دراسات من كتب د. نجاة صادق الجشعمي
( 226 )
رمزيّة (الاختلاف) في قصّة " لكِ النّيل والبحر والهرم يا أميرتي " للسيِّد حافظـ مقاربة تفكيكية ـ
بقلم
د. نصـيرة عـــلاك
دراسة من كتاب
تمظهر التجديد في بنية السرد في القصة القصيرة
السيد حافظ نموذجا
جمع وإعداد
د. نـجـاة صـادق الجشـعمى
رمزيّة (الاختلاف) في قصّة " لكِ النّيل والبحر والهرم يا أميرتي " للسيِّد حافظ
ـ مقاربة تفكيكية ـ
بقلم
د. نصـيرة عـــلاك
أستاذة مساعِدة المركز الجامعي تيبازة
1. مقدِّمات
1.1 الموضوعة والإشكالية
نعمِل - في هذه المحاولة - قراءة نقديّة مقتضَبة لقصّةٍ قصيرةٍ متضمَّنة في مجموعة قصصيّة( )، أصدرَها الكاتب المصري السيّد حافظ المشهور أكثر بالكتابات المسرحية. يتّصل معظم القَصَص الوارِد في هذه المجموعة بموضوع الهوية " المصرية "، ويتعلّق بالمعاناة التي خلّفتها إرادة لا تذكُر اسمَها إلا رمزاً بينما تهدِّد جوهر التّاريخ المصري العريق بأزمة ذات رجّة قوية تكاد تنال مِن وجوده، رامية إلى طمس تلك الهوية بمختلف مضامينها وأشكالها.
وتحمل القصّة المعنية بهذه القراءة عنواناً ذا دلالةٍ رمزيةٍ بامتياز تنبئ بما احتفلت به مصر من " الأقدار والتقديرات " المنهزِمة أمام تلك الإرادة " البشرية " البشعة، مصاغاً في جملة تنهيدية استفزازية: لكِ النّيل والبحر والهرم يا أميرتي( ).
وقد لفَت انتباهَنا اهتمامُ القاصّ في هذه القصّة بموضوعة " الاختلاف " التي - على الرّغم مِن الحساسيات المحيطة بها، فقد بحثها في شيءٍ مِن الشفافية وكثيرٍ من الانفتاح، يبدو أنّهما مغلَّفان بغطاء مِن الرمزية المستشرية، بل ملفّقان بـ" ما ورائيات " ورثها عن أسلوبه المسرحي القائم على الترميز، بكلِّ ما يحتاج إليه هذا الأخير مِن فكّ واستقراء لأبعاد الاختلاف المتعددة (التسويف والإطالة والتمايز)؛ ضمن قراءةٍ أنأى ما تكون عن اختزال نظرات الكاتب في مقولاتٍ مميَّعة قائِمة على الحكي الظاهري أو المحاكاة المجانية؛ ولاسيما أنّ موضوعة " الاختلاف " صار موضة في مشهد الحركة النّقدية الحديثة يتعاطاها كثيرٌ من الباحثين المجتهِدين والمقلِّدين.
أما هو فيمكِن أن نزعم أنّه تعرّض لها - برهافته المعتادة ومزيد من الفطنة والصرامة - مِن منطلَق احتكاكه بالواقع الذي لا يزال يبعث له صورة سيِّئة عن هويّته، إذ حاول الكشف عنها من حيث تبدو أقل ظهورا، ومن ثم التأمّل فيها كظاهرة بدون أن يحيد عن المنحى الذي سطّره لنفسه في سابق كتاباته المتعلقة بالهوية المصرية، والمتمثّْل في جرد ما علق بهذه الهوية من شوائب مضلّة، واضِعاً نفسَه صراحةً ضمنَ التّقليد المسرحي الذي ناضل مِن خلاله لرفض مساومة الهوية التي يلتمسها ليفتكّها من عبث الزمن، وبوصفه مؤلِّفاً ومخرجاً مصريّاً من جيل النكسة ولسان حالها، أي من جيل العنف والغضب والشعور بالإحباط( ).
2.1 الفرض والمقاربة
إذن، فالدّاعي الحقيقي إلى تناول هذا الموضوع هو البحث في أسرار ما عمد إليه الكاتب مِن تكثيف الرّمز في الأقصوصة " الاختلافية " المعنية بهذه القراءة التي نعوِّل فيها على مقاربة تفكيكيّة لما نتوسّمه من تلاؤم بين أغوار الرمزية ومَناقِب التفكِيكيّة فيما يخصّ تنقيبها في طبقات الأشياء الدالّة وعبر دَرَكاتها، بقصد تثمين الأعماق وفضح بريق السطوح. وهي قراءة تشرح، على الأقل بصورة موجزة، كيف تتداخل أحداث القصص وتتفاعل ملامح الرموز المجنَّدة لهذا الغرض، مشكِّلةً بمجموعها - وفي آخر المطاف - نوعاً من رمزيّة هي التي نتصيّدها في سبيل تبرير حضور " الاختلاف " الموجَّه في اتجاه استرجاع الهوية، وبتفكيك عناصرها المتكتِّلة وأبعاد هذا الاختلاف الذاتية (العِرقية).
مِن هنا يستوجب العمل بمقتضى المنهجية الملحّة على وضع أولى فرضيات الدراسة التي مؤدّاها أنّ شخوصَ قصصِ السيّد حافظ رموزٌ لعقلياتٍ وذهنياتٍ قد أسهم في تشكيلها كلٌّ من التاريخ وتداخُل ركام من أحداثه العشوائية والمنتظمة معاً. كما ساعد على استمرارها على مرّ العصور عامل المعتقد الديني الذي عالجه القاصّ ضمن ثنائية تقابلية ذات دينامية عجيبة وهي (الإسلام والمسيحية) بوصفهما ديانتين كادتا أن تقضيا على الهوية المصرية ولكنهما جهلتا من مصر أمّ الدنيا وأرض الكنانة. مع العلم أنّ البحث في ظاهرة الاختلاف هو بحث في طريقة تشكّل السلطة: سلطة المعرفة وسلطة الثقافة، وسلطة الجماعة، وسلطة النظام. وهو محاولة لتحليل الأنساق والبنى للوقوف على طرق التبادل والتفاعل بين الأفراد. «كما أنّ تفكيك ظاهرة الاختلاف هو سعي إلى فهم الأنا في علاقتها بالآخر وبالغيرية. وما طرح سؤال الاختلاف إلاّ تعبير عن الحاجة إلى تجاوز منطق الثنائيات الصّارم ونسق التصنيفات القائم على العنف »( ). ومن ثمّ فإنّ المقاربة التفكيكية تصحّ هنا لأن وراء انتقاء القاصّ لأحداثٍ دون أخرى ما ينمّ عن إطار فلسفي وجودي معيّن يهمّ استطلاعه.
3.1 الغاية
وعليه، فمقالنا يرمي إلى بحث الخلفيات الفكرية التي نرى أنّ الكاتب استند إليها في معالجته لفكرة " الاختلاف " التي نعتقد - من جهة - أنّه صوّر أو صنع على محورِها مجمل أحداث سرده الذي لا يمكن الدخول في أدق تفاصيله، لذا نكتفي - من جهةٍ أخرى - بالوقوف عند المؤشِّرات الدالة على اهتمام الكاتب بتقويض بعض المعتقدات التي ترسّخت لدى الفرد المصري خصوصاً وهو يسعى إلى استرجاع هويته التاريخية المندثرة. ويُذكَر أنّ للسرد القدرة على تجلية المتناقضات وتسويتها أو تعقيدها بالنسبة لحياة الفرد. كما يمثّل « القدرة على نقل الطبيعة المتناقضة تماماً للوجود الإنساني"( ).
4.1 اللوائح الإعلانية
نلاحِظ من حيث النسق التنظيمي الذي اعتمده القاص، أن الشكل يقوم على وضع لوائح نَعتناها بالإعلانية (الاستشرافية). ما يسرده في توازٍ هو ملخَّص في علاقة تقاطعيّة معلنة ضمن لائحة لعلّها تدلّ القارئ على ما يجب رصده من القيم المتناثرة بين الأسطر.
اللائحة الفاتِحة :
كانت فاتحة القصّة في تحديد مصدر الأزمة الهوياتية:
« أغمضت عيني لحظة ثمّ فتحتها فوجدتني في عصر المماليك .. يحاصِرون الشوارع .. والسلطان سليم الأول يأمر بالقبض على .. فأصبحت سجيناً طوال 450 سنة .. ترى ما الذي جرى .. »
إنّ الإغفاء بعد تجربة ضربت 450 سنة ذهبت سدىً (مجولة)، خلاصة ما حدث فيها هو الاضطهاد مرموزاً إليه بأمر السلطان إلقاء القبض على (مجهول).
إنّ مثل هذا الإعلان يستشعر موضوع القصة أي الهوية المصرية المهددة، بقدر ما يعطي شرعيّة لمخيال القاصّ يقول فيه ما يشاء، ولكنه مستمَدٌ من الماضي المرتبط بحياته، وممتَدٌّ إلى تاريخ مصر العريق الذي شهد ما عاناه بنو جلتده من أنواع ذلك الاضطهاد. ويأتي تشخيص المسئول - أو المسئولين - عليه ضمن سلسلة من رموز.
ويُشعِر - في إشارة سريعة - بالمسخ الذي وقعت مصر ضحيّته على إثر ما عرفته من أنواع الاستعمار، «دخل الرومان على البلاد ومسحوا اسم جدّي من فوق الآثار.. دخل الرومان وقالوا فراعنة أوثان وسحرة ومشعوذين وفي المعابد أسرار.. هدموا المعابد ومسحوا الآثار ودفنوا جدي لم نعرف أين جثته حتى الآن».
2. تكريس الهوية سرداً / رمزية الاختلاف
1.2 تحديد الهوية والاختلاف والرمزية
ترتبِط الهوية بالاختلاف ارتباطاً عضويّاً وضروريّاً في علاقة ضمنية تلازمية، يكاد يكون كلٌّ منهما قيداً للآخر. ذلك أنّ إثبات الهوية ليس مجرّد عمليّة التّعريف بها عن طريق استجلاء نفسها في نفسها، بل يتمّ التعرّف على الهويّة في مرآة " الآخر " المختلف عن الذات. فلا يُصنَّف الشيء في الوجود إلاّ بما ليس هو، أي بأمارات تُستجلَب من الغيرية. لذا ينصبّ تفعيل الرمزية في هذه الأقصوصة على إبراز التفاعل الكائن بين صيرورة الهوية وحركية الاختلاف. الكاتب لا ينفكّ يردِّد زعمه: « أنا حفيد الفرعون ملك مصر العظيم أول الملوك ولست من هؤلاء المصريين من أصل المماليك » (ص.18)
ولتفكيك العلاقة المركّبة بين الهوية والاختلاف يجدر تبسيط مصطلح " الاختلاف " بتحديده أوّلاً على أنّه مفردة شائِعة اكتسبت بُعداً مفهوميّاً واصطِلاحيّاً نتيجةَ جهودِ بعض المفكِّرين الذين أسهموا في تعبِئتها بحمولة دلالية معرِفيّة جديرة بالاهتمام، وإن لم يفعلوا ذلك دائماً مِن خلال المفهوم نفسِه أو تحت مسمّى الاختلاف. فالمفهوم الذي اكتسب بعداً اصطلاحيّاً تداوليّاً نتيجةَ تلك الجهود صار ذا صلة بمفاهيم رديفة بطريقة غير مباشِرة( ).
لعلّ هذه المفاهيم هي التي تشكِّل الرموز التي نهتدي بها - ههنا - بمعية الكاتب الذي يرسم لوحاته ويخطّط لكلماته، وهو يضعها باعتبارها معالم في الطريق تدلّ على الشخصية والذات والهوية، وتقيم علامة فارقة للمجتمع المصري الذي هو في صدد الغوص فيه ولثقافته السائدة التي يوحي بمظاهرها المرضية، قائلاً: بعد إذ « جاء المماليك إلى مصر، ظلّت أسرتي تعاني، تحوّل المماليك إلى سادتنا ونحن ملوك الفراعنة ظلّ حالنا أسوء من العبيد» (ص.19).
وفي ضوء هذه المقابلة الرمزية بين الماضي والحاضر، يسقط قناع تقديس التاريخ بمجرَّد ما هو تاريخ، لفسح المجال للكشف - أو الاستكشاف - المزمع إنجازُه في هذا السياق. وهو ما يحتاج إلى إعمال تفكيكٍ لآلية السّرد القائمة على تبئير أهمّ ما يمكن من الأحداث والمشاهد والحوارات المتضمّنة في هذا النصّ القصير جدّا. سواء كان السرد متأصلاً أو جزءاً من أفعال الإنسان، أو شكلاً لغوياً وذهنياً يستخدم ليصف واقع الإنسان ويعيد بناءه، ويفهمه، مسائل وصلت مناقشتها إلى مستوى معقد في التاريخ وفلسفة التاريخ أيضاً. ويؤكد كثير من المؤرِّخين أنه بينما سادت المناظرات عن الهوية الفردية والذاكرة بواسطة النماذج الميتافيزيقية والإمبريقية، كان للذاكرة التاريخية معقل في السرد دائما. لم ير دارس منذ القدم حتى نهاية القرن الثامن عشر، حدّاً معيّناً بين التاريخ و" الأشكال الأخرى من الأدب "( ).
غالباً ما يتمّ تحديد الهوية على أنّها تمثِّل «كينونة ضمائرية (هو /ية، أو هي/ية، أو أنت/ية) تتشكّل معقلنة متجسّدة في هيئة أنوية، تتبدّى لصقاً بشخصٍ واحد ولها مسمىً معيّن، وتمتلك خصوصية مجرّدة من الكلية بذاتية قد تتنافى مع الوحدانية، وقد تتوقّع فيها تفرّداً أو اختلافا»( ). وتفسّر العناية بالكينونة كونها تقوم على « علاقة تفرّد وانتماء وطيدة بالهوية، [ بيد أنّه ] لن تكتمل تلك العلاقة أو يتّضح كيانها ما لم ترتبِط بالآخر »( ). ثمّ إنّ تمظهر الذات يتمّ على محور الصيرورة أيضاً وهو الذي يكفل لها التواجد كمعطى ثقافياً وليس ذلك فحسب، « بل هو مظهر هوياتي متجدِّد باعتدال وتوافق، بما لا يلغي مسائل إثنولوجية أو عقائدية أو سوسيولوجية، بل سيتعامل معها من منطلق غير إتباعي ليس فيه ثبوت ولا تقنّع ولا اختلاف »( ). في الحقيقة السرد يتقاطع مع انفعالات السارد في حدّ ذاته ما يكشف عن رؤى القاصّ الذي يكمن وراء ستار الأحداث وهو يحرِّكها من هنا فلا يخطئ الإنجليز لما أسموا السرد بمصطلح (Telling) أي القول أو "مقول القول " حيث تحدث تحويلات وتحويرات( ). وهو أشبه بمظهر الرؤية كما يدعوه تزفيتان تودوروف( ).
وبتجريب تعريفات الرمز انطلاقاً من مفهمته (Conceptualisation)، نستشفّ مدى تمحورها حول معنى " الإشارة والإيماء ". ذلك أنّ « الدلالة الرمزية هي ما يوحي وجودُها بمعنى آخر دون أن يكون بينها علاقة ضرورية غير رابط المشابهة [..]»( ) ويتّفق الأقدمون في تعريف الرّمز بأنّه كناية غامضة إذ يقوم على الإشارة إلى الشيء «على سبيل الخفية»- كما يحدِّده صاحب العمدة( )، أي إشارة حسيّة، مجازية لشيء لا يقع تحت الحواس( ). وهو ما يتيح لنا أن نتأمّل في شيء آخر وراء النصّ؛ فهو قبل كلّ شيء معنى خفيّ وإيحاء( ).
ولإلحاق الرمز بالاختلاف فضلٌ كبيرٌ على استفزاز الفهم الذي يبحث دائماً عن مفهومات جديدة، ونماذج جديدة، وعن اقتصاد يوفِّره الرّمز ويفلت مِن أيّ نسَق يقوم على كينونات تعدّ مجرّد مقابلات ميتافيزيقية، لا تحيل على العلاقات بقدر ما تشير إلى الوحدات، بينما يجدر على الاختلافات المعتبرة أن تكون اختلافات في الموضع والقوة( ). ولا يمكن أن نرتاب في إمكانيات الرمزية على توطين التواصل، وذلك ما دام التّواصل يتمّ من خلالها في سياقات محدّدة تتطلّب التلميح وتغلِّبه على التصريح. وهي السياقات التي تتطلّب أيضاً قراءات خاصّة ومتعددة. يكفي أن نعلم أنّ لفظة الرمز (Symbole) تعود في اللغات الغربية إلى الأصل اللاّتيني (Sumbolon) المشتقّ من الفعل (Sumbally) ويعني التواصل والاجتماع( ).
وعلى الرغم من أسلوب التصريح الذي يموِّه به القاصّ، فلم يعدم الرمزية التي سخّرها في سبيل التأكيد على الطابع التعدّدي الذي يتحسّسه لدى القارئ نفسه (المصري /المسيحي /المسلم/ المثقف/ السائق ..الخ)، وهو ما يسهِم في تجسير الرمز مرّة بلغة صريحة ومرّة بما من شأنه أن يسلم إلى التّأويل.
ذلك أنّه - وكما يرى بول ريكور(Paul Ricœur) : "فلا يوجد فهم للذّات بدون أن يكون متوسِّطاً بعلامات، أو رموز، أو نصوص"( ).
وإذا كان مفهوم الرّمز منحصِراً في معنى الإخفاء والحجب لمعنى باطني غير ظاهر وراء معنى آخر مكين وجلل، فهو وطيد بالسياق الذي يرد فيه وبالتالي لا يمكن تأويله إلاّ وفقَ ذلك السياق، فهو فاعِلٌ ومنفعِل، يؤثِّر في السياق ويتأثّر به( ). وعليه، يقال إنّه ليس في الوجود باطل أصلاً، فكل ما فيه مجال للتأمل( ).
لعلّ هذه المطاطية هي التي جعلت من " الرمز " موضوعاً يستأثر بعدّة مجالات الفكر والتعبير. ومن الفئة التي اهتمّت ببحث انبثاقه في المجتمعات وتأثيره على أفرادها، نُلفي علماء الانتروبولوجيا الذين لم يتوصّلوا إلى تعريف دقيق لكلمة (رمز/أو/رمزية)، بحيث يكون مقبولاً لديهم جميعاً، ومع ذلك فهم يقبلون هذه العبارة على علاتها وغالباً ما يكتفون بتوضيح العلاقة بين الرّمز والفكرة التي يرمز إليها، وتنوّع استخدامهم لكلمة رمز ورمزية( ).
2.2 الهويات المصرية الرّاسِخة ورمزيّاتها الضّافية
1.2.2 الهوية في مواجهة العنصرية
لا ريبَ أنّ تيمة " الهوية " رائجة في هذا النصّ، ودويّها قوي، يرجع عبر اعتبار رواسب الذاكرة الثقافية. وتتجلّى قضيّة الهويّة في خطاب " لك النيل والبحر والهرم يا أميرتي " مِن خلال هيمنة التّراث المصري القديم بتنوعاته الكثيرة التي رجع الكاتب إلى بعضها ليقينه بأنّها تمثّل ساحة الاختلافات المتوارية في العمق. وهي المنظومة التي يسميها محمود الذوادي( ) بـ(الرموز الثقافية) المميِّزة لهوية الإنسان والمتمثِّلة في اللغة، والمعرفة/العلم، والفكر، والديانات، والقوانين، والقيم، والأعراف الثقافية، وهي سمات رئيسية ينفرد بها الجنس البشري عن سواه( ). فالشرق مثلا ليس مجرد آخر للغرب، أي آخر موقعي جغرافي، ولكنه آخر قيمي، أي يمكن أن يتخذ أحدهما بالنسبة للآخر مرجعية قيمية، بل موقع أخلاقي( ). ويبدو أن الموقع القيمي هو الذي يحدد " الآخر " حتى في المنظور الشعبي، حيث تسيطر الرؤية الإقصائية. التي تتسم بالتطرف،
وتترامى أطراف هذه القضية نازِعةً نحو التطابق مع أهمّ الإشكاليات المطروحة في هذا النصّ المشحون بذاكِرة سردية خاطفة لكنها قوية ساحقة لمظالم الآخر وترهاته الادّاعائية. وتتمثّل تلك الإشكالية في تنامي العنصرية في المجتمع المصري، سواء في شكلها الخفيّ داخلياً، أو عبر ما يتعرّض له الفرد المصري من مظاهر الإهانة - خارجيّاً- والتسخيف بمظاهره المتردية بعدما حظي بمكانة يُحسَد عليها. إنّ الكاتب وضع نفسه موضع المتهم. وأراد أن يفضح ما يكرِّسه "الآخر".
فهي - بالتّالي - مثال عن صورة لعنصرية مزدوجة يعايِشها في الواقع كلُّ فرد مغلوب على أمره، ومن شأنها أن تولِّد سلوكات وتصدِر أقوالاً مخلّة بالنظام ومناهِضة للإنسانية - كما سنرى مع السيد حافظ الذي قرّر أخيراً أن يواجه النار بالزيت، ومع ذلك فهو لا يزال يؤمن بأن هناك أملاً وخيراً في المسرح الذي ما انفكّ يعلِّم ويربي الأجيال.
ليس مِن العسير أن نلامِس في العنوان المختار للأقصوصة موقف الكاتب مِن جدوى إثارة مسألة الهوية في سبيل معالجة إشكالية العنصرية. إذ نُلفي في المفردات الثلاث: " المرأة الحبيبة والأميرة (الكرامة)، والنيل، والبحر، والهرم "، التي تحيل على جزءٍ كبيرٍ مِن أسرار مصر القديمة وأمجادها الضائعة والتي يمكن استرداد بعضها أو معظمها. وهو ما يبدو من خلال الصفحات الأولى التي استفتح بها سرده:
" قالوا إنّ جدّي الفرعون قتله الرومان قبل ظهور سيدنا المسيح عليه السلام وقالوا إنّ جدّي الفرعون هو الذي طارد سيدنا موسى ومعه ألف واثني عشر فارسا وكبار الأعيان وأغلق النهر عليهم جميعا وماتوا .. وبقيت جدّتي وأنا فقط من الذين بقوا وهاجرنا خارج العاصمة .." (ص.14 - 15).
إنّ طابع هذه الأقصوصة قائم على حسن التخلّص وربط الحاضر بالماضي، أي السفر في أحقاب تاريخية بعيدة، ومن ثم الرجوع فجأة نحو الحاضر لإلقاء القارئ في أجواء بسيطة. من هنا وظيفة الرمز الأساسية المتمثِّلة في تعميق الفكرة بفضل الأبعاد التاريخية التي يُسقِط على محاوِرها آلام الحاضر وتحسّره. غير أنّ القاصّ يبدو أكثر تزمّتاً وإمعاناً في شبه معافاة للإنسانية، وذلك بتناوله لتيْمَة (الهوية) ضمن ثنائية (الأنا والآخر). لاحظ ما ينفث قلمه من سمّ الكراهية للبشرية في هذا المقتبَس:
«[...] بعد أن أصبح العبيد والخصيان أحراراً وتزوّج العبيد من النساء الشريفات والأميرات بسبب اختفاء الرجال واختلط دمّ العبيد والشرازمة بدمّ نبيلات وماجدات مصر لينجبوا لنا جيلاً آخر .. لا نعرفه لكنه يحمل هوية مثلنا..» (ص.50)
وعلينا أن نتساءل هنا: هل يعني - مِن خلال هذا المقتبَس - أنّ الكاتب لا يزال يؤمن بالنظام الأرستقراطي القديم القائم على الاسترقاق؟ أم أن مقابلته ما أسماه " العبيد والشرازمة والخصيان " بالأسياد والرجال والنبلاء، وكذا الشريفات والأميرات اللواتي صار مصيرهنّ التعيس إلى قبضة هؤلاء العبيد " الأوغاد "، لا يزيد على حمولات رمزية هي وريثة الذهنيات السائدة التي ما انفكّت تعتقد أنّ العبيد يظلّ تربِطه علاقة حميمية إلى ماضيه حيث الاستسلام لقيود العبودية. بالتالي يبقى حقيراً هيناً شأنُه وهنيئاً بوضعه البسيط، في حين أنّ الأمير يظلّ يتمتّع بالمقام الرفيع في المراتب الاجتماعية. غير أنّ الكاتب بوصفه مثقّفاً لا يريد أن يقع في أيّ نوعٍ من التورّط أو التواطؤ والتآمر مع الأمير. ورمز إلى هذا الرفض برمز الأمير " المرأة ". ولتأنيث هذا الدور - كما نرى - دلالة عميقة جدّاً. ذلك أن المثقف والأمير ثنائية خطيرة في تاريخ الإنسانية وسبق لمكيافيلي أن وصف هذا التآمر( ).
وفي ضوء ثنائية (النظام والرجل الساذج) وما ينشأ عن علاقتهما مِن أسباب الكراهية، يستأنف القاصّ تصويره لأساليب العنصريين الاستفزازية: « قال الشرطي أكرهك... أعرفك، أنا جدي عمرو بن العاص أنت المصري الذي راح واشتكى جدي عمرو بن العاص إلى سيدنا عمر بن الخطاب [..] قلت له جدك أخذ مني الدار وصفعني واشتكيت لأمير المؤمنين فأخذ حقي واسترددت الدار وصفعت عمرو بن العاص كما صفعني.. بقوة العدل في الإسلام والمساواة وصرت مسلماً» (ص.15)
في هذا الحوار المباشِر، ما يُزيل اللّبس في قضية موقف الكاتِب مِن الإسلام، وما مِن شأنِه أن يؤوَّل عدّة تأويلاتٍ نظراً للرمزية التي لا تزال تحوم حول العبارات، مع العلم أنّ هذه الأخيرة - وعلى الرغم من ذلك - قد جاءت في لغة غاية في البساطة، وبعيدة عن الحشو والرّونق الأسلوبي. ذلك أنّ القاصّ يورِد حادثة موثَّقة تاريخيّاً ويعطي لها أبعاداً عنصرية راهنة. مع ما يمكن أن يعتبر مجرد التناغم مع السياق الذي يفرض الاقتصار العاطفي على التراث والولاء للديانات القديمة لكونها تحتفظ على الذاكرة القومية، وهي المسماة النزعة التقليدية( ). ويحظى الموروث واستلهامه أولوية عند تصنيف السرد كما عهدناه - مثلاً - عند عبد الرحمن منيف حيث يرى أن استحضار الموروث يعد وصلاً بالأصالة لا امتدادا للرواية الغربية في شيء( ). يربط بين الثقافة الحديثة والفكر التقدّمي ويشيد بالمثقف والمفكِّر الأمريكي الفلسطيني إدواد سعيد في فلاحه على التوفيق بين الكفّتيْن بشكل صريح علني وذكيّ( ).
أما الحادثة فهي خلاصة ما تعرّض له مصريٌّ مِن ظلمٍ اقترفه عمرو بن العاص الذي نال منه واغتصب حقّاً له، ثمّ سرعان ما انتزع المصري ذلك الحقّ المغتصَب على إثر احتكامه إلى عدالة الإسلام ومساواته بين النّاس، وهي العدالة التي امتثلت وتجسّدت في شخص عمر بن الخطاب وأفعاله، وهي ما انفكّت تتخذ شكل الرمز في أذهان وتصوّرات الناس من المسلمين وغيرهم.
وبخصوص تلك الأبعاد، فهي مقاومة الجنس المصري للانتماء العربي الإسلامي الذي شيِّد على حساب الحضارة المصريّة القديمة. وتتجلّى الرمزية مكثَّفةً ومركَّزةً في كلمة (المصري) الحاضر بقوّة في هذه القصّة، حيث عمد القاص إلى مقابلته بما صار يحمل اسم العربي وهو يستحضِر صورة الأعرابي الذي يدّعي إسلاماً وهو منه براء، بل يستعمل هذا الشعار لقضاء مصالحه الضيّقة مهما يكلّفه ذلك من ثمن خسران كرامته وفقدان شخصيّته.
كما يشير الحوار إلى مفهوم " الصيرورة " التي نتج عنها اعتناق الآخر للإسلام نتيجة القناعة، وليس بموجب المصالح كما يكشف استطراده الآتي:
« جدّي الفرعوني الأول قتل وجدي المسيحي صلبوه الرومان وجدي المسلم نصفه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب بعد أن صفعه عمرو بن العاص [..] وجدّي الآخر كان شاعراً فحلاً. لكن كافور الإخشيد ظلمَه شتمَه. قام جدّي وكتب قصيدة وسجّل تاريخ كافور الأغبر، الأشرس، وقال هذا عصر الخصيان. و .. و .. و.. و .. . حبسوا [..] أما جدّي في عصر الإخشيد، إلى أن جاء المتنبي ورَبَتَ على كتفه وسمع أشعاره و» (ص.15).
2.2.2 تقويض الصّورة النمطيّة
إنّ الصورة النمطيّة التي سعى الكاتب إلى تكسيرها هي تلك التي قد تلوح ملامحُها مِن المعاني السطحية التي تقدّمها القراءة الأولى لهذه الأقصوصة. وهي تمثِّل تلك الصورة التي تراكم تراثُها معرفةً ظنيةً، فنتج عنها شبه مواطن مصري اعتنق المسيحية ثمّ الإسلام بعدما خرّب بيته الرومان، فصار بدون جذور إلا ما أضحى يعتزّ به من قشور الآثار الفرعونية.
إنّ هذه الصورة لا تليق بالشخصية المصرية في تفرّدها التاريخي وليست على مستوى الهوية التي ظلّ الكاتب (البالغ من عمره سبعين عاماً) يفكِّر فيها بصوتٍ عالٍ في العديد من مسرحياته. ثمّ إنّها أعمق ممّا هو شائع لدى عامّة النّاس مِن أمثال هذه الأوهام التي تعود إلى المتخيَّل الثقافي والاجتماعي. مع العلم أنّ هذا الأخير عادةً ما يخلِّف ممارسات ذات تركيبة حاول الكاتب أن يحلِّلها ثم يبني على نقد تبعاتها صورة أصدق للمصري الحقيقي، معتمداً السرد القصصي أسلوباً للحياة الجديدة التي ما انفكّ ينسجها - أو يتلقّاها - متطابِقةً مع الشخصيات التي تلعب أدوارها الآن في قصّته. ذلك أنّ القصص منتجات جماعية أو تعاونية لا تحدث في ظلّ ظروف اجتماعية معيّنة فحسب، لكنّها أفعال اجتماعية أيضا( ). ويمكن تفسير الرغبة في تعزيز قيام هذه الهوية المتعاقبة، بمواجهة تلك الصورة الرديئة، ومن أجل ترميمها وحذف ما تبقّى من شوائب رهان استذكار أيام العزّة، والهروب من أسر القوالب. فينتصر الإنسان الصانع على الإنسان الساحر انتصار الإنسان الدنيوي على الإنسان الديني.
وعلى الرغم من الصعوبات التي تحول دون تحقيق هذا الأمل، فإنّ القاص يستغلّ حرية إبداء الرأي ولو بالقص جاعِلاً من طموحه في أن يسترجع المواطن المصري كرامته فكرته الأساسية التي جنّد لها مقولات تتمحور حول الهوية والاختلاف، متّخِذاً من هذا الأخير سبيلاً إلى الاعتراف، حيث تصبح الثقافة القديمة المفككة ثقافة أعيدت صياغتها وأعيد تشكيلها من خلال السرد المكتوب، وثقافة فكّت نفسها من أسر ضغوط القيم السائدة المهيمنة( ).
وفي هذا الصدد « تشير أقدم الكتابات الفلسفية حول الذّات إلى قدرة هذه الذّات على التحوّل، فهي لا تستكين ولا تثبت. وإذا كانت الهوية قد تنوّعت عند بول ريكور بين الهوية الذاتية والهوية الشخصية، فإنّها تظلّ مبنية على فاعليّتيْ التخييل والتذكّر، لتتشكّل أسبقية السمة الزمنية بامتياز للشيء المتذكَّر »( ).
فالحمولات الرمزية تمثل ثقافة سائدة متجذِّرة في الأوساط الاجتماعية وتورَّث جيلاً عن جيل، يصعب استئصالُها عن آخرها مهما تعدّدت الثورات التي تكون قد قامت لمناهضتها. بل أحياناً يحدث أن يصبح حفيدٌ من أحفاد العبيد الذين تعرّض للإهانة في الماضي جلاّداً يحاكي طغاة الماضي فيسلِّط سوطَه على غيره من إخوانه وأعدائه ويتعجرف في إخضاعه لسلطة لا حدود لها ولا تحتمل.
من هنا يمكن القول إنّ مثل هذه اللغة قد مكّنت الكاتب من تمرير بعض المضمرات " اللغوية " في الأساس بوساطة أسلوبه أي تدخّله بهذه اللغة وفي هذه اللغة بالذّات. إنّ اللباس يمثّل سمة بارزة يمكن الحكم من خلالها على الانتساب الذي يندمج فيه أيّ شخص ذلك أنّ الثقافة تعكس جميع الأنشطة والاهتمامات التي تزاولها أي فئة اجتماعية »( ).
2.2.2 الهوية ونبذ السؤال الإنكاري
يعدّ السؤال مفتاح الاختلاف. لكن يبدو أن السؤال الذي يلحّ على الكاتب في نصه - وربّما في سيرته الذاتية - هو السؤال الإنكاري الذي يهدف إلى تقديمه على أنه " نكرة " أي يُنظَر إليه على أنه من دون أصل ولا فصل. كما أنّ السؤال يشكّل في محيطه أولى خطوات الاستفزاز الذي يتعرّض إليه المصري في غالب الأحيان. وهو تصرّف يحسن الوقوف عنده لمحاولة تسخيره، ذلك أنّ أوّل احتكاك للإنسان مع سؤال الهوية يبدأ عندما يحاوِل الإجابة عن سؤال التعريف البسيط: مَن أنت ؟ « وعادةً ما تتضمّن الإجابة تصور الإنسان عن نفسه والطريقة التي يعرِّف بها ذاته »( ).
إذن جاءه النّذير الأول ينبِّهه إلى هويته التي وقعت في خطر وفي حاجة إلى الإنقاذ، من قبل شرطي. ويكمن اختيار الشرطي في سلطته التي يستمدّ منها القوّة في الوقت الذي يكسبه الكاتب رمزية كالقطرة التي أفاضت الكأس ينتهزها فرصة لملامسة آثار الهزيمة التي يستشرفها إذا قصّر في حقّ هويته، بفضل نضال فكري ينهض به في نوعٍ من " تجربة روحية " كما تسميها آنا ماري شيمل ( ).
يوجد مظهران أساسيان لهوية شخص ما: أولهما اسمه الذي يميّزه عن غيره من الناس، وثانيهما ذاك الشيء غير الملموس والأكثر تعقيداً وعمقاً الذي يشكّل، في الحقيقة ماهية المرء، والذي لا نملك كلمة دقيقة نصفه( ). وفي هذا الصدد، فإنّ بول ريكور يرى أنّ الإطار العام الذي يضعه الفرد لإجاباته على الأسئلة هو الذي يحدّد ذاته( ).
« قلت له: أنا لا أعرف مَن أنا. لكني أسأل جدك الأول الذي جاء من شبه الجزيرة العربية مع عمرو بن العاص ليفتح مصر وينشر الإسلام، ودخلنا الإسلام، وصرنا مسلمين وموحدين بالله، أنا فرعون ملك البلاد التي جار عليها الزمان وحكمها العبيد والخصيان بعد موت الفرعون (الأول) غرقاً في البحر، وتركه سيدنا موسى عليه السلام وبعد أن دخل الرومان ». ص.16.
فهذا الشرطي الذي أخذ يشرِّع عليه ما يجب فعله وما ينبغي تركه، لا يفعل ذلك أداء لواجبه المدني، ولكن من منطلق رفض الآخر الذي يضمن له القدرة على أن يمتح لنفسه وزناً يفوق ما تضفيه عليه وظيفته، وهذا في الوقت الذي كان عليه أن يستجيب لواجب إعمال مبدأ قبول الآخر ويحرص على احترام المجتمع له بحرفية مطلقة كمَعلم من معالم المدنية( ). غير أن القاص كمن يجترّ ويلات الاحتقار الذي عاناه أجداده يصف ما ينفثه لسان الشرطي من السباب، وعلى الرغم من الجو المتوتِّر السائد فقد أبى إلاّ أن يضفي عليه صبغة الجدل. وهنا نذكر الهدف الأسمى الذي حدّده أفلاطون للجدل وهو صنع الاختلاف. إلاّ أنّ هذا الاختلاف ليس بين الشيء والمظاهر الخدّاعة، وبين النّموذج والنُّسخ. الشيء هو المظهر الخدّاع عينه، والمظهر الخدّاع هو الشكل الأعلى، والصعب بالنسبة إلى كلّ شيء، هو بلوغ مظهره الخداع الخاص به»( ).
3 تفكيك الهوية المتراكمة
إنّ التفكيك هو في المحصلة، تفكيك طرق التفكير وآلياته وفحص أدوات المعرفة وأسسها( ). ومن هنا ضرورة نقد بنية الوعي ومكونات العقل ونظام الفكر الذي تبناه المؤلف ودافع عنه. "والسيد حافظ معروف عنه أنه يملك قدرة فائقة عوّدنا عليها في مسرحه - على الاستمرار في الحوار الحرّ مع القضايا التي تشغل كاهل الإنسان المعاصِر والتي تنحصِر إلى حدٍّ ما في الحرية والوعي والعدل والمساواة والديمقراطية وهذه كما قلت قضايا جذرية لا يستطيع الإنسان أن يتخلّى عنها"( ).
1.3 نفوذ " الأنا " والتسمية
لقد تبنى السيد ضمير (أنا). ومثّل تراثه بهذا الضمير - وهو الموقف الذي يفسره حسن حنفي على أنه طبيعي جدّاً( ). ويحقّ له أن يتساءل: من الآخر ؟ - إذا كان هناك آخر - هل هو الآخر النّوعي ؟ أم الآخر الديني ؟ أم الآخر الإثني؟( ). لذا فالقاصّ يأبى إلاّ أن يسرد نكتاً وطرائف مستمدّة من حياة الكاتب نفسه.
من هنا، فقد كانت النكتة أو الطريفة الأولى في هذه القصّة تتعلّق بأسباب التسمية، تسمية الكاتب ب السيد الذي يُخبرنا أنّه اسمٌ أطلقه عليه أبوه المتسلِّط برأيه وعنفوانه في صيغة أمرٍ قاطِع: « سموه " السيد " تيمّناً بالشيخ " السيد البدوي "» (ص.15)، إحياءً للتّقليد ووصلاً للرّحم، و« حتى يكون صوفياً، شيخاً مهاباً، وقوراً، شامخاً، يأتي بالمعجزات، يسير فوق الماء، ويأمر السحاب، وينقذ العذارى في عيد وفاء النيل، يأمر النيل أن يجري فيجري، وأن ينهض فينهض، فيصبح نافورة» (ص15).
ومع هذه السّلسلة من البطولات الوهميّة، وفي منتهى هذا السيل الخرافي الجارف، يستفيق الكاتب من غفوته واللحظات السحرية الغابرة، وينصرف بغتةً إلى قطع الصّلة بالحاضِر والماضي القريب، متوغِّلاً في التاريخ المصري القديم حيث يكمن تحدّي الإحياء من أجل التوسّل به والتوسّط في سبيل التأسيس للوعي الجماعي. فيستدعي رمزية جدّه البعيد، جدّه الأوّل " فرعون " صاحب النّبل والعزّة والفحولة والعظمة. وذلك على الرغم من أنّه صدّر كلامه برأي أمه التي كانت ترغب في اسم " محمد " لأنّ « خير الأسماء ما حمّد » (ص.14). وهو الرّأي الذي عبَر عليه كعابر سبيل مع ما يحمله من دلالات عديدة، وفي المقابل اختصر في تفسيره لانتصار أبيه: « كان أبي قويّ الشخصية؛ لذا كان اختياره هو الأمثل، " السيد "» (ص.15)؛ ثم يلاحظ ويجادل بضرورة تكريس خُلُق صلة الرحم حتى في هذه الحالة الحصرية التي تستدعي طيّ الزمان وحلقاته، فيمجّد ويشيد بفضائل الفراعنة وإنجازاتهم بدون استثناء واحد منهم ضارباً عرض الحائط بزيف أوهام الأب ومتندِّراً بحرص الأم على الامتثال لعادة وقدوة وأسوة، مع حسن ظنه بهما، يذكِّر الجميع بما صار طيّ النسيان:
« جدّي الأوّل كان أحد ملوك الفراعنة العِظام يحكم مصر شمالها وجنوبها وشرقها وغربها ويبني المعابد والأهرامات (ص.15)؛ ثم يعمِّق في موضع آخر رمزيّة فرعون حيث تنشأ إحدى الثنائيات المشدِّدة على حركية التاريخ، بمقابلة أمجاد مصر القديمة بخزي صفحاتها التاريخية التي نقشتها أيادي المماليك التي شوّهت سمعة الذات المصرية: « ملك مصر العظيم أول الملوك ولست من هؤلاء المصريين من أصل المماليك » (ص.16).
ولكنه سرعان ما يرجع إلى نسق الأدب العجائبي والغرائبي يستوحي منه أحد رموز الثقافة الإسلامية الممتدّة في مصراعها المتسامِح والمتحضِّر إلى ثقافة الفرس والهند ..الخ. وهو يعي قوّة قصص ألف ليلة وليلة في المخيال العربي. « وفي غفلة من الزمان وقبل أن يظهر السندباد خرج جدي الفرعون بعض الزعران والمرتزقة والأعداء، فاغتصبوا البلاد والنساء، وقتلوا الأطفال والشيوخ واستباحوا كلّ شيء، وهنا أدركت شهر زاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح بعد أن أذن الديك وفجر الخيانة لاح ».
وكذلك تنطلق مِن هنا جولة التّرميز والتّشفير في مدار العقائد المولِّدة للبراءة والسذاجة في آنٍ، متمثِّلةً في حوارٍ بسيطٍ دائرٍ بين الأمّ والأب وصَل بين طرفين متصارعين متعايِشيْن: مصر القديمة ومصر الإسلامية بمختلف اتجاهاتها (هنا الجدّ والأب والأم)؛ دون أن يغفل الكاتب عن التركيز على إظهار الوعي الدّفين في الإنسان المصري مهما بدا تقليديّاً وساذِجاً وتجلّى الآخر في صورة متحضِّر ومتمدِّن ومتعلِّم.
وتنطلِق أيضا عبر هذه الطريفة شرارة المفارقات التي يتعقّبها الكاتب واحدة تلو أخرى، على غرار تمسّك الأب بالعِرق الأصيل في مقابِل انحناء الأمّ الخاضِعة لتقاليد الوعي العمومي دون أن ينتقص من فضلها، أمام القدرة الاستقطابية والساحرة للديانة الوافدة، ونعني الإسلام الكاسح الراسخ بما عرفه المجتمع المصري من أوضاع التدهور السياسي والثقافي والاجتماعي في عصر المماليك المشار إليه أعلاه. فالأب في مصيره الجديد بينما يعاني التهميش يتعرّف فجأةً أنّه ينتسب إلى حضارة عريقة حرِّم من فضائلها، في حين تستسلم الأم لإغراء العواطف التي تشدّها حنيناً إلى ماضي الدين الحنيف.
يشتقّ اسمه من هذا الموروث المتوارى، ويرفض أن يلتصق بذاته وصف " المواطن ". يورِد على لسان الضمير المتكلِّم استنكاراً شديد اللّهجة وهو يخاطب فتاة اسمها - هذه المرة - (جميلة) يقول فيه: « الكلّ يا جميلة اتّفق على أن أكون اسمي " مواطن " مواطن عادي.. قلت لها خذيه. أنا ملك فرعوني وأنت أميرة عربية. أنا فرعون عربي. أصبحت عربيا » (ص.17).
هذه الشهادة تنمّ عن الحلم المكين في نفسيّته والمتمثِّل في استعادة أمجاد مصر القديمة، ولكن مِن دون التضحية بمكتسباتٍ غنَمها بنو جلدته عن الفتح الإسلامي. فصيرورته العربية لا يمكن له أن يُنكِرها، والطريف في الأمر أنّه يعلِّلها بل يسلّي النفس معتمداً صورة المرأة التي رضي بمقامها لأنها امرأة أولاً وقبل كلّ شيء فسمّاها (جميلة) من باب الاستعطاف وتعزيزاً لفكرة التأثر الذي لا يقوى أمامه لا متمنِّع ولا متجلِّد.
لم يكن الكاتب يهدف إلى تحطيم صورة الإسلام بقدر ما كان يسعى إلى الكشف عن هشاشتها في عين أولئك الذين يتحمّسون لها. يقرأ في أفعالهم تجاهها تناقضات سافرة. ويحرص على تبيانها عن طريق الرمز الذي مكّنه من أن يعرض ولا يفرض رأياً، ويحفظ للقارئ حريّته - كما قال تزفيتان تودوروف( ). ويمضي في استنطاقٍ لفئة معيّنة من الرّموز التراثية المصرية القديمة أي تلك الدالّة على التراث. وذلك لتشكيل وحدة الفهم - كما يسميها شوقي الزين - عن طريق « ربط الراهنية الحيوية التي تحياها الذات المؤولة مع الرسالة التي يحملها موضوع التراث »( ).
ويمكن أن نبسط أبعاد الأسئلة المتعددة في هذه القصة إلى أن تأخذ شكل تأملات فلسفية، ونطمح جراءها في أن تتحوّل بؤرة الموضوعات المرتكزة على التشابه الذي أشاعته الإيديولوجية العربية، إلى الموضوعات المتعلِّقة بالاختلاف، ليس بوصفه موضة فاتنة. ولاسيما أنّ الفلسفة "لم تشتهِر بشيءٍ اشتهارها بممارسة السّؤال، ولم يُطبق المشتغِلون بها على شيءٍ إطباقهم على هذا الوصف"( ). وقد عرَّف أرسطو الفلسفة - يواصل صاحب هذا المقتبَس - بكونها « عبارة عن أسئلة الأصلُ فيها دهشة الإنسان مِن الظّواهِر التي تحيط به »( ).
وكذلك إذا أمعنّا في البحث عن الذات في هذه اللهجة المستفسِرة، نجدها شفافة تعتمد البناء للمعلوم، ولكن ذلك صدى لسؤال عن مجهول الهوية، الشعور بأنّه منبوذ. لعلّ الكاتب أراد إنشاء شكل جديد من الكتابة القصصية، حيث يقلّ السرد كما يقلّ الوصف ولا يكثر من التدخل المباشر، ولكن لا يعدم الانتقال من أسلوب كتابة إلى آخر، بل من حكاية إلى أخرى، ومن نقشٍ إلى آخر على غرار نسخ « ألفريد فرج ». كما يظهر هاجس الهوية في تعاطيه للعامية المصرية خاصة. ومع أنّ اللغة « ليست العامل الوحيد في تحديد هويات الأفراد والجماعات والمجتمعات. فالدين واللون والعرق هي أيضاً عوامل محدّدة للهويات، ولكن للّغة المشتركة دوراً حاسماً في خلق هوية جماعية في مجتمع ينتمي أفراده وفئاته إلى ديانات وأعراق وألوان مختلفة»( ).
2.3 هاجس العودة إلى الأصل والبحث عن الذات
لعلّ ما يدفع الكاتب إلى إظهار إعجابه بفرعون الذي أصبح في تاريخ البشرية وفي الذاكرة الدينية رمزاً للطغيان وشعار الجبروت وعنوان العمى، يكمن - من جهة - في حقيقة سلوك الآخر الذي يستغل هندامه كشرطي ويكتسب هيبته من رصيده الثقافي الذي تشهد في أيامنا تصاعداً لا مثيل له، ومع ذلك يشرح الكاتب سلبياته ويفسر أسبابه؛ وكذلك يتجسّد - من جهة ثانية - في هاجس العودة إلى الأصل والبحث عن الذات في حالتها الأولى. وهو هاجس فلسفي، يمكن العودة بأصوله الأولى إلى فلسفة أفلاطون المثالية( ). وبفضل هذا السؤال تصبح الثقافة القديمة المفككة ثقافة أعيدت صياغتها وأعيد تشكيلها من خلال السرد المكتوب، وثقافة فكّت نفسها من أسر ضغوط القيم السائدة المهيمنة( ).
غير أنّ المكوث في دائرة البحث عن الذات محفوف بمخاطر التقوقع والتحيّز. ومِن تلك المفاهيم التي يدلّ عليها الاختلاف "مفهوما " التحيُّز والتّأصيل " اللّذان عمل عليهما عددٌ لا بأسَ به مِن الباحِثين سواء العرب أو غير العرب، كلّ مِن زاوِيّته الشّخصية ومهاده الثّقافي بطبيعة الحال"( ). وهذا كما حدث للنهضة العربية الإسلامية التي تصدّت للاستعمار متّخِذةً مِن بناء هويّة أصيلة هدفاً أوليّاً( ).وكذلك عزّز عند المسيحيين اللبنانيين الانتماء إلى النسب الفينيقي( ).
ولكون الكاتب لم ييأس مِن الثقافة المصرية الأصيلة والحكيمة، فهو يوحي بقلمه إلى ما من شأنه أن يكفل إحياء تراثها المديد إلى غاية فرعون. ومع ما تحمله هذه النزعة من علامات العصبيّة القبلية والنعرة الشعوبيّة التي نعرف أنّ الإسلام قد حاربها فهو لا ينفكّ يفضح بكلّ وعيٍ الممارسات النقيضة لهذه الحقيقة من قبل الذين يدّعون الإسلام. بل يركب موجة التاريخ لتعميق هذه الفكرة المركَّبة حيث أخذ يستلّ منه مشاهد لشخصيات أساءت إلى الإسلام وانتقصت من قيمته من حيث تزعم التبشير به والانتصار له والدعوة إليه.
وهي مشاهد تبرِز مرارة التسفيه بالذهنية العربية التي أخلّت بقيم دينٍ يقرّ بحقيقة الاختلاف بشكلٍ لا يخلو من التميّز والوجاهة. بل سبق لهذا الإسلام أن سنّ أخلاقيات الاختلاف خصوصاً في باب اختلاف الرأي حيث ضبط فقهه وصنّف في باب البحث والمناظرة مصنّفات جرت مجرى الأمثال عالميّاً، بل صكّ أدبيات " الخلاف " من باب اتّقاء أسوء الأشرار المتربِّصة بالأمّة( ). غير أن هذا الضبط سرعان ما اعتراه جمود في تاريخه اللاحق حتى أضحى الإسلام في قفص الاتّهام المشير إلى كونه عاملاً للتخلّف، فصار لزاماً على كلِّ فيلسوف وكاتب ومفكِّرٍ أن يدافع عنه إنصافاً حتى ولو لم يعتنقه ديناً بل كثيراً ما شاهدنا مفكِّرين يعتزّن بالانتساب إليه وينضون تحت لوائه ويستمدون منه ملامح الهوية التي تشكِّل اختلافاً عن باقي الحضارات والديانات، في الوقت الذي يتحد ويتوحّد بعض الآخر مع تيار الأغلبية الساحقة ويتبجّحون بالعولمة( ).
« قال عبد الغفار عودة. يا سيد أنت مجنون تريد حقوق المؤلّف المسرحي في مصر، كان غيرك أشطر. هذا البلد يحكمه العشوائية. كافِح وأنا معك. كافحت كافحت.. مات عبد الغفار عودة نتيجة عملية جراحية خاطئة.. وأنا أكافح من أجل حقوق المؤلف. حقوق الإنسان » (ص.18).
مِن الواضح أن كلمة (سيد) هنا لم ترد صدفةً على أنها منادى يتّسِق به الكلام وتتّضِح العبارة، وإنما توريةً وإيحاء بأواصر القرابة بينه وبين الأحداث التي يراد من القارئ أن يستأنِس بها في ضوء سيرته الذاتية - كما أشرنا. أما الرداءة التي لا يعلّق عليها كثيراً مكتفيا في سبيل الإيعاز بها بإيراد حادث وفاة صديقه ووصيّه المسمّى " عبد الغفار عودة "، على إثر العمليّة الجراحية الخاطئة، فهي أقرب ما تكون إلى الفلسفة العبثية التي أرسى دعائمها كلٌّ من ألبير كامو (Albert Camus) وجان بول سارتر (Jean Paul Sartre) متفاوِتيْن مِن حيث الشّكل والمضمون والدّرجة، بيد أنّ التكريس الأدبي الذي عرفته في ضوء رواية كامو " الغريب " (L'étranger) أقوى وأمكَن.
وعلى هذا النّمط يواصِل استدراج القارئ وهو يحمِّل عباراته تصورات ويشحِّنها تذمّره، بل يفكِّك التصورات اللّصيقة بالعبارات. وليست العبارات سوى شعارات لأفكار تشرّبها المجتمع فهي شفافة ومائعة( ). وهذا على خلاف ما اعتادت بعض أطراف النّخبة من الميل كثيراً إلى الانغلاق على نفسها وهي تعمل في ضوء ثنائيات محدودة الآفاق كما يتّهمها الباحِث الاجتماعي الجزائري أحمد زايد( )، وهو يدعو إلى تخطّي المقولات القديمة.
4 رمزية المفارقات ودلالاتها على الهوية والاختلاف
1.4 صورة الآخر وظلالها الطقوسية
إنّ صورة الآخر وظلالها متمكِّنة في هذا النص، تحلِّق في أجواء أرض الكنانة مصر أُمّ الدنيا. وقد اتّخذ الكاتب من رسمها خطاباً أدرج فيه عدّة مفارقات نذكر منها: الإسلام الذي نزل طارئاً على المجتمع المصري ثمّ أخذ يتبوّأ مكانة معتبَرة بل تَزحزَحت مكانة المسيحية نتيجة اكتساح المدّ الإسلامي الجارف. وركّز الكاتب في تصويره لهذا المشهد المفارِق على إبداء قسوة المشهد والموقف كما يمكن أن يستوعِبها كلُّ مَن عايَش أجواء صراع الديانتيْن، وانصرف عن مغالطات تعايشهما الظاهر. ومع ذلك فقد أمعن القاصّ في تكذيب من يشكّ في فكرة أنّ التعايُش بين الإسلام والمسيحية يشكِّل جزءاً من الإرث العربي ذاته( )، وكانت مناجاته مشحونة برمزية هذا التفنيد متّخذا من كلمات النبي محمد نهجاً ومعياراً صكّ عليه طقوسه:
« في المسجد [...] دخلت. جلست. توضأت. وقفت أمام القبلة. نظرت إلى السماء وقلت يا الله، هب لي من لدنك القدرة. لمن أشكو، أشكو إليك أنت، أشكو إليك ضعف قوتي وقلّة حيلتي وهواني على الوطن، وبكيت » (ص.21).
وهو يتناص مع أحاديث نبي الإسلام لم يكن في صدد اتّخاذ موقف الدّفاع عن المنظومة الإسلامية في مقابل المنظومة الكنائسية. ولم يتّخذ من إحداهما مرجعاً له، رغم ما يسرده من أنّه: « ظهر المسيح عليه السلام ودخلنا المسيحية، وآمنا برسالته، وسكنا في كهف يجاور كهف السيد المسيح، وعشنا نور الإيمان » (ص.16). كذلك فإنّ استخدام هذه العبارات النمطية التي كرّسها المعجم الإسلامي " هب لي من لدنك ". يكرر ما كرره دولوز في رفضه للأشكال التقليدية الموجودة مسبقا للذات والموضوع، للوعي والعالم( ).
ولكن طالما ظلّ البشر عاجزين عن فهم الرّموز الدينية التي ابتدعوها، فإنّهم سيظلّون أسرى لقوى التاريخ التي لا يستطيعون التحكّم فيها( ). ذلك أنّ الظاهرة الدينية متجذِّرة في الإنسان لا محيص منها، مرتبطة ببحث الإنسان عن معنى لهذا الوجود، فيبني تصوّره الاعتقادي، ثم يعمِّم هذا التصوّر بدعوته إلى عقيدته، ثم ينشئ الطقوس الدينية للاتّصال بالعالم الغيبي، وبهذا يتشكّل الدين الجماعي، وكلّ هذا من إنشاء الإنسان، ولا علاقة للحقيقة بذلك، وهي فكرة تؤمن بتغيُّر " الإله " عبر التاريخ، معتمِدةً في ذلك على نسبية الحقيقة( ).
مِن هنا نُلفي الكاتب يستعين كثيرا بالتراث الإسلامي الذي نلاحظ مدى اطّلاعه عليه عن كثب، ثم إنّ أي كتابة لا تخلو مِن القيمة المتفرِّدة التي تجعل منها في مختلف الثقافات والحضارات البشرية سجلاًّ من المعارف وشاهِداً على التحوّل من الطبيعة نحو الثقافة( ). لذلك وبالموازاة يبذل من الفينة وأخرى محاولاتٍ ترمي إصلاح تلك الصورة الرّديئة، ولكي يحطِّم أصنام الشخصية المصرية القائمة على مقومات العروبية والإسلاموية المزيّفة، يستحضِر رمزيّة (كافور الإخشيدي) الذي يصوّره على أنّه شخصٌ أرعن لا خير فيه ولا رأي ولا حكمة، كما فعل المتنبي الذي لا يقرّ لطينة العبيد بأيّ فضلٍ، فهجاه حيث يظن أنه يمدحه، وامتدح أبا فراس الحمداني بأفضل ما عنده. هذا ما يعنيه الكاتب بقوله:
« [..] أما جدّي في عصر الإخشيد، إلى أن جاء المتنبي ورَبَتَ على كتفه وسمع أشعاره وأثنى عليه وأعطاه بعضاً من المال من التي حصل عليها من كافور والتي حصل عليها كافور من بيت المال والتي سرقها هو ومحمد بن طغج الإخشيد من المصريين » (ص.15).
ويبدو أنّ ما يتعرّض له الدين في هذا النص في استحضاره الرمزي ليس مجرّد إسقاط لردود فعل رتيبة شائعة في أيامنا، بقدر ما هو نقد اتّخذ ثلاثة أبعاد( ): بعد ضدّ الظلامية التي خلّفتها كثرة الروايات والنقل المبطِل للعقل المتعلِّق بالقيل والقال: « قالوا إن جدي الفرعون قتله الرومان قبل ظهور سيدنا المسيح عليه السلام، وقالوا إن جدي الفرعون هو الذي طارد سيدنا موسى ومعه ألف واثني عشر فارسا وكبار الأعيان وأغلق النهر عليهم جميعا وماتوا » (ص.16). وهذا البعد لم يكن بدعاً في أيٍّ من الأعمال الإبداعية، بل عرفه التاريخ. وبعد معرفي موجّه ضدّ الأفكار السائدة: « دخل الرومان وقالوا فراعنة أوثان وسحرة ومشعوذين وفي المعابد أسرار. هدموا المعابد ومسحوا الآثار، ودفنوا جدي لم نعرف أين جثته حتى الآن » (ص.16). وبعد معرفي ضدّ المؤسسات السياسية الدينية متمثِّلاً في شخص عمرو بن العاص الذي أساء إلى الإسلام الذي خوّل له سلطة ممارسة جوره على " الأهالي "، وهناك بعد آخر لم يهمله السيد حافظ وهو ضدّ فكرة استغلال الإله. « الآن. الآن، يا مصر لا فرعون ولا عبدة الأوثان، لا عبدة الجعران. لا عبدة الخنافس والطيور، اليوم عبادة الله » (ص.16). من هذا التصريح الذي لا يعبِّر عن الحقيقة كما هي في تلك البقعة التي يكثر ذكر لفظ الجلالة، يَعبُر نحو واقع مؤلم « قال [ فيه ] الشرطي البدوي على حدود البلاد العربية، في الجوازات .. [ بالعامية ] أنت منهو، أنت شنهو ؟ » (ص.16).
فعلى الرغم من اطلاع الكاتب على التاريخ ويقينه بأن فرعون كان قد تمادى في مواقفه، ولكن أنفته وعزّة النفس بأرومته مع ما يتصل بها من روابط التطرف، كل ذلك حرّضه على التزام موقف الباحث عن هوية ضاعت ولكنها قابلة الاسترجاع. وهو موقف مركَّب يستدعي التريث في اعتماده وقبل إصدار أي حكم جانبي على أيّ طرف؛ ذلك أنّ المعضلة التي يعالجها الكاتب هي أعمق مما يتصور، إذ لا يهمّه أن يحاكم الإسلام في شيء فأمثاله لا يسقطون في عَرَض ولا جوهر إنشاء علاقات عداء ضد الأديان، ولكن يراهن على كشف الغمّ عمّا يهدّد الكيان المصري من انفصام شخصيّته في أعقاب الغزوات والفتوحات التي عرفها تاريخه الثريّ بالأمجاد، إلى أن تعدّدت الهوية عند هذا المصري الراهن الذي أتيحت له سبل تنوّع شخصيته بناء على قناعات وإعجابه بالآخر وتأثّره بقيّمِه وحضارته، من دون أن يسلبه ذلك ضميرَه ومهما تكن المحاولات الطّارئة؛ بل شكّل ذلك عنده مزيداً من القناعة، وأكسبه ثقافة مضافة. وهو يراهن على التعددية الثقافية إلى أن ترد فجأة عبارة كهذه: « بعد أن أصبح العبيد والخصيان أحراراً ». ص.16. ما يدير الرأس نحو شيء انفلت عن عقال الواثق في اعتدال الكاتب، فيتيقّن أن نسبة تكرار كلمة (خصيان) في النصّ وتواتر استعمالها بكلِّ ما تحمله من معاني الشناعة، إلى حدٍّ حيث ترسّخ في ذاتنا أنّ القاصّ في حالة تذمّر على ما آلت إليه صورة الفرد المصري التي أشبِعت آيات التسخيف والاحتقار. إذ أضحى من الواضح أنّ وَضْعَ مثل هذه الصورة قد تردّى، لذلك فالكاتب لا يتردّد في إبداء مدى تفطّنه لضرورة تحاشيها والنفور منها. وهو - ومع ذلك - يعاني من أسف معايشة ظلالها بل يقاسي صراع مناهضة واقعها يوميّاً.
2.4 انصهار صورة المصري في تألق الخليج
ومع أنّ هذه الأقصوصة تشكل ميداناً للأفكار لا ميدان الشخصيات وأدوارها، فقد نالت بعض الأسماء حظوة من حيث ما يذكر لها من ألقاب وما يسند إليها من وظائف تنبئ بالحركية التي أخذت المجتمعات الخليجية تنمو في معتركها. فهذا شاعر، وذاك تاجر، وآخر سائق، وذاك رجل الشرطة، وهناك حتى نقيب الفنان ..الخ.
من هنا فإنّ الكاتب في نصّه لا يوظِّف الرمز كآلية لتكثيف الدلالة فحسب، بل كدعامة لطرح جملة من مفارقات تستهويه لعبتها. فهو لم يفسِّر لنا كثيراً ما لا يستسيغه في طريقة معاملة المصري في حاضرنا. لكنه لا تروقه الوضعية المصرية التي يزدريها تألّق الخليج وإماراته بل أميراته التي تستقطب أنظار العالم (العربي بخصوص) وتحجب عن مصر شمس العرفان بفضلها وزعامتها ودورها التاريخي. « قال الشاعر خالد سعود الزيد: من يكرهونك في الكويت هم دخلاء على الكويت. ليسوا من الأصلاء، هم دون جنسية أو مواطنين درجة ثانية في الجنسية » (ص.21).
هكذا، عن طريق جمَل ابتدائية متجدِّدة ينصرِف عن أحداثٍ، ليستأنِف أخرى كمن يستثير ما يؤرقه في آخر المطاف. ب « قالت الأميرة الخليجية: [..] » (ص.17) يباغت القاصُّ قارئه بوضعٍ جديدٍ لم يكن يألفه لا في نصّه ولا في واقع الأمر. إنّه يقفز السطور كثيراً - على هذا المنوال - متجاوزاً أحقاباً وحقباً، كمَن يقاطِع حديث مَن كان يحدّثه عن أجداده المختلفة من باب المسامرة وفي أجواء وصف المغامرات، من عصر الفراعنة إلى عصر الإخشيد الذي جحد فضلهم وتمادى في احتقارهم وسوء معاملة أحفادهم. ثم فجأة يستحضر مشهداً آخر يتناول فيه سوء العاقبة التي تتجلّى في وقوع صورة ملوك العزّة الذين جارت عليهم الأيام في قبضة الأوغاد الذين صارت إليهم الزعامة القطرية، ومع ذلك ففي الوقت الذي استحالت تلك الصورة وهماً في تمثيلات السواد الأعظم من الشعب المصري، فهو ثابت في موقفه لا يزال يؤمِن بانتسابه إلى الأوّلين ولا تغريه مغريات ومباهج الآخرين؛ فلا سبيل إلى مراهنته ومساومته ولا يسترزق من سقط هذا الخبز الهيِّنِ عملُه والمهِينِ ثمنُه والوخيمةِ عواقبُه .. ومن الواضح جدّاً أن الأحداث التي يرويها القاص في هذه " الأقصوصة الإعلانية "، هي من صميم السيرة الذاتية التي إذا بسطها كذلك ستقشعِّر الأبدان لشراتها. بيد أنّه لا يتسع المقام لاستحضار ما يؤكِّد هذه المواقف من الأمثلة التي لا تقلّ عدداً ونوعيّةً. فلنعد - إذن - إلى النص برمزيته وجمالياته.
إن انجلاء الضباب عن هذه المفارقة يحتاج إلى لغة صارمة نلاحظ على إثر الكلام المنسوج في نسقها الرافض للنزق الفلكلوري الشعبوي لمصر القديمة، ما يوحي - بل يصرِّح - بأنها لغة لا تساوَم هي الأخرى بقدر ما تَستطلِع الناطق بها وهو يصدح بضمير المتكلِّم الملتزِم مسترسلاً باقتضاب الأسئلة والمسائل القاسية:
« كيف ترفضُ أن تعمَلَ عند أميرةٍ خليجية. يا صعلوك يا حقير. قلت لها: أنا حفيد الفرعون مَلِك مصر العظيم أوّل الملوك ولست مِن هؤلاء المصريين من أصل المماليك. ضحكت، سبّتني، وأغلقت الهاتف » (ص.18).
والظّاهِر أنّ هذه الحادثة التي استغنى عن تصوير تفاصيلها، قد عايَشها - أو خمّن معايشتها -ـ تحت ضغوط الانشغالات اليومية التي يمكن افتراض تحديدها في إطار التفاوض الدائر بينه وبين طرف آخر تكمن رمزيته في كونه وكيل تجاري ممثل لدار نشر معيّنة. وذلك إشارة منه إلى الشّره الذي نال من الشخصية الخليجية إلى حدّ الطغيان والإسراف. وكذلك تستمدّ الحادثة جانباً كبيراً من الطرافة والإبداعية من رمزية الجنس الأنثوي الذي أكسب الدّلالات الناجمة - عادةً - عن المفارقات بعداً لا يقلّ أهميّة، وهو الرقي الذي ارتقت المرأة الخليجية سلّمَه. وهو رقي ينمّ عن البذخ الذي بلغته ولكن في غياب الحرية الاجتماعية المكينة. وتعتبَر الرّفاهية الباغتة إحدى السلبيات التي ترصّدها الكاتب في المجتمعات العربية المليئة بالتناقضات والمفارقات.
ولا يمكن أن نتجاوز كون الكاتب يتعمّد استخدام كلمة (الخليج) التي أخذت قيمة دلالية خاصّة شحِّنت إشارة منه إلى القطبية التي أخذت مصر تفتقدها وتخسرها لحساب ما سلكته الدول الخليجية البازغة والنامية، إذ بعدما كانت مصر التي شكلت في الماضي خلال ثلاثة قرون، قطبا جاذبا للعالم العربي قبل أن تبلها اتفاقيات كامب ديفيد ابتداء من الربع الأخير من القرن الماضي بقيود همّشت دورها وموقعها العربي المركزي.
وما يثير الانتباه في مواجهة الكاتب لوضعه المزري كمصريٍّ تراجعت شهرته وشوهت سمعته - وهو يساند كلّ مَن يقرّ بأنّ الرغبة في الهيمنة وإخضاع الآخرين حاجة ملحّة لدى فئة من الناس( ) - إنّما هو التشتت الذي يؤرقه ويهدد هويّته. لذا عمد إلى فحص أساليب التنشئة التي ينشأ في إطارها مشتّت الهوية - كما هي حاله - من أجل الإفادة في باب تفسير العلاقة المفترضة بين التشتت والاتجاهات التعصبية. ذلك أنّ مشتِّتي الهوية إذا كانوا في الأغلب أقل اعتباراً لذواتهم، فيبدو أنّ انخفاض اعتبار الذات متغير يمكن أن يهيِّئهم للتعصّب. « فانخفاض اعتبار الذات يعني أنّ الفرد أقلّ ثقة بنفسه وأقلّ تقبّلاً واحتراماً لها، والثقة بالنفس وتقبلها واحترامها شروط رئيسة لقبول الآخر وتكوين الاتجاهات الاجتماعية السوية »( ).
ودون الاستسلام للأحلام يصف القاص القمع الذي عانى منه ويعانيه جراء ما شربه من كأس الكراهية العنصرية التي جلبته هويته المصرية، في إصدار ردٍّ على حبيبته المستجوِبة بسؤاله:«[..] حبيبي مَن يكرهك؟ قلت: رجال الشرطة[..]»
3.4 صراع المصالح / صراع الأديان / صراع من أجل الوطن
في الوقت الذي يتصاعد صخب التطاحن باسم الأديان « قال ألفريد فرج في بغداد قبل أن توزع جائزة صدام حسين الأدبية: لن يعطوها لي؛ لأني مسيحي، المسيحي مضطهد » (ص.18). لهذا « سكر، ترنح، [قام القاصّ] بتوصيله إلى حجرته، وجلس ساعتين يتحدث معه [..] قال مجدي فرج [هو والقاص] في الأردن يتسكعون: أخي ألفريد فرج لا يعرف أسماء أولادي ولا يزورهم. [..] قال مجدي رزق: اليوم زواج أخي نظمي رزق من تريز دميان تيجي المنيسة. قلت أحب الكنيسة، كما أحب الجامع، وذهبت، حتى يهود مصر أحبهم [..] كنت في الثالثة عشر، أحب فتاة يهودية تعمل مدرسة في مدرسة الطائفة الإسرائيلية، كنت أعشق رؤيتها صباحاً وهي تدخل المدرسة، وظهراً وهي تخرج » (ص.18). ويبدو أن الحال استمرّ قليلاً إلى أن « جاء المماليك إلى مصر، ظلت أسرتي تعاني، تحول المماليك إلى سادتنا ونحن ملوك الفراعنة ظل حالنا أسوء من العبيد» (ص.19).
« لكن الأرجح أنّ جدّي الحقيقي هو الذي هجم عليه الرومان قبل ظهور المسيح عليه السلام [..] وظهر المسيح عليه السلام ودخلنا المسيحية .. وآمنا برسالته. وسكننا في كهف يجاور كهف السيد المسيح .. وعشنا نور الإيمان [..] الآن. الآن .. يا مصر لا فرعون ولا عبده الأوثان .. لا عبده الجعران. لا عبده الخنافس والطيور .. اليوم عبادة الله ».
فهذه الثنائية تعود مع مساءلة مثّلها الكاتب بضمير الأنا مع الشرطي الذي يستوضح عن هويته أو بالأحرى يطالبه ببطاقة تعريف، فيتوهّمه بل يتصوّره كمن يستخبره عن أصله - كما رأينا: « قال الشرطي البدوي على حدود البلاد العربية .. في الجوازات .. أنت منهو .. أنت شنهو .. قلت له أنا لا أعرف" » لا أعرف " استنكاري " ..
هذه ليست مجرّد رموز دينية قائمة يقدر ما هي منصَّبة في المخيال الشعبي؛ ومن ثم فهي إحالات صريحة إلى الخطابات الدينية الطاغية في أيامنا والتي تطفح بها شوارعنا قبل أن تحفل بها مشاعرنا، ويسترجعها استفزازاً وغروراً. غير أن حينما نمعن في مفهوم " المخيال " نلفي مصطلحه الذي هو حديث النشأة في الثقافة العربية يستجمع المعاني الآتية: الظنّ، والتهمة، الغيم الواعد بالمطر، الخليق، الخادع أو الموهم، هكذا فإنّ أهمّ المعاني الملتصقة بالعائلة اللغوية لمصطلح المخيال، مثل الظن والوهم والكذب .. تكون حاضرة بشكل أو بآخر أثناء استغلال الحركات الإسلاموية المعاصرة للمخيال الجماعي من أجل تحقيق أهدافها وطموحاتها( ).
لذا فإن تكرار عبارة (عليه السلام) من علامات التنكّر الذي قصده الكاتب أكثر مما توحي بمجرّد التسليم دُعاءً واحتفاءً وإطراءً وتقديراً. غير أنّه سرعان ما تعلو عبارته معاني الأسف على الماضي. وهو أسف يتسلل من تأكيدات من قبيل: " عشنا نور الإيمان "، حيث يسترسل الكاتب في وصف عظمة مصر في سلسلة من رموز تظهر كم يمجّ الكاتب صراع الأديان الساذج أو صراع المصالح " الضيِّقة " باسم الأديان. بيد أنّ القاصّ يستعين بالتراكم المعرفي الذي يحتفظ عليه الزمن بل يتطوّر ويتعمّق عبر أحقابه( ). لذلك وقبل اختتام الأقصوصة ببضعة أسطر، يلتقط الصورة الحافظة للصفة الأكثر قهراً لحالته، وهي إلحاق الشتيمة به كمصري وليس أكثر، بحيث يتذمّر بلهجة شديدة الأسف من أسوأ المعاملات التي أصبح المصري يتعرّض لها ويقع ضحيّتها وهو يتفرّج، لا يملك سوى لسانه للرد، حسبه كيلاً التنفيس عن النفس بإقرار الحقيقة: « شتمني السائق » (ص.22)، كمَن يشكو مِن نقيصة ألحقت به جوراً، مما يوحي بمعاناة قاسية، وهو ينزع شطرَ إقراره بردود فعله غير المشرِّفة بل غير المتكافئة مع مَن بادره بضغينة أعمق مِن مجرّد الشتم اللفظي: « شتمت الناشر. كنا نشتم بعضنا » (ص.22). لكي تصبح المهانة قصة الوطن التي نسج خيوط أحداثها قدَرٌ لم يكن يتوقّعه أحد من أبناء أرومته، منتهيا إلى نتيجة مؤدّاها: « هذه هي قصّة الوطن » (ص.22). وهو قدر زجّ بكلِّ واحد منهم في معاناته الخاصّة متفرِّقين لا يمكن جمع شملهم ما دامت الشعارات القديمة هي التي تسبّبت في ضياع الوطن نفسه. وهو لا يعتقِد في هذه الترهات، وإنما يبدي ما يفصح عن إمعان الخليجيين في احتقار المصريين بعد إذ انجذبوا نحو الأحادية وفقدوا إحساسهم بالاختلاف وانطفأت جذوة الحساسية " المصرية "؛ غير أنّه بإضاءة دهاليز الذّاكِرة وبوضع مسافة بينه وبين مغريات الخليج، يخرج بنتيجة تصف شموخ المصري في هذه العبارة « أنا والوطن، أنا الوطن، الوطن أنا » (ص.22)، في ضربٍ من الإجابة على سؤال حائر يوضح المجهول وتزكيةً لمقولة كاتب القصّة القصيرة والناقد إدغار ألان بو (Edgar Alain Po) أن القاصّ يكتب وعينه على الجملة الأخيرة( ). وهو يلفي عزاءه في الحنين إلى المغرب والمشرق معا: « تزوج جدي من امرأة مغربية وأخته تزوجت شاميا » (ص.19).
?
خاتمة
إنّ هذه الجولة تؤكد ما يراه دارس السيد حافظ الفذّ من أنه « كاتب مشاكس ومشاغب، يعيش فكره في كتابته الغريبة والمدهشة، وهو لا يكتب إلا حياته، وليست حياته ـ في حقيقتها ـ إلا اختزالا لحياة الإنسان في عموميتها، وشموليتها وكليتها، وفي ثوابتها ومتغيراتها، وفي جوهرها الصلب، وفي أعراضها المرنة والرخوة »( ). ومع الطابع الشخصي الذي يطغى على هذه الأقصوصة فإنّ ميلها إلى ملمح الغيبيات والأفكار المسبقة حيث البطل، مع أنه مستل من السيرة الذاتية - كما قلنا - هو بطل أسطوري وهمي خرافي( )، استحضر من أجل مقاومة فساد الآخر الذي طغى واستبدّ فحجب عن الأنظار هوية مصر الأصيلة. والحال تشتدّ حاجتنا إلى التمثيل بحالات ضمن فنّ أجود من مجرّد النزوع نحو مقومات الملاحم حيث السرد الخرافي يطغى بشكل جعل الخرافة تتكثّف كما كانت تشيع في القرون الوسطى وهي تدعِّم الفساد الذي عاث في الأرض. لعل طابع القصة القصيرة هو ما يجعل الملحمة رمزاً معبراً، ولكن تظل الرواية - تزكية لمعتبَر جورج لوكاش - الشكل الأدبي الأكثر دلالة (في أوربا) لدى المجتمع البرجوازي( )، وذلك نظراً لما عرفته من الوصف والتحليل والتشريح كآليات للدراسة الوصفية والنقدية للظواهر الاجتماعية. حتى ولو قرّبنا هذه الأقصوصة من أسلوب مالارمي المقتضب أو ما عرفته الرواية الجديدة مع ميشال بوتور وباتريك موديانو وفرانسواز ساغون، فهي تظلّ في حكم التعبير الرمزي الملهم لأفكار المتلقي أكثر مما تعكس واقعا قاراً يكون الكاتب قد تجوّل في رحابه بالعبارات القصيرة ذات المفعول القوي رغم ما يتحكّم فيها من مبدأ التقتير.
نبذة مختصرة
? الاســــم: نصـيرة
? اللّقــــب: عـلاك (زوجة مقران)
? تاريخ الازدياد: 19/09/1980 بـ تيزي ـ وزو
? الهاتف: 07.78.70.83.93
? العنوان الإلكتروني : alleklynda2@gmail.com
? أستاذة مساعِدة قسم (أ) المركز الجامعي ـ مرسلي عبد الله
? شهادة الباكالوريا (1): جـــوان 2000، ثانــويّة إيماش أعمار بني دولة، تيزي وزو
? شهادة الباكالوريا (2): جـــوان 2004، مديريّة التّربيّة لولاية تيزي وزو
? شهادة اللّيسانس في اللُّغة العربيّة وآدابها: 20 جويلية 2004، جامِعة مولود معمري، تيزي وزو؛ عنوانُ مذكِّرة التخرّج (الحكاية الشّعبيّة القبائليّة: دِراسة انتربولوجية، منطِقة بني دوالة أنموذجاً).
? التّسجيل في السّنة الأولى الجامِعيّة لِتحضير ليسانس في علم النفس: 2004 جامِعة مولود معمري، تيزي وزو
? النّجاح في مُسابقة الدّراسات لِما بعد التّدرُّج (الماجستير) في تخصّص دراسة نصوص إبداعيّة وتيارات أدبيّة: أكتوبر 2006، المدرسة العليا للأساتذة بوزريعة ـ الجزائر
? التّسجيل في موضوع مُذكِّرة لِنيل شهادة الماجستير: سبتمبر 2007، المدرسة العليا للأساتذة في الآداب والعلوم الإنسانيّة بوزريعة ـ الجزائر تحت إشراف الأستاذ الدكتور مصطفى درواش.
? الحصول على شهادةُ الماجستير في تخصُّص دراسة نصوص إبداعيّة وتيارات أدبيّة: 30 جوان 2009، المدرسة العليا للأساتذة بوزريعة ـ الجزائر.
? أستاذة مساعِدة جامعة يحيى فارس ـ المديّة.
0 التعليقات:
إرسال تعليق