دراسات من كتب د. نجاة صادق الجشعمي
(232 )
جماليات الحضور والغياب
بقلم
د. ماهر عبد المحسن
للسيد حافظ
دراسة من كتاب
تمظهر التجديد في بنية السرد في القصة القصيرة
السيد حافظ نموذجا
جمع وإعداد
د. نـجـاة صـادق الجشـعمى
قراءة في مجموعة "لك النيل والقمر"
للسيد حافظ
يعتبر السيد حافظ من الكتّاب الاستثنائيين في الأدب العربي المعاصر، فقد مارس كل صنوف الكتابة تقريباً، المسرحية، الرواية، القصة القصيرة، القصة القصيرة جداً، كما أنه أثرى المكتبة العربية بكَمٍ هائل من إنتاجه المتنوع والمثير للجدل في ذات الوقت. ولعل في هذا التنوع من ناحية، والغزارة في الإنتاج من ناحية أخرى ما جعل السيد حافظ يطلق على نفسه "عابر للمشاريع الإبداعية"، لأن كل جنس أدبي خاض غماره إنما كان بمثابة المشروع الكبير – بالنسبة له – فهو ليس مجرد كاتب هاو أو سائح تقوده المصادفة العمياء بين هذه أو تلك من صنوف الكتابة الأدبية . ويكفي مشروعه الفريد في الكتابة للأطفال (18 مسرحية) ومشروعه الروائي (7 روايات)، خلافاً لمشروعه في الكتابة لمسرح الكبار، وإسهامه المتميز في المسرح التجريبي.
وفي كل الأحوال، فإن ما يميز إنتاج حافظ، ليس فقط الكم أو التنوع، ولكن القضية العامة والهم الذاتي . فحافظ لا ينطلق من الفراغ، ولكن من الواقع ومن التاريخ، لأنه يمتلك حساسية خاصة تمكنه من الغوص في أعماق اللحظة العابرة، والإمساك بجوهر التفاصيل الصغيرة التي تبدو على السطح تافهة لا تسترعى الانتباه.
أثارت أعمال حافظ الجدل لأنها تأبى على التصنيف، ولأن الذاتي فيها يختلط بالموضوعي، والماضي يمتزج بالحاضر . فهناك من يتناولها من زاوية تداخل الأجناس الأدبية، وهناك من يتناولها باعتبارها محاولة لإعادة كتابة التاريخ، وهناك من يتناولها بوصفها ثورة على الشكل، وأخيراً – وليس آخراً – هناك من يتعامل معها باعتبارها صرخة في وجه الظلم، أو جمالاً متحدياً للقبح، أو نظاماً صارماً يحاول إعادة ترتيب مظاهر الفوضى، ويضفي شيئاً من المعنى على مجمل العبث.
يؤسفني أن أعترف بأني عرفت السيد حافظ متأخراً، وقد تساءلت كثيراً بيني وبين نفسي عن سبب هذا التأخير الذي لا يليق بمتخصص في علم الجمال إزاء كاتب عملاق بحجم السيد حافظ . وإذا كان الأمر على هذا النحو، فكيف هو بالنسبة لقراء العربية غير المتخصصين ؟!. إن الإجابة مؤلمة وقاسية، فالسيد حافظ، علاوة على أنه لا يحب الشهرة ولا يسعى للأضواء، لا تذهب الأضواء إليه، ويغض الإعلام الطرف عنه. ربما لأنه ليس لاعباً للكرة أو راقصاً في ملهى أو مطرباً عاطفياً يدغدغ مشاعر النساء، وربما لأنه أبى أن يخضع قلمه لهوى السلطة، وآثر أن يمضي وحيداً عكس التيار، غريباً في بلاد بعيدة. ومن هنا تحققت في شخص السيد حافظ متلازمة الحضور والغياب، فهو الحاضر الغائب، والغائب الحاضر .. يتضح ذلك في مسيرة حياته ومسيرة إبداعه .
فالسيد حافظ يمكن أن يعيش بيننا دون أن نشعر به، كما يمكن أن نشعر بإبداعه والصدى الواسع لأعماله داخل أنفسنا دون أن يكون حاضراً - بجسده – بيننا .
من هذا المنطلق ستكون قراءتنا لمجموعته القصصية "لك النيل والقمر"، فمسألة "الفقد" أو "الغياب" تُعد – من وجهة نظرنا – مدخلاً جيداً لفهم العديد من قصص المجموعة . وأول ما يمكن ملاحظته أن مجموعة "لك النيل والقمر" تحتوي – بجانب القصص القصيرة - على عدد من القصص القصيرة جداً أو ما يعرف بـ "القصة الومضة" وهي قصص تتراوح في الطول ما بين السطرين والسبعة أسطر . وتأتي في الصفحات الأولى بالتبادل مع قصص أكثر طولاً، وعددها تسع قصص على وجه التحديد.
وستعتمد قراءتنا على فرضية تأويلية تتخذ من القصص القصيرة جداً مداخلاً ونقاطاً للانطلاق تدعم قراءة وتفسير القصص القصيرة (أي الأكثر طولاً في المجموعة). وبهذا المعنى، فنحن نعتبر أن القصص القصيرة جداً لدى السيد حافظ لا تقل أهمية عن القصص القصيرة، ومن ثم ستكون هي الأجدر بعنايتنا، وهي موضوع قراءتنا.
تحتوي مجموعة "لك النيل والقمر" على تسع قصص قصيرة جداً، ويلاحظ أن فكرة "الوطن" و"ضياع الوطن" هي الفكرة المحورية في هذه المجموعة، وذلك بالتوازي مع فكرة "السجن" و"الإعدام" التي تظهر كمصير حتمي للمواطن الطريد الباحث عن وطنه.
ففي القصة الأولى: تُرى ما الذي جرى .. ؟" نقرأ هذه السطور :
"أغمضت عيني لحظة ثم فتحتهما، فوجدتني في عصر المماليك .. يحاصرون الشوارع.. والسلطان سليم الأول يأمر بالقبض عليّ .. فأصبحت سجيناً طوال 450 سنة .. ترى ما الذي جرى؟".
فالتساؤل الذي يختم الأقصوصة "ترى ما الذي جرى؟" إنما هو بمثابة العبارة الاستهلالية لكافة قصص المجموعة التالية، فهي تعادل العبارة "كان يا ما كان" التي تميز الحكايات الشعبية، والتي تدور غالباً في الزمن الغابر .. زمن تاريخي أو أسطوري غير معروف .. كما أنها من ناحية أخرى تأتي بمثابة السؤال الاستنكاري المعبّر عن دهشة الراوي أو المواطن، وربما السيد حافظ نفسه الذي يستعذب لعبة الحضور والغياب، فيتحدث عن نفسه صراحة في بعض الروايات، ويتحدث عن نفسه متوارياً وراء أشخاص آخرين في أخرى. وتأتي الدهشة من المفارقة الزمنية الناجمة عن لحظة إغماض العين ثم فتحها، التي يقوم بها الراوى، فتنقله إلى عصر المماليك ليجد نفسه مطلوباً للقبض عليه من قبل السلطة، بل ويظل سجيناً طوال هذه السنوات (450 سنة) منذ سليم الأول وحتى عصرنا الحالي.
فالمواطن هنا ليس شخصاً معيناً متحققاً في التاريخ، لكنه وعي متطور على مر التاريخ أو بالأحرى هو وعي جمدته السلطة فتوقف عند عتبة التاريخ. فالقهر الذي يُمارس على المواطن العربي هو نفس القهر، والسجن هو ذات السجن، ولا سبيل للهرب أو الفكاك من قبضة الظلم سوى التخفي، والترحال، وممارسة طقوس الغياب.
وكما يظهر "السجن" في الأقصوصة الافتتاحية في عبارة "فأصبحت سجيناً طوال 450 سنة" يظهر في الأقصوصة الختامية التي تحمل عنوان "إنني سجين" في عبارة "فاكتشفت أن الحراس يمنعونني وأنني سجين". وفي ذلك إشارة إلى إحكام قبضة السلطة على المواطن منذ البداية وحتى النهاية. وبين السجن والسجن رحلة طويلة من المعاناة ومن القهر، من البحث المضني عن الوطن الحقيقي من جانب المواطن، والمطاردة المستمرة من قبل السلطة للمواطن المقهور، الموزع بين حبة للوطن وإقباله عليه، وخوفه من بطشه وفراره منه.
في اقصوصة "سلة مهملات" نقرأ : "انتهيت من كتابة رسالة إلى الوطن ووضعتها في ظرف وأمسكت القلم لأكتب العنوان، فلم أتذكره، فوضعت الخطاب في سلة المهملات".
وتكشف هذه الأقصوصة عن حالة فريدة من الفقد ومن الغياب، وهي حالة ضياع الوطن على مستوى الوعي، فالذاكرة هي مستودع الذكريات وفيها تكمن الهوية ويسكن التاريخ، وعندما تضيع يضيع كل شيء، ولا يتبقى سوى سلة المهملات الجديرة بحمل نفاياتنا القذرة، وأوراقنا التي مزقناها بعد طول يأس، وكلماتنا التي خططناها للشكوى فجاءت خالية من المعنى. والمفارقة أن الراوي يعي الرسالة ويدرك أن ثمة وطن وملاذ ينبغي أن يلجأ إليه عندما تضيق به السبل وتظلم الدنيا، غير أنه ينسى العنوان. والحقيقة أن نسيان العنوان رغم غرابته بالنسبة لمواطن يراسل الوطن، إلا أنها مفارقة تتسق مع اللفظة الاستهلالية المعبرة للأقصوصة "انتهيت"، فهي لا تشير إلى "كتابة الرسالة" بقدر ما تشير إلى حالة الراسل (المواطن). فنحن إزاء مواطن انتهى أو هو على شفا النهاية، وربما يكون قد انتهى من رحلته أو تعب من السفر، خاصة أنه يكتب للوطن من بلد آخر . ربما يرغب في العودة، أو في الإحساس بأن ثمة موطن أصلي ينتمي إليه ويحن إليه، لكن فيما يبدو أن طول أمد الغربة من ناحية وتجاهل الوطن له من ناحية أخرى هو ما أدى إلى نسيان العنوان. ونسيان العنوان هنا يذكرنا بنسيان الوجود الذي حدثنا عنه هيدجر، فعندما يستغرق الإنسان في الموجود ينسى الوجود، أي عندما يتعلق الوعي بالجزئيات تضيع منه الكليات، والوطن معنى قبل أن يكون مأوى . وهكذا يتساوى "الظرف" بـ "سلة المهملات"، فكلاهما يحمل رسائلنا، لكن أحدهما رغم نقاوته يشي بها إلى الآخرين والآخر رغم وضاعته يحتفظ بما لنفسه ولا يطلع عليها أحداً أبداً .
في أقصوصة "شباك الوطن" نقرأ : "صرخت المرأة الغانية من شباك الوطن : أيها المتشاجرون في الساحة.. الوطن في غيبوبة منذ أربعين سنة، لا يسمع صوتكم ولا يشعر بكم .. اللعنة عليكم .. كفوا عن الصراخ .. دعوه ينام .. لا تزعجوه حرام . أغلقت النافذة وعادت إلى غرفة النوم، فلم تجد فيه الوطن .. نظرت إلى الخريطة تبحث عنه فلم تجده، فقد اختفى".
وللوطن في هذه الأقصوصة معنيان، فهو مكان للهو والعربدة، حيث تسكنه الغواني وتنعم بالاستقرار، بينما يبيت الشعب مطروداً خارجه (في الساحة). وتتحول قضايا الوطن والمصير إلى مشاجرة هوجاء تتفرج عليها الغواني من أعلى .. والوطن ايضاً شخص داعر يبيت في أحضان الغواني، غارقاً في الملذات غائباً عن الوعي .. وفي كل الأحوال لا يشعر أحد بحقيقة الوطن .. إنه يشبه قطاراً يمضي بأقصى سرعة، دون سائق، في طريق مظلمة تؤدي إلى صدام محتوم.
فالوطن لا يخرج عن احتمالات أربعة لمعنى "الغياب"، فهو إما غائباً عن الوعي "الوطن في غيبوبة منذ أربعين سنة"، وإما نائم "دعوه ينام"، وإما ميتاً "فلم تجد جثة الوطن"، وإما غائباً تماماً عن الوجود "نظرت إلى الخريطة تبحث عنه فلم تجده، فقد اختفى".
ويلاحظ أن غياب الوطن عن الخريطة، إنما لا يعني بالضرورة اختفاؤه من الوجود، فالوطن موجود بترابه وشعبه ونظامه الحاكم، إلا أن غيابه عن الخريطة إنما يعني غيابه عن الركب الحضاري بين الدول، نظراً لتوقفه عن الفعل منذ زمن بعيد "الوطن في غيبوبة منذ أربعين سنة" . ويأتي غياب الوطن وعجزه عن الاسهام الحضاري نتيجة لغياب وعيه الذاتي . فالوطن لا يعبأ بمواطنيه ولا يشعر بهم "لا يسمع صوتكم ولا يشعر بكم" ومن ثم فهو غير قادر على إدراك الآخر وفهمه واستيعابه، فتم اسقاطه هو أيضاً من حساب الغير، لتأتي الخريطة العصرية الجديدة خالية منه.
ولن نكون مبالغين إذا قلنا إن الأقصوصة تحمل نبوءة سياسية في منتهى الخطورة، إذا ما نظرنا إلى الواقع السياسي العالمي الآن الذي يعمل على إعادة تقسيم المنطقة، ويهدف إلى إسقاط الوطن العربي من الخريطة الدولية، هذا إذا فهمنا الوطن بالمعنى الأكبر.
ومن المفارقات الجديرة بالتأمل هي أن المهمومين بقضايا الوطن رغم اختلافهم فيما بينهم "المتشاجرون في الساحة" هم الذين ينبغي عليهم أن يتوقفوا عن الشجار (الصراخ) ويتركوه ينام، لأنهم بهذا الفعل الذي فيه ضجيج وحركة يسببون له الإزعاج "لا تزعجوه حرام". وتأتي لفظة "حرام" ذات الدلالة الدينية والاجتماعية لتضفي المشروعية على غيبوبة الوطن، وعدم المشروعية على يقظة المواطنين، وتصل المفارقة إلى ذروتها عندما نعلم أن الذي يلعب دور رجل الدين، ويصدر الفتوى فيما يكون حلالاً وما يكون حراماً هو "الغانية"، في إشارة صارخة إلى قلب الأوضاع ليكون عديم الأخلاق هو من يشرّع الأخلاق، والخارج على القانون هو من يضع القانون.
وفي أقصوصة "الواعظ الفاسد" نقرأ : "ذهبت إلى بيت حبيبتي في تلك اللحظة العميقة رأيت الواعظ، جبّته على الأرض، وروب القاضي الفاسد بجوارها، وقبعات الجنود، فصرخت : أين هي ؟ .. واقتحمت الغرفة أبحث عنها فلم أجدها، ولم أجدهم.. أغلقت الباب ومشيت .. أبكي".
ولأن الوطن صار غائباً عن الخريطة، فإن المواطن قد تحول للبحث عنه في الواقع، وفي الحلم، في مفردات الحياة، وفي وجوه البشر . فالبحث عن الوطن في هذه الأقصوصة اتخذ صورة رمزية، وصار بحثاً عن الحبيبة "ذهبت إلى بيت حبيبتي في تلك اللحظة العميقة... واقتحمت الغرفة أبحث عنها" . وكالعادة لا يصل المواطن إلى شيء، ويصاب بنفس خيبة الأمل، لأنه يكتشف دائماً أنه إنما يبحث عن سراب .. عن شيء لا وجود له "فلم أجدها ولم أجدهم". والسراب الذي حسبه وطناً هو جبّة الواعظ، وروب القاضي، وقبعات الجنود .. إنها سلطات الدولة الثلاث : الدينية والقانونية والتنفيذية. غير أنها سلطات مزيفة، لا تحمل من الحقيقة سوى الشكل، الجبّة والروب والقبعة، سوى الرمز. أما المعنى الحقيقي فهو غائب عن الواقع تماماً، فالغياب هنا يلحق بالوطن وبالمواطن . وفي غياب السلطات يقوم المواطن بنفسه بأدوار السلطة، فهو الذي يقتحم بدلاً من الجنود "اقتحمت الغرفة"، وهو الذي يبحث بدلاً من القاضي "أبحث عنها"، وهو الذي يقدم العظة لنفسه بدلاً من الواعظ "أغلقت الباب ومشيت" . فمن الحكمة أن يمضي وأن يغلق الباب حتى يغيّب هذا المشهد التراجيدي البائس، الذي لا يملك أمامه سوى البكاء.
ويتكرر نفس الثالوث، الواعظ والقاضي والجنود في أقصوصة "زنديق كافر"، فنقرأ: "هممت أن أرتدي الكرافتة في رقبتي.. وجدت يد القاضي الفاسد تشنقني.. ويساعده الشرطي المرتشي.. وحمل جثتي الشيخ وقال:زنديق كافر".
وهنا أيضاً يقوم نفس الثالوث الممثل لسلطات الدولة بالقضاء على المواطن، وتغييبه، فكما اختفت الحبيبة هناك اختفى المواطن هنا، واختفاء المواطن إنما جاء على المستويين : المادي ”وحمل جثتي الشيخ" والمعنوي "وقال : زنديق كافر" . ذلك لأن الإخفاء والتغييب كانا بفعل القتل "يد القاضي الفاسد تشنقني".
ويلاحظ تبادل عجيب للأدوار، فالقاضي الذي يمثل السلطة القضائية يقوم بتنفيذ الحكم بيده بمساعدة الشرطي، والشيخ الممثل للسلطة الدينية هو الذي يصدر الحكم بدلاً من القاضي صاحب الاختصاص الأصيل "وقال زنديق كافر". ويتبدى تتداخل الديني في السياسي، أو توظيف الدين لخدمة السياسة في عبارة : "وحمل جثتي الشيخ وقال: "زنديق كافر" . فالشيخ هو الذي أصدر الحكم، وهو الذي حمل الجثة في إشارة إلى القاتل الذي يمشي في جنازة المقتول. وهنا يمكن للدين أن يكون مؤسساً للحكم فيأتي قبل التنفيذ، ويمكن أن يكون مبرراً له إذا ما جاء تالياً له.
ويلاحظ أن التعبير عن السلطة التنفيذية في أقصوصة "الواعظ الفاسد" كان باستخدام لفظة "الجنود" مع توقف الحكم عليها "قبعات الجنود"، في حين تم التعبير عنها في أقصوصة "زنديق كافر" بلفظة "الشرطي" مع الحكم عليه بالفساد "الشرطي المرتشي"، ومعروف أن لفظة الجنود تشير إلى "الجيش" ولفظة "الشرطي" تشير إلى "جهاز الشرطة"، ولا يفهم من ذلك أن الفساد ينال جهاز دون آخر من أجهزة السلطة، لكن يفهم من الناحية الجمالية كممارسة بارعة لجدل الحضور والغياب، فأحياناً يأتي الموضوع متلازماً مع المحمول أي مقترناً بحكم أخلاقي، "القاضي الفاسد"، "الواعظ الفاسد"، "الشرطي المرتشي"، وأحياناً يأتي الموضوع متجرداً من المحمول أي من الحكم "قبعات الجنود"، "الشيخ".
وأخيراً نلاحظ أن الوطن يأبى أن يمنح أبناءه حق المواطنة وحق الإنسانية.
إذ أنه في اللحظة التي يهمّ فيها المواطن أن يعبّر عن إنسانيته يفقد مبررات وجوده، فتلفق لهم التهم "زنديق كافر"، وتتحول أداته لممارسة الحياة إلى أداة لقتل هذه الحياة "هممت أن أرتدي الكرافتة في رقبتي .. وجدت يد القاضي الفاسد تشنقني" .
ويستمر البحث عن الوطن في الحلم كما في الواقع، في تفاصيل الحياة، وفي عيون الحبيبة في أقصوصة "الحلم"، فنقرأ : "خرجت في الصباح أشم رائحة البحر ورائحة القهوة، وأتحسس دفء عينيى حبيبتي فرحاً، أردد أغنية عشق قديمة .. صفعني المذياع عندما فتحته بالثرثرة، أغلقته .. مددت الجسد ورحت في النوم قليلاً.. أقوم في الغروب.. أدور في كل الدروب.. وعند بيت المحبوب أغني قصيدة .. اكتشف أنني في مدينة غريبة، والحبيبة في مدينة بعيدة .. ياه .. مازلت في الفراش وحيداً.. والحلم صار حقيقة".
الوطن هنا ليس موقعاً على الخريطة، وليس محبوساً في سجن أو غرفة نوم تسهر على راحته بائعات الهوى .. الوطن هنا طليق، خبرة عذبة يمارسها الوعي يومياً "خرجتٌ في الصباح أشم رائحة البحر ورائحة القهوة، وأتحسس دفء عينيى حبيبتي فرحاً"، ويستدعيها من الذاكرة إذا ما قبعت في الماضى وصارت تاريخاً شخصياً لا يعود "أردد أغنية عشق قديمة".... غير أن الحاضر قمئ وصادم، ولا يسمح بأي شعور بالشجن أو الحميمية "صفعني المذياع عندما فتحته بالثرثرة، أغلقته" . وهنا يتبدى مظهر آخر من مظاهر السلطة الرامية إلى إلهاء المواطن وتغييبه، جسدياً أو روحياً، إنها سلطة الإعلام المحتشدة بالثرثرة الجوفاء، ولا تكف عن حشو الأدمغة بكل ما هو تافه ووضيع. ولأن المواطن هنا يحمل قدراً من الوعي، ويتسلح بخبرات الماضي "أردد أغنية عشق قديمة" وجماليات الحاضر "أشم رائحة البحر ورائحة القهوة"، فإنه لا يتردد في سد أبواب الكذب والقبح "أغلقته".
وحين يخلد المواطن الواعي إلى النوم، فإنه – خلافاً للوطن – لا ينام إلا قليلاً حتى يمكنه مواصلة رحلته في البحث عن الذات وعن الوطن "مددت الجسد ورحت في النوم قليلاً".. أقوم في الغروب .. أدور في كل الدروب" . والنتيجة هنا، ليست غياب الحبيبة أو الوطن، لكنها الوصول إلى مفترق طرق، فالمواطن في ناحية والوطن في ناحية أخرى، "اكتشفت أني في مدينة غريبة، والحبيبة في مدينة بعيدة". ومن المفارقات العجيبة التي تنتهي بها الأقصوصة أن الحلم يتحول إلى حقيقة، لكنه الحلم بالوحدة والوحشة، لا الحلم بالوصول إلى الهدف واللقاء بالوطن أو الحبيبة . فالمواطن ينام – في العادة – وحيداً، عارياً من أي عناية أو انتماء حقيقي، ويصحو – كذلك – وحيداً عارياً من أي عناية أو انتماء "مازلت في الفراش وحيداً" والحلم صار حقيقة".
وفي كل الأحوال، لايملك المواطن سوى فنه، رفيقاً له في وحدته وفي رحلة بحثه عن الوطن، وسلاحه الذي يواجه به المحن، "وعند بيت المحبوب أغني قصيدة".
ويستمر الحلم ويستمر الفن في أقصوصة "إنني سجين" فنقرأ : "حلمت أن أقف على المسرح ويراني ويسمعني الجمهور.. وبعد طول العناء والغناء، اكتشفت أن الجمهور الجالس في الصالة أصم وأعمى، فقررت الخروج، فاكتشفت أن الحراس يمنعونني وأنني سجين".
لا تعبر هذه الأقصوصة عن الوطن وغيابه بقدر ما تعبّر عن المواطن المطارد من قبل السلطة (الوطن) "فاكتشفت أن الحراس يمنعونني وأنني سجين". والمواطن هنا فنان حالم، لا يعادي السلطة ولا يرغب في التصادم معها، لكنه متوحد مع فنه، راغباً في الوصول إلى اعتراف الجمهور بموهبته "حلمت أن أقف على المسرح ويراني ويسمعني الجمهور"، غير أن المفاجأة الصادمة له هو اكتشافه لغياب وعي الجمهور وعدم قدرته على فهم فنه والتواصل معه "اكتشفت أن الجمهور الجالس في الصالة أصم وأعمى" . وكأن الجمهور الذي اعتاد على سماع ثرثرة المذياع وتسليم وعيه لأبواق السلطة في أقصوصة "الحلم" لم يعد قادراً سماع أو رؤية الحقيقة التي يقدمها الفن. والمفارقة أن المواطن الفنان، المدرك لعبثية الموقف، عندما يقرر الخروج من المسرح وإنهاء هذا العبث، يجد نفسه، في ذات اللحظة، مكبلاً بأغلال السلطة، التي تمنعه من الخروج وتلقي به في غيابات السجون أو تعيده إلى مسرح العبث . فنحن إزاء مسلسل طويل لا يُراد له أن ينتهي، ولا يُسمح فيه بتبادل الأدوار . فالعلاقة ستظل واحدة وثابتة أبداً، جلاد من جانب وضحية من جانب آخر، سلطة قاهرة ومواطن مقهور: عسكر وحرامية.
وتتبدى هذه العلاقة الغريبة بين المواطن الواعي الباحث عن الوطن الضائع، وبين الوطن الغاشم الذي لا يكف عن مطاردة مواطنيه ومحاسبتهم على حبهم الجنوني للوطن في أقصوصة "الشوارع"، فنقرأ : "عيناك شارعان.. ومنعطف جيلي.. وحديقة أطفال، وصوتك الناعم يفجر في روحي مئات الأغنيات.. زمني هو قبلة من شفتيك، وعندما يسير الحراس في الشوارع الليلية يفتشون عن الهوية.. أجري.. يجرون خلفي.. يفتشونني وينزعون القميص من فوق صدري ثم يضحكون.. يصرخ كبيرهم.. انظر ماذا كتب على جسده.. أحبك يا مجنونة.. حاكموني.. التهمة: الحب في زمن الكراهية".
في هذه الأقصوصة يواصل المواطن الفنان التعبير عن عشقه للوطن بشوارعه وجباله وحدائقه.. فالوطن هنا يتماهى مع الحبيبة، في عينيها يلمح المواطن الشوارع والمنعطفات الجبلية وحدائق الأطفال. "عيناك شارعان.. ومنطف جبلي.. وحديقة أطفال" وفي صوتها يستشعر الأغنيات التي تتفجر ينابيعاً يروي عطش الروح" وصوتك الناعم يفجّر في روحي مئات الأغنيات" وفي قبلة من شفتيها يُختزل العمر كله، ليصبح الماضي والحاضر والمستقبل، لحظة واحدة مليئة بأجمل الأمنيات "زمني هو قبلة من شفتيك".
وإذا كانت هذه هي علاقة المواطن بالوطن الحبيب، فإن علاقة الوطن في شكل السلطة بالمواطن لها مدلول آخر . فمازال المواطن غريباً في عرف الوطن، مازال في حاجة إلى إثبات انتمائه للوطن، وإلى حبه وولائه له. "وعندما يسير الحراس في الشوارع الليلية يفتشون عن الهوية.. أجري.. يجرون خلفي". فالمواطن لا يكون مواطناً صالحاً إلا على طريقة السلطة لا على طريقة المواطن نفسه.. المواطن لا يُعترف له بالمواطنة إلا إذا استوفى الإجراءات الشكلية التي فرضها النظام للحفاظ على النظام، غير أن المواطن لا يشعر بمعنى المواطنة إلا عندما يدخل مع تراب الوطن ودروبه وحدائقه وجباله وشوارعه، في تجربة عشق صوفية وروحية يتوحد فيها المواطن مع الوطن "زمني هو قبلة من شفتيك.. أنظر ماذا كتب على جسده.. أحبك
يا مجنونة"، غير أن السلطة لا تقنع بغير بطاقة الهوية، وماعدا ذلك يُعد جريمة تستوجب المساءلة والعقاب . وإذا كانت وسيلة المواطن للبحث عن الوطن هي الحب والوجد والفن، فإن وسيلة السلطة للتأكد من هوية المواطن وانتمائه للوطن هي التفتيش، والتفتيش المهين تحديداً "يفتشون عن الهوية... يفتشونني وينزعون القميص من فوق صدري ثم يضحكون". ولأن معايير السلطة تختلف عن معايير المواطن، فإن المحصلة النهائية تكون الإدانة، ومن ثم المحاكمة "حاكمونني.. التهمة: الحب في زمن الكراهية".
وعندما يرضخ المواطن لمعايير السلطة، ويعمل جاهداً على تحقيق الشروط الشكلية لمواطنته، فإنه – وفي مفارقة صارخة – يفقد ذاته الحقيقية، بل يفقد نفسه تماماً بحيث لم يعد مرأياً . يحدث ذلك في أقصوصة "أين رأسي؟"، فنقرأ: "كان يوماً سعيداً أن ذهبت إلى الحزب كي أحصل على العضوية الوطنية .. أعطوني ملابس زرقاء وقبعة وحذاء وسجلوا إسمي وبطاقة هوية وطنية .. ارتديت الملابس ووضعت القبعة على رأسي ونزلت إلى الشارع .. كانت الناس تجري من أمامي بخوف وفزع .. ويشيرون إليّ.. دخلت إلى مقهى التحرير ذي المرآة الكبيرة في اليمين.. نظرت إلى نفسي، فلم أجد رأسي".
وهنا يعبّر المواطن عن سعادته بعزمه الحصول على العضوية الوطنية "كان يوماً سعيداً أن أذهب إلى الحزب كي أحصل على العضوية الوطنية" ولا يخفي أن مصدر السعادة هنا في حقيقته هو حب الوطن. فالمواطن الواعي، ربما لا يعترف بالمعايير الشكلية المفروضة عليه لإثبات وطنيته، لكنه – برغم ذلك – يرضخ لها من منطلق معاييره هو الخاصة القائمة على عشقه للوطن وشعوره الداخلي بانتمائه لتراب هذا الوطن. ويلاحظ أن السلطة قد اختارت للمواطن أن يندرج تحت خانة العمال، يُفهم ذلك من الملابس الزرقاء التي أعطتها له "أعطوني ملابس زرقاء وقبعة وحذاء وسجلوا اسمي وبطاقة هوية وطنية". فالمواطن الفنان، الذي دأب على البحث عن الوطن الضائع، والذي كان حريصاً طوال الوقت على العثور عليه والحفاظ عليه، يقبل – طائعاً – أن يتحول من طائفة أصحاب الياقات البيضاء، الذين يمارسون الأعمال العقلية إلى طائفة أصحاب الياقات الزرقاء الذين يمارسون الأعمال اليدوية، حباً في الوطن من ناحية، ورغبة في الحصول على الاعتراف بوطنيته من ناحية أخرى، فينزل إلى الشارع بحلته الجديدة، ويمضي بين الناس كواحد منهم "ارتديت الملابس، ووضعت القبعة على رأسي، ونزلت إلى الشارع"، إلا أن رد فعل الناس كان غريباً، فقد شعروا بالخوف والفزع منه "كانت الناس تجري من أمامي بخوف وفزع.. ويشيرون إليّ".
والحقيقة أن ملابس المواطن ذات المسحة العمالية لم تكن هي سبب الخوف والفزع الذي انتاب الناس في الشارع حال مروره امامهم، لكن فقدانه لرأسه "دخلت إلى مقهى التحرير ذي المرآة الكبيرة في اليمين.. نظرت إلى نفسي، فلم أجد رأسي". وفقدان الرأس هنا هو تعبير بليغ عن فقدان الهوية الحقيقية، وكأن القبعة التي منحتها السلطة للمواطن هي بمثابة "طاقية الإخفاء". لكن اختفاء الرأس، وبقاء الجسم المرتدي للملابس الزرقاء، إنما يكشف – من زاوية ما – عن ذهنية السلطة التى تمارس على المواطن نفس آلية الحضور والغياب، فهي لا تريد من هوية المواطن سوى حضوره الجسدي، اليدوي تحديداً، الذي يستنفد العمر في الأعمال اليومية الصغيرة التي تكفي بالكاد للحصول على قوت اليوم، وتريد له – في المقابل – الغياب التام للرأس مركز العقل والتفكير، بل والحامل للعينين والأذنين واللسان .. في محاولة مفضوحة لإرساء مبدأ "لا أرى .. لا أسمع .. لا أتكلم".
وفي النهاية، يمكننا القول إن علاقة المواطن بالوطن، علاقة إشكالية وستظل إشكالية، لأنها علاقة بين طرفين غير متكافئين، ولا نملك أمامها سوى العمل على رصد تفاصيل هذه العلاقة في تجلياتها المختلفة كما فعل كاتبنا الكبير في هذه المجموعة من القصص القصيرة جداً، وكما فعل بنحو أكبر في القصص القصيرة في المجموعة . وكما ذكرنا فإن قراءتنا لجماليات الحضور والغياب في القصص القصيرة جداً، إنما تعد – فيما نرى – مدخلاً جيداً لفهم باقي قصص المجموعة الأكثر طولاً، وهي تحتاج لدراسات أكبر لا يتسع لها المقام في هذه المقالة القصيرة.
0 التعليقات:
إرسال تعليق