Add a dynamically-resized background image to the page.txt Sayed Hafez (sayedhafez948@gmail.com) جارٍ عرض Add a dynamically-resized background image to the page.txt.

أدخل كلمة للبحث

الزائرون

Flag Counter

زوارنا

Flag Counter

الزائرون

آخر التعليقات

الاثنين، 27 سبتمبر 2021

229 مقاربة موضوعاتية لأعمال " السيد حافظ " القصصية بقلم نادية سعدوني

 

دراسات من كتب د. نجاة صادق الجشعمي

(229  )

 مقاربة موضوعاتية
لأعمال " السيد حافظ " القصصية
بقلم
نادية سعدوني

دراسة من كتاب

  تمظهر التجديد في بنية السرد في القصة القصيرة
 
                    السيد حافظ نموذجا  

جمع وإعداد

د. نـجـاة صـادق الجشـعمى



مقاربة موضوعاتية
لأعمال " السيد حافظ " القصصية
بقلم
نادية سعدوني 
معهد اللغة و الأدب العربي
المركز الجامعي
عبد الله مرسلي - تيبازة - الجزائر 
إذا كان لكل فن أدواته وآلياته، فإن الأدب كفن هو الآخر كيان قائم بذاته، يسعى بجهد إلى رسم لوحة خاصة به، ريشته القلم وألوانه الحروف التي ترقص على نغمات أفكار ومشاعر و روح أديبنا، وأديبنا راقص موهوب، استطاع أن يحرّك جسدّه بفكره فأنتج لنا حركات متناسقة منسجمة تعبّر وبصدق عن حالته وحالة أمته ووطنه، والملفت للنظر أنّ الإيقاع المصاحب لالتواءاته يناسب وبصدق إيقاع الواقع المعيش الذي يتقلب فيه مجتمعه، هذا الأخير الذي تمكن من استخدام لسان حادّ يعبّر به عن وجعه وألمه وانشقاقاته، غير أنّه ألحّ على ضرورة انتهاج سبل وطرائق عديدة لذلك، فكان الشعر من أوّل وأهم الطرق على الإطلاق، نظير القدرة الفائقة على استلهام واحتواء تقلبات ومخاضات الانسان، فبعد أن كان همّه التعبير عن خلجات و أحاسيس العاشق الولهان، أصبح الوعاء المستوعب لكل جرعات الفكر وآفاقه.
إلاّ أن هذا المجتمع لم يكتف بالشعر كجنس واحد ووحيد لما للزمن من متطابقات ومتناقضات فجاءت الرواية حاملة لتقنيات ومفاهيم غريبة عن الشعر، استطاعت بفضلها أن تحمل لقب (ديوان العرب)، كاسحة بذلك كل الحواجز التي قد تفصل الإنسان عن خياله وطموحه وحلمه، لذلك اختارها "السيد حافظ" لغة فنية له، تتشارك مع المسرحية في إلباسه تاج المبدع، فقد قدم لنا عدداً من المسرحيات والروايات نذكر على سبيل المثال مسرحية " حلاوة زمان " و" حكاية مدينة الزعفران " و" العزف في الظهيرة "، و" حكاية الفلاح عبد المطيع "، " سمفونية الحب "، " الأشجار تنجني أحيانا "، " مسافر ليل "، " الطبول الخرساء " كما ذاع صيته كروائي فقدم لنا مجموعة من الروايات التي نالت حظها من الانتشار والشهرة نذكر من بينها: " كابيتشنيو "، " كل من عليها خان "، " نسكافيه " وغيرها من الأعمال الروائية التي خاض غمارها شاعر الرواية فقدم لنا من خلالها طبقًا شهيًّا من ألوان الفواكه السردية والحكائية المتباينة ليظهر من خلال هذه السفرة القدرة الإبداعية والفنية والجمالية التي يمتلكها هذا العبقري المبدع.
وإذا كانت الرواية كفن تمكن من نشر بريقه على الفضاء الإبداعي، فإن القصة تعد منافسا شرسا لما لها من خاصية القصر والسهولة والسلاسة في القراءة، لكن الاختلاط فيما بينهما، أخذ حقًا لا بأس به من الزمن، وذلك لالتقائهما في الغايات واختلافهما في التقنيات التي لم يتمكن من اكتشاف ذلك في عقودهما الأولى لـ "أنّ الكاتب في تلك الفترة كان عديم القدرة على التنبه إلى الفروق الفنية بين القصة والرواية "(1)
غير أنّ العالم بعد برهة معينة من الزمن تمكن من الفصل بينهما خاصة وأنّ القصة القصيرة أصبحت من أكثر الأجناس استعمالاً نظير سهولة تناولها، وكثرة تهافت الجرائد والمجلات عليها.
هذا وأنّ للقصة القصيرة القدرة الفائقة على احتواء المجتمع وترجمة واقعه وكذا وضع مشاكله والمصاعب التي يمرّ بها على طاولة التأمل. " فلا يضيق إظهارها عن تناول أي موضوع من الموضوعات التي تشغل البال، ومن أجل ذلك وجد فيها القارئ أصداء قريبة لكل ما يدور حوله، ووجد فيها الكاتب وسيلة سهلة لتحليل أي موقف من المواقف"(2) والميزة التي تجعل منها المنبر الأكثر تهافتا عليها هو أنّها " لا تطلب من قارئ عصر السرعة وقتًا طويلاً كذلك الذي تتطلبه قراءة الرواية الطويلة، إنه قارئ قلق، مضطرب وهو من أجل ذلك ملول "(3)
و اذا عدنا إلى المعاجم باحثين عن أصل تسمية (القصة )، فسنجد " قص أثره، يقصه قصًا... كما جاء في اللسان و الصّحاح و في التهذيب: القصّ اتباع الأثر و يقال خرج فلان في إثر فلان وقصا وذلك إذا اقتصّ أثره "(4)، ومن ثمّ فإنّ فن الحكي يرتكز على سرد حقائق (حقيقية أم خيالية) غايته من ذلك إيصال أفكاره بطريقة تقنية، جمالية تمتع القارئ من جهة وتصقل فكره لموجات ووصلات إبداعية من جهة أخرى، وهذا ما قدمه لنا (السيد حافظ) من خلال تقديمه لمجموعته القصصية والتي كتبها في مدّة لا تقل عن 40 سنة، غير أنّ هذه الأعمال القصصية لم تلق الرواج والاهتمام النقدي الذي لقته نظيرتيها (الرواية و المسرح) فاهتمام النقاد ب (السيد حافظ) الروائي و المسرحي، حجبوا من حيث يدرون أو لا يدرون صورة السيد حافظ كاتب القصة القصيرة، وليس من العدل والأدبية في حق رجل بات رمزًا عربيًّا أن تهمل الدراسات النقدية ثراء قصص عايش فيه المبدع مراحل حياتية متعاقبة، اجتماعية واقتصادية وسياسية؛ إذ أنّ المتمحصّ لهذه الأعمال يرصد فترة حرجة من تاريخ مصر الحديث(الرئيس السّادات) وحتى المراحل السابقة لأنها كالسلسلة مترابطة الحلقات، ويفهم أنّ لا وجود لحلقات فاصلة بين الحالات التي يعيشها الإنسان المصري؛ اذ هي تحصيل حاصل، نتيجتها (تهميش الإنسان) وابتذاله وسحق لكرامة آدمي يسعى إلى أن يكون موجودا في زمن القوة للأقوياء و السّحق للضعفاء.
ومن هنا فإننا "لا نحابي الفن القصصي إذا قلنا إنّه أطوع فنون الأدب مسايرة للتطور الاجتماعي وأوسعها دلالة عليه، ذلك لأن الفن مادته الحياة و الأحياء، فهو يصور (كيف يمارس عيشه على ظهر الأرض"(5)، وكاتبنا من مواليد 1948م، عاش الكثير من تقلبات العصر في مصر بكل ما فيها وما عليها، ودعا وبقوة الأدب إلى التغيير والخروج مما عاشه وطنه من تقلبات أمته، ولهذا فقد وضع الظروف الاجتماعية والسياسية والثقافية القاهرة وكذا الإحباطات النفسية التي خلفتها المعارك الكثيرة والتي خاضتها مصر على جميع الأصعدة على مائدة فنية، غير أن كاتبنا اختار لنفسه قالبا خاصًّا به، فكان (الرمز) مادته وملجأه للخروج من المباشرة و كذا معبرا لانفجار أفكار متشعبة وعميقة لكن دون إيذاء، فهو دائم الشعور بالمضايقات الاجتماعية والسياسية، لأن " المجتمع يرفض أن يواجه نفسه مواجهة صريحة قد تخدش حياءه السياسي أو الاجتماعي أو النفسي"(6). لهذا فوجود الفنان المعبّر عنه ضرورة، والقصة القصيرة ضرورة أخرى لأنّها الأكثر قدرة على تملك الآخر، لامتلاكها آلية (التكثيف) سواء أكان تكثيفًا فكريًا أم دلاليًّا و هذا للخروج من التقوقع والمحدودية التي عايشها الإنسان و الفنان على السواء، وبالتالي بات لزامًا على حامل القلم أن ينفتح ويجد لذاته أبعادًا وآفاقًا أوسع إذ " لم يحق للفنان المعاصر أن يقدم الفلاح المصري مثلما كان يقدمه منذ عشرين عامًا لا تشغله إلاّ الأرض والبقرة والعيال، الفلاح الآن بسبب " الترانزيستور " على الأقل أصبح يفكر في الجبهة و القمر والزنوج، و ليس من حق الفنان الصادق مع نفسه أن يعزل هذه الجوانب عن الجوانب الأخرى و ذلك أن العلاقات بينها جدلية، كل جانب منها يؤثر في الآخر و يتأثر به "(7)
و لعلنا إذا أردنا أن نموقع القاص (السيد حافظ) ضمن مرحلة من المراحل الأدبية، فإنّنا سنجزم على انتمائه إلى فريق (التجديد والاستمرار)(8) و هو جيل ثائر على القالب القديم، يسعى إلى استجلاء مباحث و رؤى جديدة في الممارسة القصصية أي الابتعاد عن النمطية القديمة في التناول وكسر التقنيات القارّة و ذلك عن طريق الخروج التّام عن الجنس بحدّ ذاته، نذكر من أهمها، تحطيم التسلسل الزمني، احتلال الحلم مكانة هامة، التكثيف الرمزي، استخدام تقنيات السنيما و المسرح داخل جنس القصة، و بالتالي تداخل الأجناس فيما بينها، و هذه التقنية من أكثر التقنيات ممارسة عند (السيّد حافظ).
كل هذا جعلنا أمام مادة مثيرة للدراسة لاستنباط معالمها الجمالية، و اخترنا لذلك مقاربتها مقاربة موضوعاتية، بهدف استجلاء أهم تيمات الأديب التي ارتكز عليها و عبّر عنها، بغية الخروج بنتائج تحقق لنا شغف الاكتشاف، ذلك "أنّ الناقد هو ذلك الذي، رغم خضوعه للسحر الذي يفرضه عليه النص، يعرف كيف يحتفظ بنظرته المستقيمة، أنّه يريد مزيدا من التوغل فيما وراء المعنى الظاهري الذي يتكشف له، فهو يشعر بوجود مغزى خفي"(9) عليه أن يستجليه دون أن يمزقه أو يشوّهه.
1- المقاربة الموضوعاتية والنص القصصي:
إن المتمحص في المقاربات المنجزة حول المنهج الموضوعاتي سيلحظ اكتساح الشعر والرواية لهذا المنهج تنظيرًا وتطبيقًا له، فقد وجد (باشلار) في الشعر مادته المفصلية في تطبيق المنهج عليه، أمّا (جورج بولي وجان بيار ريشار وجان ستاروبنسكي) فقد اعتبروا الرواية المادة الأنسب للممارسة الموضوعاتية من حيث القدرة التي تتمتع بها هذه الأخيرة في امتلاك و تضمين الأفكار و التيمات فــ" المتصفح للدراسات التي أنجزها ريشار حول أعمال روائية لستندال و فلوبير و بروست يجد أنه قد تقصى موضوعات الوعي عند هؤلاء الروائيين كالمشاعر العاطفية، و الحياء، والحزن و الفرح عند ستندال، و الرغبة، و النشوة و القسوة، و الحياء عند فلوبير، أما عند بروست فقد ركز على موضوع الرغبة باعتبارها مفتاحًا أساسيًا لفهم أعماله الروائية "(10) و من هنا نرى أن هؤلاء النقاد ركزوا على عنصري الوعي و الإحساس، إلاّ أن المسألة النقدية الآن باتت تؤكد على ضرورة السيطرة على النص، من حيث هو بنية جمالية متكاملة تسائل كلا من اللسانين و السرديين و حتى السميائيين أن يجتمعوا و يقوم بتفجيره بغرض الولوج إلى المعنى الجمالي الحقيقي له، و لذلك، نجد أن ستاروبنسكي من أكثر النقاد تفهماً للمتطلبات الحديثة للنظرة النقدية المعاصرة حيث دعا إلى العودة و بشدّة إلى (البنية النصية) تشريحًا و تنقيبًا و عن طريق: " قراءة تعمل ببساطة على كشف النظام أو الفوضى الداخليين للنصوص التي تسائلها، كما تعمل على كشف الرموز و الأفكار التي ينتظم وفقها تفكير الكاتب "(11) و بهذا فهو يدعو و بشدة إلى الاندماج التام مع النص، فوجود القارئ الناقد يكون وجودًا حقيقًا، فلا يبقى القارئ خارج النص متناولا إياه بالقراءة و التحليل و التفسير فقط، بل يدعوا إلى أن يصبح عضوًا مهمًّا من أعضاء جسد النص، فهو يرى " أن النقد ينبغي أن يدافع عن العمل الأدبي و يتعمق فيه بحيث يدمج الكاتب نفسه بالناقد فيستهلك كل منهما الآخر، و بهذا الشرط الذي لا غنى عنه و هذا الاندماج يستطيع الناقد أن يفسر لنا العمل الأدبي "(12) أي أنّ الفن هو العملية الإبداعية التي يقوم بها الكاتب المبدع من جهة و الناقد المبدع من جهة ثانية. وبالتالي، فالعملية النهائية للنصوص الفنية ليست بناء شكليا فحسب بل هي توليد لتجربة وإنتاج المعنى. هذه الفكرة نادى بها الناقد (ستاروبينسكي) وذلك من خلال كتابه " العلاقة النقدية " وفيه دعا إلى النتيجة الفعالة المتوخاة من عملية القراءة، والتي لا بدّ أن يكون فيها تطور للذات القارئة وإلاّ ما الفائدة منها؟ كما وجد نفس المعنى عند (بروست) في كتابه " ضد سانت بوف–CONTRE SAINTE BEUVE في روايته " بحثا عن الزمن الضائع A LA RECHERCH DUTEMPS PERDU 
حيث نادى هذا الأخير إلى ضرورة تجاوز النظرة التقليدية للأدب والانتقال إلى (عمل الفنان الخلاق) والتي وافقه فيها (ريشار) حينما قال: " إنما يصنع خط خشن الفنان نفسه أمام الورق "(13)
ومن هنا نجد أن النقد الموضوعاتي يرفض (التصور الكلاسيكي) الذي يجعل النص تحت السيطرة التامة للكاتب كما يرفض رأي أتباع (التحليل النفسي) الذي يرون بأن الأثر الأدبي هو العاكس الوحيد لباطن النفس، إنّ هذا النقد لا يتجاوز هذه الثنائية، كل التجاوز، لكنه يجعل من حقيقة الأثر وعيا حركيا فهو بصدد صنع ذات لهذا الوعي وهذا ما عبّرت عنه الفلسفة الظاهرتية وبقوة، عندما تحدث عنه " ادموند هوسرل " EDMOND HUSSERL في قوله " كل وعي هو وعي بشيء ما في مقابل الصيغة الفرنسية" TOUT CONSCIENCE EST CONSCIENCE DE QUELQUE CHOSE " 
1. تفريعات الموضوعاتية:
تشعبت الموضوعاتية وتنوعت إجراءاتها وطقوسها، واختارت لنفسها اتجاهات عديدة تخدم نصها بإجراءاتها المتعددة.
1.1. الموضوعاتية الشخصية:
حسب أغلب النقاد تعد الكتابة تنفيسا عن خوالج وكوامن ومكنونات تشغل الكاتب منذ لحظة وعيه بذاته وأناه، هذه الأخيرة ما هي إلاّ تعبير عن موضوعاتية شخصية و هي عند (بارث) " بنية لوجود " يعبّر عنها عبر " شبكة منظمة من الهواجس obsessions "(14)هذه الهواجس التي يمكن أن تكون عبارة عن (صورة مركزية، image centrale) حسب (غاستون باشلار، gaston bachelard) فتعمل بذلك على تقارب الانطباعات والأحاسيس الأكثر تنوعًا، كما يمكن أن تكون (حافزا) عند (ريمون تروسون، r. trousson) أما (بيار ريشار )، (j.p. richard) فيؤولها بمفهوم آخر ألا وهو "الموضوعة (thème)" فيرى أن تلك الرغبات و الكتل مفاهيم مخبأة في نفسية الكاتب لا تظهر إلاّ في شكل صور خاصة بكل مبدع على هيئة موضوعات وهواجس.
أما إذا عدنا إلى مصطلح (الهاجس) فأكثر من تبنى المصطلح بمسماه، كان (رولان بارث، rolandbarthes) الذي وجد أن الموضوعاتية ما هي إلاّ شبكة منظمة من المخاضات والهواجس (obse. ssions )(15) ويوافقه الرأي (جان بول فيبر، jean. paul. weber) الذي يرى أن الموضوع هو الهاجس hantise المتفرد و الملح الذي يتمظهر عبر كامل الأثر الأدبي و الفني عمومًا لمبدع ما، وهو الذي يوجه فنه و فكره ومصيره معًا "(16).
من هنا، نفهم أن مفهوم الوجود أي وجود الإنسان، هو المقصود بالموضوعاتية الشخصية، أي أن الباحث الموضوعاتي يعني من خلالها بالتنقيب عن رغبات الكاتب، وطموحاته وكذا ماضيه، في المقابل يقرأ ويفتش في كوامن نصه والنصوص الحائمة حوله عن السياقات اللاشعورية، غايته من ذلك اللحاق وإظهار ثوابت الهواجس المرتبطة بطريقة مباشرة أو رمزية لطفولة المبدع، وأكثر من جسد وآمن بهذه الفكرة (جان بول ويبر) في قوله " نعني بالموضوع الأثر الذي تتركه ذكرى الطفولة في ذاكرة الكاتب وإذا عممنا فنقول في ذاكرة الفنان العام، الفيلسوف وغيرهم، هذه الذكرى أو الذكرى الموضوعاتية لا تتم دائما بغير وعي من الكاتب إذا ما يتم بعيدًا عن وعيه هي علاقة تلك الذكرى الموضوعاتية بالعمل (17)
2.1. موضوعاتية عهد:
نستطيع أن نقول أن هذه الموضوعاتية تختلف تماما عن سابقتها، لأنها تمس مرحلة معينة أو عهدة معينة، عهد قد يصدر من وضع سياسي، اجتماعي، اقتصادي، أو حتى أدبي وفني، فهي تمثل أزمة معينة، عقد، حادثة تمثلت في زمن ما، وأحدثت وهجًا شغل الناس عامة، والمهتمين خاصة.
و" بهذا الصدد نشير، على سبيل المثال، إلى صوت (فاغنر) بالنسبة إلى (فيرلين) وبالنسبة إلى (ودانزيو) في كتابه (النّار، fuoco )، أو بالنسبة إلى (طوماس مان) الذي يتذكره في كتابه (الموت في البندقية)"(18)
فهذه التيّمة أو الموضوعة اشترك فيها كتاب عدّة بكتابات ومواضيع متعدّدة ومتباينة، وهي تعكس فترة زمنية (ما) فإذا قلنا مثلاً (الجوع) في العالم فإنّنا سنجد الكتابات التي تعكس هذه التيمة أثناء الحرب العالمية الأولى، فكل العالم كان في هذه الفترة يعاني من هذا الألم الذي أسال حبر العديد من الكتاب بلغات مختلفة وبتفسيرات متباينة، كما يمكننا أن نلمس هذا النوع من الموضوعاتية في العهد الرومانسي من خلال موضوعة (الرّحمة) التي جسّدت مثلاً في أعمال (دستويفسكي).
ومن الممكن التعبير عن موضوعات العهد بصورة تعدّ موحية: كالعاصفة عند الرومانسيين منذ (عواصف مرغوب فيها) (لروني Rene) حتى تلك العاصفة التي فجّرها (ليسزLisz) في (سنوات الحج) و شخصيات الكوميديا الإيطالية في نهاية القرن لمثل (بيير والمشنوق) عند (مورغان ستيرون Morgenstern) وبييرو (بصيغة الجمع) عند (لافورغ La Forgue) و(بييرو القمري) عند (شوينيرغ Schoenberg)(19)
3.1. الموضوعاتية الخالدة :
إذا كان (الموضوع) مركز اهتمام الإنسان وشغله الشاغل منذ عهود قديمة، فإنّه اليوم هو الأمر الأكثر أهمية في حياة البشر ذلك أنّ المنطلق لأي منهج أو طريق يبدأ بموضوع أو بفكرة، لكن الإنسان، بحكم طبيعته البشرية المتجذرة في أصوله ومنابعه الأولى، لا يمكنه أبداً أن ينطلق من العدم فلا وجود لبيت دون أساسات، لهذا فالموضوعات الموغلة في القدم و المتجذّرة في أعماق الحضارات القديمة أصبحت اليوم تصرخ وبقوة في أجراس آذان النّقاد والكتاب والدّليل على ذلك ما قدّمه "(ريمون تروسون) عام 1964 في كتابه (موضوع بروميثيوس في الأدب الأوربي) وأتى به (شارل ديديان) في كتابه (موضوع فاوست في الأدب الأوربي)"(20) فمن خلال هذين الكتابين مثلاً أحيا الناقدان الفكر والأدب الذي كان يشغل بال الأوربي في القرون الغابرة، وأعادا المواضيع المتناولة، آنذاك، إلى الساحة الحديثة، ولا يدلّ ذلك إلاّ على أن الأدب لا يموت وموضوعاته تبقى حيّة في أي عصر وأي عهد، فقد "لجأ كل من (ييتس) و(دومال) و(هيرمان هيس) إلى كتب الهند المقدّسة، وإلى ملحمة (جلجامش) التي فكت رموزها بصعوبة في نهاية القرن التاسع عشر، وأصبحت في نهاية القرن العشرين عرضاً مسرحياً للجمهور، (قصر شايوPalais de chaillot)"(21).
II. النص الشاهد و تداعياته الموضوعاتية:
يتميز النص الشاهد بكونه نصا قصصيًّا، مثيرًا لاهتمام الناقد نظير الصنعة التكثيفية الفكرية التي تميزه وتلحق به لقب (الكنز الثقيل) لما فيه من تداعيات فكرية وذهنية مفعمة برمزية صاخبة، تترجمها اللغة الفنية الإبداعية، الخيالية للقاص، غير أن الجالب للانتباه عند هذا الأخير صبغة اللامباشرة وكذا الإيحاءات المترامية التي تحقق في مجموعاتها تيمات، يؤكد النص عل توصيفها و تغلغلها في عروق ودم النص القصصي (للسيد حافظ) هذه الأخيرة وإن كانت كثيرة ومتنوعة فإنّها تصب في تيمات رئيسة أولها:
II.1. تيمة الاغتراب:
قبل أن نخوض غمار هذه التيمة، ونتتبعها في نصوص (السيد حافظ) الروائية، لا بدّ لنا من التعرف عليها اصطلاحيّاً ولغويّاً حتى يسهل علينا فهم ظهوراتها المتعدّدة وتعديلاتها المتباينة في الموضوع.
فقد ورد تعريف لها في العديد من المعاجم، نذكر من بينها معجم " لسان العرب " (لابن منظور) فيقول: " أغرب الرجل: جاء بشيء غريب، و ذا اشتد وجعه من مرض أغرب عليه، صنع به صنعًا قبيحًا، و يقال أغربته إذ نجيته وأبعدته، والتغريب البعد وأغرب عني أي تباعد وأغرب، صار غريبًا، والغرب خلاف الشرق، والغروب: غروب الشمس، والغرب أيضًا: الذهاب والتنحي عن الناس، وقد غرب عنا وأغربه نجاه، والغرب: أيضا النوى والبعد "(22)
نفهم من ذلك أن الاغتراب حصر في هذا التعريف في مصطلح البعد، أي خروج الإنسان من محيطه المعيش، أي أنّه قصد معناه في النقاط الآتية:
‌أ. الاغتراب بمعنى انفصال الجزء عن الكل أو انفصال الإنسان عن وطنه.
‌ب. الاغتراب بمعنى الموضوعية: انفصال جسد الإنسان عن الآخرين.
‌ج. الاغتراب بمعنى الانتقال: يتغرب ينتقل.
‌د. انعدام القدرة والسلطة: الشعور بالعجز وبعدم القدرة على فعل أي شيء.(23)
وأما عن نصوص (السيّد حافظ) فقد عبّرت عن هذه التيمة بكل حيثيتها، انطلاقًا من العناوين التي اختارها القاص إلى المتن النصي، لإثبات ذلك انطلقنا من " أحزان مواطن بلا عنوان ". فقد استهلت اللافتة بلفظة (أحزان) فهي مجموع حزن الإنسان على ذاته وعلى ما يتكبد من مشاق توقعه في أزمة انشطار وانشقاق عن أناه، وأمّا عن المفارقة فقد حدث حين ضمّ الكاتب لها كلمة (مواطن)، فأنتج تضادًّا معنويًّا موازيًّا لمفهوم (اللانتماء) فالمواطنة تعني السكينة و لأمان والحميمية التي تتضمنها كلمة (الأحزان) (المبتدأ )، وتؤكد عليه كلمة (بلا عنوان) فالأداة (لا) أداة نفي، تقضي على الاحتواء و السلام أن يغادرا فلا مكان لهما.
فمن خلال هذه اللافتة فإن القاص يستهل حضوره عبر( التيمة الرئيس) (الاغتراب) تقترن معها تيمة أخرى و هي (الرّفض) تظهر بصيغة النفي فهي تجسيد للدلالة الموضوعية (أحزان مواطن) يكون الاسم (المبتدأ) الموضوعي (أحزان) إشارة لفعل الاغتراب و المضاف إليه (مواطن )، ليرسخ هذه الموضوعة بفعل النقيض من خلال (تيمة المفارقة) التي تظهر في هذه الصورة، فالأول يبث اللاتوازن والشعور العميق بانشطار الذات عن أناها في حين أن الثاني يوّلد شرارة الأمان والطمأنينة التي يستمدها من المكان (الوطن) غير أن اللافتة تسير نحو اتّجاه السلب من حيث المعنى المضمون المراد من قبل القاص حين يصنف لها كلمة (بلا عنوان) فدلالة (الرفض) هنا ترسخ في أداة النفي (لا )، وتحمل العنوان الشعور بانتكاس الآخر نظير شعور (اللانتماء) الذي يحمله المواطن.
وأمّا عن دلالة التوقع الواردة من خلال المتن النصي فيسير وفق خط ثابت وصريح، فالقاص أفضى بنصه إلى ترسيخ مجموع المعاني المبثوثة في (اللافتة العنوان)، من خلال استهلاله بحمل ينتفي مفتاح " هنا البعوض طعام الشرطة والذباب طعام البشر"(24) فيها إشارة إلى (حرب) ينتفي فيها كل ما يجعل الإنسان إنسانا، ليحلّ الركام والبؤس والفقر مكانه، فــ(البعوض) و( الذباب) حشرات تدلّ على الفقر المدقع والعفن والجثث المترامية والتي باتت أكلة لهذه المخلوقات، بل وأصبحت تمثل سكان (المدينة الجديدة) هذه المدينة (بور سعيد) التي بات البطل (ذكي) يجهلها، رغم أنّه ولد و ترعرع وكبر فيها، إلاّ أنّ (اغتصاب) الحرب والدمار جعلها في عينه غريبة " ساعات وأنا أدور في تلك المدينة المتسعة، المتسعة "(25) فتكرار (متسعة) تدل على (الفراغ) الروحي والجسدي الذي يشعر به البطل، فحينما يغترب الإنسان عن المكان الذي تربى فيه يشعر أن المكان بات واسعًا و كبيرًا وهو لا يعي معالمه التي أصبحت غريبة عنه، حتى أنّه أطلق عليها لقبًا جديدًا " المدينة الفزعة "(26)، (فبور سعيد) المدينة الجميلة بشواطئها الخلابة قرنها بصفة (الفزعة) والموصوف مدينة مصرية عريقة في تاريخها وأصولها.
إن حالة (الرفض) التي تسكن البطل، نظير تغير معالم مدينته بفعل (حرب أكتوبر) جعلته لا يعي موقعه ولا حتى المواقع التي ينشدها " عاد بعد حرب 73 إلى مدينة بور سعيد... عاد محملاً بآلاف الأحلام كي يشاهد منزله و منزل أسرته... فلم يتعرف على الشوارع... لعل الحرب غيرت شكل ونظام الحي والبيت "(27) لم يجد بيته ولا الناس الذين يعرفهم، إنه شعور فضيع بالقهر والاغتراب يقابله (رفض) و( نكران) من الآخرين، فكل ما قام به من جهاد من أجل وطنه لكنه قوبل بالنكران والتهميش والإقصاء، فلم يجد حتى بيتا يأويه أو إنسانا يسمعه ويفهمه" ليس عندي منزل، المذيعة إنّه يمجد القيادة التي راعت كل المقاتلين "(28)وهنا رمزية مطلقة لرفض القيادة التي كانت في ذلك الزمن (بقيادة الرئيس السادات) والتي اتسمت بالجحود للأبطال الوطنيين الحقيقين وتغييبهم بل إقصاؤهم من الوجود قدر الإمكان، وهذا ما دفع البطل إلى التذمّر من الوضع الاجتماعي وحالة الإجحاف التي مّست الفئة المتوسطة والدنيا في مجتمعه، والتي أشعرنا بأنه منهم، فالنضال والجهاد والكفاح لهم والغنائم والامتيازات والرفاهية للسادة والقادة.
وحين نتمعن في كتابات (السيد حافظ) نجد أنّه ينبذ قيادة السادات لما فيها من (إجحاف) و(نكران) للآخر، للإنسان المصري البسيط، للجندي الذي حارب ليبقى الوطن شامخًا، في المقابل حب وحنين لعصر (جمال عبد الناصر)، والذي تمثّله بالرجل الشجاع المنقذ.
" لمن أشكو يا بحر... والبحر به المراكب... والمراكب حملت الملك فاروق والانجليز والبحر فيه أسماك أكلت جسد عبد الناصر... وبعد أن أكل السمك جسد عبد الناصر أخذ السمك يأكل بعضه بعضًا... وعروس البحر ملكت أسطولاً بحريًّا وبريًّا وجويًّا "(29)
 إن صيغة السؤال (لمن) جاءت لغرض (نداء الخلاص) من مصر التي بعد أن قضت على بطلها (عبد الناصر) بدأ شعبها يأكل بعضه البعض، في حرب لم تنته وبالتالي فدلالته (الاستغراب) و(الاندهاش) " تحتكم إلى بنية انتظار وترقب ممزوجين بيقين البعث الأكيد في انتظار الخلاص والخروج من دائرة الصمت والحزن والاغتراب "(30) وذلك عن طريق التصدي لكل المنزلقات التي أدت بوقوع الشعب المصري في الهلاك، لذا ألحق كلمة (عروس البحر) التي هي رمز للجمال والخلاص مما هم فيه.
إنّ الإنسان في كتابات (السيد حافظ) لا قيمة له، فكلمته مغيبة، و مهمشة، فتيمة (التهميش) تلاحقه وتعيش معه ويعيش في ظلها، فهذا (صابر أفندي) في قصة " صابر أفندي... امتهن مهمته مدة 40 سنة، صدق فيه خدم الناس، وتابع كل مشاكلهم، من المؤكد أن الصحفي سيكتب تحت الصورة هذا المواطن المخلص ظل أربعين عامًا يخدم بلده... أربعون عامًا وأنا أكتب للصحف والمجلات في باب شكاوى المواطنين عن كل خطأ يحدث في الشارع أو الحي أو المدينة "(31) ولكن جميع شكواه كانت تذهب هباءً منثورا، إذ لا اعتبار لإنسان بسيط، لا سلطة له ولا مال ولا جاه يملك حلتان "حلة للصيف + حلة للشتاء "(32) وبالتالي حياته سارت مماثلة، فهو نكرة، لا موقع إعرابي له في مجتمع أحاله على التقاعد فجعل منه خرقة بالية حضوره مساو لغيابه، فالحضور الفاعل هنا لم يجد له الكاتب قيمته وإذا تناولنا مصطلح (الحضور) " من المنظور السميائي هو الكائن هنا ويفرض كل حضور نقيضا هو " الغياب "(33)و(الغياب) كتيمة هنا مسيطرة على العمل القصصي ليثبت أن الإنسان المصري البسيط يعيش (ضياعًا) لا مثيل له وليس له الحق في التذمّر أو حتى الشكوى التي لا آذان تسمعها ولا صدر يستوعبها حتى وإن أدى ذلك إلى هلاك هذه الفئة. " إن قطع التيار الكهربائي الذي تسبب فيه المقاول قد أصاب الثلاجة والحياة بالضياع الكامل وإن الطعام قد فسد وانه الآن لا يسمع لنشرة الأخبار وينام مبكرًا "(34).
تأتي الآن قصة " نرجس الصباح " لتؤكد على هيمنة تيمة (الاغتراب) في المجموعة القصصية ككل، وإن كانت مسبباتها كثيرة و متنوعة، فتارة تكون التيمات (النكران) و(التهميش) المسبب الرئيس للتيمة (الأساس الاغتراب) وتارة أخرى (الغياب) و(الإجحف) أمّا في هذه القصة فقد حضرت هذه التيمة مصاحبة لتيمتي (الغربة) و(الغياب) نتيجة العوز و الحاجة إلى تحسين الحال وتحقيق الحلم المفقود، وقد أعلن بطل القصة منذ الجملة المفتاح سأمه وكرهه لهذا النأي، ورغبته الملّحة في العودة إلى حضن قريته وبلدته وحبيبته " سئمت الرحيل من مدن العفن إلى مدن الزيف "(35) فالتيمتان المعلنتان في هذه العبارة (العفن) و(الزيف) متقابلتان من حيث المعنى متناقضتين من حيث المبتغى، فخروجه من قريته كان بسبب (الحب) فحبيبته (نرجس)، حلم السنين" نرجس الشاي الدافئ في يوم بارد "(36) يتطلع للقائها والعيش معها ومن أجل ذلك تغرب واغترب ليوفر لها المنزل الذي تحلم به والسيارة التي تريد أن تركبها، إلا أن (الزمن) غدر به، وأسرع في مضيه دون أن يترك له مجالا لتحقيق حلمه، فقد كدّ واجتهد من أجل الوصول إلى المحبوب، وها هو يشكو قساوة غربتة لها ويطلب الرحمة و الرأفة به.
" آه يا ابنة الحقول الفسيحة لو تدرين ما فعلت عيناك بي... في دروب قاسية العطاء قاصرة التصور آه لو تدرين... لبكيت من أجلي الأيام والليالي آه لو تدرين كيف أمضيت الأيام و الليالي جائعًا غريبًا... عاريًا... غيرتني تلك الأيام الغريبة"(37) فالتيمات الخادمة للتيمة الأساس تنجلي وبوضوح في هذا المقطع (جائعًا)، (عارياً)، (غريباً) (قاسية) كلها تصب في بئر الشعور الحاد باليأس والبؤس واللتان تجرّان صاحبها إلى احساسه العميق باستلاب ذاته عن أناه.
II . تيمة الموت:
إن الموت كمصطلح يفضي إلى النهاية المحتومة لكل كائن حي على وجه هذه المعمورة، إلاّ أن البنية الفلسفية لهذا المصطلح تنم على أن هذه الكلمة لها تشعبات ودلائل عديدة متباينة ولا تختص فقط بالنهاية الجسدية بل لها محمولات أخرى فيراد بها " ما يقابل العقل والإيمان، أو ما يضعف الطبيعة ولا يلائمها كالخوف والحزن أو الأحوال الشاقة كالفقر، والذّل والهرم، والمعصيّة"(38)
والموت عند (السيد حافظ) حمل هذا المحمول؛ إذ نجده يظهر بظهورات مختلفة فهو في قصة (نرجس الصباح) ظهر في صورة (الحزن )، من حيث هو نهاية للحب واللقاء، ومن حيث هو (الفراق ). وبالتالي، يمكن القول إن الحزن الفعّال يمكن أن يتخذ أشكالاً كثيرة فهو هنا علامة على انتهاء عهد اللقاء والحب و الهيام وإعلان لبداية شقاء الفراق وآلامه حتى بات خياله هو الحاضر بدل واقعه فشدّة الحزن أرست به إلى الخروج من واقعه المأساوي واستبداله بواقع مزيف، فنرجس التي توفيت منذ خمس سنوات و هي تلد ابنتها، التقى بها عند رجوعه بعد عشر سنوات حدّثها وحدثته، عاتبها وعاتبته واقتنع أن لقاءَها حقيقيٌّ وأن ألم الفراق زائل من خلال هذا الجمع بين الحبيبين ليكتشف بعد ذلك أن " نرجس ماتت منذ خمس سنوات... تزوجت وماتت أثناء الوضع هي والطفلة التي أنجبتها"(39) تيمة أخرى تخدم وترسخ تيمة (الموت) إنها تيمة (الحلم )، فالحلم خروج عن الواقع أو هروب منه، ودعوة ملحة إلى حياة أخرى يبتعد فيها الحالم عن كل الآلام والأحزان التي توقعه في الشعور المؤدي والمسيطر على النفس المتأزمة " أغفو على صدر الحلم... توقظني جنون السيارات المارة وأعود في حفني الحلم كي أهرب من العمر"(40)
والملفت للانتباه أن ما جرّ القاص إلى (الهروب) هو الحضور الفعال لموضوعة (الحرمان )، فحين يفصح القاص على لذّة الخروج من الواقع المعيش الحقيقي إلى واقع يصنعه وينسجه بخياله، فهذا دليل على تأزم وضعه تأزمًا ماديًّا نظير عدم حصوله على عمل يضمن له عيشة في كفاف فقد اختار أن يكون مساعد مخرج مسرحي لا يقبض من المعاش إلاّ القسط القليل الذي لا يستطيع أن يضمن لأسرته لقمة العيش تقول أمه " يا فوزي ليست هذه وظيفة يا بني : منذ مات أبيك ونحن نريد أن تكون رجل البيت"(41)
إضافة إلى الحرمان المادي، كان الحرمان العاطفي مسببًا رئيسًا في وقوع بطل (السيد حافظ) في اغتراب نفسي مثلما وجدنا ما حدث لـ( ذكي) أو موت نفسي مثلما حدث لـ( صابر أفندي) و بالتالي فعدم الكفاية المادية، والحرمان العاطفي والظلم والاغتراب، هي المشكلات الأساسية التي يعاني منها إنسان (السيد حافظ) والتي أوقعته بصفة مباشرة في شعوره العميق بتسلل (الموت) إلى أوصاله، فباتت التيمة الأكثر ملازمة له، " ها قد ذهب زمن الطفولة و الحلم بالمهرة... ها هي المناجل و المشانق... ها هي الطعان والسهام و الأحزان... و الصحوة لمبيدة المنال "(42)
إن (الرفض) من التهميش المسلط على الطبقة السحيقة، لازم قصص (السيد حافظ) فمصادرة حقوق الإنسان في التعبير عن رأيه كان كحبل المشنقة التي تلتف على (فوزي الدسوقي) الذي جرّ من قبل رجال الدولة ليسأل عن آرائه التي تلفظ بها، غير أنّه انتفض على هذا الاغتصاب المطبق عليه، و نادى بحرية الرأي، و حرية الإنسان المقيدة بقيود الخوف و الفزع من رجال الدولة، "خرج فوزي الدسوقي إلى الشارع... لا أحد يفهم أحدًا... لا تقدير الشيء... الأطفال جياع... صراخ الطفولة المبهم الغير واضح من أعماق كل منا... كل الكلمات عنوان و الكلمة تابوت و فلسطين تحية الأدباء و تحية الجميع في سيناء تاريخنا... و الشهداء... فرشنا كلمات... فيدخل كل منا في حرف أو كلمة أوجملة مفيدة أو أي استمارة أو كتابة "(43)
من خلال هذا المقطع نستشف مكاشفة صريحة لحالة الفرد في المجتمع المصري، ودعوة ملحة للخروج من مغبات المآسي الإنسانية التي تتخبط فيها طبقات المجتمع الدنيا فالمشهد المصوّر هنا يسلط فيه (السيد حافظ) على تيمة (الإنكار) للوضع الحالي، التي توقع صاحبها في حالة من (اليأس) و (الإحباط) و تجعله (يرفض) العيش في عتمة (الموت الاجتماعي) الذي سبق إليه بفعل فاعل الفعل (السلطة الحاكمة ).
ولم تكن السلطة هي المسبب الوحيد في وقوع القاص في (تيمة الموت) بنوعيه (الاجتماعي) و (النفسي )، بل أورد تيمتي (الجشع) و( الطمع) اللتين جعلا سامي يفقد ليلى، ودلالة الاسمين تعزز ذلك، فا(لقيم) و( المثل) لم تعد تجد لنفسها مكانًا في مجتمع رأس مالي، ليبرالي، القوة فيها للمال والجاه، لا للأخلاق والتربية، فقد استهل القاص قصته (حبيبي سامحني) بترديد مصطلح (سامحني) فالحضور الموضوعي لهذه الكلمة تنم عن طلب الغفران من ضرورات يفرضها المجتمع، و يجد أنها المسبب الوحيد و الأوحد للسعادة، وليتمكن لفوز بالحبيب" لا تملك سيارة... لا تستطيع أن تشتري لي تليفزيونًا أو ثلاجة "(44) فهذه الماديات هي الوسيلة الوحيدة القادرة على إرضاء أم العروس، وإلاّ فلا سبيل لوصوله إلى المبتغى المنشود (الزواج المحبوبة"ليلى")، فالتيمة التي جرّت (سامي) إلى (الموت الروحي) تجسدت في تيمة (الفقر) فحلمه بلقاء الحبيب من خلال الزواج و التمتع بمسامرته ذهب ذهاب الريح، لأن أمها رأت " فيك أنك فقير "(45)و من خلال هذه الجملة نلتمس أنّها علامة على (الانكسار) و(الإحباط) الماثلين في عمق القاص، (الحزين) بفعل (الفقد)، وبالتالي باتت شعارات " الوعي.. الثورة.. الغد.. المستقبل.. الإنسان.. الحياة.. المجتمع.. العامل.. الشرف.. الصدق.. الفلاح.. الأجر.. العلاقات الإنتاجية القيمة.. فائض القيمة"(46) لا تصلح لبناء أسرة سعيدة، وهنا تجد أن (ليلى) رغم فقدانها (لسامي) واشتياقها الشديد له، تعيش حالة من (الوعي) لأنها تعرف أنهما لن يتمكنا من تغيير الواقع وهو ما دفعها للقبول بالوضع الجديد الذي فيه غياب للحبيب "سامي" واقتران برجل آخر والذي يدل على فراق أبدي. و بالتالي، فحضور الوعي حضورًا ايجابيًا، تجسدت ببزوغ الوعي الفاعل في الذات القاصة، إذ أنّ " الوعي بشيء يتجلى بوضوح في القصدية، فالوعي هو مصدر كل المعاني التي تتجسّد بعدئذ في الواقع "(47)
إنّ سوداوية الصورة، و سلبية الدلالة ناجمة عن صيغة النفي الواردة في هذا المقطع( لم أحضر )، " لم أحضر لأني قد خطبت لابن خالتي "(48) تندفع بعدها الكلمة المفتاح التي كانت سائرة في كل الرسالة " سامحني "(49) للمحاولة من تخفيف شدة الانتكاس التي ستصيب الحبيب (سامي) عند قراءته للرسالة، و ستجعل (السقوط) كتيمة ملازم للحبيبين حينما تطلب منه أن يمزق كل خطاباتها و أن ينسى جميع لقاءاتهم، لأنّ العلاقة الآن بينهما صارت محرّمة، و الحب صار ممنوعًا، و الرضوخ له ما هو إلاّ سقوط في أبشع الرذائل لذلك اختارت أن تكتب له خفية بعد أن نام الجميع و ذلك " بعد الساعة الثانية"(50) إنّ الفاعلية الموضوعية تؤكد على وقوع (الخيانة) الروحية و هي مسبب رئيس في حدوث موضوعة (الموت) من حيث أن الجسد يسلم لشخص بينما الروح و النفس و الكيان الفكري يعيشان مع إنسان آخر، و هنا يأتي (الخيال) ليحدث شرخًا موضوعيًّا فاعلاً، ذلك أن " الخيال نشاط نفسي يعبر به الإنسان عن آماله و رغباته و يواجه به أشكال الحرمان و الشقاء التي يعانيها في حياته، و من ثمة فهو وسيلة " للتعويض و لإشباع الرغبات المكبوتة، لأنه في اللحظة التي تغيب فيها المحبوبة عن نظره، تدللا منها أو إكراها من أهلها، يستحضر طيفها بفكرة و يندمج في علاقة خيالية حالمة معها "(51)
فا( لخيال) كتيمة لاحق البطل (السيد حافظ) في معظم مساره القصصي، و في مواقف عديدة كانت (الخيانة) تيمة مؤدية بصفة مباشرة (بموت) الإنسان روحًا و نفسًا وفكرًا و عقلاً فهذا (علي السمنودي) أقدم على خيانة زوجته مع زوجة رضت الخيانة، و قد قوبل بخيانة زوجته له، و بهذا فا(لموت) أو ما يسمى بتيمة (الفراغ) هو الحلقة الفاصلة الرابطة بينهما، تجعل الحياة تساوي الموت، و اللّذة تساوي الخيانة و الوجود يساوي الضياع، و كل هذه المفارقات تجعل من البطل في قصص (السيد حافظ) بطلاً مغتربًا حينًا وميتًا حينًا أخرى نتيجة هيمنة تيمتي (النكران) و (التهميش). عليه، فالفاعلية الموضوعية لهاتين التيمتين حاضرتين في وعي و لا وعي المبدع، و قد رافق القاص تيمة أخرى تفاعل معها بتفاعل النص له، إنّها تيمة (الفقد) فقد كان دائم السعي للحصول على الأمان والرضى إلاّ أن كلاهما يصبح سرابًا بمجرد أن يمسك بهما، و خير دليل ما قدمته لنا قصة (صياد اللؤلؤ) فبطلته (هند) تعيش في الآفاق الواسعة (الصحراء) بالرغم ما يضيق عيشها و يلاحقها إنّها تيمة(الخوف) الخوف من المجهول و المعلوم و في الآن ذاته تيمة جعلت انتشار حالة اللاأمان تطغى على البطلة إلى أن يأتي من ينقذها مما كانت فيه و يشعرها با(الألفة) و (لا حزن) فتتمسك به، رغم اعتراض والدها، و لكن حينما يقترن الفرج ويبدأ الأمر في الخروج من غياهيب (الموت الروحي )، يحدث (الموت الجسدي) حيث يفقد الحبيب حبيبته.
المراجع : 
- محمود تيمور: فن القصص، أورده علي نجيب عطوي في تطور فن القصة، اللسانية العربية، ص 86.
- د. عز الدين إسماعيل: روح العصر، دار الرائد العربي، بيروت، لبنان، 1978 ص 347.
- المرجع نفسه، ص 347.
- قاسم سيزا: بناء الرواية، مكتبة الأسرة، مصر، 2004م.
- أحمد إبراهيم الشيشي: المرجع في النقد الأدبي، مكتبة الوحدة، د.ت، ص 81.
- يوسف إدريس: مجلة الهلال، أغسطس، 1970، ص 129.
- مجيد طوبيا: مجلة الهلال، أغسطس 1969، ص 200.
- يقسم السيد حامد نساج: المراحل الأدبية إلى أربعة مراحل: 
- مرحلة المغامرة الفردية (منذ الريادة إلى 1939)
- مرحلة التحوّل و الاستكشاف (1939، قيام الثورة 1952 )
- مرحلة الوعي و الانطلاق (1952 هزيمة 1967 )
- مرحلة التجديد و الاستمرار 1947 
- د. كوثر عبد السلام البحري: الاتجاهات الحديثة للنقد الأدبي، مع دراسة مقارنة بين النقد الأدبي العربي و الغربي، مكتبة الأنجلو المصرية، ط1، 1989، ص 224.
- حميد لحميداني: المنهج الموضوعاتي في النقد الأدبي، أصوله واتجاهاته، مجلة دراسات سيميائية أدبية لسانية، عدد 4 فاس، 1990، ص 29.
- المرجع نفسه ص 41.
- د. كوثر عبد السلام البحري: المرجع السابق، ص 223.
- دانيال بارجاس و آخرون: مدخل إلى المناهج النقدية في التحليل الأدبي، ترجمة الصادق بن الناعس بن الصادق قسومة جامعة الامام محمد بن سعود الإسلامية، 2008، ص 222.
- انظر:عبد الكريم حسن: نقد المنهج الموضوعي، الفكر العربي المعاصر، بيروت، لبنان، ع 44-45 ربيع 1987، ص38.
- بيير برونيل و آخرون: ما الأدب المقارن، ت، عبد المجيد حنون و آخرين، منشورات مخبر الأدب العام و المقارن، جامعة باجي مختار، عنابة 2005 ص 208.
- BRUNEL (P) PICHOIS (c) ET rOUSSEAU (A M) OP CIT P/1220
- WEBER JEAN – PAUL – DONAINES THEMATIQUES GALLIMARD – PARIS 1963 P 86
- JEAN – PAUL – VEBER – DOMAINES THEMATIQUES ED GALLIMARD – 1963 P 09
- برونيل و آخرون: المرجع السابق، ص 209.
- المرجع نفسه، ص 210.
- المرجع نفسه، ص 210.
- المرجع نفسه ،ص 210 – 211.
- ابن منظور: لسان العرب، الدار المصرية للتأليف و النشر، طبعة بولاق، ج2، فصل الغين، ص 13.
- مجلة العلوم الانسانية عدد 25، جوان 2006 ص 16.
- السيد حافظ: المجموعة القصصية، ص 80.
- نفسه ص 80.
- نفسه ص 80.
- نفسه ص 81.
- نفسه ص 83.
- عبد القادر فيدوح: الرؤيا و التأويل: مدخل لقراءة القصيدة الجزائرية المعاصرة، ديوان المطبوعات الجامعية، وهران، الجزائر، ط1، 1994، ص 12.
- السيد حافظ:المجموعة القصصية، ص 75.
- المصدر نفسه، ص 76.
- سعيد علوش: معجم المصطلحات الأدبية المعاصرة، مطبوعات المكتبة الجامعية، الدار البيضاء، المغرب،1984، ص 40.
- السيد حافظ: المجموعة القصصية، ص 77.
- المصدر نفسه، ص 47.
- المصدر نفسه، الصفحة نفسها.
- المصدر نفسه، ص 50.
- جميل صليبا: المعجم الفلسفي بالألفاظ العربية و الفرنسية و الانجليزية و اللاتينية، دار الكتاب اللبناني، الجزء الثاني، بيروت، لبنان، دار الكتاب المصري، القاهرة، 1979 ص0 44.
- المرجع نفسه ص 53.
- السيد حافظ: المجموعة القصصية، ص 56.
- المصدر نفسه، ص 56.
- المصدر نفسه، ص 57.
- المصدر نفسه، ص 59.
- السيد حافظ: المجموعة القصصية، ص 38.
- المصدر نفسه، ص نفسها.
- المصدر نفسه ،ص 38.
- محمد بن سعود، البشير: الفلسفة الظاهراتية في الاتصال الإنساني، رؤية نقدية، دار العاصمة للنشر و التوزيع، الرياض، السعودية، ط1، 1415ه، ص 22.
- السيد حافظ: المجموعة القصصية، ص 39.
- المصدر نفسه، ص نفسها.
- المصدر نفسه، ص 39.
- يوسف الادريسي: مفهوم التخييل في النقد و البلاغة الغربيين الأصول و الامتدادات، مركز الملك عبد الله بن عبد العزيز الدولي لخدمة اللغة العربية، ط1، 1436 هــ، 2015م، ص 37.

 





0 التعليقات:

إرسال تعليق

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More