل والحركة. فالنقد كما تقول يمنى العيد، يدفع باتجاه رؤية القضية الادبية كقضية عامة تعطي تراكما ثقافيا، يؤدي الى خلق وعي.. حتى يصبح الالتصاق قائما بين الكاتب والمتلقي. ففي قصص سيد حافظ، دائما ما نلاحظ استدعاءه للتراث السياسي والاجتماعي والثقافي، خاصة في القصص الخمس التي سأتناولها بالبحث، والهدف من ذلك اسقاط الماضي على الحاضر، ليقدم لنا أمثولة مع تداخل الازمان والتواريخ. في القصة الاولى يعيدنا الى عام 1791، ذلك التاريخ الذي دخل فيه نابليون الى مصر حيث يقول: (في الامس البعيد، "عمل المولد في الازبكية، ودعا الشيخ خليل البكري عسكر الكبير (أي نابوليون) مع جماعة من اعيانهم وتعشوا عنده، وضربوا ببركة الازبكية مدافع، وعملوا حراقة وصواريخ... ورد خبر ان الفرنسيين أحضروا عثمان خوجه، ونقلوه من الاسكندرية الى رشيد، فدخلوا به البلد وهو مكشوف الرأس... فقطعوا رأسه وعلقوه من شباك داره ليراه من يمر بالسوق من العامه. إن السيد حافظ في استعادته للتاريخ يطرح العديد من الاسئلة عن الواقع الشبيه بالماضي القريب ليذكرنا بما سمي بثورات الربيع العربي ونتائجها من السياسات المضرة بمصالح الشعوب والمجتمعات. ففي قصة "تنهيدة: غدا- اليوم- أمس" هناك صوت داخلي حاضر، وصوت في الخلفية آت من الماضي، فالكاتب هنا يدخل الازمنة ببعضها ليرينا كيف ان التاريخ يعيد نفسه. كما نرى مأساة الانسان من خلال مأساته هو، ومعاناته بسبب الهجرة من بلاده بحثا عن الرزق والحياة الكريمة ليذكر العديد من معاناة الكتاب والشعراء والفنانين من عبدالله النديم الى بيرم التونسي الى سيد درويش الى توفيق الحكيم الى غيرهم... سردية عندما غاب القمر في هذه القصة يسترجع الكاتب النص الديني، حيث يطرح قضية اجتماعية من خلال علاقة النبي يوسف مع اخوته، يقول : أحلم في الثانية عشر باثني عشر كوكبا والقمر والشمس لي ساجدين. من خلال هذا النص القرآني الذي يسقطه على الواقع التاريخي والمعاصر القريب والبعيد للعالم العربي في كل تحولاته الاجتماعية. كما يعيدنا الى تفجيرات سبتمبر 11 – 2001، وكيف ان العالم كله وقف واتفق على حرب العراق مع التحالف العربي الامريكي عام 2003 . كما انه حين يستدعي طارق بن زياد من التاريخ الاسلامي في القصة الأولى، ليجد أن لا أحد يعرفه، فهو يرمز بذلك الى ان المسلمين يجهلون تاريخهم. فهو يقول في حيرة بعد ان يشير الى الثورات العربية الحديثة: الغد... المجهول.. ربما هو اليوم .. او امس... ايضا في عودة سيد حافظ الى زمن نابليون في هذه القصة، يدلنا على ترابط القصص بما يطرحه من أفكار، رغم اختلاف الطرح في الزمان والمكان فهو يقول على لسان نابليون: "ان هذا الشعب لا احد يفهمه "هاجر على أشجار القلق" وفي عودته للتراث في القصة الخامسة "مهاجرعلى أشجار القلق"، يذكرنا الكاتب بكتاب ابن المقفع "كليلة ودمنة"، وهو يقص على لسان العمة قصة الثعلب والدجاجات الثلاث الصفراء والبيضاء والخضراء. فالثعلب معروف عنه المكر والاحتيال للحصول على ما يريد، فهو في القصة يحاول التفريق بين الدجاجات الثلاث، فيفهم كل واحدة على حدة انه ليس بحاجة الا لها، وبذلك يستفرد بهم واحدة بعد الاخرى ليأكلهم الثلاثة . في هذه القصة كما في القصص السابقة، لكنه هنا نراه يعود الى القرية ليبتعد عن المدينة بكل ما تحمله من استغلال، كنوع من الهروب الى الفطرة، الى البساطة، الى الطيبة الى النقاء. كل ذلك هو انتقال فكري، روحي وليس مادي او واقعي، لكن في عودته للتراث، لا ينسى ان يسرد بعض قصص الواقع، حيث يسرد قصة ظلم كاتب يعمل في مؤسسة ثقافية إعلامية رسمية. هذا الكاتب يستدعى من قبل مدير المؤسسة ليسأله عن بعض ما كتبه من حقيقة بعض احداث التي لا يريد نشرها هذا المدير، ونتيجة لصدقه في الكتابة، يخصم شهرين من مرتبه. يقول: "من يبكيني غير الصدق" انه صدق الكتابة الذي يؤدي به الى الخسارة المادية دائما، فهل عليه أن يكذب ويلفق في الكتابة كي ياخذ حقه في العمل وفي الحياة؟ عندما دقت الساعة العاشرة في هذه القصة نستشف كيف ان الحاكم يملي كيفية كتابة الاحداث التاريخية كما يريدها هو وليس كما حصلت في الحقيقة، وذلك من خلال شخصية المدرس محسن فريد، عندما يحاول تصحيح التاريخ المكتوب ليعلم الاجيال القادمة التاريخ الحقيقي وليس ذلك المدون زورا كما اراده الملوك والسلاطين، حتى لو كان ضد الحاكم، حيث ينتهي المطاف به الى الانتحار برمي نفسه في النيل، على ان يعلم تلاميذه التاريخ المزور الذي يعرف حقيقته ولا يستطيع قولها. لكن رغم الافق الاسود للقصة، لا ينسى الكاتب ان يفاجئنا بنور قادم من خلال طالب يرفض المنهج التعليمي للتاريخ ليقول لمعلمه: "ان التاريخ الموجود تكتبه الوزارة خطأ". ان تجربة سيد حافظ تتميز بهيمنة موقع الراوي البطل الذي يحكم منطق بنية النص. حيث يكون الراوي منحازا الى بطله، وتكون البنية كمعظم القص العربي الحديث معتمدة على هذا النمط في الكتابة. لكن الكاتب في سرده هذا، يسرد تاريخ معاناته في علاقاته مع الكثير من الكتاب والصحفيين والمبدعين العرب اللذين يتجاهلون أعماله وينتقدونه، حيث يقول: "الوطن ما زال نائما" يعني انه نائم عن قراءة اعماله والاهتمام بها. لقطات من حطام الزمن الراكد في هذه القصة اربع لقطات، يربط بينهما امرأتان هما الزوجة والصديقة. في اللقطة الاولى والثانية نلاحظ كثير من الرومنسية، والرومنسية بحد ذاتها مرتبطة بالخيال والحزن والطبيعة، ودائما ما يكون الانسان الرومنسي حالم، حتى جيفارا الثوري الحالم والذي يذكره من لقطات حطام الزمن، كانت رومنسيته مؤلمة مع سقوط المطر وسقوط البشر في الخيانة. يقول في احدى اللقطات: "في يدي قيثارة أعزف بها واغني وتغني الطبيعة معي". أما في اللقطة الثالثة والرابعة، نرى الكاتب يعود للواقع حيث نبدأ بقراءة حواراً ثقافياً وسياسيا يدور بينه وبين الحبيبة والصديقة، وحول كل ما يرتبط بآلام الناس وأوضاعهم الاجتماعية والسياسية. اما في علاقته بالزوجة نرى حوارا آخر يتهرب منه حيث يتركها تناديه وهو يعدو خارجا يريد الهروب بقطارات الزمن. وسط كل هذا، ووسط المصائر والمواقف والواقع والاحتمالات، يطرح سيد حافظ أفكاره ورحلة بحثه الدائمة عن شيء لن يتحقق في عالم لا يؤمن بالفضائل الكبرى التي نادى بها مفكري العالم وهي (العدالة- المساواة- الحرية)،ان الذي نعيشه من خلال كتابة سيد حافظ، عالم مجهول في صحراء كبرى مقفرة من تلك الفضائل. ان كتاب لك النيل والقمر يولد لدينا العديد من الأسئلة عن ماهية الحياة والكون، عن الجوع والفقر، عن الدولة والسياسة، عن الحرية والعدالة والمساواة، عن التاريخ الحقيقي والمزور. مما يعطينا تفاصيل غنية للواقع الاجتماعي بوعي مدرك لتوجهاته المبدئية. ولا يسعني الا ان اقول في النهاية ان تجربة سيد حافظ القصصية خلال اربعين سنة من عمره وعمر بلاده وتاريخها، انما هي محاولة للربط بين التاريخ القديم والحديث، والزمن القديم والحديث بما فيهم من أحداث وبما يطرحه هو من أفكار ومباديء يؤمن بها، لكنه متأكد ايضا من ان افكاره هذه لن تغير من واقع الحياة شيئا. لقد عاش سيد حافظ في (لك النيل والقمر) فترة حزن الزمن وانعكاساتهاعلى الاشياء، وعلى النفس البشرية، وعلى المجتمع ومجريات حياته. فالاماكن يختلف وقعها من زمن لآخر، والشوارع التي كانت جميلة في زمن الاحلام لم تعد كذلك في في زمن الواقع. كذلك الاشجار والحدائق والطرقات والحقول.. والعلاقات الانسانية والسفر والحب والخيال كلها تتغير وتتخذ منها النفس ذلك الاحساس بحزن عميق لذاك الزمن الذي فقده الكاتب، لتبقى مبادئه وأفكاره هو ما يبحث عنه داخل النفس البشرية .
0 التعليقات:
إرسال تعليق