Add a dynamically-resized background image to the page.txt Sayed Hafez (sayedhafez948@gmail.com) جارٍ عرض Add a dynamically-resized background image to the page.txt.

أدخل كلمة للبحث

الزائرون

Flag Counter

زوارنا

Flag Counter

الزائرون

آخر التعليقات

الاثنين، 27 سبتمبر 2021

231 جمالية أدب الالتزام عند السّيد حافظ بقلم د. عـائشــــة حــمـادو

 

دراسات من كتب د. نجاة صادق الجشعمي

(231 )

 جمالية أدب الالتزام عند السّيد حافظ
بقلم
د. عـائشــــة حــمـادو 

دراسة من كتاب

  تمظهر التجديد في بنية السرد في القصة القصيرة
 
                    السيد حافظ نموذجا  

جمع وإعداد

د. نـجـاة صـادق الجشـعمى



جمالية أدب الالتزام عند السّيد حافظ
بقلم
د. عـائشــــة حــمـادو 
الجزائر 
مقدمة: 
لأن السيد حافظ يتسم بفكر إبداعي عميق، فهو يدرك أنه لا يعيش في فراغ مكاني أو زماني، لذا آثر أن يرتبط بالآخر وبهمومه عوض أن ينكفئ على ذاته مغرقا في الفردانية الذاتية، وهذا ما جعله يكرس قلمه لالتقاط هموم شعبه والإنسان أينما كان، مجليا كافة القضايا السياسية والاجتماعية والثقافية غايته في ذلك أن يرتقي ببلده، وأن يسطر للأجيال حياة أفضل من خلال بث الوعي، لإيمانه بقدرة الأدب الفعالة على التأثير وتغيير الأوضاع.
هذا، وإن الالتزام في الأدب كاتجاه قد نشأ وتبلور في الغرب، ووجد صدى لدى الأدباء العرب منذ ستينيات القرن الماضي؛ حيث تجذّر في البيئة الأدبية والنقدية العربية، ولقي إقبالا كبيرا من طرف المبدعين ولا يزال لقدرته على استيعاب قضايا العصر، غير أن هناك من يرى أن التزام الأديب في إبداعه سيكون على حساب المضمون الفني الجمالي. ومنه، ستأتي هذه الدراسة للرد على هؤلاء بدراسة جوانب من أدب الالتزام عند القاص السيد حافظ والكشف عن جمالياته لإثبات أن المبدع السيد حافظ قد قدم تجربة نضالية في قالب لغوي راق مغلفا إياها بنفس شعري، مما يعكس توفيقه بين المستويين(الشكل والمضمون) أي لا يتنافى مع نزعة الجمال والفن مادام الالتزام يصدر عن نفس الأديب دون تكلف فلن يكون على حساب انشغاله بتقديم أدبه في قالب فني، ولغة شعرية لضمان تأثير مضاعف طالما أن النفوس تتعلق بالكلمة الجميلة التي تعلق بالعقول والأفئدة، وهذا التناغم بين الالتزام والفنية هو لب هذا الاتجاه الأدبي بل والفن الحق عموما.
مفهوم الالتزام:
لغة:
قبل ضبط مفهوم مصطلح " الالتزام " في حقل الأدب والفنون، كان لزاما علينا الوقوف على الأرضية المعجمية المؤسسة له، وتسليط الأضواء صوب الدلالات اللغوية المبثوثة في المعاجم العربية بحثا عن مسوّغ جعل النقاد العرب يصطفون هذا اللفظ دون غيره، وينقلونه من مدارسه اللغوية إلى وضعيته الاصطلاحية. وعليه، أضحت العودة إلى هذه الدلالات مسألة ضرورية خاصة وأن كلمة " الالتزام " من الألفاظ المتداولة في المعاجم العربية التراثية.
كلمة "الالتزام" في الاستعمال اللغوي مشتقة من الفعل " لزم" وقد وردت في لسان العرب ب" لزم الشيء، يلزم لزاما و لزوما، ولازمه ملازمة ولزوما، والتزمه، وألزمه إياه فالتزمه. ورجل لزمة يلزم الشيء فلا يفارقه. واللزوم: الملازمة للشيء والدوام عليه، والالتزام الاعتناق"( ) كما وردت في معجم المحيط:" لزم الشيء ثبت وداوم، لزم بيته: لم يفارقه، لزم الشيء: تعلق به ولم يفارقه، التزمه: اعتنقه، التزم الشيء: لزمه من غير أن يفارقه، التزم العمل والمال: أوجبه على نفسه"( )
وبالعودة إلى الاستعمال القرآني للفظة " الالتزام " – باعتبار القرآن الكريم يمثل اللغة العربة في أبلغ وأرقى استعمالاتها، فقد وردت مادة " التزام " في مواضع كثيرة من القرآن الكريم، وبصيغ اشتقاقية متعددة، وبمعان غير بعيدة عن المعاني اللغوية المبثوثة في المعاجم منها قوله تعالى:" وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه"( )
فهذه التعاريف اللغوية تتقاطع في كون الالتزام هو الثبات على الشيء والثبات عليه، وهو في هذا لا يبتعد كثيرا عن التعاريف الاصطلاحية التي ستوضع له لما يدخل حقل الأدب والنقد ؛ إذ تظل تدور في فلك هذه المعاني وتتضمنها رغم كثرة المفاهيم التي وضعت لهذا المصطلح وتباينها على مستوى الطرح وزاوية النظر، وهو ما صرح به أبو حاقة قائلا:" إنّ الالتزام قديمة في الاستعمال اللغوي، لكن التطور الفكري الحديث قد أضاف عليها معنى اصطلاحيا جديدا"( ) حيث صار مرتبطا بالأدب والفن، فيطلق على اتجاه معين في الإبداع انتهجه عدة فنانين لتمرير ايديولوجية معينة.
اصطلاحا:
لقد تعددت المفاهيم الاصطلاحية الحديثة التي وضعت لمصطلح "الالتزام" وإن تقاطعت في كونه" أن يجعل المبدع إبداعه وسيلة لخدمة فكرة معينة عن الإنسان لا لمجرد التسلية التي غرضها الوحيد المتعة والجمال"( ) أي أن يكون فنه لخدمة قضايا مجتمعه، وصوتا لشعبه ينقل همومه وانشغالاته. وفي هذا السياق يعرف لخضر عرابي الالتزام بقوله:" هو أن يضع الأديب أو رجل الدين أو رجل السياسة جميع قواه المادية والمعنوية، وجميع طاقاته العقلية والفنية في خدمة قضية معينة"( ) إذا كان هذا مفهوم الالتزام بصفة عامة فإن محمد غنيمي هلال يوضح مفهوم الالتزام في الأدب بقوله:" ويراد بالتزام الشاعر وجوب مشاركته بالفكر والشعور والفن في القضايا الوطنية والإنسانية، وفيما يعانون من آلام" ( ) فالالتزام- وفق هذا التصور- يقوم على مشاركة الأديب الناس همومهم الاجتماعية والسياسية، ويشاطرهم آلامهم وآمالهم، وهذا الموقف(أي الالتزام) "يقتضي صراحة ووضوحا وإخلاصا وصدقا واستعدادا من المفكر لأن يحافظ على التزامه دائما ويتحمل كامل التبعة التي يترتب على هذا الالتزام"( ) وذلك أن الأديب الملتزم كثيرا ما يتعرض لإكراهات، وتمارس عليه ضغوطات.
وإن الالتزام كاتجاه أدبي فني قد جاء كرد فعل على مذهب الفن للفن حين صار معه الأدب من ألوان الترف مبتعدا عن معترك الحياة هادفا إلى الجمال في حد ذاته ومنقطعا عن أي رسالة اجتماعية كانت أو سياسية أو حتى إنسانية.
هذا، وإن مفهوم الالتزام في الأدب قد نشأ وتبلور في البيئة النقدية الغربية حكمت انبثاقه شرطية ابستيمية خاصة، ومن ثم تسرب إلى الفكر العربي في منتصف القرن العشرين بعد الحرب العالمية الثانية، وإن كانت لفكرة الالتزام تاريخ قديم في الاستعمال في الآداب العالمية؛ حيث عرف الشعراء العرب القدامى الالتزام كممارسة دونما تنظير، ويتجلى ذلك في كون الشاعر في العصر القديم كان لسان قبيلته في أفراحها وأتراحها، لذا فقد كان ملتزما بقبيلته(القبيلة في العصر القديم تعد معادلا للوطن)، فقد نشأ الشاعر العربي أول ما نشأ ملتزما دون أن يدعوه أحد إلى ذلك:" والحقيقة المسطورة في التاريخ هي أن الالتزام في الأدب والفن قديم...فالشاعر في المجتمع البدائي ولد ملتزما بالدفاع عن قبيلته مشيدا بفضائلها مزريا خصومها ولم ينسلخ تفكيره عن تفكير قبيلته" ( ) غير أنه لم يكن مفهوما واتجاها مبلورا في النقد الأدبي بحيث يعتنقه المبدع عن وعي فيتخذه فلسفة تؤطر تجربتة الشعرية أو النثرية.
والالتزام قد ظهر أول ما ظهر في حضن الماركسية التي رأت أن الأدب ينبغي أن يكون واقعيا اشتراكيا، بحيث يبتعد عن الرومنسية التي تتسم بالفردية المغرقة في الخيال والذاتية مما يبعد الأدب أن يكون انعكاسا للواقع المعيشي، فهم ينادون بأن الأدب للحياة وينكرون مبدأ الفن للفن. ومنه، فقد حمّل جون بول سارتر الأديب مسئولية الكشف عن الواقع الذي تعيشه الأمة، ومحاولة تغييره عن طريق الكلمة التي تسري بين الناس وتؤثر فيهم، فالأديب مسئول عن الحرية وعن الاستقرار وعن التطور، وكذلك عن التخلف"( )، أي أن المبدع منخرط في الحركة النضالية من أجل الشعب مثل أي عامل آخر، وواجب الأديب-حسب تصور الماركسيين- هو" الالتحاق بالقوى المنظمة للشعب التحاما حياتيا وروحيا عبر الألم والأمل"( ) وقد وصل بهم الأمر لحدّ اتخاذ الالتزام معيارا لجودة الإبداع، فالعمل الأدبي تتوقف أصالته وجودته ونبله على مدى إسهامه في الحياة الاجتماعية"( ) فعلى الأديب أن يستقي مواضيعه من حياة الناس على اختلاف طبقاتهم وانتماءاتهم الاجتماعية"( ) وبهذا يتعيّنُ أن يتقيد المبدع بالواقعية، وقد كان لهذا التيار صدى كبير في النقد العربي، حيث تأثر به النقاد والأدباء أيّما تأثر خاصة بعد بروز حركات التحرّر الوطني في مواجهة الاحتلال الأجنبي والهيمنة الاستعمارية، وتبني البلدان العربية للنظام الاشتراكي بعد تحررها وهو ما أسهم في ترسخ هذا الاتجاه في الممارسة الأدبية والنقدية العربية، كما أنّ الوجوديين قد أدلوا بدلوهم في قضية الالتزام، فسارتر يرى " أن الأدب التزام بموقف، وأن الهدف الغائي للفن هو إعادة تنظيم هذا العالم بعرضه كما هو"( ).
ولقد تباينت آراء النقاد العرب وتعددت حول قضية الالتزام في الأدب، خاصة في مرحلة الستينيات بين رافض له بحجة أن الالتزام موجود في أيّ إبداع بصفة عامة، وبين من يراه مذهبا فنيا. ومن النقاد الذين قاموا منافحين عن الالتزام في الأدب زكي نجيب محمود وذلك في قوله:" الرفض الحقيقي للالتزام هو الكف عن الكتابة أصلا"( ) أي أنه عنصر جوهري في الكتابة الأدبية، كما ذكر عز الدين اسماعيل:" إنّ الأديب لا يستطيع أن يعيش بعيدا عن قضايا شعبه بل يجب أن يساهم برؤيته الشعرية العميقة في إيجاد الحلول المناسبة لها وتغيير الواقع"( ) فمهة المبدع لا تتوقف عند التعبير عن واقع شعبه بل تتجاوز ذلك لإيجاد حلول لها، لأن له من الوعي والمعرفة ما يسمح له باستشراف واقع أفضل تنتفي فيه تلك المشاكل.
ولقد لقي هذا الاتجاه صدى كبيرا في أوساط المبدعين الذين اتخذوه منحى في الكتابة لنقل الواقع المعيش للشعوب العربية في مختلف مناحي الحياة ومنهم نجيب محفوظ، جمال الغيطاني، عبد الرحمان منيف وصنع الله إبراهيم وغيرهم كثر.
ويعد السيد حافظ من الأدباء الذين كرسوا قلمهم لتعرية الأوضاع السياسية والاجتماعية الفاسدة، و الدفاع عن الحقوق وقيم الحبّ والخير؛ فالتعبير عن قضايا المقهورين قد احتل موقعا بؤريا في تجربته القصصية، لذا جاء أدبه في هذه المجموعة القصصية ملتحما بواقع بلده مصر، وحمّله هموم شعبه وقضاياه فعبّر عن معاناته بصدق.
بين الالتزام والإلزام:
إن الحرية مطلب أساسي في أدب الالتزام" فالكتابة صورة من صور إرادة الحرية فإذا كان كل إنسان يميل إلى الحرية بطبعه، فإن الأديب-لإحساسه المرهف- أكثر الناس نفورا من القسر والإرغام، ونزوعا للتحرر و الانعتاق، فالحرية شرط أساسي في الالتزام ولا تناقض بينهما كما يتبدى لأول وهلة، ونلمس هذا المعنى مبثوثا في القرآن الكريم، وهذا ما يبينه قوله تعالى على لسان نوح عليه السلام:" قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بيّنة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون"( ) فالالتزام بمعناه الصحيح ليس نقيض الحرية فهكذا" يتصل الالتزام والتحرر في داخل النفس وفي واقع الحياة، ويتعاونان معا في أداء مهمة مشتركة، ولو بدا لأول وهلة أنهما متضادان ومتناقضان"( ) فالالتزام متى صار خاضعا للسلطة الحاكمة تحول إلى إلزام لأن فيه قد تمت مصادرة حرية المبدع أي حين يطلب منه" أن يمارس عمله الفني من خلال المذهب وأن يقف وراءه داعيا مبشرا تحت رقابة صارمة تجعل من الالتزام إلزاما( ) لذا ينبغي أن يكون الالتزام نابعا من ذات المبدع، وإلا تحوّل إلى بوق من أبواق للسلطة. 
والسيد حافظ يدرك تماما أنه عندما يكون الفن سلاحا في أيدي السلطة الحاكمة فلا يعدو دور أصحاب الكلمة سوى تعزيز هيمنة السلطان الأدبي للحكام على وجدان المحكومين( ) فذلك سيصبح خانقا لتجربته الإبداعية، ويعطل الأدب عن دور وظيفته التي هي خدمة الحياة والإنسان. وبما أن الملتزم هو الذي يتبع الالتزام حرا من قبله وبيئته وعقيدته، يقوم به عن وعي واقتناع واختيار دونما تكلفة أو إكراه"( ) فالسيّد حافظ قد عبّر عن آرائه السياسية ومناهضته للحاكم بكل جرأة، وأفصح عن مواقفه الرافضة وإدانته استبداديته التي أفرزت أوضاعا اجتماعية مزرية بصراحة دون مواربة، وكرس قلمه ليكون وسيلة توعية وتغيير، كما خصّص كل أعماله للدفاع عن الحقوق المسلوبة والحريات وقيم العدالة والخير، وتعرية بؤر الفساد، فهو قد نأى بأدبه عن أن يكون متواطئا مع السلطة الحاكمة، و أبى خيانة مشروعه الذي هو" صوت الشعب".ومنه، فقد حقق المفهوم الحقيقي لمصطلح"الالتزام" الذي يقوم على المبادرة الإيجابية الحرة من ذات صاحبها، مستجيبا لدوافع وجدانية نابعة من أعماق نفسه وقلبه من أجل الوقوف بجانب قضية سياسية أو اجتماعية أو فنية والتأييد لها بكل ما ينتجه الفنان من آثار( )، وقد اعتنق هذا المذهب الأدبي عن حرية "فالحرية شرط أساسي من شروط الالتزام، وليس ملتزما من كان التزامه صادرا عن قسر أو مجاراة أو ممالاة أو نفاق اجتماعي( ) ولوعيه بأن ما يقتل الالتزام هو هيمنة السلطة على النص مما يعيق المبدع من التحليق عاليا، فقد كان التزامه ابن اختياره نابعا من وعيه وشعوره بالمسؤولية اتجاه ذاته كمبدع ووطنه والإنسانية جمعاء، ولم يكن ابن الإجبار؛ إذ هو يعبر عن واقع شعبه وأحوالهم وآلامهم وآمالهم بناء على موقف صادر من ذاته ووفق اختياره، وهو ما يقول عن نفسه-على لسان صديقه:" الدفاع عن الحقيقة حق، وهذا ما تشبعت به طوال حياتي لأنني لا أداور ولا أراوغ إنني شفاف في سلوكي وفي كتابتي، وفي حبي للناس( )، فالسيد حافظ عبر رحلته الإبداعية الطويلة –مسرحا أو قصصا- كان ملتزما بالقضايا الاجتماعية لواقعه، مهتما بنقل هموم شعبه متحديا كافة الصعاب التي تعرض لها نتيجة تبنيه هذا المنحى من الأدب، والتي وصفها بدقة في هذه المجموعة القصصية إن كان في وطنه مصر أو في البلد المهاجر إليه بحثا عن انعتاق أكثر(الكويت) منها قوله:" سئمت الرحيل من مدن العفن إلى مدن الزيف"( ) غير أن ذلك لم يثنيه عن التمسك بالتزامه.
ملامح الالتزام في المجموعة القصصية:
إنّ السيد حافظ يعلم يقينا أن التزامه يحتم عليه أن يحيا مع الأمة مستجيبا لمتطلبات الواقع معبرا عن قضاياها الإنسانية من سياسية واجتماعية واقتصادية رغم أن ذلك كلفه دفع ضريبة مبادئه الراسخة؛ حيث أنه عانى من القهر والتعسف في وطنه نتيجة مواقفه المناهضة للحاكم وسياسته الاستبدادية لأنه لم يؤثر الصمت على الأوضاع الفاسدة بل رفع صوته عاليا لتعريتها وإدانتها فهو يرفض الأخذ بالمقولة الواردة في قصة" مهاجر على أشجار القلق":" لكي تفهم الأمور جيدا يجب أن تكون أعمى أخرس لا تفقه شيئا" ؛ إذ رأى أن صمته خيانة لوطنه وهو ما يتجلى في قوله:" لكن الصمت على الإهمال خيانة وأنا لا أقبل أن أخون بلادي"( ) غير فقد كان السيد حافظ من أكثر المبدعين الذين حملوا بلدهم "مصر" في وجدانهم، وهذه المجموعة القصصية مفعمة بحس وطني يمتد أفقيا ليشمل كافة القصص، ويتعمق عموديا ليصبح ركيزة العمل القصصي برمته، فهو رغم هجرته إلى بلد آخر "الكويت" التي عاش فيها ويلات التضييق، وقاسى فيها تباريح الشوق لأهله ووطنه، إلا أنّ الوطن ظل حاضرا في وجدانه دوما وإن كان مبعدا عنه؛ فحضوره كان بارزا في كتاباته، بل إن كتاباته هي الوطن:" هي الوطن.. هذا ما أكتبه يا سيدي هي قضية الوطن.. أكتب الوطن قصة او قصيدة أو مقالة أو.. أنا والوطن.. أنا الوطن.. الوطن أنا"( )، ف"أنا" المبدع تندمج مع "أنا" الوطن لحدّ التماهي، لذا فقد سخر قلمه للتعبير عن معاناة وطنه، ومشاركته مشاركة واعية في القضايا السياسية والفكرية والاجتماعية واتخاذه موقفا منها.
ويتجلى مدى التزام السيد حافظ في الجانب السياسي برفضه الواقع السياسي الذي سمته الاستبداد وقمع الحريات المفروض عليه وعلى شعبه من طرف الحاكم وأعوانه:" العدل أساس الحكم.. الحكم أساس الحاكم والحاكم يحكم بالميزان والسوط والسجان، والعاقل من يفهم أن السائل هو الخسران والكاسب من يتدلى فوق أكتاف السلطان يمسح له الرتب، ويحكي عنه في المساء قصة الشاطر حسن في مدينة العميان"( ) فهذا الملفوظ السردي يلخص بطريقة ساخرة معادلة الحكم في مصر وعلاقة الحاكم بالمحكوم، على أن السيد حافظ ركز الوصف على ذاته، لأنه يدرك أن كل ذات مصرية تشاركه عيش نفس الأوضاع، وذلك أن تأريخ أناه هو تأريخ جمعي لكلّ أنا مصرية، وقد ركز على نفسه لأن كونه مثقفا فهو أقدر الناس على رصد كافة الاختلالات التي يراها في مجتمعه لما يحوزه من وعي ورهافة إحساس تجاه الظروف المعيشة في محيطه، ومن إدراك لمواطن الفساد وقدرة على كشفها، كما أن المثقف هو صوت الشعب ولسانه، وهو ما يجعله أكثر انشغالا بشؤون الشعب.
ويتضاعف الاستبداد لما يصبح الشعب خاضعا لأهواء الحاكم، وهذا ما تظهره قصة" نفوس ودروس من سلسلة البحوث السلطانية الغوية في مصر" حين صار السلطان يفرض على شعبه لون لباسهم حسب هواه، ومن يخالف أمره يدخله السجن عقابا له، وهو ما حدث مع الرجل الفقير الذي اقتيد إلى السجن، وضرب وحلق شعره كونه ارتدى لباسا أبيضا في الوقت الذي أمر السلطان بارتداء الأسود لأن ألما قد أصاب عينه، ولما لبس الأسود كذلك ضرب وسجن، حيث أن السلطان قد أمر بارتداء الأبيض والاحتفال بشفائه ليقرر الرجل الفقير " الخروج عاريا فيخاطب السلطان" أي الألوان تحب يا سيدي؟"( ) وفي ذلك إدانة لدكتاتورية الحاكم ولسلبية المواطن المصري وخنوعه، وهو ما يوضح حالة الاستلاب التي صار عليها الفرد المصري" علي أن أطيع القانون مهما كان.. فقانون السلطان هو القانون"( )، ومن مظاهر الالتزام السياسي في قصص السيد حافظ نلفيه ينتقد القانون الذي من الفروض يكون حاميا لحقوق الناس، غير أنه هو بدوره حاد عن مهمته ليصبح أداة يحتمي بها الظالم وفي هذا يقول:" القانون يحمي اللصوص واللص يتساوى مع أصحاب المناصب والجاه( )، وإن حالة الضياع هذه تتضاعف لما يفقد المصري بوصلة الزمن فيفقد احساسه بالزمن:" هل ستعود تاني إلى الخارج.نعم يا أبي أمضيت خمس سنوات نعم قالت الأم يا بني أنها عشرة سنوات خرجت من هنا عام 1970 وعدت إلينا عام1980 نحن في عام1980 دارت الأرض دورة.. دورتين... آه يا عمري الضائع"( ) فالوضع باق على حاله إن مرت سنة أو سنتان لهذا ما عاد المصريّ يعدد السنوات مادامت لا تحمل تغييرا ولا فرق كان بين سنة وأخرى.
ولترسيخ الحاكم لسطوته، وتثبيت دعائم حكمه فإنه عمد إلى اتباع سياسة تكميم الأفواه، وفي هذا فقد أشار القاص إلى الحصار الذي يفرضه الحاكم على شعبه بقوله:" بالخط الأحمر تكتب...وباللون الأحمر تدفن وبالسوط الأحمر يجلدك حاكمك والشرطة والأمن.. الآن.. لا أمن الآن.. لا حاكم .. لا محكوم الآن.. دبابة وشرطي أجنبي ومدفع"( ) فهذه الظروف الخانقة التي يعيشها في مصر دفعته للاغتراب، والانتقال للعيش في الكويت، فهو يفضل الغربة على أن يبقى في وطن" صار _فيه_الأنذال كبارا...وصار المخلصون رعاعا"( ) غير أن غربته لا تعني أبدا استلاما أو تخل عن التزامه بل إنه ظل مشغولا دوما بقضايا وطنه من خلال اشتغاله في الصحافة التي عدت متنفسا مكنته من مواكبة الأحداث التي تقع في بلده وباقي البلدان العربية، والكتابة عنها.
وتبلغ جرأة السيد حافظ ذروتها حينما يجرد حكام من مصريتهم ويعتبرهم دخلاء، فيصفهم بانعدام الأصالة؛ فهم من سلالة المماليك وليست لهم جذور مصرية أصيلة "قالت لي: يا حبيبي من يكرهك؟ قلت: رجال الشرطة السرية وأمن الدولة والرقابة والتليفزيونات ورجال تولوا السلطة في غفلة من الأوان أحفاد المماليك وأنصاف كتاب وأرباع شعراء وأخماس صحفيين وأشباه رجال"( )، ولأن الالتزام تعبير عن المواقف، فقد كان ناصريا، فيعبر عن الفترة السياسية الحرجة التي تلت عبد الناصر قائلا:" عبد الناصر مات ومصر بتتباع"( ) وهو ما دفعه للانتفاض ضد هؤلاء الساسة الخونة، والإصرار إصرارا على بالقول والعمل معا على إحداث التغيير، والذي تكرس من خلال سرده لوقائع المظاهرات التي كان يترأسها أيام الجامعة دعما لثورة عبد الناصر:" تحركنا في مظاهرات في الاسكندرية.. كنت رئيس اتحاد الطلاب وقدت مظاهرة عنيفة .. أرسلوا لي (سالم حقي) مأمور قسم محرم بك وأطلقت الشرطة رصاصات بلاستيك.. يومها اكتشفت والطلبة تسقط من حولي أن هناك فراغا.. قلت أين أنت يا عبد الناصر أولادك بيضربوهم العساكر؟"( ) وقال أيضا:" جلست على باب الاتحاد الاشتراكي في 9 و10يونيو1967.. أبكي.. على أحلامي الناصرية والعربية.. ولكنني نهضت في المظاهرات فجأة وقدت أكبر مظاهرة في الاسكندرية وهتفت يا ناصر ما تطيش شعبك قال غيرك ما فيش"( ) فقد غدا صوتا ثوريا متمردا.
كما نجده يدين ممارسات هذه الحكومة صار القمع والفساد والاستعباد سمتها ويستهجن أساليبها في تطويع الشعب:" لم تفهم أن الشارع ملك الحكومة والحكومة هي ظل الله على الأرض.. الوطن كلام.. الوطن ليس لنا.. الوطن لهم.. كل الشعب خدم عندهم"( ) وقد دعم رأيه هذا بتهميش احدى صفحات قصة" " بقوله:" من الناحية الديمقراطية احتلت مصر المركز 136 من بين 125 دولة"( ) وفي ذلك دلالة رمزية مفادها أن مصر خارج التصنيف في مجال الديمقراطية وممارسة الحرية.
وباعتباره مثقفا فقد قام بفضح السياسة الثقافية التي تنتهجها السلطة للتضييق على المثقفين الأحرار من تكميم للأفواه وتضييق على الحريات، فقال عن معاملة حكومة بلده للمثقفين:" الأنظمة تعاملنا ككلاب"( )، فعوض أن تكرمهم وتشجعهم على بثهم الوعي، واستنهاضهم الهمم للرقي بالبلد وإحداث نقلة نوعية ترتقي بالوطن إلى مصاف الدول المزدهرة، وذلك أن التطور دائما يبدأ بثورة فكرية يقودها مثقفو الوطن، غير أن الحال هو العكس تماما، فنجد في عدة قصص يسرد بعض تلك المضايقات التي يلقاها في واقعه:" احذف هذه الجملة من المقالة. وهذه الجملة وهذه الجملة: قال الرقيب في الرقابة على المصنفات في وزارة الثقافة: مسرحية 6 رجال ممنوعة من النشر والتمثيل. قال مدير شركة التوزيع: أنت كاتب جديد على القارئ العربي ومسرحك صعب ولا أستطيع أن أخرج كتابك خارج مصر"( ) والوضع في البلدان العربية لم يختلف لأن الأوضاع متماثلة: "اليوم قالت الرقابة في التلفزيون المصري: كيف يا أستاذ تقدم أحد أبطالك ضابط في الجيش معقد نفسيا ألا تعرف أنه ممنوع أن تنتقد ضابط جيش أو شرطة أو قاض أو تتحدث عن بوش أو أي زعيم أجنبي أو عربي ولا أي رئيس وزراء لأي دولة حتى لا تفسد العلاقات الدولية بيننا وبين دول العالم ورفض المسلسل.. قال الرقيب السعودي في أسباب رفضه لمسلسل تلفزيوني لي: إن المؤلف(يقصدني) لم يقرأ التاريخ جيدا وأن واقعة البرامكة مع هارون الرشيد هي فتنة تاريخية إسرائيلية دسيسة ورفض المسلسل.. قال الرقيب الكويتي: يا أستاذ ممنوع أن تقدم الكويتي يسكر أو يلعب قمار أو يسرق أو يزني أو يدمن، اكتب عن مجتمعنا ما تراه فأنت في مجتمع ملائكة"( ) لكن السيد حافظ يرفض إملاءات السلطة، ويرفض أن يحيد عن مذهبه الذي انتهجه عن وعي وقناعة ألا وهو الالتزام :" الفن علاقة بين الوعي والمادة(...) يريد أن يمتلك الخبرة الجمالية والوعي الجمالي كي يكون بارزا في عملية التغيير في الفن.. وأن يكون أخذ الذين غيروا مجرى التاريخ كان يتابع الواقع ويعايشه ويتأثر وينمو في داخله رافقا ممتدا بوجوده.. بزمامه.... ومكانه.. كان يريد أن يغير الواقع.... كان يريد أن لا يكون الفن بضاعة"( ) كما وصف نفسه في قصة"عندما غاب القمر":"أنت كنت تظن أنك نبيا و رسولا ومبشرا برسالات للفن والفكر"( )، كما أنه يعي الوظيفة الموكلة للأديب ألا وهي بث الوعي، وفضح مكامن الفساد لنشدان التغيير، ومتى صار الأدب غير ذلك فقد وظيفته بل وجوهره.
غير أن انشغاله برصد الواقع السياسي وانتقاده لم يمنعه من الاهتمام بالقضايا الاجتماعية ووصف الهم الاجتماعي لشعبه والذي هو إفراز طبيعي لتردي الأوضاع السياسية، فمن البديهي أن لكل مجتمع همومه وقضاياه الاجتماعية، ويقوم الوعي بدوره الفاعل في طرح تلك القضايا، وقد انبرى السيد حافظ لطرح كافة الهموم الاجتماعية دون مواربة ولا إخفاء هدفه في ذلك الأخذ بيد المجتمع إلى حياة أفضل لأنه يؤمن أن الفن عليه أن يغير الواقع...عليه أن يستوعب الحاضر وأن يغيره( )، لذا فقد جاءت هذه المجموعة القصصية لتسلط الضوء على طبيعة الحياة في المجتمع المصري، وما انتشر فيه من كراهية وضغينة" استشرى الشر في الأرض والضغينة والكراهية والحقد المأفون والكل برى لحم الكل، والفقراء والأغنياء في لعبة المجتمع.. دوامة كبرى .. رجال بلا رجولة.ونساء بلا حياء ونهر من العذاب يغرق فيه المجتمع"( ) فقد كانت القضايا الاجتماعية الهاجس الذي لا يفارق وعي السيد حافظ ورؤاه مادام الشعب المصري يعيش أوضاعا مأساوية مزرية، فالفقر والقهر هما المهيكلان لحياة المصري في تلك الفترة" أصيبت مصر بالمجاعة والناس أخذت تجوع"( ) وبهذا الوصف فقد هذا الزمن معادلا موضوعيا للموت:" هل سأل أحدكم نفسه يوما عن الزمن الحي والزمن الميت وفي أيّ منها يحيا هل أدركتم معنى الجوع والعطش والسجن والأرق والعرى والقتل والخيانة"( ) وفي وصفه لشدة الجوع الذي لحق بالمصريين الذين يعيش معظمهم تحت خط الفقر فلا يجدون قوت يومهم الذين يسكتون به جوعهم يقول في وصف مدينته:"والتي أكل أهلها الديدان في المجاعة الخامسة والسبعين بعد الألف"( ) وقوله أيضا في قصة أخرى:" أصيبت مصر بالمجاعة والناس أخذت تجوع وكانت مصر تأكل الفئران.. والسبب الجوع"( )، فالجو العام المهيمن على البلد قد لخصه بقوله:" انتشر الخوف وانتشر الرعب...وانتشر الموت وانتشر الفزع ولا صوت يعلو .. ولا صوت يهبط.. وكل يتحسس أفراد أسرته ويطمئن على عددهم ولم يعد هناك إلا الفزع وأي فزع.. "( ) كما يشير إلى ارتفاع الأسعار والضيق الذي يجده المصريون:" إنها الجارة.خالت أم محروس تريد أن تقترض كوبا مليئا بالسكر لقد انتهى التموين منها كما تقول والجمعية لا تستطيع أن تشتري منها سكرا لأنها مزدحمة بالناس...وتلعن الغلاء والسوق السوداء"( ) وحكاية صابر أفندي تلخص يوميات المواطن المصري البسيط؛ حيث أنه مات دون أن يوصل معاناة حيه والمتمثلة في الحرمان من الكهرباء والتي صارت حلما بعيد المنال:" الحلم.. الحلم.. تعبت يا سنية.. ثلاثة أشهر والكهرباء منقطعة عن الحي.. سأذهب إلى سعادة المحافظ بنفسي سأحكي له الحكاية.. لقد كتبت شكاوى إلى جميع صحف المعارضة والصحف القومية وبرامج الإذاعة ورئيس الحي.. كلهم أهملوا الشكوى"( )حتى صارت هذه القضايا سمة الحديث اليومي بين الناس:" تحدثنا عن زوجته.. عن الغلاء.. عن موت الفقراء تحت أقدام النبلاء"( ) فالسيد حافظ يحمّل مسؤولية هذه الأوضاع أغنياء مصر الاستغلاليين الذين سلبوا الفقراء قوتهم:" بل هناك طبقة تحمل على قوت طبقة"( ) كما يحملها للفقراء والضعفاء في حد ذاتهم:" كم مات من الجوع شهداء الخوف"( )، فلو تركوا الخنوع والاستسلام واتحدوا لتمكنوا من تغيير أوضاعهم، وفي هذا يقول:" كل المساكين لو صرخوا لغيروا العالم تستطيع أن تغير العالم بيديك" لذا كان من الظواهر الاجتماعية السلبية التي رصدها في هذه المجموعة القصصية هي الفرقة وترك المآخاة التي نص عليها الدين كما ينص عليها المنطق، فظاهرة الانقسام واستشراء داء الخلافات عمد إليها الحاكم لإضعاف قوة الشعب وإشغاله بها لكن السيد حافظ تفطن لخطرها المحدق، فهو يفضح هذه السياسة بقوله:" الكل يتهم الكل والكل يشك في الكل.. هل نحن أبناء الوطن؟" وفي قوله:" الناس هنا ليسوا هم .. كانوا في زمن ما .. لكن الانقسام حولهم ودخلوا شبكة الطيف الضوئي للخوف"( ) فهو يحض على النضال لاسترجاع الحقوق المسلوبة، وهو ما يظهر قدرته الفائقة في تصوير القضايا الاجتماعية على مستوى الطرح والمعالجة.
ومن ملامح التزام السيد حافظ انتقاده جمود بعض العادات والتقاليد خاصة تلك التي تتنافى مع قيم ديننا الإسلامي الحنيف منها إجبار المرأة على الزواج، فهو يريد تخليص مجتمعه من كافة الشوائب التي لها عواقب وخيمة؛ فالزواج دون حب يقود لا محالة إلى الخيانة وهو ما تجليه قصة" وجوه في الليالي الضائعة" حيث يخون الزوج زوجته، والزوجة بدورها تخون زوجها، فتتفشى الخيانة الزوجية لانعدام الحب الذي هو أساس الزواج، وتتواتر هذه التيمة في أكثر من قصة من المجموعة القصصية، فالسيد حافظ يدعو لتغييرها:" ماذا يعني حبنا: في الجامعة بدأ، وفي المركز الثقافي هل ينتهي إذا كانت التقاليد والمجتمع يمنعانا فنغير نحن بأيدينا هذا المجتمع وليشنقونا على الطريق.. تعالي إلي بحقائبك.. ولنبدأ من جديد.. سأتزوجك ونترك هذا العالم القديم يحترق ولنغير عالمنا بميلاد جديد"( ) ويردد نفس المطلب في موضع آخر من القص:" طعنتنا خناجر التقاليد والعادات وعدنا نبحث عن كتلة في هذا العالم.. عن ركن.. عن زاوية.. نرسم عليها صورة الإنسان"( )
هكذا، يظل القاص حافظ منصهرا في هموم وقضايا شعبه يقاسي معه تباريح ألمه، ويشاركه معاناته، فهو ككل ذات مصرية عاش الفقر والحرمان لأنه آثر أن يشارك شعبه معاناته على أن يستلذ حياة التزلف إلى الحكام.
وإن قضية الإنسانية تجد لها مكانة في الفن القصصي للسيد حافظ، فلا نجد التزاما سياسيا واجتماعيا فقط بل تتسع الدائرة لتشمل الالتزام الإنساني الذي نقل فنه لمعانقة عالم أرحب، فالسرد القصصي عنده لا يخلو من لمسة إنسانية مصورا الفواجع والآلام التي حلت بالبشرية، فهو يرفض أن يكون همه منفصلا عن الهم الإنساني، فقد تخطى بوعيه الإنساني الأنا الصغرى الممثلة في الوطن ليسمو إلى آفاق أرحب ممثلة في الأنا الكبرى ليعلن توحده مع العالم وتماهيه معه:"العالم وأنا.. أنا والعالم.. العالم أنا.. أنا العالم.. العالم...أنا"( ) فهذه المبادلة التي وقعت بين"أنا القاص" و"العالم" تدل على أنهما شيء واحد، ومنصهران ومتماهيان معا، وهذا ما دفع حافظ ليوسع دائرة التزامه ليشمل البشرية كافة، فيسقط بذلك كل أنواع التمييزات(الجنس، الدين، البلد، البشرة...) التي تقام للتفريق لا غير وفي هذا يقول:" لكن الاسم ليس كل شيء.. قد يعطي تمييزا ما.. لكن الإنسان هو الإنسان.. مهما اختلفت الأسماء والصفات.. ومهما اختلف المكان الذي يتواجد فيه.. ولذا لتكن الأسماء.. أو لا تكون .. فالهموم.. والمعاناة.. إذا ما تواجدت في مجتمع ما.. قاسى منها الجميع"( ) انطلاقا من هذا الوعي، فقد وظف أدبه لخدمة الإنسانية، والتزامه بالبعد الإنساني جعل قلبه وعقله يتسعان لهموم وقضايا الإنسان، وأول ما وقف عليه هو قضية فلسطين باعتبارها قضية قومية إنسانية، فقد شغلت مكانا رئيسا في هذه المجموعة القصصية، حيث عرض لقضية فلسطين التي تركت جرحا غائرا في كل عربي، فهو قد عاش محنة فلسطين بكل أبعادها، ولم تكن فلسطين مجرد فكرة عابرة في وجدانه وقصصه بل كانت نارا مستعرة تسجل حضورها الفاعل في عدة قصص منها قوله على محنة يافا التي عايشها في وقتها قائلا:"نامت يافا على كف الحزن"( ) كما يعيب على بعض أشباه الفلسطينيين الذين اتخذوا القضية شعارا للاغتناء المادي وفي هذا يقول:" عندما مات صديقي الفلسطيني في بيروت، أدركت أن الكلمات حبلى بالدم الكاذب وأن الشهداء جسور يعبر فوقها الطغيان والأعلام التي ندفعها ليست إلا دخان سجائر"( ) وهو يرى رجولة أي عربي غير مكتملة مادام لم يحرك ساكنا لنصرة قضية فلسطين العادلة:" أي رجل أنا وأي رجل أنت.. نامت القدس على أنفاس العساكر.. نامت سيناء تحت إبط الإنذار المبكر"( )
كما أن السيد حافظ ينادي بالأخوة العربية، وينافح عنها فقد كتب عن الكويت يوم تم اجتياحها:" الكويت.. القادسية.. الحانية.. لؤلؤة الخليج.. وقاتلتي.. وعشيقتي.. ورياح الحب.. وتقلبات الأزمنة المنسية على أبوابها شاهدت الحرية الفكرية تمتطي جوادا وشاهدت العناصر البربرية تفسد حقول الحضارة بها"( ) فهو رغم ما لقيه فيها من مصادرة للحرية الفكرية إلا أنه ظل يرفق عقيرته مناديا بالأخوة العربية، فقد أتته الفرصة ليغتنم ما حدث من خلاف بين العراق والكويت لتحسين أوضاعه المعيشية والمادية إلا أنه آثر الحفاظ على مبادئه:"جاء كمال عيد من العراق بسيارته وقابلني في المكتب في الاسكندرية وقال لي: اسمع اضرب ضربتك.. الجماعة في العراق عايزين مسرحية تكتب فيها عن بلاوي الكويتيين الفاسدين ونظام الحكم.. قلت لا.. لا أستطيع أنا أكلت خبزا وملحا مع الكويتيين.. لا أستطيع هذا.بعد شهرين جاءني عبد الأمير مطر زوج أمل عبد الله قال: سيد اكتب مسرحية عن الطاغية صدام: قلت لا لا أستطيع قالوا: خذ من العراقيين ما تريد.. قالوا: خذ من الكويتيين ما تريد.. لكنني كنت عنيدا ولم أقبل أن أكتب عن كل منهما"( ) كما عبر عن مدى حزنه عندما اجتاحت العراق الكويت لأنه يرى في ذلك نسفا لحلمه الجميل المتمثل في الوحدة العربية: "اكتأبت.... . هزمت... هزم حلمي في القومية العربية.. تمزق قلبي ألف قطعة في أرجاء الوطن العربي وليست المرة الأولى ضربوا بغداد فنزفت دما" ( )، كما أن التزامه جعله يتابع كل ما هو حوله؛ حيث نجد في قصصه صدى لعدة أحداث عربية منها قوله" صفقة تبادل الأسرى مع حزب الله قد تشمل سمير القنطار أقدم المعمرين سنا في سجون إسرائيل.. عندما كان سمير القنطار في الثانية عشرة من عمره كتب على خزانة بيته" خزانة الشهيد سمير القنطار" وقام بقتل أربعة جنود إسرائليين وهو في السادسة عشرة وقبض عليه.. وأصبح محكوما عليه بأكثر من ثلاثين سنة والسبب.. أمن دولة إسرائيل أمن الطعام"( ) وهي أحد مظاهر التزامه القومي، وكذا قوله:" المثلث السني يقاتل في العراق والمستطيل الشيغي يشاهد ما يحدث.. يا خيبة الأمة الإسلامية"( )، ويعلن السيد حافظ انتماءه لكل البلدان العربية : "مصري اليدين والقدمين مغربي الجسم.. خليجي الصوت.. جزائري العين ليبي الوجه عراقي الحلم وهو تحت كفالتنا"( ) فاختلاف البلدان العربية ما هو إلا كأعضاء الجسم الواحد، وفي هذا رمز للوحدة العربية، فهو قد ضاق ذرعا مما آلت إليه أحوال الأمة العربية فجاءت قصصه تحمل صرخة تستنهض الهمم لبلوغ المبتغى المتمثل في" الرخاء والهناء للبلدان العربية"، وهو ما يكرس التزامه القومي وانشغاله بقضايا العرب، والمقطع السردي الآتي يحيل إلى ذلك:" قال محمد خالد قطمة: سعاد الصباح سألتني: السيد ينفع يشتغل معانا في دار النشر قلت لها.. لا.. دا قومي عربي متطرف لا يصلح.. "( ) وقال هو عن نفسه: " أنا أحمل مصر وهمها أكثر من أي شخص وأحمل الأمة العربية أكثر من سكانها"( )
وتتسع دائرة الالتزام الإنساني أكثر وأكثر لما يتبنى السيد حافظ مختلف القضايا التي تؤرق الإنسان حول العالم منها مأساة هيروشيما:" أبحث في عيون الناس عن إدانة هيروشيما" كما يعنى بقضايا عالمية أخرى، فيعلن إدانته لهجوم بريطانيا على الأرجنتين:" هجمت بريطانيا العظمى على الأرجنتين من أجل جرينادا.. جزيرة جرينادا.. هجمت برا وبحرا وجوا"( )
وتبلغ الغيرية الإنسانية مداها السامي لما يعلن السيد حافظ حبه لجميع الأديان، وقد أظهره في صورة متسامية في قوله:" قال مجدي رزق: اليوم زواج أخي نظمي رزق من تريزدميان تيجي الكنيسة قلت أحب الكنيسة.. كما أحب الجامع.. وذهبت.. حتى يهود مصر أحبهم"( ) وذلك لوعيه بأهمية التعايش السلمي بين الأديان لنبذ العنف والحروب فكثير من الدماء سفكت ولا تزال باسم الدين وتحت رايته.
ورغم هذه السوداوية التي تلف الأوضاع إلا أن القاص يبقى متفائلا بغد أفضل تستعيد فيه الحياة معناها: " قلت لي أنت متفائل نعم أنا أتفاءل رغم أن كل شيء يموت داخلي وخارجي وأرى الانهيار بعيني وأحلم بالبناء"( ) وهو يوقن أن التغيير سيحدث لا محالة " الساعة المنحوسة ستزول والزمن الفاعل سيستيقظ وإذا كانت القاعدة الآن هي الاستثناء والاستثناء قاعدة.. "( ) وهذا ما يدل على النزعة الإنسانية التي تسم أدب السيد حافظ والتي تؤمن أنّ الخير منتصر وإن طال زمن الشر والباطل.
جماليات الأدب الملتزم:
إذا كان لكلّ فنّ من الفنون أداته فإن اللغة هي أداة فن الأدب، وذلك أنها العنصر الذي يتشكل منه النص بكل مكوناته (شخصية، مكان، زمان...)، لتصبح اللغة المادة الأساسية في توصيف الواقع المثقل بالهموم، ف" اللغة هي وسيلة الكاتب في إظهار رؤيته للعالم"( ).
إن التزام السيد حافظ في سرده القصصي لم يقف عقبة أمام الجمالية الفنية الأدبية، مفندا بذلك الادعاء الذي يقول أن التزام المبدع يحد من فنية العمل الأدبي، فالالتزام لا يحد من جماليات السرد وفي هذا يشير محمود أمين العالم:" إن الأديب الملتزم فكرا وتنظيما لا ينعكس التزامه في أدبه في شكل واجبات وأوامر وتوجيهات.. بل في عمق إبداعي أصيل" ( ) فالالتزام لا يقع في صدامية مع نزعة الفن والجمال وهو ما يؤكده شوقي ضيف في قوله:" ليس في الالتزام ما يناقض فكرة الإبداع والتفرد أو يناقض قيم الجمال والعناصر الشعرية الخالصة"( )، كما أن الالتزام في الأدب مذهب فني وليس مذهبا اجتماعيا، وإن كان ينبع من الواقع إلا أنه يتأسس جماليا ويتشكل عبر اللغة، وذلك ما يحمي النص الأدبي من أن ينزلق من الأدب إلى الخطاب السياسي أو الاجتماعي، فالتزام السيد حافظ كان في شكل رسالة مبعثها فكره ومشاعره مغلفا إياه بلغة فنية راقية كي يضمن لهذه الرسالة تحقيق المبتغى منه، وهو التأثير من أجل ضمان حصول التغيير؛ حيث الأديب الملتزم يرنو لإحداث تغيير للأفضل"لأن عمل الكاتب هو الكشف عن المواقف، ولا قيمة لهذا الكشف في حد ذاته إذا لم يكن هناك قصد إلى التغيير"( )
فالسيد حافظ لم يفهم الالتزام بأنه حصر الاهتمام بقضايا الإنسان، وإن شكل ذلك ركيزة أساسية في تجربته القصصية وإنما اهتم بجودة التعبير الفني متمثلا فكرة ألبير كامو:" إن فكرتي عن الفن سامقة الارتفاع، وهذه الفكرة المرتفعة هي التي تجعلني أريد للفن أن يخدم شيئا، إن غاية الفنان الخالق هي أن يصور عصره"( ) فالقارئ للقصص المتضمنة في هذه المجموعة القصصية يلفي تصويرا لكافة مناحي حياة المواطن المصري بصفة خاصة والعربي والإنسان بصفة عامة إلا أن ذلك لم يسلب عمله قيمته الفنية والجمالية لأن" الفصل بين فنية الأدب واجتماعيته شذوذ في منطق الحياة والفن معا"( ) فقد جاءت قصصه تتفجر بلغة شاعرية، حيث يوظف لغة رقيقة تقترب من الجرح فتلامسه من خلال صورها الخيالية ولغتها المثقلة بالمعاني والدلالات. 
الــرمــــز: 
يعد الرمز من أرقى أشكال اللغة الرمزية، كونه يمتلك طاقة إيحائية عالية يبثها في النص" فالرمز قبل كل شيء هو معنى خفي وإيحاء"( ) فهو يشحن النص بالمعنى، ويثريه بما يحمله من أوجه كثيرة للدلالة من خلال تضمن الرمز على ميزة" التلميح"، وهو ما يجعل النص مفتوحا على التأويل، كما ساهم في إيصال مقاصد القاص المنشودة. وقد استخدم السيد حافظ عددا من الرموز في مجموعته القصصية لتشير إلى معان عميقة مما أضفى على لغة القص شعرية وجمالية منطلقا بها إلى آفاق رحبة من المعاني مبعدا إياها عن التقريرية والمباشرة في الطرح.
لقد جاءت لغة قصص السيد حافظ تفيض شاعرية وعذوبة مما أعطى عمله القصصي قيمة فنية، قوامها الرمز المفعم بالدلالات منها قوله:" الوعي ما الوعي وما أدراك ما الوعي أن تصبح صفرا في مدينة الملايين أو تصبح رقما صحيحا صغيرا"( ) فقد عبر حافظ أنه إذا كان الوعي أحد مبادئه لن يحقق شيئا في بلد صار معيار الإنجاز فيه أن تترك وعيك وتنام مع النائمين، وإن أنت آثرت التسلح بالوعي فأقصى ما يمكن أن تحققه هو أن تحقق كيانا صغيرا لا يضاهي الكيانات الأخرى التي حقّقت نفسها بترك وعيها جانبا، كما قد عبّر عن مصادرة الحاكم لحرية التعبير وانتهاجه سياسة التعذيب بقوله:" بالخط الأحمر تكتب.. وباللون الأحمر تدفن وبالسوط الأحمر يجلدك حاكمك والشرطة والأمن.. "( ) فاللون الأحمر بما يرمز إليه من دلالات المنع والدّم المهرق قد عبّر بكثافة عن مختلف المعاني التي قصدها القاص، وبدلالة اللون أيضا يقول على لسان شخصيتين متحاورتين:" العرق الأسود يغطي الأشياء واللون الأبيض يتصارع معه نظرت له-هل جننت علينا أن نعلن عن جمعية محاربي اللون الأسود للحفاظ على اللون الأبيض "( ) فالشخصة –هنا – كنّت على الوضع المأساوي البائس الذي سببه فساد الحكم باللون الأسود، وضرورة التحرك لصده وتغيير الأوضاع بتوظيف رمز اللون الأبيض، وهو ما يوضح اشتغال القاص على ثنائية السواد – البياض للدلالة على الوضع المعيش ومسببه ألا وهو الحاكم(السواد) والواقع المأمول الذي ستسعى إليه الشخصية (البياض)، وقد أحسن القاص اختيار الرمز؛ فاللون الأبيض بما يكتنزه من دلالات الشفافية والنقاء والطهر والسلم والهناء أهلّه ليكثف دلالات القصة التي تحمل صراع إرادة التغيير(الأبيض) مع فساد الراهن الذي أحال عليه" اللون الأسود" بما يتضمنه من معاني بؤس العيش وشضفه ومأساوية الأوضاع، "و في تعريته لفساد حكام يقول في قصة" لك النيل والبحر والهرم يا حبيبتي":" جدي الفرعوني الأول قتل وجدي المسيحي صلبوه الرومان وجدي المسلم نصف أمير المؤمنين عمر بن الخطاب بعد أن صفعه عمرو بن العاص.. وجدي الآخر كان شاعراً فحلاً. لكن كافور الإخشيدي ظلمه(...) أما جدي في عصر الإخشيد. إلى أن جاء المتنبي وربت على كتفه وسمع أشعاره وأثنى عليه وأعطاه بعضا من المال من التي حصل عليها من كافور والتي حصل عليها كافور من بيت المال والتي سرقها هو ومحمد بن طغج الاخشيد من المصريين"( ) قد رصد حال مصر الذي ميزه الفساد والنهب الذي مارسه ولا يزال يمارسه حكامها إلا أنه يفضل التلميح وإعطاء بعد رمزي بالعودة إلى الماضي للاستذكار، وذلك أن الماضي يعطيه الأمان ويسمح له بقول ما يشاء وتوجيه انتقادات للحاكم وإدانة سياسته الاستبدادية دونما رقابة ولا ضغط، ورمز للاقتتال القائم بين المصريين الإخوة باستحضار رمز ديني بقوله:" قتل قابيل هابيل وانتشرت الجريمة والفساد"( ) فهذا الرمز التاريخي يختصر الكثير من المعاني والبوح، وفي تعبيره عن شدة اغترابه في وطنه وفي تعبيره عن التغير الذي طال شعبه بحيث انسلخ عن عروبته، فلا أقسى من أن تعيش الذات اغترابا في حضن وطنها:" ذهب إلى المقهى وجد طارق بن زياد يجلس على مقهى في ملابس رثة.ذهب إليه وقبل يديه وسأله يا عمنا يا سيدنا يا قائدنا ما الذي جعلك في هذه الملابس.. الناس لا تعرفك دعني أقدمك لهم.. جئت في الوقت المناسب صاح طارق: لا إنهم ليسوا أهلي ولا أهلك أنت فقط تراني لأنك تحمل دما عربيا أصيلا وقلبا نظيفا لا يراني إلا أمثالك.. أما هؤلاء .. لا.. "( ) كما أنه رمز إلى الوحدة العربية وانصهار ذاته مع كل ذات عربية مهما كانت جنسيتها بصورة رمزية يصرح:" مصري اليدين والقدمين مغربي الجسم.. خليجي الصوت.. جزائري العين ليبي الوجع عراقي الحلم وهو تحت كفالتنا"( ) فكل الأوطان العربية أعضاء لجسد واحد، ولا حياة للعضو الواحد خارج الجسد، وهذا يعني أن لغته يجمع بين الشعرية والواقعية بعيدا عن التقريرية المباشرة:" كتبت رسالة إلى الله وقذفت بها إلى خليج .. الكسول.. الخليج الدافىء.. الخليج الأكثر ملوحة والأكثر حزنا والأكثر هما والأكثر ثراء والأكثر فقرا آه يا خليج المواجع كم عذبت فهد العسكر شاعر الكويت وبدر شاكر السياب.. وهانذا أعذب فيك"( )، فحافظ يراوح بين التصريح تارة والتلميح تارة أخرى، وتبلغ الرمزية أقصاها في القصص القصيرة جدا التي تتخلل القصص منها هذه القصة القصيرة جدا:" صرخت المرأة الغانية من شباك الوطن: أيها المتشاجرون في الساحة.. الوطن في غيبوبة منذ 40 سنة لا يسمع صوتكم ولا يشعر بكم.. اللعنة عليكم كفوا عن الصراخ.. دعوه ينام.. لا تزعجون حرام.أغلقت النافذة وعادت إلى غرفة النوم فلم تجد جثة الوطن.. نظرت إلى الخريطة تبحث عنه فلم تجده فقد اختفى"( ) فالطاقة الإيحائية المضاعفة هنا تتطلب من القارئ تفعيل طاقته التأويلية للقبض على المعنى الخفي المتواري خلف هذه القصة القصيرة، للإجابة على الأسئلة المتزاحمة إلى ذهنه: فمتى صارت الغانية حامية للوطن؟؟ وهل فعلا يتشاجر المتخاصمون على خدمة الوطن؟ وإن كان ذلك صحيحا فلم الوطن يغط في سبات عميق منذ عقود؟، ولم تركوه في عهدة غانية؟ وما دلالة الاختفاء؟ هل يعني الاضمحلال والتلاشي نتيجة تكالب المتخاصمين عليه؟... كل هذه المعاني قد ضجت بها هذه القصة الرمزية، فرغم قصر نفسها القصصي إلا أنها تحمل حمولة دلالية مكثفة والأمر نفسه مع القصة القصيرة الآتية:" ذهبت إلى بيت حبيبتي في تلك اللحظة العميقة رأيت الواعظ جبته على الأرض وروب القاضي الفاسد بجوارها وقبعات الجنود فصرخت أين هي؟ واقتحمت الغرفة أبحث عنها فلم أجدها"( ) فهذه القصة القصيرة جدا تختصر الكثير من المعاني فالحبيبة تحمل دلالة مجازية ترمز إلى الوطن، في حين أن الواعظ رمز السلطة الدينية التي من المفروض تمثل الشفافية والحق إلا أنها هنا متواطئة مع القاضي الذي يرمز للسلطة القضائية الفاسدة التي سمتها الجور، أما قبعات الجنود فترمز إلى السلطة العسكرية، وهو ما يعني أن القضاء والسلطة الدينية والعسكرية كلهم متواطئون في اغتصابهم للوطن، وبلغة كنائية مراوغة يتحدث عن رؤوف أحد شخصيات قصة"":" لم يفهم سر اللغة السهلة.. بل كان ينحت في ظل الكلمة الصعبة.. ينحت من صخر الأحرف مشنقا نادرا"( ) مما يرمز إلى أن رؤوف كان يقول ما يجب أن يقال، فيخترق بقوله الممنوع سياسيا، ليصنع الوعي الذي هو سلاح التغيير، فالمشنق سيعدم به الفاسدين، فالكلمة هي سلاحه بها يبث الوعي في النفوس النائمة، وبها يزلزل عروش الحاكمين الفاسدين، فتلوح بها تباشير الصباح الذي يزحزح ظلام استبدادهم ودكتاتوريتهم. فلغة حافظ ليست لغة تعبير عن قضايا المجتمع والإنسانية فحسب، بل عنصر تشكيل جمالي يفيض شاعرية، يأخذ قارئه عبر سحر السرد القصصي إلى عالم مفعم بالدلالات تشي بهيمنة النفس الشاعري فكانت حقا قصص رمزية تلامس مواطن التجلي و تجمع بين الإيحاء والإدهاش الفني.
التناص:
يشير مصطلح التناص إلى" تداخل وتقاطع النصوص في أشكالها ومضامنيها"( ) بشكل متفاوت، وتتضمن قصص السيد حافظ عوالما شاسعة من النصوص الغائبة، مقيما معها عدة تعالقات نصية، تظهر من خلال قدرته الفائقة على استلهام عدة نصوص وإنتاج نص جديد له خصوصيته رغم كل الإمدادات؛ إذ أنه استثمر عدة نصوص تاريخية ودينية لتتمظهر قصصه نسيجا يشبه لوحة فسيفسائية –حسب تعبير جوليا كرستيفا- مما وسّع فضاء النص وشحنه بطاقة إيحائية ودلالية جديدة.
ومن الأمثلة التي نوردها في هذا المقام ما ورد في مقطع:" لقد تعودنا على الكتابة، على الغربة ونحن نقرأ الخطابات المتبادلة، إنها نبض العشق الذي ينبت رغم بعد المسافات برغم الأقلام الطفيلية التي تنبت في طريقنا، رغم الداء والأعداء.. "( ) فعبارة" رغم الداء والأعداء" تحمل جينات دلالية وأسلوبية لنص غائب يتمثل في قول أبي القاسم الشابي:" رغم الداء والأعداء سأبقى كالنسر فوق القمة الشماء( ) والتعالق بين العبارتين هو عملية واعية ومقصودة من طرف المبدع، إذ عمد إلى امتصاص تجربة الشابي لأنه رأى وجود تقاطع بين التجربيتين على المستوى الدلالي والنفسي وتشابها في بواعثها، من حيث لهجة التحدي، والرغبة في إحداث التغيير و الانعتاق بكسر الأغلال رغم كل العراقيل التي زرعها المتربصون والأعداء، وإن التعالق بين نص السيد حافظ ونصوص أدبية أخرى يكشف عن غنى المخزون الأدبي والثقافي للمبدع ف" قدرة الكاتب على التفاعل مع نصوص غيره من الكتاب لا تتأتى إلا ب"امتلاء " خلفيته النصية بما تراكم قبله من تجارب نصية، وقدرته على تحويل تلك الخلفية إلى تجربة جديدة قابلة لأن تسهم في التراكم النصي القابل للتحويل والاستمرار بشكل دائم"( ) كما أن من الروافد الأدبية التي سقى بها السيد حافظ تجربته القصصية قوله في قصة"سيمفونية الحب في ثلاث حركات ":"لعل وعسى .. بكرة أجمل.. الحب المطر.. المطر.. المطر( ) وقد اقتدى بالأسلوب الفني لبدر شاكر السياب في قصيدته المشهورة" أنشودة المطر" حيث تتبدى النزعة التفاؤلية للسيد حافظ، وتأمله أن يكون الغد أفضل رغم سوداوية الأوضاع، فالأوضاع المزرية والبؤس المولدة لميلاد هذين النص(القصة-القصيدة) هي ما يجمع بين السيد حافظ والسياب، مما يفضي إلى المقاربة بين حالة القاص والسياب مما جعله يمتص عبارة هذا الأخير، وهو ما تجلى في تكرار اللفظ نفسه" المطر" بما يكتنزه من طاقة إيحائية رامزة (النماء، التجدد، الانبعاث، التطهير...) ويدل هذا التماثل اللفظي والتشابه الدلالي على أن التناص بينهما مقصود لغايات فنية ونفسية
ولأن امتصاص نص لنص آخر هو عملية قصدية يرمي من خلفها المبدع إلى تحقيق مآرب شتى، وهو ما صرح به "وأي ما يكن الجنس الأدبي الذي يمتص المتناص ليتجاوزه، فإنه لا يدل على أن السارد يستخدمه عابثا... وإنما هو يستعمل هذا الجنس الأدبي أو ذاك قصد تسريب الفكرة التي يبغي تسريبها"( ) فقد حاور قصة سيدنا يوسف عليه السلام عبر لغة رامزة مفعمة بالخيال ويتبدى ذلك في قوله:" إنني مازلت أحلم كطفل في الثانية عشر باثني عشر كوكبا والقمر والشمس لي ساجدين"( ) ويحيلنا هذا السياق الدلالي والأسلوبي إلى قوله تعالى في سورة يوسف:"إذ قال يوسف لأبيه إني أرى أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين( ) فالنص الحاضر والنص الغائب يتماثلان في الحمولة الدلالية والنفسية، ففي نهاية قصة سيدنا يوسف عليه السلام المذكور تفاصيلها في القرآن الكريم – سورة يوسف- يسجد له إخوته و وهو ما يحمل دلالات الاعتراف بالذنب وبعلو المكانة، وهو ما ظل يحلم به السيد حافظ في وطنه؛ حيث أنه قد أورد هذا المقطع حين كان يبث شكواه من تخلي الأصدقاء والمثقفين عنه لما كان طريح الفراش إذ ظل يتطلع بأن يجد تقديرا من وطنه ومثقفيه.
ومن شواهد التناص الديني قوله في قصة" تنهيدة غد اليوم أمس":" بعد مناورات وسوء نية كانت تعرقل السير العادي لتقديم أطروحتي الجامعية. وبعد صبر طويل، ومعاناة مريرة، وبعد صمت حكيم ضبطت فيه أعصابي جاء الحق، فتبينت الخيط الأبيض من الخيط الأسود"( ) ونجد موضعا آخر للتناص الديني قوله:" وتخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى"( ) وفي هذا يستحضر السيد حافظ قوله تعالى في سورة :"يوسف" فقد استثمر المبدع لغة القرآن الكريم حيث شكل هذا الأخير عنصرا رافدا للغة قصصه لما يتوفر عليه من فصاحة وبلاغة وعمق التصوير، فمصر هي النقطة المشتركة بين النص الحاضر والنص الغائب، فخلع النعل يشير إلى أن أرض مصر مقدسة، وكل مكان مقدس لا ندلفه إلا بعد خلع النعل، ففي هذا تأكيد على عراقة مصر وقدسيتها وهو ما تتضمنه هذه القصة"
وهكذا، تتكاثف الرموز وتتداخل الأزمنة...لتشكل نسقا لغويا خاصا يتميز بالحوارية"( ).
وقد نوع المبدع من المشارب التي غذى بها نصوصه القصصية عبر استثمار تقنية التناص من تناص أدبيى إلى ديني وحتى تاريخي، ومن نماذج التناص التاريخي الذي يدخل في إطار الديني قوله في قصة" رجل في صندوق":" تتحدث على الأطفال وتحكي لهم قصص النيل وكيف أن سيدنا موسى سار في الصندوق وأن زوجة فرعون كانت جالسة وشاهدت الصندوق"( ) وفي هذا إشارة واضحة لقصة سيدنا موسى عليه السلام، واجتماع الرمزين النيل/موسى عليه السلام إحالة مباشرة لمصر لارتباطهما الوثيق بها.
ليكون التناص-وفق هذا التوظيف- "سبيلا لإشباع الموقف الثقافي بالحس التاريخي والرؤية الاجتماعية والإنسانية" فالقاص باستلهامه للنص الديني قد عمق الدلالات، وهذا التفاعل النصي قد نقل النص من سياقه الأول المرتبط بلحظة تاريخية ماضية إلى سياقه الجديد التخييلي المعبر عن اللحظة الراهنة. وهو في هذا لم يعتمد على اجترار النص الغائب بل اعتمد على التغيير والقلب بما يخدم موقفه ورؤيته، واستخدام المبدع للتناص يدل على سعة اطلاع السيد حافظ، وتعدد مشارب ثقافته وهو ما سمح له باستلهام هذا الكم الهائل من النصوص دون أن تسلب نصه فرادته وخصوصيته الدلالية والجمالية الفنية. 
اللغة العامية:
من أهم سمات لغة السيد حافظ أنها تقترب من الواقع رغم أنها تعبر عن عالم متخيل، إلا أنها تحاول الإيهام بواقعية القص، وأنه نقل للواقع المعيش، وهو ما يسمى في الكتابة السردية ب" الأسلوب الواقعي" ومن مظاهره في هذه المجموعة القصصية استخدام المبدع لبعض مفردات وتراكيب من العامية والتي تخللت كلام الساردين أو الشخوص القصصية، فرغم أن الفصحى هي لغة القص في هذه المجموعة القصصية غير أننا نلفي توظيفا لبعض التراكيب العامية بين الفينة والأخرى، وذلك للاقتراب من شرائح كثيرة من المجتمع، خاصة المواطن المصري البسيط؛ الذي جاءت نصوص المجموعة القصصية لتعبر عن همومه وآلامه وآماله.ومنه، فتكون هذه التراكيب العامية قناة إيصال رسالته والضامن لتحقيق الفهم، ولوعي المبدع بهذه القضية، فقد فجاءت نصوصه القصصية المتضمنة في هذه المجموعة تترواح بين الفصحى والعامية مثلما هو في الحوارات اليومية للشعب التي تتسم بتعدد الخطابات بين كلمات فصحى وعامية و حتى أجنبية أو أجنبية معربة. كما أن هناك مسوغا آخر لاستعمال السيد حافظ للغة العامية وهو الاقتراب أكثر من شخصيات القصص إذ يجيء كلامها معبرا عن مستواها الاجتماعي والطبقي؛ فالقاص يستخدم اللغة المناسبة لمستويات الشخصية الفكرية والثقافية والاجتماعية والمهنية، منها نقله لكلام المرأة الخليجية عندما عرض عليها أن يهديها النيل والأهرام والبحر المتوسط والأحمر فردت مندهشة:" ايش فيك اتينت(اتجنيت) أنت تعطي نيل مصر والبحر المتوسط والأحمر والهرم لي"( ) فهذه الكلمات العامية أسهمت في تعميق هوية المرأة وإبراز انتمائها بشكل جلي، فضلا إلى إن السيد حافظ قد ترك شخصيات القصة تتكلم وتعبر وفق لغتها وليس أسلوبه الخاص كقوله:" – أنا عايز الدرجة الأولى.. عايز أبقى مدير.
- بكرة حتبقى أعظم راجل في الدنيا
- أنا عايز أبقى مدير كل حاجة فيها ثقافة في البلد دي
- إنشاء الله.. بقولك إيه ( ) فقد جعل الشخصية تتكلم عن نفسها مصورة أمالها وأحلامها في أسلوب واقعي يقترب من أي كلام يدور بين زوج وزوجته، مما ألقى على هذا الحوار صدقا وحيوية وواقعية. والأمثلة على ذلك كثيرة مثاله قوله:" قالت صافيناز كاظم(1980) أنت مجنون يا ابني. فيه حد يكتب مسرحية ويطبعها قد الكف ويسميها" كبرياء التفاهة في بلاد اللامعنى"( ) فهي كمثقة تتكلم بتراكيب عامية لكن مع الاقتراب بها من الفصحى، وهو ما يعزز فكرة أن مستويات اللغة تتباين وتبرز تبرز حسب الوضعية الاجتماعية للشخصيات ومكانتها الثقافية والفكرية والعلمية"( ) فلا يمكن أن يسند لكلام فلاح أمي بسيط كلام محام أو شاعر، ومنه يمكن القول " بأن الشخصية هي التي تحدد طريقة حديثها، وأسلوبها وكيفية بناء وعيها"( ) مثاله قول الكناس:" صاح الكناس أمام باب الدكان.. يا حج يا حج ألحق العربية بتعتك بتمشي لوحدها والمتور داير وما حدش راكبها هي فيها عفريت"( ) ولوعي المبدع بأن اللغة ترتبط بتنوع المواقف والمقامات وردود الأفعال داخل الحياة الاجتماعية، فإنه لم يعمد في إبداعه إلى استعمال أسلوبه فقط، بل إنه أخذها من وسطه الاجتماعي بما تتضمنها من تناقضات واختلالات وتناقضات، وليضفي على اللغة العامية جمالية، وحتى لا تبدو هجينة عندما تندمج في نص فصيح فقد حاول أن يرتقي بها ليجعلها قريبة من الفصحى مثاله قوله فوزي فهمي في قصة:"لك النيل والبحر والهرم يا حبيبتي": قال فوزري فهمي: يا سيد أنا قلت لبنت في الجامعة الأمريكية لو عايزة تعملي دكتوراه في المسرح التجريبي اعملي عن السيد.هو الوحيد اللي حقيقي.أنا خلصت ضميري قدام الله"( )
سرد على ضفاف الشعر:
تعد اللغة عند السيد حافظ من أهم مقومات التحديث والتجريب في القصة العربية، حيث " لم تعد مجرد أداة تبليغ تستعمل للتعبير عن الصور والأحداث بل صارت... غاية في حد ذاتها تحظى بعناية خاصة، فينظر في إيقاعها وفي شحنتها الدلالية، ويعنى بمكونات الفظة في تركيب الجملة حتى تؤدي وقعا مخصوصا وتحدث نغما مؤتلفا، شأنها في ذلك شأن الشعر يردده قائله بصوت مرتفع ليطمئن على جمال الإيقاع وحسن الصياغة"( ) وهو ما ينم على امتلاك القاص لناصية اللغة، فكثيرة هي المقاطع التي تتضمن نفسا شعريا على السرد نحو قوله: :" الكويت.. القادسية.. الحانية.. لؤلؤة الخليج.. وقاتلتي وعشيقتي.. ورياح الحب.. وتقلبات الأزمنة المنسية"( ) وقوله أيضا:" والخليج المجنون.. والعصر المخبول.. والفصل المأفون.. والإنسان المعصوب العينين.. إنه لقي خندقين خندق الضياع وخندق الجياع"( ) وهو ما يجلي نزوع المبدع إلى إضافة عناصر إبداعية أخرى على نصوص مجموعته القصصية بصبغ لغتها صبغة شعرية ومنه، تتضاعف جمالية النص الملتزم عندما يخترق الشعر السرد ليزيد فنيته جلاء :" ذكرياتي لم أجدها.. ولا أعلم هل هي ذاكرتي فعلا.. هناك ومضات تأتي بين لحظة وأخرى.. أم هي لمحات من أحلام رأيتها في منامي، هل هي أحداث حدثت لي؟! هل اختلطت أحلامي بشريط ذكرياتي؟! هل عاد هناك هذا الشريط أم تلف وضاع؟! من أنا.. ؟ ومن كنت..؟ وماذا أصبحت..؟ وماذا سأصبح..؟ من هم..؟ وجوه.. مجرد وجوه.. أقنعة مختلفة.. لا أعلم من خلفها.. من يحركها ( ). وقوله أيضا:" آه يا بلادي.. حتى ولو أحببت ألف رجل غيري حتى ولو ادعيتي وافتريتي علي حتى ولو قيدوني بالسلاسل ووضعوني خلف القضبان حتى ولو تطايرت بنا المسافات أنا في مكان وأنت في مكان وبعثرت أيامنا ذكريات حتى ولو انطفأت في قلبك نيران شوقي حتى ولو فعلت ما فعلت فإني أحبك( ) وهو ما يدل على أن المبدع لم يحتفل بالحدث على حساب التجربة اللغوية لوعيه بأن اللغة هي الحاملة لرؤية الأديب للعالم والإنسانية وبأنها المحفزة للقارئ على ولوج عالم النص.
ومن الأمثلة التي نسوقها لتدليل على أن السيد حافظ يتعامل مع اللغة من بعد جمالي" قلبي عصفور مهاجر على أشجار القلق.كم هاجر في مدن البراءة"( ) فكأن القاص ينظم شعرا وليس نثرا: " طفح القلب نشيدا بريا فوق أرصفة الجوع الحبلى بالأغاني.. الخاسرة.. لم يعد في النوايا الخبيثة خير"( ) فهذه المقاطع أقرب إلى الشعر منها إلى النثر لأنها طافحة يالاعرية والغنائية
وتتجلى براعته الفنية لما فيستعمل لغة تهكمية ساخرة:" عبر مسافات الطريق كانت تتحدث معه عن أبيها الفقير.. عن كونها مدرسة في المرحلة الابتدائية في قرية بجوار الاسكندرية وأن التعيين أتى إليها في القاهرة فرقعت شكوى للوزير رضي الله عنه.. ولكن الوزير رفعها لمجلس الوزراء رضي الله عنهم وأرضاهم لكنهم رفضوا الطلب بحجة أنها تحتاج مدرسين في تلك المدرسة"( ) وذلك أن اللغة الساخرة ليست متاحة لأي مبدع، وهو ما جعل فنه متميزا، وقراءة مجموعته القصصية عملا عميقا، وفي إدانته لجمود الوضع واستعصاءه على التغير يقول:" العالم لن يتغير هل نستطيع أن نغير العالم.. البحر يتغير.. رأيناه بألف لون ولون.. الطيور تتغير تطير تسير من بلاد إلى بلاد.. يهاجر السمان.. يهاجر ويعود ونحن أنا وأنت نهاجر لحظة يعاقبنا المجتمع.. الوعي يا حبيبتي خنجر في الضلوع.. الوعي مأساة العصور.. السمك يهاجر من النيل إلى البحر إلى النيل كل الأشياء تتحرك.. ولماذا نحن نرتدي الاستكانة للزمن .. ماذا يعني العمر وما هو الثمن.( ) وهذا، استفاد القاص من لغة الشعر ليرتقي بعمله من المستوى العادي إلى المستوى الشعري مستفيدا من صوره ورموزه وانزياحاته، ومن هذا الاستخدام للغة ترتقي لغة قصصه. 
خاتمة:
لقد سعى السيد حافظ إلى الجمع بين تصوير واقعه منطلقا من دائرته الضيقة (الوطن) إلى دائرته الرحبة (الإنسانية)، فجاءت قصص المجموعة القصصية حاملة لرؤاه ومواقفه مع حرصه على خلق عالم فني يحتوي التزامه له خصوصياته؛ إذ ارتقى بعمله القصصى إلى مستوى الشعرية وذلك في توليفة إبداعية متميزة مفندا بذلك كل الإدعات التي تقول بتعارض الالتزام والفنية الجمالية، مما جعل تجربته القصصية حداثية تبحث لنفسها عن أسلوب كتابي يحقق لها تميزها؛ فالقصة الحديثة "تبني وعيها بالمجتمع والكون عبر نزوع تفجيري انتقادي يؤسلب اللغة وينسرب بالواقع عبر التخييل"( ) وهو ما مكنّها من استعاب مواقف الأديب ورؤاه بطريقة فنية جمالية منفتحة على التأويل، تتمنع عن القراءة الأحادية أو السطحية، بحيث تتطلب من القارئ نشاطا تأويليا للقبض على دلالاته ومقاصده. ومن هنا، فقد اكتست اللغة مكانة هامة عند حافظ؛ إذ عمد من خلالها إلى تحديث خطاب القصة وإثراءه بتبني لغة شعرية تميل إلى إبعاد العمل القصصي من أن يكون مجرد انعكاس فني للواقع، واستلهام له، ناقلا إياه من المستوى الإبلاغي إلى المستوى المجازي.
ص19 إن الالتزام قد درس عند الشعراء عادة في حين أنه قد اعتبر مجال الكتابة النثرية.
?
المصادر والمراجع:
1-المصادر:
- القرآن الكريم
- السيد حافظ: المجموعة القصصية.
2-المراجع:
الكتـــب:
1-ابن منظور: لسان العرب، مجلد12، دار صادر، بيروت، لبنان، 1956.
2- أبو حاقة أحمد: الالتزام في الشعر العربي، دار العلم للملايين، بيروت، لبنان، ط1،1997. 
3- السماوي أحمد: التطريس في القصص،إبراهيم الدرغوثي أنموذجا، مطبعة التسفير الفني، تونس، 2002.
4- اسماعيل عز الدين:التفسير النفسي للأدب، دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، 1993.
5 - الشابي أبو القاسم:نشيدة الجبار أو هكذا غنى بروميثيوس، الموسوعة العالمية للشعر العربي، متاحة على شبكة الأنترنت.
6- الصبيحي محمد الأخضر: مدخل إلى علم النص ومجالات تطبيقه، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، لبنان،ط1،2008.
7- العالم محمود أمين: الثقافة والثورة، دار الآداب، بيروت، لبنان، 1970.
8- العالم محمود أمين: ملاحظات حول نظرية الأدب وعلاقتها بالثورة الاجتماعية، وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، الجزائر، دط،دت.
9- الحكيم توفيق: فن الأدب، مكتبة مصر، دار مصر للطباعة والنشر، دت. 
10- الفيروأبادي: القاموس المحيط، دار الكتاب العربي، لبنان، 2008.
11- النصير ياسين: الرواية والمكان، دار نينوي للدراسات والنشر والتوزيع، سوريا، ط2،2010.
12- ضيف شوقي: البحث الأدبي، طبيعته، مناهجه، أصوله، مصادره، دار المعارف، القاهرة، مصر، ط7، 1992.
13- طبانة بدوي: قضايا النقد الأدبي، دار المريخ للنشر، الرياض، السعودية، 1984.
14- عبد الرحمان عائشة: قيم جديدة للأدب العربي القديم، دار المعارف، القاهرة، مصر، 
15- عرابي لخضر:الأدب الإسلامي، ماهيته ومجالاته، دار الغرب للنشر والتوزيع، وهران، الجزائر، 2003.
16- غنيمي هلال محمد: النقد الأدبي الحديث، دار الشعب، القاهرة، دت.
17- عيد رجاء: فلسفة الالتزام، منشأة المعارف، الاسكندرية، مصر،1988.
18- فيدوح عبد القادر: معارج المعنى في الشعر العربي الحديث، دار صفحات، سوريا، 2012.
19- قطب محمد:دراسات في النفس الإنسانية، دار الشروق، بيروت، لبنان، 1974.
20- مصايف محمد:النقد الأدبي الحديث في المغرب العربي، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، ط2، 1984. 
21- محمود زكي نجيب: مع الشعراء، دار الشروق، مصر، ط4، 1988.
22- هيمة عبد الحميد:علامات في الإبداع الجزائري، دراسات نقدية، مطبعة دار هومة، ط2، 2006.
 23- وهبة مجدي:معجم مصطلحات الأدب، مطبعة دار القلم، بيروت، لبنان، 1974.
24- يقطين سعيد: الرواية والتراث السردي، من أجل وعي جديد بالتراث، المركز الثقافي العربي، بيروت، الدار البيضاء، ط1،1992.

الكتب المترجمة:
1- سارتر جون بول: الأدب الملتزم، ترجمة جورج طرابيشي،، منشورات دار الآداب، بيروت، لبنان، ط2،1967.

المجلات والدوريات:
1- طرشونة محمود: المشهد الروائي التونسي الآن، مجلة الحياة الثقافية، العدد108، جوان2008، تونس.
2- عبد الرحيم حمدان عبد الرحيم:اللغة في رواية" تجليات الروح" للكاتب محمد نصار، مجلة الجامعة الإسلامية، المجلد السادس عشر، العدد الثاني، جوان 2008.
3- ساري محمد: السلطة الكليانية وجرائمها، قراءة في رواية عزوز الكابران لمرزاق بقطاش، مجلة المساءلة، ع1، ربيع1991.

الأطروحات والرسائل:
1- المصري أحمد محمد أحمد: الالتزام في الشعر الفلسطيني المعاصر، رسالة ماجستير، جامعة عين شمس، فلسطين، 1989.
2- الهشيم جواد اسماعيل عبد الله: الالتزام في الشعر الإسلامي الفلسطيني المعاصر، رسالة ماجستير،الجامعة الإسلامية، غزة، فلسطين،2010-2011.
3- ديبو أمال: الالتزام في شعر بدر شاكر السياب، رسالة ماجستير، الجامعة الأمريكية بلبنان، بيروت، لبنان،1982.

?
سيرة ذاتية
الاسم: عائشة
اللقب: حمادو
البريد الالكتروني:aichahamadou@yahoo.fr 
متحصلة على البكالوريا سنة 2006
شهادة اللسانس 2010
شهادة الماجستير2014 دراسات أدبية ونقدية
السنة الرابعة دكتوراه العلوم تخصص دراسات أدبية ونقدية
أستاذة مؤقتة في المركز الجامعي لتيبازة

?

 





0 التعليقات:

إرسال تعليق

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More