دراسات من كتب د. نجاة صادق الجشعمي
( 222 )
سيمفونية الحبدراسة بقلم
أ.د. السعيد الورقي
مجموعة قصصية قصيرة
دراسة من كتاب
تمظهر التجديد في بنية السرد في القصة القصيرة
السيد حافظ نموذجا
جمع وإعداد
د. نـجـاة صـادق الجشـعمى
سيمفونية الحب
دراسة بقلم
أ.د. السعيد الورقي
مجموعة قصصية قصيرة
ماذا يريد السيد حافظ أن يقوله من خلال مجموعته القصصية "سيمفونية الحب"؟
بدأ الكاتب بمناقشة واقع أبطاله الماثل فرآه عالما مشتتاً مبعثراً تسيطر عليه عوامل الشر واليأس والتشاؤم وتطمس معالمه فردية يائسة لا تستطيع أن ترى أبعد من حدودها، ومن ثم عجزت عن الإلتحام بالقوى القادرة على التغيير.
يقول عصام فى قصته "سيمفونية الحب" ملخصاً هذا العالم " بجوارى.. تحدثنا. عن مجلات الحائط. عن الحرية، عن الناصرية، الإخوان المسلمين، الشيوعين. كيسنجر يصرح، محادثات رابين وفورد لم تتوصل لنتائج محددة.
دخلنا محل فينوس.. أكلنا قطعتين من الجاتوه. شربنا الشاى خرجنا سرنا.. هل تستطيعين الحضور. لجنة تصفية الاستعمار تجتمع فى البرتغال" ويستمر :
"فى السادسة مساء.. عندى بروفة السابعة سأنتظرك أمام مكتبة الأهرام فى شارع النبى دانيال.. ودعتنى أنا مشغول.. سعيدة.. لا أعرفها.. لكنها أنيقة.. رقيقة.. ربما أنا أحتاج إلى أى أنثى الآن. لكن معى ميعاد السابعة مع الموظفة الرقيقة. وعندى بروفة. وهل سأجد ورقة من البوليس السياسى تستدعينى. أين كنت أثناء المظاهرات فى الجامعة؟ وأين المفروض وأين أجد نفسى.. " (ص 23 – 24)
هذا العالم الذى عرضه عصام على النحو السابق هو أحد وجهى عالم السيد حافظ فى مجموعته "سيمفونية الحب" بقصصه الاثنى عشرة. عالم تزدحم فيه الأشياء لدرجة أنك لا تشعر بها فقد تشعبت الحواس بهذه العلاقة المتشابكة المتداخلة والتى أصبحت تحاصر البطل بزوجة، وجد أنه من الخير له – معها – أن يترك نفسه فى حركتها بعد أن فقد القدرة على التأثير والتأثر.
لقد تغلف العالم بكسل أفيونى كسيح قطع على البطل كل سبل التواصل والخلاص وأصبح بالتالى خطيئة لم يمارسها أحد. إنها خطيئة على البطل – عند السيد حافظ- أن يتحمل نتائجها بوعى وبدون وعى. هكذا تطارد الدماء مهدى أفندى فى قصة "حروف من يوميات مهدى أفندى" أينما توجه. وهكذا يدان الجميع فى قصة "الثمن" فيساقون فى عربة السجن عامل وشاعر وصحفى وطالب ومحامى بتهمة واحدة هى الفردية الفاشلة اليائسة، لقد تزوج الجميع -المشكلة- خلال أجيال هذا القرن ولكنهم لم يبصروا فيها أكثر من فرديتهم حتى أنهم لم يهتموا بها فهى صماء خرساء أمية تزوجها أحدهم سنة 1918 وتزوجها الثانية فى الثلاثينات وتزوجها الثالث عام 1947 وتزوجها الرابع فى الخمسينات. لقد فقدت الحقيقة إمكانات قيادتها لعوامل التغيير لأنها أصبحت معزولة عن الواقع المادى المتولدة منه وتحولت إلى حقيقة زائفة مشوهة مسختها كل العوامل الفردية المحدودة. تحولت إلى الحقيقة التى يعرفها المدير فى قصته "مهاجر على أشجار القلق" حين قال للموظف الثائر فى مؤسسته "أى حقيقة يا أستاذ ص. أنت لا تفهم فى الحياة شيئاً ولكى تفهم الأمور جيداً يجب أن تكون أعمى وأخرس ولا تفقه شيئاً" (ص65).
وهذه الحقيقة هى التى توصل إليها عبد المطيع (لاحظ الرموز فى دلالة الاسم) فى قصته "نفوس ودروس من سلسلة البحوث السلطانية الغورية فى بلاد مصر" ولكنه اكتشفها بعد تجربة رهيبة وأليمة شوهت أمامه المرئيات.
***
فمرة ألقى به رجال السلطان الغورى فى الحبس وضربوه وحلقوا له شعر رأسه لأنه كان يرتدى ثوباً أبيضاً ولم يكن يعلم أن السلطان لمرض فى عينيه أمر بأن يرتدى الجميع الملابس السوداء، ومرة ثانية تلقى نفس الجزاء لارتدائه الملابس السوداء حيث شفى السلطان وتغير الفرمان وأصبح على الجميع أن يرتدوا ملابس بيضاء.
وهكذا اختلطت الأمور على عبد المطيع الفلاح المسكين ضعيف الحيلة ماذا يصنع أمام جبروت السلطة وقلة حيلته. ما حدث هو أن عبد المطيع سقط فى التجربة ولم يستطع أن يتحمل، لسبب بسيط جداً وهو أنه لم يكن مسلحاً بما يعينه على التحمل وعلى النضال ولهذا انتهى إلى مفهوم الحكمة الزائف، عليك – إن أردت أن تعيش – طاعة السلطان، هكذا خلع ملابسه جميعاً وأخذ يجرى فى الطرق هاتفاً بحياة السلطان وشقائه، اصطحبوه مهللين إلى السلطان ألهمته قوانين الطاعة فلسفة الحكمة، لقد قال للسلطان أى الألوان تحب يا سيدى؟ ها أنذا بين يديك وقد تعريت من كل شئ إلا من حكمتك.
لقد علمه القهر وعلمته المذلة كيف يكون طيعاً وكيف تكون الحكمة.. حكمة الخوف.. إذن فأى الألوان تريد يا سيدى السلطان. وعندما استبان السلطان سلاسة عبد المطيع أنعم عليه ضاحكاً بمنصب قاضى القضاة.
هذا هو الوجه الأول وإنسان السيد حافظ، عالم الخوف والقهر والإحباط وإنسان المذلة والسقوط الوضيع.
أما الوجه الآخر لعالم المؤلف الذى يمثل البطل الحقيقى فى العالم الحقيقى، العالم الذى يلح باستمرار على بطله لكى يخلصه من كل عوامل الشر واليأس والتشاؤم، هذا الوجه الثانى للواقع يحاول المؤلف جاهداً أن يجعله متوازياً فى صراعه مع الوجه الأول الزائف، والبطل فى هذا العالم هو الوجه الثائر المنتفض الذى يعيش باستمرار فى صراع دائم مع كل الإحباطات المحيطة. قد يسقط أحياناً ولكنه يولد من جديد باعثاً الأمل وناشراً الرجاء.
إن مشكلة هذا البطل الأولى أنه يريد أن يكون حراً. فالحرية هى المنطلق الأساسى لتحقيق ما تقصده ويجاهد البطل عند السيد حافظ من أجل تحقيق هذا المنطلق حتى يتمكن بذلك من تغيير سلبيات المجتمع.
لقد وقف البطل فى وجه مجتمعه فى قصة "مهاجر على أشجار القلق" من منكم يعرفنى.
فهو بالنسبة إليهم بطل غريب الملامح والسمات يجاهد باستمرار لكسر قيود العادة، ولتحطيم حاجز الخوف. فهل يؤمن مع (ص) بأن "الخوف لا يولد رجالاً والأمم الخائف لا تصنع المعجزات ولا تصنع التقدم" (ص64).
وهكذا يندفع عصام فى "سيمفونية الحب" فى انطلاق بلا حدود، لا يهتم بالناس أو البرد لأنه فى الواقع يختزن أشجار الياسمين والفل وأوراق البردى وأغنيات الفلاحين فى جمع محصول القطن "مهاجر على أشجار القلق" (ص65). ويختزن دفء العالم والبحر والنورس ولوركا وأشعار محبوبته الساذجة، (سيمفونية الحب ص 17)، غير آبه بانكماش الناس حوله تحت المظلة وهى ترقب اندفاعه الحر بعيون مرتعشة.
ويحاول البطل جاهداً فى قصة "أشياء تحلم بالهجرة" أن يحول بين هجرة الأشياء الطيبة التى ضاقت بالخوف والمحاصرة فاتجهت إلى الهجرة صوب النهر حتى تتطهر من الممارسة المميتة. هكذا رحلت الطيور من الأشجار ورحلت الأشجار والطيور ويجاهد محمد فاروق منزعجاً من هذه الهجرة التى ستتحول الأرض قتاداً وهشيماً.
ومحمد فاروق بطل "أشياء تحلم بالهجرة" الممتزج بنجوم الفجر، والممشوق فى عيون الأرض، والذى يمنع جاهداً هجرة الأشياء، تنبت فى داخله آلاف الأشجار مورقة فى حقول الأمانى لأنه يحمل فى رأسه أفكار الأيام المقبلة ويحب الحارات، كل الحارات، ويرى فى عيون الفقراء شهقة نفرتيتى فى أحضان أخناتون. (واقعة الوقائع فى مدينة القطائع، ص43).
محمد فاروق فى قصة أشياء تحلم بالهجرة هو عصام فى قصة سيمفوينة الحب، هو سرحان فى قصة واقعة الوقائع فى مدينة القطائع وهو أيضاً محسن فريد فى قصة "عندما دقت الساعة العاشرة من صباح أحد الأيام". صورة ملحة تحاول أن تبرز الوجه الأخر، البطل الحقيقى عند السيد حافظ البطل الثائر الذى يتمتم بتعاويذ الغد والذى تقع عليه مسئولية إخراج أهالى الكهف المحبوسين فى القهر – من جناح الظلمة – وقد تأبطوا حقد السنين التى حبسوا فيها (ص44). وعليه كذلك أن ينقذ الطفولة، جيل الغد، من سعار الكلاب رغم كل الإحباطات ومحاولات القهر وقيود الخوف، وعليه أيضاً أن يعيد كتابة التاريخ على نحو يتحقق به صدق الرؤية ووضع الأشياء بموضعها.
لقد مارسوا مع محسن فريد كل أساليب القمع والإرهاب حتى أحالوه حطاماً لا يصلح لشىء ومن ثم ألقى نفسه فى النيل.
ولكن هل تتجمد الأشياء وتتوقف؟ لقد أمات محسن فريد نفسه فى قصة "عندما دقت الساعة العاشرة من صباح أحد الأيام" لأنه أدرك أن ما تعرض له من قهر قد قتل فى داخله روح البطولة الثائرة، ولكن لا يلبث أن يولد من جوف الإحباط محسن فريد آخر، تلميذ صغير أسمر الملامح يستوقف مدرس التاريخ ليقول له إن التاريخ الموجود بكتب الوزارة خطأ.
إن الأمل – كما يرى السيد حافظ- أصبح معقوداً بجيل جديد لم تلوثه المخاوف ويعمل جاهداً على تعديل مسار الواقع بما يحقق الغد المرجو. وهكذا تكون إسهامات جيل الثورة العاجزة فى العمل على خلق المناخ الملائم للجيل الجديد. فينقذ سرحان الجيل العاجز فى قصته واقعة الوقائع فى مدينة القطائع، ينقذ الطفل – الجيل الآتى – من الكلاب ويدفع فى مقابل عمله حريته وحياته فقد قبض عليه لأن البلاد تمنع على الناس التعرض للكلاب.
السيد حافظ فى مجموعته "سيمفونية الحب" معنيٌ إذن – كما رأينا – بقضية فكرية تمكنت من أن تؤثر تأثيراً فعالاً فى بناء الكاتب لأعماله القصصية، التى بدت وقد سيطرت عليها عقلانية ذهنية حادة.
فالملاحظ على قصص المجموعة بشكل عام أنها أعمال تجبرك على التفكير فيها ومعها ومن ثم فالقارئ هنا لا ينفعل بالعمل بقدر ما يحاول أن يفسره تفسيراً عقلياً ذهنياً. الأمر الذى أفقد العمل لعنصر أساسى هام هنا، هو التعاطف بين الشخصية والكاتب وبين الشخصية والقارئ بالتالى.
إننا فى هذه القصص – كما ذكرت من قبل – أمام وجهين للواقع. وجه يمثل الواقع الزائف الذى يحطم الكيان الإنسان، ووجه يمثل الواقع المستهدف لإعادة بناء الإنسان.
لكننا – وهذا ما لم يهتم به المؤلف – أمام الوجهين لم نستطع أن نستشعر وجود كل منهما الإنفعالى. ذلك أن كل ما نراه أكثر هو القضية الفكرية المطروحة، التى انشغل بها المؤلف، والتى أحالت حتى الأسماء إلى رموز ذهنية، فافتقدت بهذا التجريد خصوصية الشخصية كشخصية إنسانية تتحرك فى إطار علاقات، تحرك بدورها الأحداث.
البيان الكويتية - العدد 178 - يناير 1981?
0 التعليقات:
إرسال تعليق