(230 )
مقابـلة الشـهربقلم الناقد الكبير : شوقى بدر يوسف
مـع الأديـب السيد حافظ
لقاء حول سيمفونية الحب "مجموعة قصصية"
دراسة من كتاب
تمظهر التجديد في بنية السرد في القصة القصيرة
جمع وإعداد
د. نـجـاة صـادق الجشـعمى
مقابـلة الشـهر
بقلم الناقد الكبير : شوقى بدر يوسف
مـع الأديـب السيد حافظ
لقاء حول سيمفونية الحب "مجموعة قصصية"
لقد رفعت راية المقاومة لحظة طعن قلب أمتى بخنجر المعاناة من الفقر، من استعمار خسيس. وعندما رفعت أمتى رايات النصر، علقوا صوراً لكل من اختبئوا فى المخابئ. ولم أجد صورتى حتى ولو على باب حارة ضيقة.
جلسنا بين السطور حولنا نقط كثيرة وغابة من الحروف وعلامات الاستفهام واثنا عشر كوكباً مضيئاً يلمع فى صفحة بانوراما هذه المعزوفة الرائعة. أمسكنا بأطراف معاً، التقينا حول "سيمفونية الحب" وحركاتها الدؤوب وتطرق بنا الحديث ونحن على بعد آلاف الأميال نتكلم من خلال أقلامنا وأوراقنا ومن خلال هذه المجموعة القصصية، ونقول ما طاب لنا الحديث، نستشعر الأفكار، ونحسن الرؤى، نتعلم حروف الحياة، ونتعاطف ونتشاجر وبدأت حديثى :
سيمفونية الحب زاد على طريق التجريب مغلف بالرمزية:
بل هى زاد على طريق الحياة ورؤية مسلطة على أعماق متحركة تمثل الكثير والكثير شأنها شان أى قصة حديثة ظاهرها الموضوعية والمحايدة وباطنها عدم الإنحياز.
**عندما نشر جوجول قصته المشهورة المعطف قال عنه مواطنه دستويفسكى إن حل الكتاب الروس النزول من معطف جوجول. فمن أى معطف نزلت؟
- من معطف أخى محمد حافظ رجب.
** هل تعتبر ذلك دعوة إلى ظاهرة الأخوة والأدباء أمثال محمد ومحمود تيمور وعبيد وشحاته عبيد وإبراهيم وخليل اليازجى ونسيب وشكيب ارسلان ومصطفى وعلى عبد الرازق وعائلة برونتى الانجليزية والدوس وجوليان هكسلى وجول وادموند جونكور الفرنسيين؟
- إن علم الوراثة لمتسع لذلك وإن كنت قد أدخلت تعديلات كثيرة فى معطف أخى ليناسبنى ويناسب فكرى ومحتواى وأستطيع أن أقول إن محمد ومحمود تيمور قد نزلا من معطف والدهما المفكر أحمد تيمور وهو أمر طبيعى وعادى جداً كما أن العائلات الأدبية كانت متواجدة فى كثير من تراثنا القديم أمثال الشاعرين الأخوين أبى بكر محمد وأبى عثمان محمد اللذين اشتركا فى ديوان واحد نسب إليهما والذى أعجب به الشاعر الفيلسوف أبو العلاء المعرى حين قال: "لهما ديوان لا ينفرد فيه أحدهما بشئ دون الآخر، إلا فى أشياء قليلة، هذا متعذر فى ولد آدم، إذا كانت الجبلة على الخلاف وقلة الموافقة".
كذلك كلنا نذكر الأخوين الشاعرين الشريف الرضى والمرتضى فى العصر العباسى وشعراء المهاجر فوزى المعلوف وشفيق المعلوف والياس قنصل وزكى قنصل والأمثلة على ذلك كثيرة فى ساحة الأدب القديم والحديث. وأنا وإن كان عالمى الأثير جو المسرح. إلا أني أجد متنفساً متميزاً فى القصة. وهو عالم كثيف وعنيف وتعبيره ذو أثر ملموس فى تلك العلاقة القوية التى تنشأ بين المبدع والمتلقى شأنه شأن المسرح تماماً.
** التأثير بين الشكل والمضمون فى الأعمال الفنية والأدبية أمر معقد، بل هو بالغ التعقيد فى تفاعله وتأثيره وتشابكه. يظهر ذلك واضحاً أثناء الدراسات الأدبية والفنية خاصة إذا كانت هذه الدراسات تفجر طاقة جديدة مستحدثة فى الأشكال والأنماط الأدبية المتطور. فهل نستطيع أن نجد هذا التأثير فى مجموعة "سيمفونية الحب"؟
- لا شك أن الذى يستطيع الإجابة على هذا السؤال هو المجموعة نفسها، كما أستطيع أن أضيف أن الحياة الاجتماعية على مر العصور قد أسهمت فى ظهور أشكال ومضامين جديدة أخذت طريقها إلى الفنون والأدب ومضمونها الذى يناسب ذات العصر. وكان تأثير الشكل والمضمون نسبياً فى كل من هذه الثورات. أحياناً يطغى الشكل على المضمون وأحياناً العكس. وأحياناً يتوافقان، ولكل وجهة نظره التى لها وجاهتها وجديتها.
** الذى يتصدر للمجموعة.. هل يستطيع أن يقول أن السيد حافظ الكاتب المسرحى غير السيد حافظ الناقد غير السيد حافظ القاص، أم أن المجموعة تعتبر نتاج تفاعل كل هذه الفنون مجتمعة؟
- من يتصدى للمجموعة برؤية نقدية سليمة وثابتة يستطيع أن يتفحص منها كثيراً من التأثيرات الأدبية والذاتية والحياتية ويستطيع أن يسبر غور كل شئ خلال الأحداث المختبئة وراء السطور وتلك التى تطل من خلالها، سواء منها الرمز والتعبير والتشكيل والشاعرية وغيرها. وأنا لا أقول هذه المقولة من منطلق أننى مبدعها إنما أقولها من منطلق القاريء الذى عاود قراءتها بعد فترة طويلة من كتابتها.
- فى القصة الأولى قصة "الثمن" نجد أن الرمز ذو "رتم" عال حد كبير، والدال والمدلول هنا يرسمان ظلالاً قاتمة للزمن الذى مرت به سعاد 1918 وفترة الثلاثينيات و1947 من خلال "على السمنودى" ورجل السلطة والبحر القابع خلف قلعة قايتباى وعربة السجن، والشئ الذى وراء المخصوص فى قصة "الثمن" ينبع من الفكرة ولكنى أعتقد أن النسيج الواقعى الذى تتبدى منه هذه القصة غير ملائم لانعكاسات المضمون. ومن هنا نكاد نبعد قليلاً عن معطف محمد حافظ رجب إلى ضفاف جديدة شكلها السيد حافظ من خلال هذه القصة وغيرها من قصص المجموعة.
- وفى قصة "الموقف العادى" تطل علينا فى هذه المرة اللغة الشاعرية المتميزة لتنسج هذه العلاقة الرامزة بين الرجل والمرأة. وقد برزت هنا بطولة اللغة التى كثفت من خلال الشعر والألفاظ المموسقة ذلك الحدث الهلامى الذى جاء من خلال هذه التقسيمة الأرسطية الشكل المتنوعة فى التنقل من مجريات هذا الحدث "فى البدء، المنتصف، فى الختام، بعد الختام بقليل" والذى يتبدى فى كل جزئية وكذا يختلف ويتضاد فى مناطق كثيرة منه ولكنه فى النهاية يكون هذا النسيج التجريبى لشكل القصة ومحتواها ولا يزال الرمز يطغى على اسقاطات اللغة المنتقاه بعناية والمعبرة عن مضمون.
اسمح لى أن أتساءل أنا هذه المرة، ما الذى خرجت به من هذه القصة، وهل لازلت مصراً على إقحام أخى محمد حافظ.
- أعتقد أن هذه القصة بل المجموعة كلها عليها بصمات جيل الستينات بكل ما أتى به هذا الجيل من أدوات وأشكال ومضامين جديدة، ولا شك أن محمد حافظ رجب هو أحد فرسانه المتميزين وأحد الذين بصموا الجيل الذى أتى بعدهم بتقنيات فن القصة، فما بالك وهو شقيقك فأنا أعتقد أن التأثيرات فى معظم قصص المجموعة لاشك أنها آتية ومختزنة من معطيات هذا الجيل.
- أنا لا أنكر أن بعض قصص المجموعة فيها من آثار قراءاتى فى إبداع جيل أخى محمد حافظ رجب، ولكن المضمون الذاتى وما اعتصرته فى الأشكال المختلفة لمعظم قصص المجموعة ربما جعلنى فى محاولة لتجاوز معطيات هذا الجيل.
- ربما منهج صراع الأجيال هو الذى يقودك إلى هذا. كما قاد جيل محمد حافظ رجب الذى أطلق صيحته الشهيرة "نحن جيل بلا أساتذة" التى كانت تمرداً على جيل الرواد وجيل الوسط، وكما جعل الجيل الحالى يقول هو الآخر نحن جيل الطموحات التى لا تنتهى وربما لو تصدينا إلى قصة "سيمفونية الحب" لنبحث فى هذه المعزوفة عما تريد أن تعبر عنه المجموعة من خلال ذلك المنطلق فسوف نجد أننا أمام شكل جديد.. وهو إن لم يخرج عن الأشكال النمطية التى استحضرها جيل، إلا أننا سوف نجد أنفسنا أمام معالجة جديدة لا تختلف فى مضمونها عما سبق من قصص وإن اختلفت فى الشكل. ففى سيمفونية الحب يختبئ الحدث الأساسى وراء هذا (التكنيك) المستمد من الدلالات الذاتية والسياسة للتعبير عن اللحظة القصصية المعاشة :"حزين.. لو تدرين ما حدث اليوم فى الجامعة.. مجلات الحائظ تمزق ومقالاتى تثير ضجة والعميد يطلبنى للحضور.. ما الذى كتبه هذا المغفل لم أذهب للعميد.. جاءت قوات الشرطة تضربنا.. جرينا سقط بعضنا.. جريت أنا وأنا الآن معك حزين لم أعرف من قبض عليه وجرح". ويظهر (تكنيك) تيار الوعى خلال الحركة الثانية (عصام ومها والتوحيد) والحركة الثالثة (عصام وشادية واللحظة) ويختفى الزمن فى القصة ويستعيض عنه الكاتب بذلك الزمن النفسى الذى يعتصر الحدث والفعل داخل نفسية الشخصية المحورية. ويظهر العالم من وجهة نظر الكاتب ملقياً بتلك الظلال على الأشياء، ويظهر فى جميع الحالات الحدث الكبير من خلال لحظات الغرام التى تنتهى بها كل حركة من الحركات التى قسمت إليها القصة وهو تعبير عن الحب الكبير للوطن والحنين إليه بكل الشوق الملتهب وهو ما ظهر بنية القصة ومعمارها وتلك الإسقاطات الموحية والمعبرة عما يدور داخل الراوى وخارجه.
فلننتقل إلى قصة "حروف من يوميات مهدى أفندى"
- فى هذه القصة تتحرك مستويات الحدث عند البحث عن ذات هذه الحروف والمكونة من الألف واللام والدال والميم، هذه المادة النفيسة التى تجرى فى عرقونا والتى تزرع الخوف فى قلب مهدى أفندى هذا الموظف المطحون الذى يحاول إرضاء رئيسه بانتقاء ربطة العنق التى تعجبه والتى يأمر بها دائماً. وحين يتحول الماء إلى دم تتحول الحياة إلى شئ مخيف مرعب، كابوس فظيع يجثم على النفوس. أما إذا تحول الدم إلى ماء فقد انقطعت الصلة التى تربط المرء بحياته وبأسرته وبمجتمعه وبواقعه. وهذه التحولات هى محور القصة وبعدها الثالث ولحظة التنوير الرئيسية التى تطل علينا من وراء السطور مكونة الحدث الكامن وراء الرمز والذى يستمد قيمته من خلال هذا الجدل المتحرك لأبعاد القصة والمختبئ وراء سطورها. كذلك نجد تلك اللحظة متواجدة أيضاً فى قصة "صيد اللؤلؤ" وهى تحتويها وتعتصرها من خلال لغة شاعرية متميزة مزجت الواقع بالخيال وأضاءت سبيل التواصل بين المتلقى وبين الفعل والحدث عن طريق اللغة وهى الأساس وكل الأدوات الفنية التى حشدت فى هذه القصة: "وحين ينطق الغريب بصرخته العالية من سرق اللؤلؤ من؟ يتبدى للحظات التاريخ الطويل لهذا الغريب. والغريب هنا ليس بغريب فهو صاحب الأرض الحقيقى، أما الذى سرق منه فهو جهاده الأكبر، فهو حين فقد الذات سقط "جاء من الخليج بشباك فارغة، لم يقابل اللؤلؤ، وقابل الموت هنا فى الصحراء، فى سيناء. وجاء الأمر بالتقهقر وانسحب وسقط" ونتيجة لتفاعل الزمان والمكان صارت هند عنده هى (كليوباترا) وصارت الصحراء هى حياته ومماته معاً وحين أحس بالمرفأ ضاعت منه ذاته مرة واحدة وسرق منه اللؤلؤ وظهرت الطائرات من جديد.
ألم تجد شيئاً فى هاتين القصتين ؟
- بل قل ألم تجد شيئاً فى القصص التى قرأت حتى الآن؟ من ناحية الرمز نستطيع أن نقول أن المحتوى الرمزى لهذه القصص متوحد وينبع من مصدر واحد وهو الإحساس بالقهر والغربة، ففى الثمن نجد أن البحث عن هذا البحر المحير عن الحقيقة ممتد إلى ذلك اللغز الذى يغلف قصة "الموقف العادى" وهو يمتد أيضاً إلى الحب فى قصة "سيمفونية الحب" الذى يجمع عصام وليلى والبحر والنورس والقمر حوله، ونجده فى ذلك النهر الذى تندفع نحوه الأشياء فى "أشياء تحلم بالهجرة" وفى ذلك اللون الأبيض والأسود فى "نفوس ودروس من سلسلة البحث السلطانية الغورية فى بلاد مصر".
على ذكر هذه القصة، هل توحى لك هذه القصة بشىء؟
- شأنها شأن باقى القصص فهى لم تخرج فى مضمونها عن ذلك الخط الذى تسير عليه المجموعة، أما من ناحية الشكل فمما لا شك فيه أن بصمة واضحة على هذه القصة وهى بصمة "جمال الغيطانى" فى كثير من قصصه وتميزه بهذا الخط الذى يستحضر التاريخ كمضمون يؤصل الرمز. والشكل يتكون من جزئيات صغيرة تحولت إلى نسيج حمل مضمون القضية كلها، فالزمن يقفز من أسبوع إلى أسبوع يبدأ بالسبت الأول إلى الثانى إلى الثالث. كل ستجىء بعد ذلك، ألم تر أن الشخصيات الذى ركب الحمار هو وابنه فلما ضحك منه الناس نزل وترك ابنه راكباً فلما عاتبه الناس نزل ابنه وركب هو فلما غضب منه الناس حمل الحمار هو وابنه وكانت تلك إحدى فلسفات جحا الذى هو رمز الشعب.
فننتقل إلى قصة "أشياء تحلم الهجرة"
- ألا ترى معى هذا الامتداد المحير لهذه القصة مع باقى القصص التى قرأناها والتى ستجىء بعد ذلك. ألم تر أن الشخصيات التي عايشناها فى كل القصص خاصة الشخصيات المحورية الأساسية هى شخصيات واحدة "على السمنودى" فى "الثمن" هذا المتكلم الصامت فى "الموقف العادى" هذا العاشق فى "سيمفونية الحب" مهدى أفندى فى "حروف من يوميات مهدى أفندى" هذا الضال الحائر فى "صياد اللؤلؤ" هذا الحائر الذى يقف فى مواجهة الحائر فى "نفوس ودروس من سلسلة البحوث السلطانية الغورية فى بلاد مصر" محمد الفاروق فى "أشياء تحلم بالهجرة" هل لاحظت هذا الرباط الخفى الذى يربط كل هذه الشخصيات؟
- فى القصة الأخيرة "أشياء تحلم بالهجرة" وهى من القصص الجيدة التى تمتلك أدوات فنية متميزة نجد أن النهر يبتلع كل شىء، الأشجار، أعشاش الطيور، حتى الجبل انحدر هو الآخر تجاه النهر ولم تفلح كل المحاولات المستميتة لمنع هذه الكارثة، الفأس لإرهاب الأشجار، الصياح لإنذار مريم. وهاجرت أشياء كثيرة إلى الأحلام واحتوتها الأوهام والكوابيس. وهرب الأمن والأمان وسقط فى دوامة النهر، وعندما استيقظ محمد الفاروق وصاح ارتد صدى صوته إليه "صرخ محمد.. يا مريم يا ابنة الشجر حاولى أن تنقذينى.. الأشجار تهاجرنا تجاه النهر، والنهر لا يستطيع أن يمنع تحرك الأشجار، والطيور بلا مأوى، والأسماك متشنجة، امنعى كل هذا امنعينى".. كانت مريم فوق الجبل تكتب وتسطر بالقلم "نون والقلم وما يسطرون".
وقفت الأشجار فى منتصف النهر والطيور فوقها ومحمد الفاروق يقف على الشاطىء حزيناً ومريم مازالت تكتب، ترسم، وتلون من بعيد. "الشكل فى هذه القصة يستمد معماره من بطولة اللغة وتراثها وهى السمة التى تميزت بها المجموعة كلها علاوة على أن القصة تحتوى على اسقاطات عبثية مختلطة بين الواقع والخيال وهى التى تؤصل الحدث وتبلوره إلى حد ما.
لقد اتهمتنى بأن تأثيرات الغيطانى قد بسطت ظلاها على قصة "نفوس ودروس فى سلسلة البحوث السلطانية الغورية فى بلاد مصر" فهل ينسحب ذلك إلى قصة "واقعة الوقائع فى مدينة القطائع" التى يظهر من عنوانها أنها تأصيل للتاريخ وهو ما يميز إبداع جمال الغيطانى وهو من جيل الستينات السيد حافظ
- فى الواقع قصة "واقعة الوقائع فى مدينة القطائع" ليس لها أى ارتباط بمدينة القطائع القديمة، وهى على ذلك تخرج عن هذا التأثر، بل إن تكثيف اللحظة القصصية بها من خلال الفعل فى هذه القصة يجعل القصة تتحرك بمجموعة من الدلالات المتسقة فى ديناميكية فنية لتؤكد معنى غرسه القاص السيد حافظ فى نسيج المضمون وهو معنى رامز ومحير تواجد فى كثير من قصص المجموعة. وقد كانت الإستخدامات الذكية لبعض المعانى المستمدة من الإيمان الحقيقى بالوحدانية والبعث والبشارة هى المحرك لكل أركان القصة، حتى المكان الذى تحدث فيه القصة وهو مكان هلامى أخذ تسمية القطائع من نفس المدلول الرمزى المحير وهو معنى يحتمل معانى كثيرة. حتى أهالى الكهف وكلبهم الذى لم يبسط ذراعه بالوصيد إنما بسطه للبطش والعدوان، كل هؤلاء كانوا محصلة تلك "العصفورة التى تحاول انتزاع الطهر من فم البراءة" ولكن هل هذه هى الحيرة التى تركنا فيها السيد حافظ مع هذه القصة والتى ختمها بهذه البشارة المستمدة جزئيتها من القرآن الكريم "يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى". وإنا نآخذ على السيد حافظ هنا استبعاد حرب التوكيد وهو أمر غير جائز على وجه الإطلاق خاصة عند استحضار آية من القرآن الكريم للاستدلال بها فى أى موضع من المواضع فى القصة أو غيرها وقد نجح السيد حافظ فى تدوين هذه الآية فى هذا الموضع بالذات وهى اسقاطه موحية ومعبرة عن لحظة الميلاد ولحظة المخاض التى يأمل إليها الأمل الكبير فى جميع أركان القصة ومحتواها.
أعتقد أن الخطأ مطبعى وغير مقصود:
- أما قصة "عندما دقت الساعة العاشرة من صباح أحد الأيام" وهى قصة جيدة بكل المقاييس وفيها يتوحد الشكل والمضمون ليكونا معاً هذه التوليفة الجديدة التى تحمل كثيراً من المعانى والعديد من الصيغ. وفى هذه القصة ومن خلال هذا الشكل المباشر الذى اختفى فيه الزمن ليحل محله المضمون الذى يعبر عن معنيين، المعنى الأول وهو الذى يتعلق بالمبدأ الذى يتمسك به محسن فريد الشخصية الرئيسية فى القصة والذى يحاول أن يزرعه فى كل شىء بأنه عجلة التاريخ التى تدور لا تتغير أبداً، والمعنى الثانى وهو الأم الذى يثير الجل وهو ضياع التاريخ وسط هذا الجو المشبع بالغيوم والضلال ومدى تأثير ذلك على الحقيقة والحياة. لقد ضاع محسن فريد عندما زيف التاريخ وقد حاول هو نفسه أن يغير من تاريخه وشكله فغير اسمه إلى حسن غانم ولكن الحقيقة كانت ناصعة. وحتى تنقل محسن فريد من شكل إلى آخر حتى توحد بالموت ولكن التاريخ يعيد نفسه والحقيقة لا تتغير حتى لو تغير الناس واستبد بهم الخوف. ومحسن فريد هو إعادة لشخصيات قصص المجموعة وإن اختلفت الأساليب.
- نفس المضمون نجده فى قصة "مهاجر على أشجار القلق" وهو التمسك بالمبدأ والقصة على ما يبدو قصة ذاتية تنبع من تلك المتغيرات التى تستبد المرء فتحاول أن تجعله ترساً فى هذه الآلة الهائلة حتى لو كان يسير عكس ما يريد إنما المهم أن يسير فى فلك تلك الآلة.
وهذا ما رفضه الأستاذ "(ص) كما سبق أن رفضه محسن فريد فى قصة "عندما دقت الساعة العاشرة من صباح أحد الأيام" بيد أننا فى قصة "مهاجر على أشجار القلق" نستشعر هذا الإحباط الذى يلم بالأستاذ (ص) ويحاول أن يعتصره ويدهمه. وفى هذا الفراغ تتداخل هذه المدلولات المستمدة من بعض المأثورات الشعبية التى تتداولها الخالة كريمة والعمة سعدو. كذلك تلك الإسقاطات التى أحسها الأستاذ (ص) والذى نصحه بها الكاتب المسرحى "على سالم" وتهديدات المدير العام (خصم شهرين من الراتب) وفى هذه العبارة التى ساقها السيد حافظ فى هذه القصة نستشعر أيضاً بؤرة المضمون ونحس الرؤية كاملة : "آه يا خالتى كريمة لا تحزنى ما قيمة عمر إنسان يضيع بجوار عمر أمه يضيع دون أن تدرى.. صنعت من حروفى سفناً أبحرت فى أبجدية كى أصنع كل الضوء ورفعت رايات المقاومة لحظة طعنة قلب أمتى بخنجر المعاناة من الفقر من استعمار خسيس وعندما رفعت أمتى رايات النصر علقوا صوراً لكل من أختبأوا فى المخابئ لم أجد صورتى حتى ولو على باب حارة ضيقة"
لقد انتقلت إلى قصتى "مهاجر على أشجار القلق، ومقاطع من حوار أشجار الصنوبر" وتركت قصة "لقطات من حطام الزمن الراكد".
- لقد تعمدت أن أترك هذه القصة فى النهاية، القصة ثورة على الثقافة والمثقفين وهى تخرج من مدلول تكرر فى بعض قصص هذه المجموعة من ناحية الشكل والصورة تجمع بين الرجل وزوجته، يبث الرجل كل همومه ويلقى إليها برؤيته التى لا يستطيع أن يقضى بها لأى شخص آخر، ويثير فى هذه البحيرة من حياتهما دوامات صغيرة هى تعرف فيه صوت الشرف والنقاء، وهو يريها هذا الزمن الراكد الذى لا يتمسك بالقيم والمعانى النبيلة وإنما لا يبدى إلا التفاهات والنفايات وتمجيد الملوك والعظماء. والشكل القصصى هنا سرد حوارى فى آن واحد وإن كانت اللقطات المنبعثة من جزئيات الزمن الذى لجأ إليه القاص السيد حافظ باهتة بعض الشىء والحدث القصصى خافت إلى حد ما وإن كان هذا الاستخدام هو الملائم لمثل هذه القصص المشحونة والمختبئة وراء فعلها المدسوس كما كان يحلو لبعض جيل الستينيات أن يبدع.
هل لازلت مصراً على تأثرى بجيل الستينيات فى ضوء ما قرأت ؟
- وهل لديك شك فى ذلك؟ المجموعة كلها تأثيرات واضحة بكل المقاييس الفنية والنقدية بما أبدعه مبدعو جيل الستينيات.
هل هناك تطبيقات أخرى ؟
- التعليق الأخير أن الخط الأساسى لكل قصص المجموعة كما ذكرت آنفاً مدعماً بتلك الصور، خط واحد والأحداث الضمنية التى أبرزها الحدث والفعل لكل قصة تكاد تكون واحدة وإن اختلفت الأشكال وتباينت الأبنية بين كل قصة ومثيلتها. وأنا أشكرك أنك أتحت لى هذه الفرصة لأطلع على إبداع قصص السيد حافظ بعد أن عايشت مسرح السيد حافظ وكذلك تلك الدراسات النقدية التى أبدعها فى مسرح نعمان عاشور وسعد الدين وهبة وغيرهم من كتاب المسرح. ومع أننا لم نلتق أبداً جسدياً إلا أن هذا اللقاء الروحى والفكرى كان هو السيمفونية التى نبعت من منطلق الحب وصبت فى نبع الحب.
شوقى بدر يوسف
مجلة الثقافة العربية
العدد 81 – عام 1984
?
سيرة ذاتية
الاسم : شوقى بدر يوسف
الإبداع : النقد والرواية والقصة والدراسات
- نشرت أعماله فى مجلات الكويت والهلال ونادى القصة بالإسكندرية والقصة القاهرية والشعر والعمال والبيان والفيصل والثقافة العربية - والفكر التونسية والإذاعة والتليفزيون وصباح الخير وألوان.
- فاز بالعديد من الجوائز كان آخرها جائزة شوقى وحافظ فى خمسينية شوقى وحافظ وجائزة المجلس الأعلى للثقافة للدراسات النقدية عن عامى 84/85 عن دراسته بعنوان "المعمار الفنى عند ميناء الشرقاوى" "رحلة الرواية عند محمد جلال"
- عرض له التليفزيون المصرى قصته "النشال" كما عرضت فى المملكة العربية السعودية وتونس.
?
سيرة ذاتية
الاسم : شوقي بدر يوسف
الإبداع : النقد والرواية والقصة والدراسات
نشرت أعماله فى مجلات الكويت والهلال ونادى القصة بالإسكندرية والقصة القاهرية والشعر والعمال والبيان والفيصل والثقافة العربية - والفكر التونسية والإذاعة والتليفزيون وصباح الخير وألوان.
فاز بالعديد من الجوائز كان آخرها جائزة شوقي وحافظ في خمسينية شوقي وحافظ وجائزة المجلس الأعلى للثقافة للدراسات النقدية عن عامي 84/85 عن دراسته بعنوان "المعمار الفنى عند ميناء الشرقاوى" "رحلة الرواية عند محمد جلال"
عرض له التليفزيون المصرى قصته "النشال" كما عرضت فى المملكة العربية السعودية وتونس.
0 التعليقات:
إرسال تعليق