( 225)
التناص الديني و التاريخي عند السيّد حافظ
بقلم
د. وافيـــــــه بــولـفعـه
دراسة من كتاب
تمظهر التجديد في بنية السرد في القصة القصيرة
جمع وإعداد
د. نـجـاة صـادق الجشـعمى
التناص الديني و التاريخي عند السيّد حافظ
بقلم
د. وافيـــــــه بــولـفعـه
الجزائر
في مجموعته القصصية " لك النيل و القمر و الهرم يا أميرتي"
مقدّمة :
يظهر التناص العمق الثقافي والمسكوت عنه من ثقافة المبدع، يتحقق منها القارئ والمطّلع، فالنص هو حلقة الوصل بين المبدع والمتلقي، وهو متجدّد ومتغيّر باستمرار متشابك مع غيره من النصوص، ولا يستطيع الكاتب كتابة نص انطلاقا من العدم فلا يوجد نص وليد الساعة، بل يستحضر في ذهنه مجموعة من النصوص التي تختزنها الذاكرة سواء كان استحضاره لها عن وعي أواللاوعي، ولهذا فإن كل قراءة لهذا النص إنّما هي تفجير لدلالاته الظاهرة والمستترة، وهي دلالات لا متناهية .
ولغة الكاتب " سيد حافظ " لغة رامزة شديدة التكثيف، يدعو القارئ ليبحث فيما وراء المعنى لأنّه لا يمنح فكرته طوعا، لذلك كانت نظرية التناص آلية نقدية للكشف عنها من خلال إقامة علاقة وطيدة بين النص والموروث، لذا جاءت دراستنا بعنوان التناص الديني التاريخي لاستحضار هذين الموروثين في نصوصه و الوقوف على دلالتها الخفية والمستترة.
1- مفهوم التناص :
يعدّ التناص (intertxtualité) من المصطلحات النقدية البارزة في حقل دراسة النصوص الأدبية إذ يعدّ آلية جديدة لفهم النصوص عن طريق فحص مكوناتها الدلالية والشكلية ووسيلة للكشف عن مدى تداخل النصوص مع بعضها البعض، فيتشكّل نص جديد واحد متكامل، وقد كان ميخائيل باختين أوّل من أشار إلى وجود حوارية بين النصوص تحدث بطرق مختلفة( )، وذلك في مؤلَّفه الموسوم باسم " شعرية ديستوفسكي " الذي حاول من خلاله أن يوضح أنّ روايات ديستوفسكي لا تحمل بداخلها نوعا واحدا من النصوص، بل هي مزيج من النصوص المختلفة وأن فعل القول مختلف داخل تلك الروايات ومتعدد بتعدد شخوص كل رواية من رواياته ومختلف السياقات التي تجيء فيها الأحداث، لتأتي بعده الباحثة البلغارية الأصل " جوليا كريستيفا " وتبلور مصطلح التناص في النقد الحديث عند الغرب، وذلك سنة 1966 " لقد اتفق غالبية النقاد على أن مصطلح التناص قد ظهر بداية للمرة الأولى عند الباحثة جوليا كريستيفا في عدّة أبحاث لها وخاصة في كتابيها " السيميوطيقا" و"النص الروائي" ( )، وترى رائدة هذا المصطلح أنّ التناص هو" النقل لتعبيرات سابقة أومتزامنة وهو اقتطاع أوتحويل وهو عيّنة تركيبية تجمع لتنظيم نصي معطى التعبير المتضمن فيها أوالذي يحيل إليه"( ) وتضيف كريستيفا "إن كل نص يتشكّل من تركيبة فسيفسائية من الاستشهادات وكل نص هو امتصاص أو تحويل لنصوص أخرى"( ) وبذلك فإن التناص مفهوم يعنى بإبراز الصلات الرابطة بين النصوص وتبيان أشكال تفاعلها المباشر أوالضمني، وهو المفهوم الذي اتفق حوله كل النقاد الذين تبنوا هذا المصطلح وأجمعوا جميعا على أهمية الدراسة التناصية للنص الأدبي، وذهبوا إلى أنّ جزءاً أساسيا من نصية النص تتجلّى من خلال التناص كممارسة تبرز لنا عبرها قدرة الكاتب على التفاعل مع نصوص غيره من الكتاب، وعلى إنتاجه لنص جديد ( )، ومن بين هؤلاء النقاد "رولان بارث" يقول في مقالته " من العمل – الكتابة- إلى النص" "أنّ كل نص هو نسيج من الاقتباسات و المرجعيات والأصداء، وهذه لغات ثقافية قديمة و حديثة... وكلّ نص الذي هو تناص مع نص آخر ينتمي إلى التناص، وهذا يجب ألاّ يختلط مع أصول النص فالبحث عن مصادر النص أو مصادر تأثره هي محاولة لتحقيق أسطورة بنوة النص فالاقتباسات التي يتكون منها النص مجهولة المصدر ،ولكنها مقروءة فهي اقتباسات دون علامات تنصيص"( ) ويضيف بارث أيضا" أنّ النص هو جيولوجيا كتابات"( )
أمّا "مارك أنجينو" وهو من النقاد المحدثين المنشغلين بنظريات النص والتناص يعرف التناص في قوله: " كل نص يتعايش بطريقة من الطرق مع نصوص أخرى، وبهذا يصبح نصا في نص تناصا"( )
وممن أضاف بعدا جديدا إلى مفهوم التناص " ميشيل فوكو" في كتابه " نظام الخطاب" حيث يتوسع في هذه المسألة مشيرا إلى أن الكتابة أوالنص يمرّ في ثلاث حالات أو مراحل تتفاعل معا لإثراء النص وإعادة إنتاجه، فهو يقول : " فالخطاب ليس سوى لعبة : لعبة كتابة في الحالة الأولى، ولعبة قراءة في الحالة الثانية، ولعبة تبادل في الحالة الثالثة وهذا التبادل وهذه القراءة وهذه الكتابة لا تستعمل أبدا إلا العلامات، فالخطاب يلغي نفسه إذن في واقعه الحي بأن يضع نفسه في مستوى الدّال "( ) ففوكو يتابع مراحل إنتاج النص منذ بدايته في ذهن الكاتب، ثمّ كتابته نصا ثمّ قراءة ثم تداوله ونقده، وفي كل هذه المراحل تتشكّل الرّموز والعلامات ،وربّما تتغيّر وتتعمّق، كما يحدث تناص في أثناء الكتابة ثم تناص آخر أثناء القراءة ثم تناصات أخرى في أثناء التبادل أومقارنة هذه النصوص ثم العلامات في ذهن الكاتب، وتلك التي في ذهن القارئ التي لا تكون متطابقة في أغلب الأحيان، وهذه العملية الإنتاجية للنص الأدبي القائمة على لغة مشتركة بين الكاتب والقارئ يطلق عليها فوكو" لعبة الكتابة والقراءة " وهي أشبه ما تكون بلعبة رياضية تحتاج إلى مهارة وإتقان كلا الفريقين في الملعب، أوالكاتب والقارئ في النص"( ) وتأسيسا على ما سبق تذهب حركة التناص النقدية إلى أنّ النص المقروء لا يمكن فهمه دون الرجوع إلى العديد من النصوص التي ساهمت في خلقه لأنّ ما نكتبه من نصوص إنما هي أبناء وحفيدات لنصوص أخرى سابقة عليها تعاد كتابتها وفق سياق جديد ينقلها من تجربة فنية إلى تجربة مختلفة، ومن جو عاطفي إلى جو وجداني آخر، يتواصل فيها القديم والحديث ويتوزع على ذاكرة واسعة تغترف من مصادر متنوعة، ممّا يجعل دور القارئ حاسما في استحضار النص الغائب واستكشافه داخل النص الحاضر، وإبراز العلاقة الخفية التي تربط بينهما( ). ولهذا يوصف النص في ظل نظرية التناص بالتعدّدي، فإضافة إلى كونه ينطوي على أكثر من معنى، فإنّه كذلك قابل لتفجير معانيه ودلالاته من خلال قراءته قراءات تكشف عن ثرائه وغناه المعنويين، فالقارئ هنا هو المسئول عن بيان مصادر الكاتب التي من خلالها تشكلت هوية هذا النص، سواء كانت هذه المصادر مقتبسة من التراث أومن التاريخ أومن الفولكلور، أومن سائر الحقول المعرفية الأخرى ،وهذا إن دلّ على شيء إنما يدلّ على أنّ النص اجتماعي بطبعه أوهو جمع بصيغة المفرد، هو فرد كلامي في قبيلة لغوية وثقافية تتوقف فيها على التواصل مع سائر أفرادها ( )
وانطلاقا من قناعة الدارسين بأهمية التناص ودوره الفعال في تحليل النصوص، وانطلاقا كذلك من تأكيدهم بأنه لا وجود لنص بكر موجود من العدم، فإنهم راحوا يحاولون من خلال أبحاثهم الكشف عن أنواع التفاعلات الحاصلة بين النص والنصوص الأخرى علما منهم بأن هذه التفاعلات إنما هي قدر كل نص مهما كان جنسه أونوعه، وقد كان " جيرار جنيت" من أكثر الذين اهتموا بهذا الموضوع ،واعتبروه من صميم اهتمامات علم الشعرية إن الشعرية عنده :" عبارة عن مقولة أكثر تجريدا تهتم بالمتعاليات النصية ، أو بأكثر دقة بالتعالي النصي للنص، أي كل ما يجعل من النص يدخل في علاقة ظاهرة أوخفية مع باقي النصوص وبالتالي تتحدّد في خمسة أنماط هي: التناص، المناص، الميتانص، النص اللاحق النص الجامع"( )
1-التناص: (intertexte) وهو حضور نص في نص آخر مثل الاستشهاد، السرقة.
2- المناص :(paratexte) وهو النص المصاحب أوالموازي أوالمحاذي للنص، إذ من خلاله يتعرّف المتلقي على طبيعة الخطاب الذي يروم التعامل معه كالعنوان، التمهيد عناوين الفصول، الهوامش .
3- الميتانص: (métatexte) وهو العلاقة النقدية التي تربط نصا بآخر يتحدث عنه دون أن يحيل عليه بالضرورة، نقد أوتعليق .
4- النص اللاحق :(hypertexte) أي علاقة نص لاحق بنص سابق يحاكيه أويقلّده أويقوم بتحويله أو تشويهه دون الإحالة عليه .
5- النص الجامع : أومعمارية النص (l’architexte) و هي أكثر الأنماط تجريدا وضمنية ترتبط بجنسية النص أونوعيته مثل رواية، شعر، مسرحية
هذا وقد انتقل هذا المصطلح إلى النقد العربي الحديث، ومن النقاد العرب المحدثين الذين اهتموا بالتناص " محمد بنيس" حيث استبدل بعض مصطلحات التناص بمصطلحات جديدة في كتابيه( ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب) و( حداثة السؤال)، إذ أطلق على التناص مصطلح (التداخل النصي) الذي يحدث نتيجة تداخل نص حاضر مع نصوص غائبة والنص الغائب هو الذي تعيد النصوص كتابته وقراءته، أي مجموعة من النصوص المستترة التي يحتويها النص الحاضر، وتعمل بشكل باطني عضوي على تحقق هذا النص وتشكّل دلالته، أما في كتابه " حداثة السؤال " فقد تحدث عن مصطلح (هجرة النص) الذي شطره إلى شطرين ،فهناك (نص مهاجر) و( نص مهاجر إليه)، وقد اعتبر هجرة النص شرطا رئيسيا لإعادة إنتاجه من جديد، بحيث يبقى النص المهاجر محدّدا في الزمان والمكان مع خضوعه لمتغيرات دائمة وتتم له هذه الفعالية التي تتوهج من خلال عملية القراءة، وقد تأثر محمد بنيس في تقسيمه لمصطلح " هجرة النص" بالناقد الفرنسي جيرار جنيت( ) .
أما سعيد يقطين فيستعمل مصطلح التفاعل النصي كبديل لمصطلح المتعاليات النصية عند "جنيت" لأنّه حسب رأيه :" أعمّ وأشمل من التناص ،وأدق من المتعاليات النصية، كما أن هذا المفهوم مفتوح على كلّ العلاقات الكائنة والممكنة " ( )
أما الباحث محمد مفتاح، فإنّه يقدّم مفهوما جامعا مانعا للتناص إذ يقول : " التناص فسيفساء من نصوص أخرى أدمجت فيه بتقنيات مختلفة... فالتناص هو تعالق (الدخول في علاقة) نصوص مع نص حدث بكيفيات مختلفة " ( )، وقد وضعه في درجات هي :
التطابق : وهو تساوي النصوص في الخصائص البنيوية وفي النتائج الوظيفية ،ولا يتحقق هذا التطابق إلاّ في النصوص المستنسخة .
التفاعل : وهو حال كل النصوص، فكل نص مهما كان هو نتيجة تفاعلات نصوص مختلفة فقد يكون النص مقتبسا من أجناس وأنواع متباينة
التداخل : هو تداخل النصوص فيما بينها تداخلا لا يحقق الامتزاج أوالتفاعل، ولكنها تبقى متشاركة تشاركا يوجد صلات معينة بينها
التحاذي : عندما تنعدم الصلات والعلائق بين النصوص فإنها تبقى في حالة تحاذٍ أومجاورة وموازاة في فضاء مع محافظة كل نص على هويته وبنيته ووظيفته .
التباعد : التحاذي الشكلي والمعنوي والفضائي يتحول أحيانا إلى تباعد شكلي ومعنوي وفضائي مثلا تحاذي نص حديثي مع نص قرآني، والتباعد يتجلى في مجاورة حديث حمقى مع حديث حكماء، أونكتة سخيفة مع آية قرآنية .
التقاصي : يمكن اعتبار هذا التباعد نوعا أوليا من التقاصي، فالتباعد يقوم على التقابلات بين نصوص سخيفة أوفاجرة مع نصوص دينية، أما التقاصي فيبلغ مداه مثلا في نقض القرآن الكريم لما جاء في بعض الكتب السماوية ( )
و مما سبق ذكره فلا مناص من التناص حسب ما يشير إلى ذلك محمد مفتاح إذ يقول : " إنّ التناص لا مناص منه إلاّ أنه لا فكاك للإنسان من شروطه الزمانية و المكانية ومستوياتها، ومن تاريخه الشخصي أي من ذاكرته، وأساس إنتاج أي نص هو معرفة صاحبه للعالم ،وهذه المعرفة هي ركيزة تأويل النص من قبل المتلقي أيضا "( )
وخلاصة القول إن التناص في النص الأدبي وظائف عدّة لا تتوقف عند حدود ما يحدث من مسح جمالية فحسب، بل يسهم في تشكيل النص إنشائيا و دلاليا، ويوقظ التداعيات في أذهان المتلقين فيجعلهم يشاركون في إنتاج النص .
بعد هذا العرض الموجز لمفهوم التناص سننتقل إلى الدراسة التطبيقية التحليلية لنماذج التناص التي تتضمنها المجموعة القصصية للسيد حافظ، وسنتناول التناص الديني والتاريخي :
1- التناص الديني :
ونعني به تداخل نصوص دينية مختارة عن طريق الاقتباس والتضمين من القرآن الكريم أوالحديث النبوي الشريف أوالخطب أوالأخبار الدينية مع النص الأصلي( ) للقصة بحيث تنسجم هذه النصوص مع السياق القصصي وتؤدي غرضا فكريا أوفنيا أوكليهما معا وقد احتوت المجموعة القصصية للسيد حافظ " لك النيل و البحر و الهرم يا أميرتي " نصوصا دينية كثيرة ومتنوعة، اندمجت وتداخلت مع نصوص المجموعة القصصية وسياقاتها المختلفة مكوّنة نماذج متعددة من التناص الديني، أثرت الفكرة المطروحة وعمّقت الرّؤية للأحداث وساهمت في تشكيل البناء الفني للقصة، ومن نماذج التناص الديني :
- استحضار النص القرآني و القصة القرآنية : للقرآن الكريم الحضور الواسع و القوي في النصوص الأدبية، لما فيها من طاقات إبداعية تصل بين المبدع (الكاتب) والمتلقي (القارئ) لتؤثر في هذا الأخير بشكل كبير ومباشر، ويعدّ القرآن الكريم مصدرا من مصادر الموروث الأساسية ومصدرا للتشريع لدى المسلمين، وقد نهل القاص "سيد حافظ " من هذا المصدر وتمثّل الآيات القرآنية في قصصه، ومن نماذج ذلك ما نجده في قصته بعنوان " أشياء لا تحلم بالهجرة " ( ) يقول فيها القاص :" آه تعود كما خرجت... وتخلع نعليك إنّك بالوادي المقدس طوى هذه أرضك يا محمد فاروق، تزرع فيها القمح و الورد والأمل... وتحصد أشجار الشرّ المنتشرة في الوادي... كانت مريم بملابسها البيضاء تقف على الشاطئ وحيدة... أخذ يلوّح محمد فاروق بيديه صارخا يا مريم هأنذا قد عدت ومعي المنجل العجيب... ترى ماذا حدث أثناء غيابي كل هذه السنوات ؟ كيف حالك يا مريم ؟ جئت، نعم جئت كي نحصد أشجار الشر المنتشرة في الوادي ونزرع القمح وننجب ابننا المصطفى يغيّر وجه الدنيا و ينشر رسالة الأرض الطيبة" ( ) ففي قوله " وتخلع نعليك إنّك بالوادي المقدس طوى" وهو النص الحاضر يتناص مع قوله تعالى : " إنّي أنا ربّك فاخلع نعليك إنك بالوادي المقدّس طوى "( ) النص الأصلي الغائب يريد الكاتب أن يشير إلى قدسية المكان باعتبار أن الوادي المقدس طوى مكان مبارك يقع في مصر، وهنا إبراز لقدسية مصر، وخلع النعل إظهار للمهابة والاحترام لهذا البلد المقدس كيف لا وهي موطن الأنبياء، وفي هذا الوادي المقدس نادى الله موسى عليه السلام وأخبره أنه ربّه وأمره أن يستعد ويتهيّأ لمناجاته، لكن بالرغم من قداسة مصر إلا أن أبناءها ضاقوا ذرعا منها نظرا للظروف القاسية التي يعيشونها والتي مست نواحي عديدة في حياتهم، فكانت الهجرة وترك الوطن الحل لتحسين الأوضاع وتحصيل السلاح من أجل التغيير وتطهير مصر ممّن سلبها قدسيتها، فبطل القصة " محمد فاروق" عاد إلى الوطن (الزوجة) وبيده السلاح (المنجل العجيب) الذي يرمز إلى الوعي لاقتلاع جذور الشر (التغيير)، وحتى إن كلّف هذا التغيير حياته فإن مصطفى الابن سيواصل النضال من أجل التغيير، فكان الحمل في القصة رمزا دالا على الاستمرارية (الاستمرار من أجل إعادة قدسية مصر التي سلبت منها)
وفي موضع آخر نجد القاص يعظّم أمر الوعي ويفخّمه في قوله :" الوعي، ما الوعي، وما أدراك ما الوعي " في قصة قصيرة( ) وذلك في قالب ديني تعبيري يتناص مع قوله تعالى : " القارعة (1) ما القارعة (2) وما أدراك ما القارعة (3)( ) ليبرز عظمة الوعي وأهميته في صناعة النهضة والتطور، والثقافة (باعتبار أن الكاتب مثقف) لها دور في بث الوعي ونشره، ولا يكون لها هذا الدور إلاّ إذا بنيت على أسس المحبة والتسامح والتواضع والعطاء أمّا إذا افتقدت لهذه الأسس فهي ثقافة تتسم بالأنانية والتعالي على الآخر ورفض رأيه والحوار معه وهذا ما يجعل من المثقف يعاني ويعيش التهميش، وبالتالي سيكون هذا حائلا بينه وبين بث الوعي .
وليصوّر الكاتب جانبا من التهميش والمعاناة التي يعيشها المثقف المناضل نجده يستحضر نصا قرآنيا في قصته " عندما غاب القمر " ( ) يقول فيها :"إني ما زلت أحلم كطفل في الثانية عشر باثني عشر كوكبا والقمر والشمس لي ساجدين"( ) يتناص مع قوله تعالى " إذ قال يوسف لأبيه إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر لي ساجدين "( ) والسجود هنا يرمز إلى الولاء والمساندة والاعتراف، لكن الكاتب باعتباره مثقفا لم يجد المساندة والولاء بل عانى التهميش ليس من السلطة أوالشعب فحسب بل من أبناء جلدته من المقربين إليه من الطبقة المثقفة ويصور تخلي زملائه عنه أثناء مرضه يقول في نفس القصة : " أمي قالت لا تمت الآن... الطبيب يقول إنه مكتئب والمومس الغانية تزورني كل يوم في المستشفى بباقة ورد وتقول إنك رجل شريف، غاب الشرفاء عني إلاّ القلّة... أقصد من كنت أظنهم شرفاء لم يعاودوني وأنا مريض وجاءتني المومس تزورني يوميا... صدقيني يا أمي من زارني وأنا مريض مومس... اختفى الشعراء والأدباء والفنانون إلاّ قلّة"( ) فتجد الكاتب يحلم بالولاء والاعتراف من طرف زملائه المثقفين لكنه مجرّد حلم (حلم طفل) لا يمكن تحقيقه على أرض الواقع، في حين أنّ ما رآه سيدنا يوسف عليه السلام هي رؤيا صادقة فقد اعترف إخوته بخطئهم تجاهه بعد المحن التي مرّ بها بسببهم .
ونجد استحضار النص القرآني في قصته " تنهيدة غد اليوم أمس" ( ) وذلك في الرسالة التي بعثت إليه من مكناس في 26/12/ 1993 من طرف عبد الرحمن بن زيدان جاء فيها : "بعد مناورات وسوء نية كانت تعرقل السير العادي لتقديم أطروحتي الجامعية، وبعد صبر طويل ومعاناة مريرة، وبعد صمت حكيم ضبط فيها أعصابي جاء الحق، فتبينت الخيط الأبيض من الخيط الأسود، وجاء تاريخ المناقشة الاثنين 20/12/ 1993 حيث دامت المناقشة أكثر من ست ساعات بحضور أكثر من ستمائة طالب وأستاذ ومحام وأعيان مدينة مكناس ومثقفين" ( )
ففي قوله "جاء الحق" يتناص مع قوله تعالى "وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا"( ) وفي قوله "فتبينت الخيط الأبيض من الخيط الأسود" يتناص مع قوله تعالى "وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر"( ) يبرز الكاتب من خلال الرسالة التي استحضرها في قصته " تنهيدة غد اليوم أمس" المعاناة المريرة التي يعيشها المثقف (المثقف الصادق، المثقف الذي يدافع عن الحق والحقيقة المثقف الذي لا يداور ولا يراوغ) تجد هذا الأخير يكابد العناء ويواجه العراقيل (الخيط الأسود) بقلب صبور وصمت حكيم دون أن يتخلى عن مبادئه وقيمه لأن الصبر والحكمة سلاحان له للتغلب على المصاعب وهو موقن أيضا أن الحق سيظهر وتتضح الأمور ويزال الالتباس (بعد مناورات وسوء نية) فينصف وتتاح له الفرصة وتهيّأ له الأجواء للإبداع وهذا ما وقع لصديقه الذي بعث له رسالة من مكناس ليزف له خبر مناقشته لرسالة الدكتوراه (الحق، الخيط الأبيض) يقول في القصة: "لقد جاء الحق والآن بدأ مشوار جديد في العمل من أجل مسرح عربي حيث الإبداع والابتكار والدفاع عن الثقافة "( )
ونجد التناص القرآني في قصته بعنوان "واقعة الوقائع في مدينة القطائع"( ) يقول : " لا بدّ أن تنقذ الطفل... الطفل مهم أن يعيش ويصبح رجلا، جرى الكلب، الطفل يجري أمامه صرخت أمه وجرى سرحان إلى الشارع خلف الكلب، الطفل لابد أن يقاوم الكلب مهما كان الثمن، أم الطفل كانت تصرخ ليس بدافع الأمومة و لكن لأنها أنجبت الطفل بعد 20 عاما من الزواج " يازكريا إنا نبشرّك بغلام اسمه يحي" جرى يحمل الطفل إلى المنزل، ها أنت يا سرحان أنقذت الطفل"( ) فالكاتب هنا يستحضر الآية القرآنية " يازكريا إنا نبشرّك بغلام اسمه يحيا" ( ) وهو النص الغائب كما هو بمعناه ومبناه ليؤكد قدرة الله تعالى في منح الذريّة لعباده ،وحتى إن بلغوا من العمر عتيا وصاروا شيوخا وعجائز، فقد رزق الله هذه المرأة بعد عشرين عاما من الزواج كما رزق سيدنا زكريا وهو شيخ هرم بغلام اسمه يحي .
وفي قصة أخرى بعنوان " غسيل الروح يا حبيبتي " ( ) يقول: " وتعلمت من الله والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس" ( ) يستحضر قوله تعالى: " الذين ينفقون في السرّاء والضّراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين" ( ) ليبرز الأخلاق والآداب الإسلامية التي يتحلّى بها وهي كظم الغيظ (الغضب)، العفو والتسامح ردّا على ما قيل له يقول في نفس القصة: " قال لي الشويهدي: سمعت من صلاح خريط رئيس التحرير أن الفلسطنيين مطلّعين عينك في الكويت قلت صراع من أجل الدنيا وليس من أجل المبادئ"( )
ومن التناص الديني استحضار القصة القرآنية وهي قصة موسى عليه السلام يقول الكاتب في قصته " رجل يسير في صندوق " ( ) : " جلست فاطمة في أحد الأركان تتحدث مع الأطفال وتحكي لهم قصص النيل وكيف أن سيدنا موسى سار في الصندوق وأنّ زوجة فرعون كانت جالسة وشاهدت الصندوق " ( ) في هذا النهر المبارك، في نيل مصر وضعت أم موسى ولدها في الصندوق، وألقته فيه فتلقفته الأمواج، وشاء الله تعالى أن تقع عين امرأة الفرعون على هذا الطفل المبارك وتطلب من زوجها أن يكون ابنا لها فوافق على ذلك دون أن يدري بأن هذا الطفل في الصندوق والذي سيترعرع في كنفه، هو ذلك المولود الذي تنبأ الكهنة بذهاب ملكه على يديه ،وهو النبي الذي بعثه الله إلى قوم بني إسرائيل ليغيّر حالهم ومعيشتهم ويخلّصهم من جبروت الفرعون و طغيانه ،ويبعث في قلوبهم نور الإيمان( ) يقول الله تعالى : " وأوحينا إلى أمّ موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليمّ ولا تخافي ولا تحزني إنّا رادّوه إليك وجاعلوه من المرسلين(7) فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين(8) وقالت امرأة فرعون قرّة عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتّخذه ولدا وهم لا يشعرون(9)" ( ) والكاتب في هذه القصة يستحضر قصة موسى عليه السلام ليبرز أن هذا الطفل في الصندوق هو الذي خلّص قومه من جبروت الفرعون، وهذا ما حدث مع بدر الجمال (جمال عبد الناصر) بعد توليه الحكم في مصر، فقبل مجيئه أصيب الناس بالمجاعة حتى أضحت الفئران طعامهم إلى أن جاء فخلصهم من تلك المجاعة واستبدل عيشة البلاء بعيشة الرخاء والهناء، يقول الكاتب في نفس القصة : "وبعد موت الحاكم بأمر الله أصيبت مصر بالمجاعة، والناس أخذت أخذت تجوع، وكانت مصر تأكل الفئران والسبب الجوع، حتى جاء بدر الجمال محمّلا بالقمح إلى مصر، خرج المصريون يصرخون إبراهيم يصرخ هذا حكم فرعون الجديد ألم أقل لكم"( )
- استحضار الحديث النبوي وجانب من سيرة النبي صلى الله عليه وسلّم : ويعدّ الحديث النبوي من النصوص الدينية التي كان لها حضور في القصة عند السيد حافظ يقول في قصته " تنهيدة غد اليوم أمس" ( ) من خلال الرسالة التي بعثت إليه تشدّ أزره وتخفف معاناته بعد هضم حقّه في الكويت جاء فيها :" أخي السيد، الحياة يا أخي كما قلت سابقا ليست بدار مقام وليست هي القمة قمة الطموح وغايته يقول الرسول عليه الصلاة والسلام : " اللهم لا تجعل الدنيا مبلغ علمنا وكلّ همنا " ( ) فاستحضار الحديث الشريف كان للاستشهاد الغرض منه تأكيد فكرة أن الحياة ليست قمة الطموح وغايته، ويواصل قوله في نفس القصة : " وفي كلّ الحالات الرزق مقدّر وهو بيد الله وحده فهو ربّ الكافر و المؤمن وما من دابة على الأرض إلاّ وعلى الله رزقها يقول الرسول عليه الصلاة والسلام :" لو توكلتم على الله حق التوكّل ليرزقكم الله كما يرزق الطير فهي تغدو خماصة وتعود بطانة"( ) فالاستشهاد بالحديث النبوي جاء لتأكيد فكرة أنّ الأرزاق بيد الله وأنّ الله وحده النصير. فاستشهاد صاحب الرسالة بهذين الحديثين الشريفين كان ليشدّ بهما أزر صديقه ويخفّف معاناته بعد هضم حقه في الكويت يقول السيد :" جئتك يا كويت إلى جريدة القبس كي أقبض مبلغ ثلاثمائة دينار كويتي عن مقالات كتبتها في القبس ذهبت إلى مدير التحرير رؤوف الشحوري كان لبنانيا مغرورا طاووسا، قلت له : لي حقوق عندكم أجر 20 مقالة، قال لي : انزل الحسابات خذ حسابك، فنزلت الحسابات قالوا : غدا تعالى في الغد حضرت منعني الأمن من الدخول إلى المبنى... آه يا خليج المواجع... هأنذا أعذّب فيك كتبت رسالة إلى أخي رمضان أشكو له ما لي من صدمة، بعد أسبوع وصلني الرّد يوم 05/ 07/ 1977"( )
ومن التناص الديني استحضار جانب من سيرة النبي صلى الله عليه و سلّم عند بعثته ونزول الوحي عليه في قصته " عنّفيني، قربيني، لا تبعديني، لملميني، لا تهجرني" ( ) يقول: دثريني دثريني قالها محمد عليه الصلاة والسلام للسيّدة خديجة عندما رأى جبريل عليه السلام وقال لها زمليني زمليني، وأنا قلت لك يا حبيبتي عندما هبط عليّ وحي الإبداع في الفن احضنيني عنفيني قربيني، لا تبعديني لملميني، فأنا أشعر برعشة في جسدي لا تهجرني"( ) استحضار الكاتب مجيء جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلّم وإنزال الوحي عليه، وحالة الخوف التي تملكته عند حدوث ذلك ورجوعه إلى خديجة رضي الله عنها وهو يرتجف طالبا منها أن تدثّره و تزمّله ليبرز نفس الحالة التي اعترت الكاتب عند نزول وحي الإبداع عليه طالبا من حبيبته أن لا تبتعد عنه وتهجره، وأن نزول الوحي له أثر ووقع كبيران على النفس .
- استحضار الدّعاء :
وذلك في قصته " غسيل الروح يا حبيبتي " ( ) يقول : تعلمت من محمد عليه الصلاة والسلام الدعاء بالهداية: " اللهم أهدي قومي فهم لا يفقهون" ( ) وفي قصته بعنوان " مقاطع من أوراق الحب والحرب والجواسيس " ( ) يقول :" اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهوّن به مصائب الدنيا ومتّعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا أبدا ما أحييتنا، واجعله الوارث منّا واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، ولا تسلّط علينا من لا يرحمنا " ( )
فالدعاء من العبادات العظيمة وهو يعني اللجوء إلى الله عزّ وجل في السّراء والضّراء والاستعانة به والخضوع له طمعا في رحمته والخير الذي عنده، وطلبا لتحقيق الحاجات في الدنيا والآخرة، وفيه يجد العبد راحة القلب وسكينة النفس ،والدعاء ملجأ للمظلومين والمستضعفين، فالمظلوم الذي يرفع يديه إلى السماء، ويبثّ شكواه إلى العزيز الجبّار يعزّه الله وينصره، وينتقم له ممن ظلمه، وهو أيضا سبب للثبات والنصر على الأعداء فالكاتب وهو يستحضر الدعاء في مجموعته القصصية يبرز قوة إيمانه بالله تعالى لذا تجده يفوّض أمره إليه وحده ويستعين به على كافة أموره، وهو بذلك يقطع الرجاء مما في أيدي البشر، فيتخلّص من أسرهم لأنّ الدعاء وسيلة لعلوّ الهمة وكبر النفس.
إن ظهور التناص الديني عند السيد حافظ يدل على ثقافته الدينية الواسعة، وظّفها القاص واستلهمها في تطلعاته ومقاصده وأفكاره، وكان للقرآن نصيب وافر في قصصه، فقد تضمنت حشدا كبيرا من المفردات ذات البعد الديني ،كما قام بامتصاص دلالات المفردات المتناصة، وذلك لإعطاء الخطاب القصصي قيمة فنية ذات تأثير عميق في نفس المتلقي بعد أن يمنحها رؤيته الخاصة .
2- التناص التاريخي :
ونعني بالتناص التاريخي تداخل نصوص تاريخية مختارة ومنتقاة مع النص الأصلي( ) تبدو مناسبة ومنسجمة لدى المؤلّف مع السياق القصصي أوالحدث القصصي الذي يرصده ويسرده، وتؤدي غرضا فكريا أوفنيا أو كليهما معا، ونماذج التناص التاريخي كثيرة في المجموعة القصصية، وسنحاول الكشف عن دلالات هذه التناصات شكلا ومضمونا وعلاقتها الظاهرة والخفية مع السياق القصصي ومجريات الأحداث، ومن التناص التاريخي استحضار وقائع تاريخية واستحضار شخصيات تاريخية .
أ- استحضار وقائع تاريخية :
- الفتح الإسلامي لمصر في عهد عمر بن الخطاب : يقول الكاتب في قصته " لك النيل والبحر والهرم يا أميرتي "( ) :" قال الشرطي البدوي على حدود البلاد العربية في الجوازات أنت منهو، أنت شنهو، قلت له أنا لا أعرف من أنا، لكن اسأل جدّك الأول الذي جاء من شبه الجزيرة العربية مع عمرو بن العاص ليفتح مصر وينشر الإسلام ودخلنا الإسلام وصرنا مسلمين وموحدين بالله... قال الشرطي أكرهك أعرفك أنا جدي عمرو بن العاص أنت المصري الذي راح واشتكى جدي عمرو بن العاص إلى سيدنا عمر بن الخطاب، قلت له جدك أخذ مني الدار وصفعني فاشتكيت لأمير المؤمنين فأخذ حقي واسترددت الدار وصفعت عمرو بن العاص كما صفعني بقوة العدل في الإسلام و المساواة وصرت مسلما"( )، ويقول في نفس القصة : "عدنا من شبه الجزيرة العربية ولم نعش في أمان لقد اضطهدنا عمرو بن العاص لأننا شكوناه لسيدنا وأمير المؤمنين عمر بن الخطاب"( )
فالقاص " سيد حافظ " يستحضر في هذه القصة واقعة تاريخية وهي " واقعة الفتح الإسلامي لمصر " والفتح الإسلامي هو سلسلة من الحملات والمعارك العسكرية التي خاضها المسلمون تحت راية دولة الخلافة الراشدة ضدّ الإمبراطورية البيزنطية وانتزعت على إثرها مصر من يد الروم ودخلت في دولة الإسلام على يد عمرو بن العاص في عهد الخليفة عمر بن الخطاب، وقد تم الاستيلاء على مصر بسقوط الإسكندرية في يده عام (641م-21ه) وعقد مع الروم معاهدة انسحبوا على إثرها من البلاد وانتهى العهد البيزنطي في مصر، وبدأ العهد الإسلامي بعصر الولاة، وكان عمرو بن العاص أول الولاة المسلمين يروي ابن عبد الحكم أن عمرو بن العاص أشار على عمر بن الخطاب بفتحها وقال :" إنك إن فتحتها كانت قوّة للمسلمين وعونا لهم، وهي أكثر الأرض أموالا وأعجزها عن القتال والحرب"( ) ويمكن حصر الدوافع الإسلامية لفتح مصر في الدافع الديني باعتبار أن مصر تمثل مكانة كبيرة لدى المسلمين بسبب ذكرها مرات عدّة في القرآن الكريم، وارتباطها بأحداث محورية وبأشخاص يجلّهم المسلمون، وفي مقدمتهم النبيين يوسف وموسى عليهما السلام وهاجر أم النبي إسماعيل ومارية القبطية زوجة الرسول، هذا إلى جانب تبشير رسول الله صلى الله عليه وسلّم بفتحها وتوصيته بها خيرا، فكان من شأن كل ذلك جعل المسلمين يضمّونها إلى دولتهم، إلى جانب الدافع السياسي الاقتصادي أدركوا أن ضمّ مصر إلى دولة الإسلام سينعش اقتصاد المسلمين ويضعف البيزنطيين لا سيما مع ازدياد الضغط الاقتصادي على المجتمع الإسلامي في بلاد العرب نتيجة حركة الفتوح الواسعة، ومما تنقله كتب التاريخ أنّ بعد تمام فتح مصر كتب عمر بن الخطاب إلى واليه عمرو بن العاص يسأله عن أوضاع البلاد طالبا منه أن يصفها إليه وكأنه حاضرها ويراها بنفسه، فكتب عمرو بن العاص إليه يشرح أحوال مصر، فوصف له تباين بيئاتها بين الصحاري والأراضي الزراعية مبيّنا إليه حسن الأراضي المعطاء وحسن النيل وخيراته الكثيرة، مقترحا عليه ثلاثة أشياء لإصلاح أحوالها بعد أن أنهكها الروم واستنفذوا مواردها طيلة سنوات وسنوات وهي أن لا يقبل قول خسيسها في رئيسها ،وأن يؤخذ ثلث ارتفاعها ويصرف في عمارة ترعها وجسورها ،وأن لا يستأدى خراج ثمرها إلا في أوانها( )
إن ما ذكره الكاتب فيما يخص هذه الواقعة مغايرة تماما لما ورد في كتب التاريخ، حيث استنطق التاريخ من منظور تخييلي، ففي قوله :" جدك أخذ مني الدار " وقوله :" لم نعش بأمان لقد اضطهدنا عمرو بن العاص "، فالأخذ يدل على الاستيلاء والسطو والدار يدل على مصر، والاضطهاد يدل على ظلم الحاكم و جبروته، وهذا يدل على أن عمرو بن العاص كان غرضه من الفتح الوصول إلى الحكم ونهب واستيلاء خيرات مصر ناهيك عن ممارسة الظلم والاضطهاد ،وهذا يعني أن سياسة النهب والاستيلاء وممارسة الظلم والاضطهاد ليست وليدة العهد بالحكام بل جذورها ضاربة في التاريخ.
- مصر في عهد المماليك : يقول الكاتب في قصته " لك النيل والبحر والهرم ياأميرتي" : " أنا فرعون ملك البلاد التي جار عليها الزمان وحكمها العبيد و الخصيان " ويقول في نفس القصة : "أنا حفيد الفرعون ملك مصر العظيم أول الملوك و لست من هؤلاء المصريين من أصل المماليك " و يقول أيضا في نفس القصة : " جاء المماليك، ظلت أسرتي تعاني تحول المماليك إلى سادتنا ونحن ملوك الفراعنة ظل حالنا أسوء من العبيد"( ) يشير الكاتب إلى مصر في عهد المماليك ،ودولة المماليك هي إحدى الدول الإسلامية التي حكمت في مصر أواخر العصر العباسي الثالث، والمماليك جمع مملوك وهو العبد الذي سُبِيَ ولم يملك أبواه( ) والمملوك عبد يباع ويشترى( ) ولم تلبث التسمية أن أخذت مدلولا اصطلاحيا خاصا في التاريخ الإسلامي إذ اقتصرت منذ عهد الخليفة العباسي أبو العباس عبد الله المأمون ثم إسحاق محمد المعتصم بالله على فئة من رقيق محاربين، كان الخلفاء وكبار القادة والولاة في دولة الخلافة العباسية يشترونهم من أسواق النخاسة البيضاء لاستخدامهم كفرق عسكرية خاصة، بهدف الاعتماد عليهم في تدعيم نفوذهم، وبمرور الزمن أصبحوا يهيمنون على الخلافة وعلى مركز صناعة القرار مستفيدين من ضعف الخلفاء وتراجع نفوذهم( )، يعدّ عهد المماليك بداية الانحطاط في تاريخ الحضارة الإسلامية، ساءت الحالة الاقتصادية في الدولة المملوكية بسبب حركة القلق وعدم الاستقرار الناجمة عن الفتن الداخلية و الانقلابات وعن الحروب الكثيرة التي شنّها المماليك ضد المغول والصليبيين وغيرهم، وبسبب توقف حركة التجارة مع أوروبا بسبب مشاعر الخوف والكراهية وعدم الثقة التي خلفتها الحروب الصليبية بين الأوروبيين والمسلمين ،وكذلك بسبب انتشار المجاعة والأوبئة خصوصا وباء الطاعون الذي فتك بأكثر من مليون شخص وأخيرا بسبب روح الطمع والأنانية التي سيطرت على عدد كبير من سلاطين المماليك وجعلتهم يوجّهون سياسة الدولة الاقتصادية وفقا لمصالحهم الشخصية( )
واستحضار الكاتب لهذه الفترة ليصور حاضر مصر الآن و ما وصلت إليه من انحطاط وتردٍّ في الأوضاع بسبب حكامها الذين مارسوا سياسة النهب واستنزاف خيرات مصر لخدمة مصالحهم ومآربهم الشخصية، وبسبب رضوخ الشعب واستسلامهم للأوضاع المتردية، فما وصلت إليه تتماثل مع ما كانت عليه في عصر المماليك، فأصبحت الظروف المنتجة للنص الحاضر هي نفسها الظروف المنتجة للنص الغائب، والكاتب لا يعدّ نفسه واحدا من هؤلاء المصريين الذين أبوا التغيير واستسلموا للواقع، بل يحمل على عاتقه باعتباره مثقفا إرادة التغيير وإرجاع لمصر حضارتها وازدهارها ورقيّها .
ب- استحضار شخصيات تاريخية :
- شخصية جيفارا: استحضر الكاتب هذه الشخصية في قصته : " ألم يحن الوقت الذي تبدأون فيه " يقول فيها : " أرجو أن لا تحزن من هذه الكلمات وأنت الذي علمتني الكثير وأنا أجلس في أي مجتمع أتحدث بلباقة غريبة أحلل المجتمع وظواهره ولن أنسى لك هذا أبدا أنني أحفظ كلماتك أن الفن عليه أن يغيّر الواقع، عليه أن يستوعب الحاضر وأن يغيره كما أحفظ لك إن المجتمع يصنعه الأحرار ويتسلحون بالوعي... أعرف قاموسك... الوعي... الثورة... الغد... المستقبل... الإنسان... الحياة... أعرف منك عمر بن الخطاب، يزيد بن معاوية، أبو ذر الغفاري، جيفارا، محمد علي "( ) ويستحضره في موضع آخر في قصة بعنوان " أربع رسائل من العمر الضائع " يقول : " حدثتك عن جيفارا سميتني جيفارا وكنت تبتسمين وأعرف أنك لا تسخرين"( )
وشخصية جيفارا ترمز إلى المتمرّد الثائر على الظلم مهما كانت العواقب ومهما كان جبروت الظالم ،لا يرتبط بمكان أو جماعة، فقضيته إنسانية وهي مساعدة المظلومين بغض النظر عن أيّ شيء آخر، وقد نذر نفسه فداءً للحرية والتحرر، وهي شخصية تتماهى مع شخصية الكاتب المثقف المناضل المحمّل بالوعي الذي يأبى الظلم ويدعو إلى التغيير ونضاله هذا لم يكن في مصر فحسب بل امتد إلى الكويت .
- شخصية طارق بن زياد : وقد استحضره في قصة " تنهيدة غد اليوم أمس" يقول فيها :" اليوم نزل في محطة التعاون بالهرم دخل إلى شارع طارق بن زياد ليذهب إلى البنك ليسحب بعض المال، قال له الصراف أنت مفلس أنت مفلس يا أستاذ وعليك ديون البنك ذهب للمقهى، وجد طارق بن زياد يجلس على المقهى في ملابس رثّة، ذهب إليه وقبّل يديه وسأله يا عمنا يا سيدنا يا قائدنا ما الذي جعلك في هذه الملابس، الناس لا تعرفك دعني أقدمك لهم، جئت في الوقت المناسب، صاح طارق لا إنهم ليسوا أهلي ولا أهلك أنت فقط تراني لأنك تحمل دما عربيا أصيلا وقلبا نظيفا لا يراني إلا أمثالك أما هؤلاء لا"( ) استحضار الكاتب لشخصية طارق بن زياد -هذه الشخصية التاريخية الفذة التي تركت أعظم مأثرة رائدة في تاريخ العرب هي فتح الأندلس ونشر السيادة العربية الإسلامية- بملابس رثة لم يتعرف عليه أحد إلا الكاتب نفسه نفي لعروبة الشعب وإثبات لعروبة وأصالة الكاتب، فالكاتب في هذه القصة يدين سلبية الشعب لا سلبية الحكام فحسب، وأن الشعب أيضا يتحمل وزر الضعف والانحطاط الذي وصلت إليه مصر بسبب ضعفهم وسلبيتهم ورضوخهم للأوضاع.
فالكاتب يقوم باستحضار التاريخ في تناصاته، يستلهم الأحداث والشخصيات التاريخية بشكل فني محمّل بالرمز والدلالة، فيتحول القارئ إلى باحث مقارن لما قدمته كتب التاريخ وما أضافه الكاتب بخياله الفني، ومختلف التناصات التاريخية تبحث أبعادا دلالية من خلال حسن اختيار الكاتب للسياقات المناسبة التي يستحضر فيها مختلف النصوص.
?
الخاتمة
المجموعة القصصية " لك النيل و البحر و الهرم يا أميرتي" تنمّ عن عبقرية صاحبها وعن ثقافته الدينية والتاريخية الواسعة من خلال استحضار نصوص دينية وتاريخية مختلفة تقاطعت مع نصوصه فأحسن نسجها في قالب قصصي إبداعي يتعالى عن أي تصنيف كان غرضه التأثير في القارئ والدفع إلى التغيير وعدم الرضوخ للأوضاع المتردية تتجلّى مغامرة الكتابة القصصية في تلك المجموعة في العين الراصدة للواقع المصري بشكل عام ولتفاصيله الصغيرة ومآسيه ومآزقه المختلفة، ولواقع المثقف المضطهد المهمش بشكل خاص، الرافض للظلم والخضوع، الحامل على عاتقه إرادة التغيير في بلد الحضارة مصر فكان السيد حافظ سيدا في مواقفه ومبادئه، أدان سلبية الحكام وأدان سلبية الشعب وحتى سلبية بعض زملائه من المثقفين، وشعاره دوما وأبدا الوعي من أجل التغيير .
?
السيرة الذاتية
الاسم : وافية
اللقب : بولفعة
تاريخ و مكان الازدياد :
24/6/1988 بسيدي غيلاس
(ولاية تيبازة)
البلد : الجزائر
الحالة العائلية : متزوجة
متخرجة : من المدرسة العليا للأساتذة (بوزريعة الجزائر)
الشهادة المتحصلة عليها : شهادة الماجستير بدرجة حسن
عنوان المذكرة : الأبعاد الحجاجية في شعر محمد العيد آل خليفة
تخصص : دراسات أدبية و نقدية
مسجلة في : السنة الرابعة دكتوراه في نفس التخصص
المذكرة بعنوان : الاستراتيجيات التداولية في الرواية الحوارية روايات الربيع العربي أنموذجا
?
وافية بولفعة
السيرة الذاتية
الاسم : وافية
اللقب : بولفعة
تاريخ و مكان الازدياد :
24/6/1988 بسيدي غيلاس
(ولاية تيبازة)
البلد : الجزائر
الحالة العائلية : متزوجة
متخرجة : من المدرسة العليا للأساتذة (بوزريعة الجزائر)
الشهادة المتحصلة عليها : شهادة الماجستير بدرجة حسن
عنوان المذكرة : الأبعاد الحجاجية في شعر محمد العيد آل خليفة
تخصص : دراسات أدبية و نقدية
مسجلة في : السنة الرابعة دكتوراه في نفس التخصص
المذكرة بعنوان : الاستراتيجيات التداولية في الرواية الحوارية روايات الربيع العربي أنموذجا
0 التعليقات:
إرسال تعليق